فروا إلى الله
التاريخ: 1997-02-21

فروا إلى الله

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

خطبة الجمعة ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد ( أيدَّده الله)،

الخليفة الرابع للإمام المهدي بتاريخ 21/2/1997

بمسجد فضل بلندن.

«يتحمل المترجم مسئولية أي خطأ، سوء فهم أو نسيان صدر منه خلال ترجمة الخطبة» (التحرير)

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (الزمر: 55-56)

لقد اقتبست هذه الآيات من سورة الزُمر وكنت قد قرأتها مع بعض الآيات الأخرى في الخطبة الماضية وشرحت الموضوع من خلال مقتبسات من كتب سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى أن أدركني الوقت. أرى أنّ هناك كثيرًا من الأمور لابدَّ من شرحها لأبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية. فبعد استيعابها سوف يتَّضح لهم موضوعُ التوبة وسيسهل عليهم العمل حسب مقتضاها وستتجلَّى أهميتها لهم أكثر من ذي قبل إن شاء الله.

يغفل معظم الناس عن التوبة ولا يفكِّرون في جوانبها المختلفة، وذلك لأنّ الإنسان إذا تعوّد على ارتكاب ذنوبٍ معينة يتعلّق بها قلبُه ويصعب عليه حتى أن يدعو الله للتخلُّص منها. ومما لاشكَّ فيه أنه من الصعب أن يدعو الإنسان ربَّه بوعيٍ كامل للتخلُّص عما تعلَّق قلبه به.

ولقد جرّبتُ مرارًا أنّه حين يتخذ بعضٌ من أبناء الجماعة ولاسيّما السيدات -لقلّة وعيهِنَّ- قراراتٍ تُنافي تقاليد الأحمدية (الإسلام الحقيقي)، وأنصحهُنَّ بأن يدعِينَ لأنفسِهِنَّ، ألاحظ في كثير من الأحيان أن طبيعتهُنَّ لا تميل إلى الدعاء. وحتى لو أقررنَ بأنهنَّ سوف يدعيِنَ لأنفسِهِنَّ، يبدو لي جليًّا أنهنَّ لا يستطعنَ حسم الموقف.

ولاشكَّ أنهنَّ ما لم يستوعبنَ الأمر بكامله لا يستطعنَ تنفيذه أبدًا. ولكن اللواتي تَفهَّمْنَ الموضوع من كل الجوانب والنواحي وتعرَّفنَ جيداً أنّ الأمر المطلوب منهنَّ بالغُ الصعوبة دون أدنى شك، ومع ذلك يعقِدنَ العزم على تنفيذه في كل الأحوال، ما ضاعت ولا واحدة منهنَّ بل تدراكهُنَّ الله جميعًا بفضله ورحمته.

يغفل معظم الناس عن التوبة ولا يفكِّرون في جوانبها المختلفة، وذلك لأنّ الإنسان إذا تعوّد على ارتكاب ذنوبٍ معينة يتعلّق بها قلبُه ويصعب عليه حتى أن يدعو الله للتخلُّص منها.

يجب على الإنسان أن يقوم بتحليل علاقاته الشخصيّة لأنّ الحياة تدور حولها. فكل ذنب يصدر من المرء له صلة من نوعٍ ما بالعلاقات الشخصيّة. ونفس المفهوم ينطبق على التوبة التي تصدر من المرء المذنب. أودُّ أن ألفت أنظاركم إلى كلمة أَنِيبُوا الواردة في الآية التي تلوتها على مسامعكم في مستهلِّ الخطبة. يقول الله تعالى:

وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ .

أي توبوا إلى الله واخضعوا له وسلِّموا أنفسكم له قبل أن يحلَّ بكم العذاب ثم لا تُنصرون. وتقول الآية التي قبلها: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، وهناك بُشرى لعباد الله سبقت هذه الآيةَ، إذ يقول الله :

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ

فبعد هذه البشارة تطرح الآية التالية لها أمرًا غريبًا، وهو: لا شكَّ أنّ الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، ولكن يجب أن تَخشَوا أن يحلَّ بكم عذابٌ قبل الموت! يتساءل المرء: إذا كان الله سيغفر الذنوب جميعًا فما المراد من العذاب بعد ذلك؟ ومن أيِّ عذابٍ يحذِّرنا الله هنا؟ لأنّ قوله تعالى: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا قد أسقط الذنوبَ كافة ولم يترك لنا أيَّ همٍّ أو حزنٍ، على ما يبدو، وإذا كان الله تعالى رحيمًا لدرجة أنه يغفر الذنوب جميعًا فلا يبقى سببٌ ولا داعٍ للخوف من عذابه. ولكن الله تعالى في الآية التالية أزالَ جميع الدواعي لسوء الفهم الشائع بين الناس عن المغفرة. فلو حدثَ التغيُّر الإيجابي داخل الإنسان وعزمَ على التوبة لأزال الله العراقيلَ من طريقه ولسهَّل عليه السفرَ مهما كان صعبًا. إن كلمة أَنِيبُوا تؤكِّدُ على وجود علاقة بالله كي يتمكَّن المرء من بدء رحلته الروحيّة. فالذنب عبارة عن علاقة قويّة بالدنيا جذورها اعتياد النفس على بعض العادات السيّئة. لنأخذ على سبيل المثال الإدمان على المخدرات إذ يضطر الأطباء لبذل مجهودات كبيرة لتخليص المصاب حتى إنهم يُبقونه في المستشفى لشهورٍ طويلة أحيانًا. ولكنه ما أن يخرج من المستشفى حتى يعود إلى المخدرات مرة أخرى.

وفي كثير من الأحيان كما يقول المثل الشائع في القارّة الهنديّة: “الذنوب مثل ذَنَب الكلب” ويقولون: إذا أدخلت ذَنَب الكلب في أنبوبٍ مستقيم وأبقيته على هذه الحالة لاثنتي عشرة سنة كي يستقيم فبمجرّد أن تُخرجه منه يرجع إلى حالته القديمة.

في واقع الأمر ذكرَ الله تعالى في هذه الآيات القرآنية وَصَفاتٍ روحيّة لإزالة اعوجاج النفس. وهذه الوصفات التي يُبيّنها القرآن الكريم ليست مثل المحاولات الفاشلة السابقة الذكر لإزالة اعوجاج ذَنَبِ الكلب بل إنها ذاتُ صبغة دائمة وتأثيرٍ مستمر حيث إنّها لا تخوِّل للمرء أن يعود إلى حالته الأولى. فالنقطة الأساسيّة لهذا الموضوع هي العلاقة بالله تعالى. وإن صحَّ القول فإنّ الذنب هو بمثابة علاقاتٍ دنيويّة والتوبة هي بمثابة تحويل القلوب عنها.

فحين يرى الله تعالى أنّ العبد يبذل جهدًا للتقرُّب منه ولكنه لا ينجح في ذلك فيتوب عليه لكونه توَّابًا. فالتوبة في حدِّ ذاتها لا تُعتبر شيئًا يُذكر أو يُسمَّى ما لم يكن الله توَّابًا. وفي أمر الله تعالى: أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ قبل قيامكم بالتوبة حكمةٌ بالغة.

قبل قدومي لإلقاء الخطبة قرأت بقيّة المقتبس الذي كنت أشرحه لكم من كلام سيدنا أحمد ، سُررتُ كثيرًا إذ وجدتُ أنّ حضرته أيضًا استنبط من الآيات التي نحن بصددها ومن آية أخرى نفس الاستنباط، فقال: إنّ الموضوع المذكور له صلة بالعلاقات مع الله وحبِّه تعالى وبدون ذلك لا يستطيع الإنسان التخلُّص من الذنب، أيًّا كان نوعه.

والآن سأقرأ عليكم بقيّة المقتبس ثم سأشرح بعض الأمور في ضوئه. يقول حضرته : “إنّ قول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ فيه خطابٌ للنبيّ وذلك كي يخاطب عبادَ الله تعالى قائِلاً: يَا عِبَادِيَ – فيقول سيدنا أحمد إنّ الكلام هنا واردٌ على سبيل المجاز ولكلمة “العبد” معنى آخر أيضًا ينطبق هنا بالبداهة. أي هناك فرق بين العبدِ والرقيق وهو أنّ العبدَ ما خلقه اللهُ فهو عبدهُ لأنه يعبده. أما الرقيق فهو أيضًا يكون عبدًا (بمعنى التابع والخادم) لسيده.

فقال سيدنا أحمد إنّ هذه الكلمة يَا عِبَادِيَ هذه تبيّن لنا طريقًا عظيمًا لاجتناب الذنوب، لو فهمتموه لأمكن لكم التحرُّر منها، وإن لم تفهموه فلن تهتدوا إلى الصواب مهما اجتهدتم. وبيّن حضرته أن كلمة “العبد” تحتوي على مدلول التخلّي عن جميع أنواع التحرُّر والاستقلال إذ أنّ كلمة العبد تُطلق على من تُسلب حريّته كليّةً. إذًا فالبشارة التي قدَّمها النبي قد خصَّ بها عبادَه -أي أتباعه- دون غيرهم، فقال: لو أصبحتم عبادًا لي لوجدتم، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ولن يُبقيَ منها شيئًا شريطة أن تكونوا عبادًا لي، أي تتجرَّدوا من حريَّاتكم كافة وتتّخذوا من عبوديّتي أي اتِّباعي التّام ملاذًا لكم.

يتابع حضرته ويقول: “يجب أن يتخلّى الإنسان عن الأنانيّة” وقد استخدم حضرته تعبير الأنانيّة هنا بعد إيمانٍ عميق، والمراد من جميع أنواع التحرُّر “أنْ يقطع علاقته مع غير الله ويتخلَّى عن كل حُبٍّ غير حبِّ الله تعالى. والمراد من ترك الأنانيّة أنْ يتحرِّر الإنسان كليَّةً من العبوديّة الداخليّة لنفسه، فلا يكون عبدًا لأحد حتى ولو لنفسه. ثم يقول حضرته “ويصبح مطيعًا كاملاً لربِّه” أي يبقى دائم الانقياد مُذعنًا كاملاً لمولاه. وفي ذلك ترغيبٌ للباحثين عن الحق: أنّكم إذا كنتم تريدون النجاة فلا بدَّ لكم من التحلِّي بهذه الصفات. في الحقيقة إنّ الآية التي نحن بصددها وآية سورة آل عمران:

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ

تحتويان على نفس المعنى. لأنّ الاتباع الكامل يقتضي التفاني والطاعة الكاملة اللتين تشملهما كلمة “العبد”. وهذا هو الأمر المشترك بين الآيتين، أي كما أن الآية الأولى تضمُّ وعْدَ المغفرة بل تبشِّرُ بالفوز بحبِّ الله تعالى، كذلك آية قُلْ يَا عِبَادِيَ يمكن أن نفهمها بتعبيرٍ آخر قل: يا مُتَّبعيّ.

بما أنّ هذا الموضوع دقيق جدًا، لذلك حين يوجز حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود الكلامَ ويذكر المواضيع الواسعة والعميقة في بضع كلمات، نضطر لشرحها وإلا قد يستعصي فهمُها على القارئ العادي. لذا سأشرح لكم ما أراد أن يُبيّنه حضرتُه إذا يقول: إنني أرى أنّ كلتا الآيتين قُلْ يَا عِبَادِيَ والآية

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ

تحتويان على معنى واحد وتفسر إحداهما الأخرى. من الطبيعي أنه من كان عبدًا لأحد كان تابعًا له أيضًا كما لا بدَّ من وجود الحب قبل الاتباع. وما عبَّر الله عنه في كلمة أَنِيبُوا ذكره هنا بكلمات إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ .

إن أول شرط للإصلاح هو وجود الحب، وإن لم يكن هناك حبٌّ بالمعنى الحقيقي فيجب أن تكون هناك نوايا صالحة -على الأقل- وتكون هناك عزيمة صارمة ومحاولة صادقة للحصول على حبِّ الله. ومما لا شك فيه أن الإعلان بحب الله تعالى ادعاء كبير جدًا. ويبقى السؤال كيف نحوّل إعلاننا هذا إلى حقيقة واقعية؟ يردُّ الله ، بلسان النبي ، على هذا السؤال إذ يقول للناس اتَّبِعُونِي . لقد ربط سيدنا أحمد كلمة يا عبادي الواردة في هذه الآية بكلمة فَاتَّبِعُونِي بأسلوب رائع جدًا بحيث يتضح لنا فجأة أن المعنى الحقيقي لكلمة “العبد” هو الإذعان الكامل والاتباع الصادق لا غير، وكلمة فَاتَّبِعُونِي أيضًا تتناول الموضوع نفسه. أي لا بد من الحصول على حب الله تعالى كي تتمكن العبودية (بمعنى الاتباع الكامل) لسيدنا محمد رسول الله . ولإثبات ادعائنا للحب يتحتم علينا أن نتبع سيدنا محمدًا اتّباعًا كاملاً. ولا يمكن الوصول إلى المغفرة، أي تلك المغفرة العظيمة التي من شأنها أن تمحو الذنوب كلها، دون هذه العبودية الآنفة الذكر. هذا الموضوع يبدو سهلاً في بداية الأمر ولكن العمل به صعب جدًا. فالصعوبات الحائلة دون تنفيذ مفهوم فَاتَّبِعُونِي شامخة مثل الجبال. إن الشخص العادي يجد صعوبة كبيرة حتى في اتّباع إنسان صالح عادي، حتى الصغار ليس من الضروري أن يكونوا بطبيعتهم ميّالين إلى أسوة آبائهم الصالحين. فإذا حاول أحد اتّباع غيره بالجهد والكد يصعب الأمر عليه أكثر. نعرف كثيرًا من الآباء الذين نبذ أولادُهم طريقَهم وراء ظهورهم وآثروا عليهم غيرهم، أي لم يحبذ الأولاد اتباع مَن أحبهم آباؤهم. ومن الملاحظ أيضًا أنه بقدر ما يُحبُّ الأولاد آباءهم بقدر ما يسهل عليهم اتباعُهم، وهذه حقيقة ثابتة.

والأولاد الذين يُحرمون من حسنات آبائهم، لو استعرضتم أمرهم بدقة لوجدتم أن قلوبهم فارغة من حب والديهم. والذين يحبون آباءهم حبًّا صادقًا لا يمكن لهم بحال من الأحوال أن يتحرروا ويشقوا مسالك خاصة بهم بعيدة عن مسالك آبائهم. فنرى هذا الموضوع ينطبق بأتم معنى الكلمة وبدون استثناء على أولاد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود وأصحابه رضي الله عنهم. فالأولاد الذين أحبوا آباءهم أنقذهم الله تعالى وسهل عليهم اتباع مسالك آبائهم الحسنة. فسِرُّ اقتراف الذنوب كامنٌ في “الحب”، كما أن سر النجاة منها أيضًا كامنٌ فيه. والحب هو النقطة الأخيرة للقدر الذي يجري التدبيرُ تابعًا له. والقدر الإلهي أيضًا مبنيّ على قوة الحب والجذب. فالقوة الأساسية التي يقوم عليها العالم المادي كله هي قوة الجاذبية التي وضعها الله في كل مادة. ولو تجردت المادة من هذه القوة لتلاشى العالم كله ولصار هباء. هذه هي القوة التي يقوم عليها نظام العالم كله الذي هو من السعة بحيث لو بدأتم السفر من أقصاه إلى أقصاه لما أنجزتموه ولو سافرتم إلى 20 مليار سنة ضوئية، ولو وصلتم إلى النقطة النهائية حسب زعمكم لوجدتم أن الكون قد توسَّع أكثر وبالتالي لن تتمكنوا من الوصول إلى نهايته أبدًا. والآن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يدير الله تعالى هذا الكون الواسع؟ من المعلوم أن إدارة النظام البسيط تحتاج أيضًا إلى قوة. هذا، وإن نظام الكون العملاق سائر على قدم وساق دون إحداث أي ضجيج أو صخب، أي إن سير النظام لا يُحدث أي ضوضاء ولا ضجة، بل تتم السيطرة على النظام بكل هدوء وسكون. ولقد ربط الله تعالى الكواكب بعضها ببعض ثم لفت أنظار الناس تكرارًا للإمعان في هذا النظام الجبار المحكم والمنسق الذي سخره بحيث لا يمكن لكوكب من الكواكب أن ينحرف من مساره المحدد له، إنها مربوطة بأعمدة لا ترونها، ولا تسمعون أي صوت ولو كان خافتًا. وتتم إدارة النظام كله بكل هدوء وصمت مما يحير العلماء أن القوة الهائلة المستخدمة لإدارة النظام لا تستهلك أي وقود ولا تحدث أيه ضجة، إذ إن قوة الجاذبية للأرض لا تستهلك وقودًا بقدر ما يستهلكه المحرك العادي.

إن أول شرط للإصلاح هو وجود الحب، وإن لم يكن هناك حبٌّ بالمعنى الحقيقي فيجب أن تكون هناك نوايا صالحة -على الأقل- وتكون هناك عزيمة صارمة ومحاولة صادقة للحصول على حبِّ الله. ومما لا شك فيه أن الإعلان بحب الله تعالى ادعاء كبير جدًا. ويبقى السؤال كيف نحوّل إعلاننا هذا إلى حقيقة واقعية؟

إذًا فهذا موضوع يغطي جميع جوانبه “الحب” الذي نبهنا الله إليه. والمعلوم أنكم لا تستطيعون إدارة شؤون بيوتكم ما لم تُنشئوا أواصر الحب فيما بينكم. فاعلموا أن القوة الكبرى التي تستطيعون بها السيطرة على جميع الأشياء -الكبيرة منها والصغيرة- في العالم المادي والروحاني على حد سواء، هي الحب. فعن طريق هذا الموضوع الذي ذكره الله تعالى بالنسبة إلى سيدنا محمد وضح الله لكل إنسان سرَّ خلقِه وشرح له أساليب لنيل الهدف من حياته. فإن كنتم تريدون الحصول على شيء فإنما يمكنكم ذلك بعاطفة الحب، أما النفور والكراهية فلا يجديان نفعًا. لقد شرحت للجماعة مرارًا في سياق قصة الشيطان والإنسان أنها تتألف من أمرين اثنين وكلاهما أثبت مصداقيته من الأزل ولن يتغير إلى الأبد. فهناك قوتان، قوة النار وقوة النمو، فقوة النمو تتركب من الطين، مما يعني أن الماء يجمع الأجزاء المتناثرة فتأتلف فيما بينها، وباجتماع هذه الأجزاء المتفرقة تتولد قوة النمو. وكل ما يلاحظ من فساد واختلال وفوضى في النظام فإنه ناتج عن القوة النارية. وهذا الوضع سائد في العالم المادي والروحاني على حد السواء. وحين تجد الكراهية طريقها إلى بيت تدمّر كل ما فيه وتفرق بين المرء وزوجه كما تُبعد الأولاد من الآباء وتُقع الفرقة بين الأشقاء حتى تتسبب في تفكك الأسرة كلها. وهذا هو الموضوع الذي يجب التعمق فيه لاستيعاب مدلول الاستغفار أيضًا. وإنني أعرض عليكم نتائج منطقية لموضوع الحب الذي بيّنه سيدُنا الإمام المهدي ، وأشرحها لكم لتفهموا جيدًا كلام حضرته . يقول حضرته: “هذه الآية تحتوي على البشارة للانضمام إلى زمرة أحباء الله تعالى. وكأنَّ آية

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

تقول بتعبير آخر: “يا أتباعي الذين ظلوا متورطين في الذنوب”. أو تقول الآية بكلمات أخرى: يا أيها الذين ترغبون في طاعتي، ويا مَن تُكنُّون في صدوركم أُمنية اتباعي، ويا من تدَّعون الامتثال لأوامري.. فكل هذه الأمور تشملها كلمة أتباعي. وهذا الأمر هام جدًا ويستدعي انتباهنا بشكل خاص إذ يقال من جهة متبعي أتباعي ومن جهة أخرى يقال:

الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ

أي ظلوا متورطين في الذنوب! فأي انسجام بين هذين الأمرين: “أتباعي” والمتورطين في الذنوب؟ كيف يمكن ذلك؟ هذا مستحيل تمامًا. لذلك فسَّرت الآية على النحو التالي: يا أيها الذين ترغبون في طاعتي، ويا من تكنون في صدوركم أمنية اتّباعي، ويا من تدّعون حبي وتعترفون وتقرؤون صباح مساء شهادة “أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”.. إنكم ترددون هذه الشهادة ولكن لا تنتبهون إلى ما تحملونه من أثقال الذنوب بحيث تظلون متورطين في المعاصي من الصباح إلى المساء حتى تقضون معظم أوقاتكم متفكرين في الذنوب. وإن لم تقدروا على اقتراف الذنوب في بعض الأحيان فهناك أمانٍ وحسرات لاقترافها تنمو في الصدور ولا توجد الأماني لكسب الحسنات إلا قليلاً. فحين قال: يامتّبعيّ، فلم يُرِدْ من ذلك أنكم يا عبادي أصبحتم بهذه الصفة أو تلك، بل قال ما شأنكم يا عبادي (أتباعي)؟ أنتم تَدّعون كونكم عبادي ثم تعملون ما تعملون وتقترفون الذنوب لهذه الدرجة!! هذا لا يليق بكم. فكونوا عبادي حقًا. وفي موضع آخر ذكر الموضوع نفسه إذ قال تعالى:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .

ليس المراد هنا أنكم بعد ادعائكم بحب الله تعالى لستم بحاجة إلى شيء آخر، بل يقول تعالى على لسان النبي بأنكم قمتم بادعاء عظيم وخطير للغاية ولا يمكن لكم العمل به ما لم تتبعوني لأنني سلكت مسالك العشق وبالتالي مهّدتُ كل طريق يؤدي إلى هذه الغاية. فالمسافة تبدو لكم الآن قصيرة وسهلة باقتفائكم أثري، وهذه المسألة لا تنحل بدون العشق الذي يبعث في نفس صاحبه جنونًا لدرجة أنه يشرع في تحطيم صخرة ليفجرمن تحتها نهرًا، فيقضي حياته كلها في هذا السبيل.*

من المعلوم أنه لا يقدر على تفجير النهر بحفر الصخرة بهذه الطريقة ولكن العاشق الصادق لا يتوقف عن العمل حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة في هذا السبيل. إذًا هناك سبيل واحد للوصول إلى حب النبي -مع العلم أن الغاية المنشودة هي الوصول إلى حب الله – حيث يمسك حبُ النبي بيدكم ويقودكم إلى طرق تُوصلكم في نهاية المطاف إلى حب الله تعالى. الآن أعيدوا النظر في موضوع الذنب وتأملوا كيف أن التخلص من الذنوب يرتبط بحب النبي بصلة وثيقة. نعم قد أدركتم الأمر جملةً وتفصيلاً ولكن كيف تباشرونه؟ وللرد على هذا السؤال ولشرح الأمر أكثر سأروي لكم قصة الفئران والقطة وأحذركم ألا تكونوا مثل الفئران الوارد ذكرها في هذه القصة.

يُحكى أن قطة مفترسة كانت تعتدي على الفئران، تهاجمها وتقتحم جحورها، فاجتمع الفئران يومًا ليفكروا في حل للمشكلة، فقال أحدهم: الأمر غاية في السهولة، يجب أن نربط في عنق القطة جرسًا. وكلما تقترب القطة سوف ننتبه إليها برنين الجرس وندخل جحورنا على الفور وهكذا سوف ننجو من اعتدائها علينا. ففرحت الفئران كلها وأشادت بصواب رأيه. فبينما كانت فرحة بهذا الحل، قال أحدها: ولكن من ذا الذي سوف يربط الجرس في عنق القطة؟ فخيم السكوتُ على المجلس وخابت آمالها.

إن أخذ القرار للتوبة عن الذنوب هو بمثابة ربط الجرس في عنق القطة كما جاء في الحكاية الشعبية الآنفة الذكر. فالسلوك على مسالك الحب بدون إدراك مقتضياته أمر يبدو غاية في السهولة، مثل ربط الفئران الجرس في عنق القطة، ولكنه غاية في الصعوبة في الحقيقة. المشكلة الكبرى في هذا السبيل هي جاذبيةُ الجهة المخالفة التي تجذب الإنسان إلى نفسها بحيث يتقدم خطوة ويتأخر خطوتين. فكيف يمكن التخلص من هذه الجاذبية؟ هذا هو السؤال الأساسي لأن ما ذكره القرآن بهذا الصدد ليس بأمور فلسفية بحتة بل إنه يقدّم أسرارَ الحكمة العميقة ويحلل المسائل المستعصية ويرشدنا إلى ما يجب علينا فعله وما يجب الامتناع عنه. كما يهدينا أيضًا إلى أساليب لو استخدمناها لَسهُل إنجاز المهام الملقاة على عاتقنا.

فأولاً وقبل كل شيء يجب التأمل في حياة النبي ودراسة متأنية لسيرته الطاهرة بالإضافة إلى الحاجة الماسة للاستماع إلى أحاديثه النبوية المباركة، ويجب أن تكون الدراسة صادقة على أساس أنها دراسة سيرة شخص “واقعي” -ليس شخص افتراضي كما يقدمه المشائخ ويعرضونه وكأن ما يقدمونه هو من قبيل الشعوذات- يعيش كما تعيشون ويعلن (قُل إنما أنَا بَشَرٌ مِثلُكُم)، أي تفكروا لماذا اختارني الله لهذه المناصب الجليلة؟ وما لم تفهموا هذا الأمر جيدا لن يتولد في قلوبكم لرسول الله حبٌ من شأنه أن ينجيكم من الذنوب أو يمسك بيدكم ويتقدم بكم على طريق الحسنات.

كونُ رسول الله بشرًا يمثل قاسما مشتركا بيننا، ففكروا في موضوع البشرية وأَمعنوا، كم مرة حدث أن وجدتم فرصة للخيار بين أمرين اثنين في الحياة الدنيا، وكم مرة ملتم إلى أحدهما دون الآخر، ثم اختبروا حياتكم ومواقفكم من هذا المنطلق، عندها ستعرفوون كم هو صعب هذا الأمر، وكم كانت صعبةً تلك المواقفَ التي اختارها النبيُ في حياته. ففي كل مرة كان النبي يؤثر العسير ولم يختر لنفسه الأيسر قط حتى وصفه الله تعالى بكونه ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: 73) أي الإنسان الكامل الذي حمل أمانة الشريعة كان ظلوما لنفسه لدرجة وصفه الله قائلاً: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (الكهف: 7) أي إنك تظلم نفسك يا عبدي حتى كدتَ تهلك نفسك.

هنا يتساءل المرء: كيف استطاع النبي أن يظلم نفسه لهذه الدرجة؟ مما لا شك فيه أن هذا النوع من الظلم على النفس لا يمكن أن يتم إلا بسبب الحب المفرط. فكما أن قوة الجاذبية هي النقطة الأساسية لفهم أسرار الكَون كذلك النقطة الأساسية لفهم أسرار الكون الواسع الكامن في شخص النبي هو حبُّه لله تعالى. ثم يجب أن نتأمّل كيف تجلى هذا الحبُّ في شخص حضرته ، وكيف أحدث هذا الحبُّ تغييرا طيبًا في حياته. فما لم يحظ أحد بهذا النوع من الحب وما لم يحاول الحصول عليه بالمثابرة، لا يمكن أن يوفَّق بتلك العبودية (بمعنى الاتباع) التي من شأنها أن تُكبسه مغفرة الذنوب جميعا. فلو درستم سيرة النبي بعُمق لَحَدثَتْ في نفوسكم تغيراتٌ طيبة لدرجة لم تكن في حسبانكم من قبل. ولكن يجب أن تفهموا الأمر جيدا وتُجروا مقارناتٍ متأنية بين تصرفاتكم وأسوة النبي ، وتسالوا أنفسكم فيما إذا كننم تستطيعون تقديم تضحيات كذا وكذا في سبيل الله تعالى. وبقدر ما تفهمون هذا الموضوع أكثر بقدر ما تجدون تنفيذه صعبا. وهناك مشكلة أخرى في سبيل استيعاب جوانب هذا الموضوع وهي: في بعض الأحيان عندما يحس المرء أن هؤلاء يريدون الاقتداء به بحيث يفوق ملكاته ومؤهلاته الشخصية عندها يفقد القدرة على التقدم. لا شك أن النبي كان بشرا ولكنه حقق إنجازات تبدو فوق قدرة البشر. هذا هو الأمر الذي برهنه سيدنا الإمام المهدي والمسيح في بيانه لسيرة النبي ، إذ قال إنه كان بشرا ولكن حقق إنجازات لا يقدر عليها بَشرٌ. هذه الفكرة تفُتُّ أحيانا في ساعد بعض الناس الذين ينسجون قصصا خيالية حول أنبيائهم وبالتالي يتطرق الفساد إلى تصرفاتهم ظنا منهم أن الإنجازات التي حققها النبي كانت مختصة به وبمؤهلاته فحسب، أما نحن فلسنا عليها من القادرين لكوننا أناسا عاديين لأن هذه الإنجازات كلها بمثابة المعجزات والكرامات لا سبيل لأحد للحصول عليها عدا الأنبياء. وهكذا يحرم الإنسان نفسه من كل هذه الحسنات بحجة أنه لا يقدر عليها فلا يجتهد في اكتسابها أيضا ويقول في نفسه: لِمَ لا أتوجه إلى معجزة أكبر من غيرها، ثم تتراءى لهم هذه المعجزة في شخص شيخٍ يزعمونه ناسكًا كبيرا وبالتالي قادرًا على محو ذنوبهم كافة، ويرون أنهم لو أحبوه واتبعوه لكان من شأنه أن يمحو الذنوب جميعا. يختلقون مثل هذه الأباطيل من عند أنفسهم وينسون لقب “عبادي” الذي لقبهم الله به. لا شك أن هذا المعتقد أحدث في عالم الأديان فسادا كبيرا، إذ إن فكرة كون سيدنا عيسى ابن الله وما شاع في المسيحية من أفكار مشركة كلها نتاج هذا المعتقد، إذ ظُنَّ أنه قد جاء لحمل أوزار الذنوب بأسرها فلا حاجة لنا لتحمل المشاق. وبالرغم أن الشرك لم يجد طريقه إلى الإسلام بشكله الظاهري بمعنى أن المسلمين لم يقعوا في الشرك ظاهرا، غير أن جميع المعاصي التي تورط فيها المسلمون ناتجة في الواقع عن الشرك الباطني الذي تسرب إليهم. وأسوأ نوع الشرك هو ذلك الذي يتولد من حب المتبعين لمطاعهم ونبيهم.

وعندما يتجاوز الحبُّ الحدودَ بحيث يُبدي الحبيبَ أسمى من الإنسان عندها تنقطع العلاقة بين المحبَ والحبيب على الفور وبالتالي يحرم المـُحب من طاعة نبيه. فالمشركون كلهم عصاةٌ ويتكالبون على الأقذار والأوساخ لأنهم يعرضون عن منبع النور، ثم تبدو لهم الأوساخ كطعام فاخر، وكل ماء مهما كان فاسدا يبدو لهم طاهرا عذبًا.

فإن كنتم تريدون إنشاء علاقة بالنبي الأكرم وبقاءها والاستفادة منها فاعلموا أولا وقبل كل شيء أنه يجب ألا يحول حُبُّكم له دون حُبِّكم لله . وحبُّ النبي عندما يكشف لكم بعض الحقائق عن أنفسكم، يشق عليكم الأمر بعض الشيء في البداية، وستحسبون أنكم لا تقدرون على اتباعه واقتفاء آثاره، كالإنسان العادي الذي عندما ينظر إلى بطل عن كثب -حتى ولو كان مصارعا عاديا- يصاب باليأس من الوصول إلى مكانته من بطولة ومهارة، وإن كان يظن في البداية أنه سوف يصبح مثله وتتقوى عضلاته إثر القيام بالرياضة لبضعة أيام. فما هو العلاج لهذا اليأس؟ ألا إن علاجه وارد في الآية لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي إن رحمة الله تعالى سوف تحل جميع مشاكلكم. ورحمة الله تعالى هي التي سوف توفقكم للطاعة الكاملة للنبي . ولا شك أن شخص سيدنا محمد العظيم أيضا نموذج لا مثيل له لرحمة الله تعالى. فإذا كان النبي قد ارتقى إلى هذه المناصب العظيمة السامية بفضل الله فهي التي سوف تسعفكم لقطع مراحل مشواركم للتأسي بأسوة عبد الله الكامل، سيدنا ومولانا محمد . وقد فسر رسول الله لنا موضوع الرحمة بما معناه: ينبغي أن تتقدموا قدر المستطاع في سبيل الله حاملين الأماني الصادقة في قلوبكم ثم يعينكم الله تعالى للوصول إلى غايتكم المنشودة. وهكذا ستَهُون عليكم تلك العقبات التي كانت تبدو مستعصية الاجتياز، بل كانت مستعصية فعلا لو رأيناها من منظور دنيوي.

هنا يتساءل المرء: كيف استطاع النبي أن يظلم نفسه لهذه الدرجة؟ مما لا شك فيه أن هذا النوع من الظلم على النفس لا يمكن أن يتم إلا بسبب الحب المفرط. فكما أن قوة الجاذبية هي النقطة الأساسية لفهم أسرار الكَون كذلك النقطة الأساسية لفهم أسرار الكون الواسع الكامن في شخص النبي هو حبُّه لله تعالى.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للإنسان أن يقطع علاقته مع الذنوب؟ حاوِلوا القيام بذلك تدريجيا، فإن المتعود على ارتكاب الذنوب مثله كمثل المدمن على المخدرات. يأتيني أحيانا بعض المدمنين على المخدرات للعلاج فأنصحهم قائلاً: قلِّلوا تدريجيا مما تتناولونه من كميات المخدرات. ألا تقدرون على ذلك أيضا؟ يفكرون مليًّا ثم يقولون: نعم سنفعل ذلك. ثم أقول لهم: هذه أول خطوة، إذا اتخذتموها فسيوفقكم الله للخطوات التالية أيضا، لذا يجب أن تقلِّلوا من الكمية ثم اصبروا عليها لبعض الوقت ثم قلِّلوا أكثر ثم اصبروا عليها لبعض الوقت وهكذا قلِّلوها شيئا فشيئا حتى يُقضى عليها. لقد جربت هذا الأسلوب على الكثيرين وأشهد على أنه كان في غاية النجاح. والذين كانوا يرون الإقلاع عن تلك العادات الراسخة مستحيلا بدؤوا يشعرون أن أوزارهم بدأت تخفُّ يوما إثر يوم وأخذوا يسيرون على دروب الحسنات بسهولة أكثر.

فهذا هو الطريق، إن كنتم تريدون أن تنالوا رحمة الله تعالى فاسألوا مَن تجسدت فيه رحمته والذي لقَّبه الله تعالى بــــ “رحمة للعالمين”. وهو الذي كشف لنا عن السر بأنكم إذا أردتم الحصول على رحمة الله فلا بد أن تتقدموا إلى الأفضل ولو قليلا، أي وَأَنيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ثم يتولى اللهُ أمرَكم لأنكم عندما تتقدمون إلى الله تعالى خطوة واحدة، يتقدم الله إليكم عشرة خطوات. وسنَّة الله هذه سائدة على هذا المنوال في الأمور الدنيوية أيضا. لنأخذ الرياضة على سبيل المثال. عندما تمارسونها تشق عليكم في اليوم الأول وتشعرون بالإرهاق في البداية وقد يسفر عنها بعض الآلام أيضا ولكنكم رغم ذلك تشعرون بالتحسن من الناحية الصحية. ثم لو واظبتم عليها يوما إثر يوم لوجدتم بعد بضعة أيام أن ما كنتم تقومون به من نشاطات رياضية في اليوم الأول كانت من البساطة بحيث لا يستحق أن تسمى رياضة أصلا. كذلك العدَّاء الذي يعدُو بسرعة عشرة أميال في الساعة عندما يشرع في العدو في بداية الأمر يلهث بعد بضع خطوات وقد لا يستطيع متابعة العدو إذا كان بدينًا، بل يشعر بعد بضع خطوات وكأنه قام بالعَدْو لساعات ويُولمه العدو القليل بالمقارنة إلى عدْو شخص سليم. ولكنه لو عقد العزم وأخذ قرارا حاسمًا لَجعله العدْوُ نشيطا يوما فيوما وجعله خفيف الجسم وزاد من قدرته على تحمل المشاق الناتجة عن الرياضة.

فخلاصة الكلام: أن ما بيَّنه النبي من المعارف والحقائق الروحانية يقف الكونُ المادي كلُّه للشهادة على صدقه مستعدا كالعبد المتواضع. ليس ثمة موضوع روحي واحد بيّنه الرسول الأكرم ثم لم يشهد على صدقه الكون المادي كله. وكذلك الموضوع الذي نحن بصدده ينطبق عليه المبدأ نفسه.

يقول الله تعالى وَأَنيبُوا إِلى رَبِّكُمْ والإنابة تشير إلى إظهار الميل والرغبة في البداية. لأنه من المستحيل الإقلاعُ عن الذنوب والرجوعُ إلى الله تعالى دفعة واحدة. لذا يجب أن تفكروا وأمعنوا واعقدوا العزم وحاولوا العودة إلى الله، حينها سوف يسهل الله لكم سفركم للعودة إليه، حتى إنكم لن تأتوا إلى الله بالسرعة التي يأتي الله بها إليكم، كما ورد في الحديث الشريف:

“عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَبِّه قَالَ: إِذَا تَقَرَّبَ العْبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِليْهِ ذِرَاعًا وَإذَا تَقَرَّبَ منِّي ذرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَإِذَا أَتَانِي مَشيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً” (صحيح البخاري، كتاب التوحيد).

ثم تقطعون بقية المسافة في حضن ربِّكم. يقول حضرة أحمد . في بيت من شعره بالأردية مناجيا ربَّه ما تعريبه: “منذ نعومة أظفاري، قضيت أيامي في ظل حنانك وتَرَبَّيْتُ في حضنك مثل الرضيع”.

الحقيقة أن الإنسان لا يقدر على إنجاز مهمة سفره للتقرب إلى الله تعالى معتمدا على مساعيه غير أنه لا بدَّ عليه من الجهد والكدِّ في البداية ولكنه إذا بقي ثابتا صامدا على عزمه وأثبت إخلاصه ولقي القبول في حضرة الله تمّت بقية الرحلة في حضنه تعالى. ثم يأخذ الله تعالى بيده ويتولى شؤونه، وكلام سيدنا أحمد في حمد ربه والثناء عليه زاخر بهذه الحقيقة. إذ يقول حضرته مخاطبا ربه بما معناه: “لقد رزقتني أنت يا ربِّ الأولادَ، ومنحتني كذا وكذا، لم أُحضر شيئا من عندي، كل شيء من عطائك أنت يا ربِّ! فالغاية المنشودة هي الوصول إلى درجة من التواضع والإدراك حتى نستطيع القول بحق إننا لم نحضر شيئا من عند أنفسنا.

والحقيقة أننا لا نملك شيئا حتى نحضره أو نفتخر به. كما ذكرتُ لكم من قبل أنه يصعب على الإنسان التفوه بكلمات التحيات لله -أثناء الصلاة- إذا قرأها بعد الإمعان في معانيها. ففي كل يوم يقرأ المصلون “التحيّات لله” أي إنّ الهدايا الطيِّبة كلها نقدِّمها إلى الله تعالى. ثم يليها ذكر التضحيات الماليّة والجسديّة في كلمات “الصلوات والطيِّبات”. ولكن يتساءل المرء: هل نملك أيّة هدية حتى نقدِّمها إلى الله تعالى؟ حتى وإن كانت عندكم هدية فقدمتموها مرّة، فهل تعيدونها لتقدِّموها مرّةً أخرى. إذ تكرِّرون الكلمات المذكورة مرارًا كل يوم؟ ليس من المعقول أن تُعاد الهدية حتى تُقدَّمَ ثانيةً. وأنتم تكرِّرون الكلمات نفسها أكثر من مرة كل يوم وتقولون: “التحيات لله والصلوات والطيّبات”. فكلمة الهديّة تبرهن بكلِّ وضوح أنّه كلّما تقدمون من هديّة يجب أن تقدِّموا شيئًا جديدًا، ينبغي أن تضيفوا حسنةً جديدة إلى رصيد حسناتكم وتقوموا بعملٍ صالح حتى يُسمَّى هديةً بحقّ. عندها يمكنكم أن تحضروا في أعتاب حضرة الله وتقولوا: هذه حسنةٌ حضرتُ بها اليوم يا ربِّ، فيستقبلها الله تعالى مهما كانت بسيطة وسيهبكم ثمارها.

لذا فمن الأهمية بمكان أن يتعوّد الإنسان على محاسبة نفسه لأنه إذا بقي في حالة الغفلة لن يحظى بشيء. فاخلقوا في أنفسكم معرفةً حقيقيّة بمعنى الحياة وحاولوا إدراك حقيقة أنفسكم وغايةَ وجودِكم وفكِّروا في كيفيّة حياتِكم، واعلموا يقينًا أنّ الموتَ حقٌّ وأنه سيدرككم يومًا. والله تعالى يحذِّرنا قبل حلول ذلك اليوم إذ يقول:

مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ .

إنني لست بصدد تفسير هذه الآية بل أودُّ لفتَ أنظارِكم إلى مضمونها وهو: يجب أن تتقوا يومًا لا صفقةَ فيه، لن تنفع صداقةٌ فيه ولا شفاعة. إنني أُريد أن ألفتَ انتباهكم إلى موضوع الشفاعة الوارد في هذه الآية بشكل خاص. لقد أخطأ مَنْ فهِم مِنْ هذه الآية أنه سيُغفَرُ له عن طريق الشفاعة، وذلك لأنّ الله تعالى أمرَ النبيَّ ألا يَعِد أحدًا بالشفاعة إلا عباده أي أتباعه الصادقين. فالوعدُ بالمغفرة خاصٌّ بعباده أي أتباعَه لا غير، أي إنّ الشفاعة لن تنفع إلا الذين يصبحون عبادًا في الحقيقة. إذًا فاتَّقوا يومًا لن تنفع فيه صداقةٌ ولا شفاعة. هنا جمَعَ الله بين أمرين، الخُلَّة (الصداقة) والشفاعة مما يعني أنه إذا كانت صداقتكم مع محمد متينةً فهذه الصداقة والشفاعة سوف تنفعكم لا محالة. ولكن يجب أن تَخشوا لأنّكم أنشأتم صلاتِ الصداقة معه وبالتالي لم تستحقّوا شفاعته. فالتحذير بأنّ الخُلَّة أو الشفاعة لن تنفعكم ليس موجَّهًا هنا إلى متّبعي سيدنا محمد ، وإنمّا موجّه إلى الذين يسكنون في جنّةٍ افتراضيّة تُسمَّى جنةُ الحمقى، ففيها يعيشون وإيَّاها يرجون في الآخرة.

اتَّقوا يومًا لا تنفعكم فيه خُلَّةٌ ولا صداقة. فهل يعني أنه لن تنفع خُلَّة محمد ؟ بل المراد أنه لن تجديكم صداقاتكم التي أقمتموها فيما بينكم. هل يعني هذا أنه لن تنفعكم شفاعة محمد ؟ بل الحقيقة أنّه لن تجديكم الشفاعة الوهميّة التي تتوقعونها منه أو ممن تحبونهم وتتبعونهم دون سيدنا محمد . فمِن الخوف والخشية قبل حلول هذا اليوم تنشأ صحوةٌ داخلية. والموتُ -كما سبق لي أن قلت- أفضل وسيلة لخلق هذه الصحّة في النفوس. لا شكَّ أن الحياة الحقيقيّة ستعقب الموتَ وتكون في الآخرة، ولكن أمر الموت غريب حقًّا، إنّه لرحمة في حدِّ ذاته لأنّ نوعًا من الحياة ينتج عن الموت قبل حلول الآخرة أيضًا. لو رسم الإنسان في ذهنه فكرةً صادقةً عن الموت لأصبح من الخالدين ولَمَا هلك أبدًا. فهذه هي النجاةُ الأبديّة التي يحظى بها الإنسان بعد إدراكه حقيقةَ الموت.

لذا ينبغي أن تخلقوا في أنفسكم حالةً من الخوف بتصوُّرِ الموت، لأنّ الموضوع نفسه -أي موضوع “أنيبوا إلى الله” كما ذكرتُ سابقًا- واردٌ في موضع آخر من القرآن الكريم فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (الذاريات: 51). لا شكَّ أن الإنسان يفِرُّ أحيانًا من جرَّاء الخوف كما يفرُّ أحيانًا أخرى بسبب الحبّ أيضًا. فإنّه يفرُّ بدافع الحبّ إلى جهةٍ حيث يتواجد مع حبيبه، ويفرُّ بدافع الخوف إلى مأمنٍ يرى فيه نجاته من الأخطار. فتأمّلوا في هاتين الحالتين ونفِّذوهما في حياتكم ثم حاسِبوا أنفسكم من هذه الناحية. وسيتمُّ هذا السفر بطريقين بـــــ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ و فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ .

لابدَّ من الأخذ بعين الاعتبار موضوع الفرار إلى الله للقضاء على حبِّ الذنوب. عندما يتورَّط الإنسان في الذنوب يخلق لنفسه يومًا إثر يوم دواعيَ القلق والحُرقة التي يظلُّ يحترق فيها، ولا يشفي غليله حتى تغمره حالةٌ يفقد فيها قدرته على الذنب أيضًا.

تأملوا في هؤلاء المسنين الذين قضوا أيام شبابهم في ارتكاب الذنوب ولم ينتبهوا إلى التوبة يومًا. ففي هذه الحالة يخذلهم الذنب مخلِّفًا مصائبه ومتاعبه لهم. ذلك لأنّ الذنبَ شيطان والشيطان يـُمـَنِّي المذنبَ بالأماني الكاذبة ثم يهجره إلى غير رجعة. ففي العاقبة الوخيمة التي يتعرَّض لها معظم المسنين في المجتمعات الغربيّة لَعِبرَةٌ لمن يريد أنْ يتَّعِظ. إنهم في أغلب الأحيان يقيمون في شيخوختهم في بيوتِ أولادهم بل يلفظون أنفاسهم إمّا في المستشفيات أو في دور المسنِّين بأنواعٍ من الآلام والمعاناة وتصيبهم الأمراض الجسديّة بقدرِ ضخامة ذنوبهم المقترَفَة في الشباب. منهم مَنْ يُصاب بالإيدز، ومنهم مَن يكون عُرضةً للسرطان، وهناك مَن تُلازِمه الأمراض الأخرى. لاشكَّ أنّ مثل هذه الأمراض يصاب بها أحيانًا بعض الناس خطأً أيضًا وليس من جرَّاء الذنوب بالضرورة ولكن مما لاشكَّ فيه أيضًا أنها تكثُر في المجتمعات المذنبة وتتحول إلى أزمات مستعصية العلاج. إنّه المجتمع الذي يبدو جليًّا أنّه يتحرّك إلى هاوية المشاكل والمتاعب في هذا العالَم ويتساءل أفرادُه قلقين مضطربين، ما بنا؟ إلى أين مسيرنا؟ وكيف سيكون مصيرنا؟ ويطالبون بسَنِّ القوانين لوضع الحد على ظاهرة الجريمة في المستقبل. ولكن ليس بوسع أيّ قانون أو تشريع دنيوي أن يقضي على الجريمة، فهذه الفكرة في غايةِ الجهل والغباوة. وهناك تشريعٌ وضعه الله تعالى، لا يستطيع الإنسان بدونه أن يتخلَّص من ربقة الذنوب لأنّه يكون أمام أعين الله تعالى دائمًا. أما القانون الدنيوي فيكون أعمى وعينُه غير باصرة. فالقانون الأعمى يُسفرُ أحيانًا عن اضطهادات قاسية وأحيانًا أخرى يرحَم المجرمين، لأنّه مثله كمثل عصى الأعمى -كما يقول المثل الشعبيّ المعروف- يضرب بها بصورةٍ عشوائيّة، لا يعرف التمييز بين الطيّب والخبيث بل يهمّه الضرب فقط، فهذه هي حال القوانين الدنيويّة. وصلتنا قبل بضعة أيام أخبارٌ مفادها أنّ ثلاثة شبان مساكين سُجنوا لمدة ثماني عشرة سنة لجريمةٍ لم يرتكبوها. والسبب في ذلك أنّ الشرطة ألصقت بهم تهمة وطلبت من مجرم أن يشهد عليهم شهادةً كاذبة. ثم ثبتت براءتهم أثناء تفحُّص الجهات المسؤولة أوراقًا تركها هذا المجرم بعد موته، فتبيّن أن ما كان قد صدرَ من الجهات المسؤولة في حقِّ الشباب كان ظلمًا مبينًا. تصوَّروا مليًّا مدى المعاناة والعذاب الذي يكون آباء الشباب قد تكبَّدوه إذ كانوا يعرفون أنهم أبرياء ولكن القانون الأعمى لم يَعفُ عنهم. ومن ناحية ثانية هناك كثير من المجرمين الذين يرتكبون أبشع أنواع الاضطهاد ولا تصل إليهم يد القانون. فهناك قانونٌ واحدٌ لا غير -وهو قانون الله تعالى- يكفل العملُ به القضاءَ على الذنوب والإقلاعَ عن حياة الذنوب وإلا فلا.

ففكِّروا فيما تُبيّن لكم فكرةُ الموت مرارًا وتكرارًا فسوف يسهُل عليكم الفِرار إلى الله. واعلموا أنّ الحياة ليست طويلة حتى نستمرَّ في التجارب المختلفة. لذا يوجِّهنا الله إلى أن نُسرِع في الخيرات حتى لا نتأخّر فنندم، فإنكم لا تعرفون متى يوافيكم الأجل. ففِرُّوا إلى الله بسرعة وحاولوا الخروج من مستنقع الذنوب بأسرع ما يمكن. ولا شكَّ أنّ الخلاص من الذنوب أمرٌ في غاية الصعوبة إذ هناك أناسٌ لا يتخلَّصون حتى من الأخلاق السيّئة فضلاً عن الكبائر من الذنوب. إنني في كثيرٍ من الأحيان أتلقّى الشكاوى من بعض الأُسَر فأُسدي نصيحةً إلى الزوجة على سبيل المثال إذا كانت مخطئة، وأحيانًا أنصح الزوج إذا كان هو من المخطئين، فيغضب في بعض الأحيان أحد الطرفين غضبًا أكثر من ذي قبل، ثم تصلني الرسائل بعد ذلك من قِبل السيدات تقول: لقد وقعتُ في نوعٍ من العذاب يا سيدي، إذ وقعتْ نصيحتُكَ على شخصٍ سيّئ الأخلاق، وهو الآن يُعاتبني ويُعاقبني لمجرد الكتابة وتقديم الشكوى إليك ويقول: سأُلقِّنكِ درسًا فتعرفين مَنْ الأشدُّ والأقوى، استغيثي إلى الخليفة الآن ليُنقِذكِ. تصلني أخبار بهذا الخصوص بين حينٍ وآخر وفي إحدى المرّات تلقيتُ رسالةً محتوية على هذا المعنى بالضبط إذ اعتدى الزوج على الزوجة بهذا السبب وضربها ثم قال: نادِي الآن خليفَتكِ ليُنقِذكِ مني، لماذا اشتكيتني إليه؟ فكتبتُ إلى السيدة أنْ أخبريه: صحيحٌ أنني قد لا أستطيعُ أن أُلبِّي دعوتها أو لا أقدرُ على مساعدتها بالقبض على يدك ولكني سأدعو وأنادي من يَقدِر على أن يقبض عليك ويبطش بك، فاخشَ عقابه لأنه موجودٌ في كل مكان، وإذا لم تُعاقَب في هذه الدنيا فلا بدَّ أن تمثُلَ أمامه بعد الموت فيحاسِبك.

فموضوع فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ يتجلَّى أكثر عندما يذكر الإنسان موته، ولكن المتغطرِسين منهم في حياتهم الدنيويّة لا ينتبهون إليه. ما دمنا قد عَلِمْنا أنّ الشخص المتلطِّخ ببعض الرذائل فقط أيضًا لا يقدر على التخلِّي عنها لأنّ الأمر في غايةِ الصعوبة، فكيف يمكن الفرار إلى الله للمتورِّطين في الكبائر؟ الخطوة الأولى والهامّة في كِلتا الحالتين هي الدعاء والخشوع لله تعالى. والمراد من الدعاء والخشوع هو أن تتأمّلوا في حالتكم يوميًّا، فإذا وجدتم الأمر صعبًا فادعوا الله تعالى واستعينوا به متضرِّعين إليه: إنَّ التخلُّص من الذنوب أمرٌ في منتهى الصعوبة فانصرنا في ذلك يا ربَّنا.

سأعرض عليكم في الخطبة القادمة إن شاء الله بعض الأدعية التي علَّمنا إيَّاها سيدُنا الإمام المهدي والمسيح الموعود وستندهشون عند الاطِّلاع على كيفيّة تضرُّعِ حضرته في حضرة الله إذ يقول في دعائه بكل تواضعٍ وخضوع بما معناه: لا حولَ لي يا ربِّ ولا قوة للاجتناب من الذنوب فارحمني وجنِّبْنِي منها.

إذاً فكل سفرٍ في هذا الطريق يتمُّ بعونِ الله تعالى وحده ولذلك قال الله تعالى: لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ (الزمر: 54)، أو كما قال في موضعٍ آخر: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ (يوسف: 88). فبرحمة الله وحدها ستُوفَّقون بطاعة سيدنا محمد . وموضوع الاجتناب من الذنوب أيضًا يتعلَّق بالرحمة، فتقدَّموا داعين الله تعالى يَزدْكم توفيقًا ورحمة. (آمين)

* إشارة إلى حكاية شعبيّة فارسيّة مشهورة حيث طُلب من العاشق، إذا كان صادقًا في عشقه، أن يفجِّر من الجبل نهرًا قبل أن يُؤذَنَ له الوصول إلى حبيبته – من المترجم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك