بعض الخصائص المميزة للإسلام

كلمة سيدنا ميرزا طاهر أحمد

إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

ألقاها في جامعة كانبرا، أستراليا

 

عند الحديث في موضوع السمات المميزة لدين الإسلام فإنَّ أولى السمات وأشدَّها جاذبية وأخذًا بمجامع الألباب، تلك السمة المحببة للقلوب، إذ يتنازل عن احتكار الحق، والقول بانتفاء مجيء دياناتٍ صادقة أخرى، ولا يدَّعي بأنَّ العرب هم وحدهم مناطُ محبة الله تعالى. فالإسلام هو الدين الأوحد الذي يرفض تمامًا فكرة أنَّ الحق وقفٌ على دينٍ واحد بعينه أو على جنسٍ معين من الناس، بل يُعلن أنَّ الهداية الربّانية نعمةٌ عامة تُغذّي الإنسانية في جميع العصور. يُخبرنا القرآن المجيد في قوله:

… وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر: 25).

إنه لم يُحرَم جنس أو قوم من بعثة الأنبياء والرسل من لدن الله تعالى.

وعلى العكس من وجهة النظر الإسلامية هذه بتجلّي فضل الله على أمم الأرض جميعًا.. تصدمنا حقيقة أنَّه لا يوجد كتاب واحد من كتب الديانات الأخرى يُثبت، أو حتى يُشير إلى احتمال أن تكون الأقوام والأمم الأخرى قد تلقت النور والهداية من الله تعالى في أي مرحلة تاريخية. فالواقع أن التأكيد يكون قويًا على صدق الديانة المحلية أو الإقليمية، مع تجاهل تام للديانات الأخرى، كما لو أنَّ الله تبارك وتعالى حكرٌ لدينٍ واحد وقومٍ واحد وجنسٍ واحد فحسب، مع استبعاد سائر سكان الأرض، وكما لو أنَّ شمس الحق قد طلعت وغربت في أفقٍ محدود لقومٍ بعينهم، وتركت بقية العالم منبوذين ومقضيٌ علهم بالظلام الأبدي.

وعلى سبيل المثال، فإنّ الكتاب المقدس عند اليهود يقدِّم فقط (إله إسرائيل)، ويردّد قوله: “مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ” (اَلْمُلُوكِ الأَوَّلُ 1 :48). وهو لا يعترف، ولو اعترافًا عابرًا، بصدق الوحي الديني الذي أنعم به في بقاع أخرى وعلى أقوام أخر. فعقيدة اليهود بأنَّ أنبياء بني إسرائيل أُرسلوا لقبائل إسرائيل وحدها تتفق تماما مع فحوى ورسالة كتابهم المقدس.

وقد أعلن يسوع (سيدنا عيسى ابن مريم ) أيضًا أنَّ الغرض من مجيئه كان هداية القبائل العبرانية وحدها، فقال: “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ” (مَتَّى 15: 24). وأوصى تلاميذه قائلاً: “لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب” (مَتَّى 15: 26).

وكذلك توجّه الديانة الهندوسية كتابها إلى ذوي المولد الرفيع فقيل: “إذا تصادف واستمع أحدٌ من ذوي المولد الدنيء إلى الفيداس، وجب على الملك أن يسدّ أذنيه بالشمع والرصاص المصهور. وإذا تلا جزء من النصّ المقدَّس وجب قطع لسانه. فإن استمر في قراءة الفيداس وجب تقطيع جسده إربًا”. (جوتاما سمريت).

ولو أغضينا عن هذه التعاليم العنيفة، أو التمسنا لها تفسيرًا أخفَّ قسوة، لظلّت الحقيقة أنَّ الكتب المقدَّسة لدى مختلف الديانات لا تقول، ولو ضمنيًا، بصدق ديانات البلاد أو الشعوب الأخرى.

ويبرز هنا سؤال أساسي: لو أنَّ تلك الديانات جميعًا ديانات صادقة حقًا، فما هي الحكمة إذن في وصف الرب وتقديمه للعالم بمسمّيات محدودة محصورة؟ يُقدّم القرآن المجيد مخرجًا سهلاً من هذا المأزق، فيقول: إنّه قَبْل الوحي القرآني وبعثة النبي محمد ، أرسل الله تعالى أنبياءه إلى كل أمة وفي كل بقعة من الأرض، ولكن كان مجال دعوتهم إقليميًّا وكانت مهمتهم موقوتة. ذلك لأنَّ المدنيّة البشرية لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة التطور التي تستحقُّ مبعث رسول عالمي يحمل رسالةً كونية شاملة.

الدين الكوني

في الصفحة الأولى من القرآن الكريم حمدٌ لله “ربّ العالمين”، وتحثُّ السورة الأخيرة منه على الدعاء والاحتماء (بربِّ الناس). وهكذا تعرض الكلمات الأولى والأخيرة من القرآن المجيد مفهومًا عن الله يتعلق بالكون كله، وليس مجرَّد ربٍّ للعرب أو المسلمين وحدهم. ولا ريب أنّه لم يُشر أحدٌ قبل نبي الإسلام إلى الإنسانية جمعاء. ولقد جاء الإعلان الأول في حقِّ نبي الإسلام في العبارة التالية:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ: 29).

ثم في قوله:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (الأَعراف: 159).

وإذا وصف القرآن نفسه بأنه: .. ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ، فإنّه بذلك يُقيم من نفسه هدايةً متعلّقة بالتطوّر والتقدّم الحقيقي لبني البشر جميعًا.

لقد تكرّر وصف القرآن بكونه “مُصدِّقًا” للكتب الأخرى، وحثَّ المسلمين على الإيمان بكل الأنبياء كما يؤمنون بنبيّهم محمد . وفي ديننا تحرم التفرقة بين الأنبياء، أو الإيمان ببعضهم والكفر ببعضهم الآخر. يقول القرآن المجيد:

كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (البقرة: 286).

قد نكون في غنى عن البحث عما إذا كانت العالمية ميّزة مرغوبة في الدين، ولماذا ألقى الإسلام عليها هذه الأهمية الكبرى. ومنذ أن جاء الإسلام برسالة الوحدة لبني البشر وإذا بها تسارع خطو المسيرة نحو هذه الوحدة بعجلةٍ متزايدة في كل المجالات. ومثال هذه المسيرة ما نشهده في وقتنا الحاضر من إقامة المؤسسات والاتحادات الدولية المتنوعة. وما هذه الحقيقة إلا معالم رحلةٍ طويلةٍ ملتوية نحو وحدة بني البشر جميعًا. فهذه الحاجة العارمة المحسوسة في إنسان اليوم المتقدم المتحضر قد سبق إنجازها بغرس بذورها في رسالة الإسلام منذ 1400 عام مضت. ولا شكَّ أن تقدّم وسائل السفر والاتصال السريع قد زوَّد هذه المسيرة بقوةٍ دافعة جديدة نحو الوحدة بين الشعوب والأمم.

حقيقة الاختلافات والتناقضات بين الديانات

قد يرِدُ هنا سؤال: إذا كانت الديانات كلها مؤسَّسة في الواقع بيد رسل الله تعالى، فلماذا توجد اختلافات بينها في تعاليمها؟

ويُجيب الإسلام وحده على هذا التساؤل، وهذه أيضًا إحدى سمات الإسلام المتميزة لهذا الدين.. يقول الإسلام إنَّ هناك سببين أساسيين لوجود هذه الاختلافات بين الأديان المتنوعة: أولاً، التفاوت بين الظروف اقتضى تفاوتًا بين التعاليم والقواعد، وقد كفل الله العليم الحكيم الهداية بما يناسب متطلبات كل الأعمار والأقاليم والأقوام. وثانيا، لقد اندرس محتوى الديانات المتنوعة بفعل تقلُّبات الزمن، ومن ثم لم تُحفظ بصورتها الأصلية. وفي بعض الحالات أدخل أتباع الديانات أنفسهم بِدعًا وانحرافات لتلائم حاجتهم المتغيّرة، ولهذا الغرض استمر التحريف يقع على الكتب الأصلية الموحى بها. ومن الواضح أنَّ مثل هذا التزييف للرسالة الربّانية استدعى هدايةً جديدة من لدن المصدر الأصلي. قال الله تعالى:

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ… (المائدة: 14).

وإذا بحثنا تاريخ الاختلافات بين الديانات المتنوعة على ضوء المبادئ التي بيَّنها القرآن المجيد نجد أنَّ هذه الفروق تتجه إلى التناقض كلما اتجهنا نحو المنبع نفسه. فمثلاً إذا حصرنا المقارنة بين الإسلام والمسيحية في مسألة حياة يسوع والكتب الإنجيلية الأربعة لوجدنا فروقات ثانوية بين التعاليم الأساسية للكتاب المقدَّس وبين القرآن الكريم، ولكننا إذا مضينا بعيدًا في طريق الزمن اتسعت هوّة الخلاف أكثر وأكثر حتى يتعذّر عبورها تمامًا. وما ذلك إلا نتيجة محاولات الإنسان لتعديل الوحي الأصلي. ويكشف تاريخ الديانات الأخرى نفس الحقيقة الأساسية أيضًا. ونجد اتفاقًا قويًا مع وجهة النظر القرآنية؛ فاتجاه البشر إلى تغيير وتعديل الرسالة الإلهية كان من عبادة الإله الواحد إلى التعدّدية، ومن الحقيقة إلى الخيال، ومن الإنسانية إلى تأليه الإنسان.

ويخبرنا القرآن أن أضمن طريقة لتمييز الدين الحق، وإن لحقت به التحريفات، هي فحص مصدره الاصلي؛ فإذا كشف الأصل عن تعاليم وحدانية الإله، وتحريم عبادة غير الإله الواحد، وتعاطف صادق أصيل مع الإنسانية جمعاء، فمثل هذا الدين يُعتبر صادقًا وإن اعتراه التغيير، ومؤسسو هذا الدين الذين تنطبق عليهم هذه الشروط كانوا حقًا أهل صلاح وتقوى، ورسل صدق من لدن الله تعالى، وينبغي لنا أن لا نُفرِّق بين أحدٍ منهم، وأن نؤمن بصدقهم إيمانًا تامًا. وهؤلاء لهم سمات أساسية معينة مشتركة فيما بينهم، بغضِّ النظر عن فوارق العصر والمكان. ويُجمِل القرآن الكريم سمات أهل طريق الحق في عبادة الله تعالى، وإخلاص الطاعة له، والاستقامة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة حيث يقول:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ . (سورة البينة: 6).

دينٌ أبدي

ومن مميزات الإسلام، إلى جانب أنّه دين كوني، أنّه دين أبدي، وهو لا ينفك يُبيّن كيف أنّه يُحقّق اشتراطات مثل هذه الدعوى، وعلى سبيل المثال، فإنَّ الرسالة لا تكون أبدية إلا إذا كانت تامة وكاملة في كل نواحيها، وأن يكون هناك ضمان لبقاء صحة فحواها، وبعبارة أخرى، يجب أن يكون لأسفارها الــمُنزلة ضمان ضد محاولات التعديل والعبث البشري. وفيما يختص بالقرآن المجيد إنَّ الله تعالى أعلن هذا الضمان بنفسه فقال:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (سورة المائدة: 4).

حفاظة القرآن

ليس التمام والكمال وحدهما بكافيين لتكون التعاليم أزلية، بل لا بد من الضمان الإلهي لحفظهما في صورتها وحالها الأصلي. ويفي القرآن الكريم بهذا المطلب الأساسي وفاءً تامًا، لأنَّ الله الذي أنزل القرآن أعلن ذلك بأجلى عبارة فقال:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (سورة الحِجْر: 10).

فالله تعالى تكفّل بنفسه حفظ القرآن بحيث لن يسمح أبدًا لأي عبثٍ في نصه. ومن وسائل حفظه بحسب الوعد الإلهي أنَّ هناك في كل عصرٍ وجيل مئات الألوف ممن يحفظونه عن ظهر قلب، ولا يزال ذلك جاريا حتى اليوم. أما الوسيلة الأساسية للحفاظة على مضمون الرسالة وجوهرها فقد تكفّلت بها سنة الله تعالى الجارية بإقامة المجدّدين في كل قرن، والإخبار عن مجيء مجدّد عظيم في الزمن الأخير؛ يُقيمه الله تعالى بنفسه إمامًا روحيًا، يحسم الاختلاف بين أهل الإسلام بهدي من الله تعالى؛ وبذلك يصون روح الإسلام الحقة.

ومن الطبيعي أن ينشأ هنا تساؤل عما إذا كانت دعوى الحفاظة الواردة في القرآن لها ما يؤيدها من دليل؟ فمن الحجج الدالة على جواب هذا التساؤل أنَّ جهود الباحثين غير المسلمين فشلت بالرغم منهم في العثور على أي عبث أو تغيير في نص القرآن بعد وفاة نبي الإسلام ، مهما كان طفيفًا. والواقع أنَّ كثيرًا من الباحثين غير المسلمين، بعد بحوثٍ مستفيضة في هذا المجال، وجدوا أنفسهم مضطرين ليؤكدوا صراحةً بأنَّ القرآن المجيد لا يزال باقيًا على صورته الأصلية محفوظًا مصانا، مثلاً، يقول سير وليم موير في كتابه (حياة محمد):

(بناءً على أقوى المعطيات نستطيع التأكيد بأنّ كل آية من القرآن هي الإنشاء الأصلي لمحمد بدون تغيير). (ص28 W. Muir, Life of Mohammad).

ويقول أيضًا في نفس الكتاب: “.. وإلا، فهناك كل الأمان داخليًا وخارجيًا، بأنّ ما بين أيدينا هو النص عينه الذي جاء به محمد واستخدمه”. (حياة محمد، ص 28).

ويقول نولدكه (Noldeke): “قد تكون هناك أغلاط إملائية طفيفة، ولكن مصحف عثمان لا يحتوي إلا العناصر الأصلية، وإن كانت أحيانًا في ترتيب غريب. وقد عجزت جهود الدارسين الأوربيين في إثبات وجود تحريفات متأخرة في القرآن.. (Enc. Brit. 9th ed. Quran)

دينٌ كامل

وفيما يتعلق بدعوى تميّز الإسلام وتفرُّده بكون تعاليم القرآن الكريم تامة وقادرة على هداية البشرية في كل العصور هدايةً وافية، فتلك أيضًا لها سندها المنطقي التام. ولا يمكن في هذا الوقت القصير تناول الموضوع بالتفصيل، لذلك سأكتفي بإشارةٍ وجيزة إلى بعض المبادئ المرشدة والأمثلة الموضِّحة. وينبغي أولاً أن ننظر كيف ينجح الإسلام في مواجهة متطلبات الزمن المتغيرة، وبذلك يحول دون أي حاجة لتنقيح تعاليمه. وإنه لمما يخلب اللبّ حقًا أن يُدرس الهدى التطبيقي الإسلامي في هذا الصدد. ولسوف أضع أمامكم بعض نماذج منها:

  • يضع الإسلام المبادئ الأساسية فحسب، ويمتنع عن اشتراط التفاصيل التي تتطلب تعديلات مرحلية كي تتناسب مع تغيُّرات الزمن والظروف.
  • يعي الإسلام تمامًا التطور الفكري والاجتماعي والسياسي في الإنسان، وتعاليم الإسلام جاهزة لمواجهة كل الأحوال المحتملة، وتدرك تعاليمه حقيقة وجود تطور مستمر بين الأمم، وتُدرك أيضًا حقيقة أنَّ الشعوب ليست سواء في حالات تطورها عند مرحلة زمنية معينة، فمن الممكن مثلاً أن يكون من بين سكان الأرض من يعيشون في العصر الحجري، ومنهم من هم متخلفون آلاف السنين عن عصرنا، ومع أن الجميع يشتركون في نفس الزمن إلا أنَّ حال بعضهم قد ينتمي فعلاً إلى عصرٍ بعيدٍ مضى. وإنّي على ثقةٍ من اتفاقنا جميعًا على أنَّ فرض المفاهيم السياسية الحديثة على سكان أستراليا الأصليين أو على أقزام الكونغو عملٌ من أشدّ الحماقات.
  • الإسلام عقيدةٌ تنسجم مع الفطرة البشرية، وتفي بكل حاجات الإنسان، ولا ضرورة لإجراء أي تعديل في تعاليمه ما لم يحدث تغييرٌ جوهري في فطرة الإنسان. وهذا احتمالٌ نستطيع استبعاده في الوقت الحاضر.

وهذه بضعة مظاهر لمبادئ التعاليم الإسلامية، ولسوف أتناولها، إن شاء الله تعالى، بمزيدٍ من التفصيل حتى يتبيّن قولي وينال حظه من الفهم التام.

 

الزكاة مقابل الربا

يحرّم الإسلام النظام الربوي في شتّى صوره، ويحثُّ على منعه تمامًا. ويُحلُّ محلّه الزكاة لتكون القوة الدافعة لدوران عجلة الاقتصاد. ومن الجليّ أنّي لا أستطيع تناول الموضوع بالتفصيل خلال هذا الوقت القصير، ولذلك سوف أوجز الكلام عن المنهج الذي أرساه القرآن لأُقدّم لكم جوهر تعاليمه في هذا المجال الهام.

الزكاة نظامٌ ضريبي على رأس المال، يُجمع من المتيسّرين. وبصرف النظر عن حاجات الدولة، فإنَّ هذه الضريبة مخصصة للوفاء بحاجات الفقراء والمعوزين، أو بعبارةٍ أخرى: لا يقتصر هذا النظام على سدّ حاجة جهاز الحكومة وحسب، وإنّما يضمن أيضًا حاجات الخدمة الاجتماعية.

وكل ما تمَّ هو إرساء القواعد الأساسية، تاركًا وضع التفاصيل لأرباب الفهم والبصيرة بما يتفق والظروف السائدة في بيئة معينة وزمنٍ بعينه. ويقول القرآن الكريم بأنَّ هناك نصيبًا مقرَّرًا في مال من يملكون أكثر من حاجاتهم الضرورية لمن لا يملكون ذلك، ويعدَّون في مجتمعهم من المحرومين. وبذلك يتقرر بوضوح أنَّ من حق كل شخص قدرًا معينًا من ضروريات الحياة الأساسية، يحصل عليه في أي بلد أو مجتمع، وأنَّ المسئولين عن هذه الحقوق هم أولئك الذين يملكون فوق حاجاتهم الأساسية، ويؤدُّونها للدولة لتضع بمعرفتها طريقة العمل والتنفيذ، بما يكفل لنظام العدالة والمساواة والحق والكفاية لتحقيق هذا الهدف الأساسي.

توجيهات في العمل السياسي

والمسألة الخطيرة الأخرى التي تواجهنا اليوم هي تحديد شكل الحكومة في إقليم أو قطرٍ ما. وهنا نجد مبادئ الإسلام وثيقة الصلة، عظيمة الشأن، ومن المرونة بحيث يبرز صدقها وصلاحيتها للتطبيق متحدّثة عن نفسها. ولا يمكن لأحد إنكار أنَّ اعتبار نوعٍ معين من الحكومة مناسبًا أو غير مناسب لا يكون إلا بعد استخدامه في ظروفٍ معينة. كما أنّه لا معنى لحسبان أنَّ شكلاً حكوميًا معينًا يوفي بحاجات كل الشعوب في كل العصور. لذلك لم يحدد الإسلام شكلاً معينًا للحكومة، ولا يقدّم نمطًا ديموقراطيًا أو اشتراكيًا، ولا يوصي بالملكية أو الدكتاتورية، ولكنه بدلاً من الإطناب في مناهج إقامة الحكومات يعلن مبادئ العمل في الأمور السياسية والحكومية بطريقةٍ معينة، ويضع الشروط لها. فمهما يكن شكل الحكومات فلابد أن تقوم بمسئولياتها بالعدل، والتمام، والتعاطف، والوفاء، والحفاظة على الحقوق الأساسية للإنسان. وهكذا، بدلاً من التأكيد على الجزء الأول من تعريف الديموقراطية الشائع (حكم الشعب)، يؤكد الإسلام على أن يكون الحكم (لصالح الشعب) مهما كان شكل الحكومات. فعندما تذكر الديموقراطية بين نظم الحكم المتنوعة يكون التأكيد على النوعية، وينبغي ألا تكون ديموقراطية جوفاء، ولكن يختار الناخبون حكّامهم من أهل الكفاءة، وتدفعهم أمانتهم إلى انتخاب من هم مؤهلون مناسبون لحمل مسئوليات مناصبهم. وهذا شرطٌ لازم لكل منصب منتخب، وكما يقول القرآن الكريم:

  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (سورة النساء: 59).

فالمنصب أمانة تؤدَّى إلى من هم أهلٌ وكفؤٌ لها، وإذا ما تقلَّدوا المناصب حكموا بالعدل دونما تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة. والآن أوجز لكم القوانين التي تقوم على القواعد الأساسية التي شرَّعها القرآن بشأن أي نظام حكومي:

1- الحكومة مكلَّفة بحماية شرف الشعب وممتلكاته. (النساء: 59)

2- يجب على الحاكم أن يتصرَّف دائمًا طبقًا للعدالة بين الأفراد والجماعات. (النساء: 59)

3- يتمُّ البتّ في الأمور القومية بالتشاور: … وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ . (سورة الشورى: 39).

4- يجب على الحكومة أن تتخذ الترتيبات التي تفي بالحاجات الأساسية للإنسان من طعام ولباس ومسكن: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى* (سورة طه: 119 و120)

5- ينبغي أن توفر الحكومة للشعب البيئة الآمنة المطمئنة لحماية حياتهم وممتلكاتهم وكرامتهم: وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ* (سورة البقرة: 206).

6- ينبغي إقامة نظام اقتصادي عادل مستقر منظم. (سورة البقرة: 206).

7- ينبغي توفير الرعاية الصحية. (سورة البقرة: 206).

8- ينبغي كفالة الحرية الدينية التامة: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة: 257).

9- ينبغي معاملة المقهورين بالعدل. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (سورة المائدة: 9).

10- ينبغي معاملة أسرى الحرب بالعطف: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (سورة الأنفال: 68). و حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (سورة محمد: 5).

11- يجب احترام المعاهدات والاتفاقات الدولية: .. إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ . (سورة التوبة: 5). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ . (سورة المائدة: 2).

12- يجب ألا يُلزَم الضعفاء بالاتفاقات الجائرة.

13- طاعة الحكومة القائمة فرضٌ على الرعايا المسلمين إلا في حالةٍ واحدة، وذلك إذا تبجّحت الحكومة ومنعت رعاياها من أداء واجباتهم الدينية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.. (سورة النساء: 60).

14- إذا حدث خلاف مع الحاكم يسوَّي الأمر على هدي المبادئ المقرَّرة في القرآن المجيد وفي سنّة النبي ، وينبغي تجنُّب أي نزوع نحو الدوافع الأنانية: ..فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.. (سورة النساء: 60).

15- مؤازرة السلطات فرضٌ على الشعب لتنفيذ الخطط الرامية إلى تقدُّم الصالح العام ورخاء المجتمع، ويحرم على الجمهور انتهاج ما يُسمَّى (حركة عدم التعاون). كما أنَّ الحكومة ملتزمة بالمساعدة على إنجاز المشاريع الخيرية، فردية كانت أم جماعية، وألا تعرقل مثل هذه الجهود: .. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.. (سورة المائدة: 3).

16- يحظر على البلد القوي القيام بأي عمل من أعمال العدوان ضد بلدٍ آخر، ويقتصر استخدام السلاح على حالات الدفاع عن النفس فقط: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ (سورة طه: 132).

مفهوم العدالة في الإسلام

والآن، أروي لكم أمثلة لمبادئ إسلامية قد لا تحتاج إلى تأكيد خاص في عالمنا اليوم. أولها يتعلق بالمساواة والعدالة.

لا تقدّم الديانات الأخرى توجيهًا شاملاً عن إقامة العدل، والإنصاف، ولو ورد ذكر ذلك جاء في صيغة يتعذر علينا تطبيقها اليوم. والواقع أنَّ بعض هذه التوجيهات تبدو متعارضة مع الفكر والأحاسيس في عصرنا الحاضر، ولا يملك المرء إلا استنتاج أنَّ هذه التعاليم قد فسدت أو أنها كانت فقط للتطبيق المحلي المؤقت. وإذا كانت اليهود تتحدَّث عن الإله بوصفه ربَّ إسرائيل وحدهم من بين سائر البشر، فلا عجب إذن إذا كانت اليهودية لا تمسُّ مسألة الحقوق الإنسانية ولو مساسًا عابرًا.

أما الهندوسية فلا تتحفّظ في عدوانيتها، ليس ضد غير الهنود فحسب، بل وضد الطوائف الدنيا من الهنادك أنفسهم. وبذلك تُضيّق الهندوسية مجال رحمة إلههم وتحصرها في نطاق قطاعٍ صغير من البشر. ومن شرائع الهندوسية أنه: “إذا لم يستطع برهمي (وهو المنتمي إلى أعلى طبقة من الطبقات الأربع في الهندوسية) أن يُسدّد دينه إلى شخصٍ من طائفة المنبوذين فلا حقّ لهذا في ان يُطالب بالسداد. أما إذا عجز المنبوذ عن سداد دينه إلى برهمي فيُجبر على العمل عند البرهمي حتى ينتهي من سداد دينه بالكامل”. (Manu Samaritans 10:35).

ثم لا نجد في اليهودية مفهومًا للعدل تجاه أعدائهم؛ قيل في كتابهم المقدّس (العهد القديم أو التوراة): “وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ” (اَلتَّثْنِيَة 7 : 2).

وعلى سبيل المقارنة، سأتلو عليكم بعض الأمثلة من تعاليم الإسلام في هذا الصدد. يأمر القرآن بمايلي:

  1. وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (النساء: 59).
  2. … كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ (النساء: 136)
  3. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (المائدة: 9).
  4. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة: 191).
  5. وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا.. (الأنفال: 63).

وثمة مثال آخر من تعاليم الإسلام الخالدة أودُّ قراءته عليكم، وهو يتعلق بالانتقام والعفو. وإذا ما عقدنا مقارنة بين تعاليم الإسلام في هذا المجال مع غيره من الديانات، فسنشعر بصدمة فورية من وصية العهد القديم اليهودي:

“وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْسًا بِنَفْسٍ، وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَرِجْلاً بِرِجْل” (اَلْخُرُوجُ 21 : 23-24).

لا شكَّ انَّ هذا التشدُّد في الانتقام يُثير العجب، ويحزن القلب أيضًا. ولا أسوق هذا المثال على سبيل الانتقاد، بل لأُبيّن أنَّ مثل هذه الإجراءات العنيفة إذا نظرنا إليها على ضوء التعاليم القرآنية، قد نلتمس لها ما يبرّرها أحيانًا. فالقرآن المجيد يساعدنا على النظر في التعاليم المتعارضة للديانات الأخرى بروح التعاطف والتفهُّم. وهذه أيضًا ميّزة خاصة بالإسلام. ومن تعاليم القرآن نعلم أنَّ تطبيق العقوبة كاملة، كان مقرّرًا لمواجهة ضرورات معينة، تتعلق بمرحلةٍ بذاتها، كان ذلك لازمًا لتقوية قلوب بني إسرائيل كي يهبّوا مستمسكين بحقوقهم، بعدما لبثوا في العبودية زمنًا طويلاً، فَمَرَدوا على الجبن، وتولّد فيهم إحساس بالدونيّة عميق. وواضح، والحال هكذا، أنَّ التأكيد على العفو ليس مناسبًا، لأنّه يدفع بني إسرائيل إلى قاع مستنقع من خورهم واستكانتهم، ولا يحصلون على الثقة بالنفس والشجاعة لتحطيم أغلال العبودية والمذلّة. فكان هذا التعليم صحيحًا ومناسبًا في ذلك الظرف، وهو تعليم إلهي حكيم حقًا.

وفي مقابل ذلك، عندما ننظر في العهد الجديد (أي الإنجيل)، نجد أنّه على العكس مما جاء في الكتاب السابق، يؤكّد على العفو والتسامح، إلى حدّ أنّه حرم بني إسرائيل تمامًا من حقّ الانتقام بأيّ صورةٍ كانت. والسبب الحقيقي وراء ذلك أنّ طول ممارسة اليهود لتعليم الانتقام سالف الذكر لقرونٍ طويلة، جعل قلوبهم قاسية تميل إلى الإيذاء، ولم يكن لها من علاج إلا أن يوقف حقَّ الانتقام لزمنٍ طويل، ولذلك أوصاهم المسيح قائلاً:

“سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا”. (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 38-39).

ومن منظور الإسلام يصير هذان التعليمان المتعارضان متكاملين، كل واحد منهم يناسب الأحوال والمواقف السائدة في وقته، وليس لأحدهما أن يدَّعي بأنّه وحده التعليم العالمي أو التشريع الدائم. وهذا يتفق تمامًا مع المنطق، لأنَّ الإنسان الذي كان لم يزل يتقدَّم عبر المراحل البدائية من التطور، ولم يصل بعد إلى وحدةٍ دولية يكون التعامل فيها بالمجاملة والمودة، لم يكن مستساغًا أن يُعطَى عندئذٍ قانونًا نهائيًا وعالميًا. ونحن نؤمن بأنّ الإسلام هو الشريعة السماوية النهائية، وأنّه يقدِّم تعليمًا لا يتأثر باختلاف المكان أو الزمان. وهي حقيقة تتضح من سعة تعاليمه حول الموضوع الذي نحن بصدده. يقول القرآن المجيد: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: 41).

فالعقوبة المقرّرة للضرر تكون بقدره تمامًا. ولكن العفو الذي يترتّب عليه إصلاح المجرم، وتدعيم السلام والاستقرار، له ثوابٌ من الله تعالى، وهو لا يحبُّ الآثمين المعتدين.

فالإسلام بذلك يجمع بين المزايا في التعاليم السابقة، مع إضافةٍ حيوية بنّاءة، مؤدَّاها أنَّ العفو الذي يُصلح المذنب هو الهدف الحقيقي. وإذا لم يكن الحال كذلك فالعقاب عندئذٍ لازم. ومن المؤكَّد أنَّ هذا الهَدي يتفق تمامًا مع الفطرة البشرية، وهو اليوم قابلٌ للتطبيق تمامًا بمثل ما كان الحال يوم تنزَّل به الوحي على رسول الإسلام منذ 14 قرنًا مضت.

مميزات أُخر

موضوع الخصائص التي يتميّز بها الإسلام موضوعٌ شديد الاتّساع ولقد أُتيحَ لي أن أتناول عدداً قليلاً من النواحي التي تخيّرتها لهذا اللقاء. ولن يسمح لي المتبقي من الوقت إلا بإشارةٍ عاجلة إلى بعض الجوانب الأخرى التي أودُّ ألا أُغفلها:

1- في الإسلام، الله تعالى هو الخالق للكون كله. ويُبيّن وحدانيته تعالى في كلماتٍ تامة، بسيطة، شاملة، تروق للساذج والعقلاني المفكّر كليهما. وفي الإسلام الله موجودٌ كامل، وهو منبع الكمالات كلها، وهو منزّه عن كل عيب أو شائبة. وهو إلهٌ حي، يتجلّى في كل مكان. وهو يحبُّ خلقه، ويسمع لابتهالاتهم. وهو سبحانه لا تتعطّل صفةٌ من صفاته أبدًا. وهو يتواصل مع الإنسان اليوم كما كان يفعل من قبل، ولم يغلق سُبل الوصال المباشر معه قط.

2- وفي الإسلام، لا يوجد تعارض بين كلمة الله وبين فعله. وبذلك رفع عنا عبء المنافسة التقليدية بين العلم والدين. وهو لا يطالب الإنسان بأن يؤمن بأي شيء وراء نطاق قوانين الطبيعة التي حدّدها تبارك وتعالى. إنّه يستحثّنا على التفكير في الكون الطبيعي والانتفاع بما فيه، لأنّ كل ما هو مخلوق فهو لخير البشر.

3- لا يدّعي الإسلام بدعاوي عديمة الجدوى، ولا يلزمنا الإيمان بما لا نفهم. إنّه يدعم تعاليمه بالمنطق وبيان الحكمة فيها بحيث يُرضي تفكيرنا وأعماق نفوسنا كذلك.

4- لا يتأسّس الإسلام على الأساطير والتراث الشعبي. وهو يدعو كل إنسان ليمارس في نفسه ويعتقد بأنّ الحق يمكن التثبُّت منه دائمًا بشكل أو آخر.

5- كتاب الإسلام الموحى به من الله تعالى، وهو القرآن، كتابٌ فريد يتميّز به الإسلام عن كل الديانات الأخرى. فإنّ معارضي الإسلام رغم جهودهم المتواصلة المتراكمة عبر العصور، لم يستطيعوا الإتيان ولو بقسطٍ يسيرٍ يُناظر هذا الكتاب العجيب. ولا يقتصر فضله على سمُّوه البلاغي الفريد، وإنّما تتميز أيضا تعاليمه بالبساطة والشمول. وينادي القرآن المجيد بأنّه يحوي خيرَ التعليم، وهذه دعوى لم يقل بها أي كتاب سماوي غيره.

6- ويدَّعي القرآن بأنَّه يضمُّ أفضل مقوّمات الكتب المقدَّسة السابقة، وأنه يحتفظ بين دفتيه بكل التعاليم الثابتة الشاملة. يقول القرآن الكريم:

إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (الأعلى: 19 و20).

7- ومن خصائص الإسلام المميزة له أنّه نزل بلغةٍ حيّة. أليس مما يسترعي النظر أنَّ اللغات التي نزلت بها الكتب السابقة إما أنها اندثرت أو هُجرت، فلم تعد يتخاطب بها الناس. ومن الجلي أنَّ الكتاب الحي هو الذي يكون في لغةٍ حية باقية.

8- ومن خصائص الإسلام التي يمتاز بها أنَّ النبي الذي دعا إليه إنسانٌ يمرُّ بكل مرحلةٍ ممكنة للتجربة البشرية، بدءًا من طفولةٍ فقيرةٍ يتيمة، إلى أن كان حاكمًا لقومه، ذا سلطانٍ غير مُنَازع فيه. وقد سُجّلت حياته، ووُثّقت توثيقًا دقيقًا، فكشفت عن إيمانٍ بالله تعالى لا نظير له، وتضحيةٍ في سبيل الله دائمة متصلة لقد عاش حضرته حياة كاملة زاخرة بالأحداث، حافلة بالنشاط والعمل. وترك وراءه مثلاً أعلى للسلوك الكامل في كل مجال من مجالات السعي البشري. وهذا الحال مناسب ولائق فقط لأنّه كان تفسيرًا حيًا مجسَّدًا للقرآن المجيد. وعن طريق أسوته الشخصية أضاء الطريق للبشر في عصره ولكل العصور من بعده. وهذا الدور لم يتحقق بالكامل في أي نبيٍ سواه.

9- ومن مميزات الإسلام أيضًا كثرة الأنباء الغيبية التي جاء بها وتحققت عبر العصور. وبذلك عزَّز إيمان المسلمين بوجود الإله الحيّ العليم. ولا تزال هذه العملية مستمرة حتى يومنا هذا، فقد شهدنا اكتشاف جسد فرعون الذي طارد سيدنا موسى وقومه من مصر. وهناك مثالٌ قريب العهد للنبأ القرآني عن وسائل الدمار الجديدة التي تحبس النار في جزئياتٍ صغيرة، ثم تمتد وتهتز قبل انفجارها بعنفٍ يزيل الجبال.

10- ومن خصائص الإسلام أنّه عندما يحكي عن أخبار الحياة الأُخروية وما بعد الموت فإنّه يُنبّئ عن أحداثٍ غيبيّة مستقبليّة، يؤدّي تحقُّقها إلى تعزيز إيمان المسلمين بالحياة الأُخروية.

11- ويتميز الإسلام عن الديانات الأخرى بأنه يضع دستورًا شاملاً للسلوك الفردي وللمعاملات العامة والدولية، وتحيط تعاليمه بكل موقف محتمل. وينظم العلاقة بين الصغير والكبير، وبين الموظف ورب العمل، وبين أعضاء الأسرة والأصدقاء والشركاء، بل وبين المتخاصمين أيضًا. أما القواعد والمبادئ التي يضعها فيها عالمية حقًا، وسبق لها النجاح في اختبار الزمن.

12- ويُنادي الإسلام بالمساواة الكاملة بين بني البشر بصرف النظر عن الطبقة أو العقيدة أو اللون. والشرط الوحيد للتفاضل والتشريف أمام الله تعالى هو التقوى، وليس المولد أو الثراء أو الجنس أو اللون.. يقول القرآن الكريم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 14).

فأعلاكم منزلةً وأسماكم شرفًا عند الله تعالى هو أكثركم صلاحًا واستقامةً وبرًا. ويقول أيضًا:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (غافر: 41).

 13- ويُقدّم الإسلام تعريفًا للخير والشر ويتميّز به عن العقائد الأخرى. فهو لا يعتبر غرائز الإنسان الطبيعية شرًّا، ولكن الشرّ عنده في الجموح وعدم اللياقة عند إشباعها. ويُعلّم الإسلام التنظيم والتوجيه لميولنا الطبيعية بحيث تكون بنّاءة ومفيدة للمجتمع.

14- ولم يكتفِ الإسلام بتوريث المرأة، وإنّما كفل لها حقوقًا متساوية مع الرجل، من دون أن  يغفل خصائصها المميزة لها من الناحية التشريعية ومسئولياتها الخاصة بها من حملٍ ورضاعة.

دين سلام

وفي الختام، أودُّ أن أزفّ البشرى للباحثين عن السلام، بأنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يكفل السلام في جميع المجالات والمستويات: فردية، واجتماعية، واقتصادية، وقومية، وعالمية. والإسلام وحده يحمل اسمًا يعني السلام. ومن يدخل في دين الإسلام لا يدخل حِمىً آمنًا لنفسه فحسب، بل يكفله أيضًا للآخرين، ويمتنع عن أي فعل قد يسبب الظلم والفوضى. قال نبي الإسلام : “المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمونَ مِنْ لِسانِه ويده”. (البخاري).

وخطبته الهامة التي ألقاها حضرته بعد إتمامه حجة الوداع قبيل وفاته، تنهض دستورًا سرمديًا للسلام لجميع بني البشر. فالإسلام يدعو لإقامة السلام بين الناس بعضهم البعض، وبينهم وبين خالقهم، بحيث يبقى الآخرون بمأمن من أذى المسلم قولاً وفعلاً، ويبقى المسلمون بمنجى من غضب الله أو ملامته جزاء للعدوان. وهكذا ينال المسلم سلامه في هذه الدنيا، ويمتد ليحظى به في حياته الأُخروية.

ولو اتبعت أمم العالم تعاليم الإسلام لكان في هذه التعاليم القدرة والكفاية التامة لإنقاذهم من المنازعات وأسباب الدمار. إنَّ الإسلام دينٌ حيّ، يُنادي بأنّه قادرٌ على أن يسمو بعلاقة الإنسان مع ربه إلى نفس المستوى التي كانت عليه في الأيام الخالية. ولا يقول الإسلام بأنَّ الوحي والوصِال الإلهيين كانا من أمور الماضي فحسب، ولكنه يؤكد بأنَّ سُبل النعيم الروحاني التي سلكها نوح وإبراهيم وعيسى عليهم السلام، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام محمد المصطفى ، لا تزال تلك السُبل مفتّحة تدعو إليها المشتاقين إلى وصال ربهم تبارك وتعالى.

الحركة الإسلامية الأحمدية

وتؤمن الحركة الإسلامية الأحمدية بأنَّ هذه الدعاوي قد تحقَّقت في عصرنا هذا بشخص مؤسِّسها، حضرة مرزا غلام أحمد ، المولود عام 1835، في قريةٍ نائية من بلاد الهند تُسمَّى قاديان. وقُدِّر له، برحمةٍ من الله تعالى، أن يسلك سُبل التقوى والصلاح والورع، وكثمرة لاتِّباعه لتعاليم الإسلام اتباعًا دقيقًا بُورك بوصالٍ وثيق مع الله جلَّ علاه، وتشرَّف بتلقّي الوحي الربَّاني، الذي ترتّبت عليه أنباءٌ غيبيّة كثيرة لم تتخلّف أبدًا طيلة حياته. وبتوجيهٍ من ربّ العزّة تبارك وتعالى، قام حضرته بتأسيس الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1889م، ولما تُوفّيَ عام 1908م ترك وراءه جماعةً من التلاميذ المخلصين النشطين يبلغون مئات الألوف. واستمرت رسالته من بعده، وتولى قيادتها خلفاؤه المنتخبون. وقال حضرته شارحًا رسالته:

“لقد أُرسلتُ لأُثبت أنَّ الإسلام وحده هو الدين الحي. ولقد بوركتُ بقوىً روحانية تجعل أهل الديانات الأخرى لا حول لهم، وكذلك من هم بيننا في عمىً روحاني. بوسعي أن أُبيّن لكل معارض أنَّ القرآن معجزة في تعاليمه، وفي علومه المضيئة، وفي بصيرته اللطيفة العميقة، وفي فصاحته الكاملة. إنّه يفوق معجزات موسى وعيسى مائة مرة”. (الخزائن الروحانية، ج11، ص 345).

وقال حضرته أيضًا:

“أنا نور هذا العصر. من اتبعني نجا من فخاخ الشيطان وأحابيله التي تتصيّد المتخبّطين في الظلام. لقد أُرسلتُ لأقود العالم في رفقٍ وسلام إلى الإله الواحد الحق، ولأُعيد ترسيخ مكارم الأخلاق الإسلامية. ولقد أُعطيت آياتٍ سماوية.. تُرضي طالبي الحق وتبدّد منهم الشك”. (المسيح في الهند).

  والآن أختتم كلمتي بنبذةٍ مقتبسة أخرى من كتابات حضرة مؤسّس الجماعة الإسلامية الأحمدية عليه السلام، وهي نداء موجه إلى العالم أجمع:

“المـِرآة التي تُتيح لك مشاهدة الوجود الأسمى هي وصاله مع الإنسان.. من كان قلبه مشتاقًا للحق فلينهض ويفتش. الحق أقول لكم إنه إذا بحثت الأرواح بصدق، وتعطّشت القلوب فعلاً إلى الحق، فعلى الناس أن يطلبوا الوسيلة الصحيحة والطريق الصحيح. ولكن كيف ينفتح هذا الطريق؟ وكيف يُرفع الحجاب؟ إنّي أؤكد لجميع الطالبين أنَّ الإسلام وحده يعلن البُشرى عن هذا الطريق، لأنَّ الآخرين قد ختموا على الوحي الإلهي منذ زمنٍ طويل. ولكن ثقوا بأنَّ الله تعالى لم يختم عليه. إنّه مجرَّد عذرٍ يشعوذ به المحرومون. إذا لم يكن بوسعك الرؤية من دون عينيك، والسمع من دون أذنيك، فإنك لن تشهد وجه المحبوب من غير معونة القرآن. كنت شابًا وأنا اليوم شيخٌ كبير، ولم أجد أبدًا أحدًا شرِبَ رحيق الروحانية الخالص من غير هذا الينبوع المقدّس”. (فلسفة تعاليم الإسلام).

  لا ريب أنَّ هذه الدعوة رسالةٌ تبعث الحياة في كل نفس تطلب الحقيقة الحقة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك