ملامح عباد الرحمن وصفاتهم
التاريخ: 1997-03-07

ملامح عباد الرحمن وصفاتهم

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة جمعة ألقاها حضرة ميرزا طاهر أحمد (أيده الله)

الخليفة الرابع لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود ( )

بمسجد الفضل، لندن بتاريخ 7مارس (آذار) 1997م.

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

استهل حضرته خطبة الجمعة بالتشهد والتعوذ وتلاوة الفاتحة فقال:

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا . (الفرقان: 64-78)

قد تناولت في خطب ماضية موضوع التوبة والإنابة إلى الله مستنيرًا بآيات بينات منها قوله تعالى:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ . (الزمر: 54-55)

إذا تقبل الله توبة المرء فإنه يُنزل أفضاله ومِننه عليه بطريقة رائعة وبِكَمٍّ لا يُحصى، ويعامله بالرحمة والمغفرة. وقد ذكرت بعض النقاط بهذا الخصوص في الخطب الماضية، وأود أن أتحدث اليوم عن اصطلاح “عباد الرحمن”.

ذكر القرآن المجيد أولئك الناس الذين وُصفوا في الآية المذكورة. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ، وشجعهم أن يتقدموا في المجالات الروحانية التي تنبع من رحمانية الله . وعلى الذين يتطلعون لمغفرته والنجاة التامة من الذنوب والآثام أن يربطوا علاقتهم بالرحمن. وبعد توطيد هذه العلاقة وصيانتها ورعايتها سيدخلون في زمرة عباد الرحمن. ويجب أن لا تنخدعوا فتظنوا أنه بمجرد توبتكم من الذنوب ستصبحون من عباد الرحمن. لقد بيّن لنا القرآن المجيد علامات وصفات هذه النخبة بالتفصيل. وإذا تحققت فيكم هذه الصفات وانطبقت على أخلاقكم ومعاملاتكم في حياتكم اليومية فهنالك إمكانية لالتحاقكم بزمرة عباد الرحمن. وإذا لم تتحقق فيكم فلا حاجة أن تعيشوا في جنة الأحلام الواهية. إن الله سبحانه وتعالى وضح لنا هذه النقاط بشكل كامل ومفصل وألقى الضوء على جميع جوانبها لكي لا تبقى لدى الإنسان حجة في ذلك. وتوجد نقاط هامة أخرى في الآيات سألقي عليها بعض الأضواء بمشيئة الله وتوفيقه في مناسبة أخرى. وأود اليوم أن أوضح لكم ملامح، علامات، مميزات وخصائص عباد الرحمن المذكورة في القرآن المجيد لكي تتقدموا في سُلم الرقي الروحاني خطوة خطوة آخذين هذه النقاط بعين الاعتبار. وهذه النقاط هي بمثابة ما تشاهدونه من إشارات مرور على الطرق الصعبة والوعرة، حيث تنبهكم إحدى الإشارات مثل الأسهم إلى الاتجاه الصحيح. ولولا تلك الإشارات لضعتم ودخلتم في متاهات يصعب الخروج منها. وكي أرسم صورة واضحة في أذهانكم أريد أن أذكركم بالتظاهرات الرياضية والثقافية التي يعقدها مجلس خدام الأحمدية (تنظيم يضم الشباب المسلم الأحمدي). ففي مسابقات العدو الريفي أو الدراجات.. يضعون دائمًا الأسهم على مفترقات الطرق ومنعطفاتها. وإذا لم ينتبه إليها أحد المتسابقين فمن المحتمل أن يضل الطريق. وبناء على هذه القاعدة المنطقية عرض القرآن المجيد نظامًا كاملاً وإرشادات نورانية لعباد الرحمن على كل منعطف طريق بهدف ألا يحيد أحدهم عن الصراط المستقيم، ويرشده إلى فحص نفسه من حين لآخر: هل أنا ماضٍ على الطريق الصحيح أم لا؟ وإن نقطة البداية في السفر إلى البارئ هي توبة المرء النصوح كي يتسنى له الالتحاق بزمرة عباد الرحمن.

والعلامات أو بعبارة أخرى الإشارات التي وُضعت في مفترقات ومنعطفات الطريق المؤدي إلى الحضرة الأحدية ذُكرت في الآيات القرآنية التي تلوتها آنفًا.

الصفة الأولى لعباد الرحمن

يجب على المسلم المخلص الذي ينوي تحسين حالته الروحية ويطمح في الانضمام إلى زمرة عباد الرحمن أن يعي أن نقطة البداية في هذا المجال هي التخلص من الكِبر والغطرسة والغرور واستبدالها بالتواضع. لأن كلمة “العباد” تدل يقينًا على العبودية الكاملة والتخلص التام من التكبر، لأن المتكبر لا يستطيع أن يخضع أمام أحد لا خوفًا منه ولا تواضعًا أمامه. أما العبد بصفة عامة فيخضع أمام سيده، ولا يقرر مصيره أو مستقبله بنفسه، ولكن أمره كله في يد سيده.. يقوم ويقعد بإشارة منه.. فعباد الرحمن يسلمون أمرهم تماما لله، ولا يكون لهم الخِيرة في قرارات الله بشأنهم، وهذا ما يُكسبهم التواضع التام بأحسن صوره.. أي لا يوجد في تواضعهم مثقال حبة من الكِبر والغطرسة. وحاشى لله أن يكون هنالك أثر لهذه المؤثرات وإلا سيكون ذلك عائقًا بينهم وبين الوصول إلى المرتبة الروحية التي يطمحون إليها ويحول بينهم وبينها. فصفتهم الأولى التي تُصبح جلية لعامة الناس أنهم يمشون على الأرض متواضعين، ولا يتبخترون أو يتباهون في مشيهم، بل إنهم يحسون بضعفهم وعجزهم بعد كل خطوة يخطونها.

الصفة الثانية لعباد الرحمن

وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا .

أي حينما يخاطبهم السفهاء أو قليلو الأدب بلغة بذيئة وقاسية لا يبالون بسفههم وحمقهم ولا يتخاصمون معهم، ولا يشتمونهم، ولا يستعملون نفس الكلمات القاسية التي تُستعمل في حقهم، ولكن بكل تواضع وثقة تامة في النفس يجيبونهم بكلمات نابعة من قلب صافٍ ملؤها الحب والوئام والسلام. والابتسامة على وجوههم تضع اللمسات الأخيرة على هذه المعاملة الإنسانية الراقية.

وبهاتين الصفتين الأساسيتين يربط الإنسان علاقته برب العزّة، ويبدأ مشواره من هنا. وينبغي للمرء تزكية نفسه من جميع أنواع التكبر، وإلا فلا ينطبق عليه تسمية ومفهوم العبد.

لقد غطى الله سبحانه وتعالى بهذه العبارات مجالات جديدة مع أنها تبدو في الظاهر بسيطة ولكنها حملت لنا بين طياتها أبعادًا واسعة النطاق وفتحت أُفق نمو وازدهار.. فبيّن لنا ضرورة التحلي بالهون (اللين والرفق) والتواضع والحلم، وتزكية النفس من الأهواء واستئصال الشر منها. وبعد ذلك ستخطون الخطوات الأولى في عالم عباد الرحمن.

ومن علامات عباد الرحمن أيضًا أنهم يسلِّمون على الصغير والكبير. وكما ذكرت آنفًا لا يتشاجرون أو يتخاصمون مع أحد، بل يظهرون التواضع التام حتى مع أولئك الجهلة الذين يؤذونهم أشدّ الإيذاء بألسنتهم وأفعالهم. وبالرغم من هذا يعاملونهم بكل حلم وتواضع ورفق ورحمة ومحبة. وأيضًا نراهم يمشون على الأرض برسالة السلام، لذلك يدخلون جنّة هذه الدنيا والآخرة من بابها العريض حيث قال في حقهم: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا .

يجب عليكم التحلي بهاتين الصفتين، التواضع واجتناب الشر. قد يتفوه شخص ما في بعض الأحيان بكلمات قاسية جارحة إما تفاخرًا أو حقدًا، وقد تضحك بعض النسوة واضعات أيديهن على أفواههن على الأخريات حينما يعاينَّ فيهن نقصًا أو ضعفًا، أو يُشرن إلى زميلاتهن ويطلبن منهن أن يلتفتن ذات اليمين والشمال كي يشاهدن علامات نقص في ملابس، مظهر أو حركات فلانة أو في ابن أو بنت علانة، ويزعمن أنه لا حرج من الاستهزاء والضحك، فلا ذنب علينا، لأن هؤلاء جعلوا أنفسهم عُرضةً لسخريتنا وأعطونا فرصة لذلك.

وتخبرنا هذه الآية القرآنية الكريمة أنهن بأعمالهن الشنيعة هذه يغلقن أمام أنفسهن أبواب الدخول في زمرة عباد الرحمن. وكما أسلفت إن من علامات عباد الرحمن أنهم يُظهرون التواضع التام لله  ولخلقه أيضًا. إن الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من الضحك، ولكنه منعنا من ضحك التكبر والغرور والعجب والاستهزاء. يستهزئ بعض الناس برجل لنقص فيه لا يكون عنده القدرة على إزالته. مثل هؤلاء الناس يؤذون الآخرين، فليس من مفهوم “السلام” أن يتفوه المرء بكلمة “سلام” فقط عندما يخاطب الجهلة، ولكن يجب عليه أن يُظهر السلام بأتم معنى الكلمة أي لن يصدر عنه أي عمل مناف للسلام قط.. لا يؤذيهم كما آذوه ولا يسخر منهم كما سخروا منه. جميع معاملاتهم السلبية إزاءه يرد عليها بمعاملات إيجابية نابعة من قلب طاهر وفطرة سليمة، وختام هذه المعاملة يكون ذلك المسك أي تلك الابتسامة الصادقة.

إن التركيبة النفسانية للإنسان تدفعه إلى الغضب مباشرة بعد أن يصرخ عليه أحد.. وإذا شتمه يرد شتيمته بصفة تلقائية. أما إذا اعتدى عليه ولكمه ودفعه فإنه يتشاجر معه، وقد يؤدي هذا إلى عراك ينتج عنه بعض الأحيان وفاة أحد الطرفين.. فردّة الفعل من هذا القبيل تتربع على كرسي سلوك المرء لدرجة أنه لا يحتاج إلى تفكير أو تأمل قبل أن يتفاعل من جراء سلوك شخص ما، بل إن حركاته وردود فعله تصدر بصفة عفوية وتلقائية تمليها عليه تركيبته النفسية المعقدة التي تأثرت عبر مراحل حياته بعوامل مختلفة.. لقد كشف الله تعالى عن أسرار فطرة الإنسان وأشار إلى نقاط الضعف فيها وهدانا إلى ترميمها والرفع من مستواها كي نتمكن من القيام بتغيير جذري في سلوكنا ومعاملاتنا معه  ومع خلقه أيضًا.

لا أظن أن الإنسان العاقل سيمر بهذه النقاط مرّ الكرام بل إني أرى أنه سيجعلها نصب عينيه حتى يجعلها تترسخ في كيانه ووجدانه وضميره وسيتخذها قاعدةً لنموه الفكري والديني والثقافي.. وباتخاذه هذه الخطوات سيتحول من إنسان عادي إلى إنسان رباني يدخل في زمرة عباد الرحمن. أرى أن أذكركم ثانية بأن بداية السفر أو الرقي في السلم الروحاني المؤدي إلى مرتبة عباد الرحمن يتطلب التواضع والحلم. إن تواضعكم النابع من حبكم وإخلاصكم لله تعالى سيجلب لكم تكريمه بأفضال وبركات لم تكن في الحسبان. إن الذين يظنون أنهم أسياد ومن عَلِيةِ القوم وكبارهم يجدون عراقيل كثيرة خلال سفرهم الروحاني في اتجاه البارئ .

والجدير بالذكر هنا أن هنالك حكمة وراء عملية اختيار الله للإنسان كي يكون عبدًا له. وهو أنه يؤكد للإنسان أنه لم يودعه القدرات والكفاءات الكافية كي يكون سيدًا. وإذا ظن أي شخص أنه سيد فليعلم أنه هنالك أسياد على وجه الأرض أقوى منه بكثير، ولا يستطيع مواجهتهم. ومن ناحية أخرى تحتوي هذه الحكمة على القدرات التي أودعها في الإنسان والتي من خلالها يمكن له أن يكون عبدًا لله، لأن العبد التابع لله ذي الصفات الدائمة المفعول والأزلية، وهو الرحمن الذي خلق الكائنات، وعلّم القرآن المجيد، وحينما تصبحون عبادًا له تتجلى بعض العلامات فيكم فتمشون على الأرض هونًا ولا تكترثون بما يقوله الناس عنكم وتصبرون على تصرفاتهم القاسية إزاءكم لوجه الله. ينبغي عليكم أن تتأملوا في صفة الله تعالى “الرحمن”، وتتفكروا في جميع جوانبها. وكونوا على يقين بأنه هو الذي أنزل القرآن الكريم ولا أحد غيره. إذا ارتكب ابن رجل ذي شهرةٍ اجتماعيةٍ مخالَفةً فإنه يسيء لكرامة والده ويشوه سمعته ويلطخ اسمه في المجتمع، ويوجه له كثير من الناس أصابع الاتهام. فوَعظكم الله تعالى ونبَّهكم بأن هذه الرسالة قد جاءتكم من “الرحمن” وها أنتم قد أصبحتم عبادًا له بأتم معنى الكلمة.. فلتكن أعمالكم وتصرفاتكم في البيت والمجتمع بحيث تثبت عظمته كي يتأثر بها الآخرون وترسخ في قلوبهم أيضًا. ليس من الصعب تحقيق هذا المرام، ولكن المحافظة عليه وتطويره وإيصاله إلى منتهاه يتطلب جهدًا وسعيًا مستمرين. وقد قدم لنا القرآن المجيد حلاً لهذه العقبات التي ستعترض سبيلنا في هذا السفر الروحاني.. علينا أن نفحص أنفسنا فحصًا دقيقًا بشكل متواصل. هل أصبحنا نموذجًا حيًّا لعظمة الرحمن يستفيد منه الصغير والكبير على السواء؟ أم أصبحنا وصمة ذل وخزي على الرحمن. إن الذين وصفهم بأنهم عباد له يقضون أيام حياتهم بالتواضع والحلم لكي لا يكونوا وصمة عار أو عيب عليه . وانتماؤهم إليه يكون يقينيا وبأتم معنى الكلمة.

وقد يظن البعض أن نية عباد الرحمن من مشيهم هونًا إطْلاعُ العامة على علاقتهم المتينة بالله  بغرض التباهي والتظاهر أمامهم، وعندما يرجعون إلى بيوتهم لا يبالون بعبادة الله ويقضون لياليهم نيامًا. ولا أرى في هذا الاتهام الباطل أي ذرة من الصدق لأنه ليس من المعقول أن يُظهروا في وضح النهار للناس تواضعهم وحلمهم النابع من خضوعهم التام وذوبانهم في حب وطاعة الله، ولما يرجعون إلى بيوتهم يقطعون علاقتهم بالرحمن.. أي لا يتقربون إليه بالنوافل والتسبيح. لا أظن أن الغرض مما يصدر عنهم في المجتمع هو التباهي والتفاخر والرياء، بل إن أعمالهم هي في الحقيقة ترجمان حالتهم الروحانية.

وقد بيَّنت لنا بقية الآية بأن عباد الرحمن يحافظون على التعاليم القرآنية في الليل والنهار على حد سواء. يُمضون نهارهم متواضعين خاضعين أمام الناس، وليلهم خاضعين متواضعين أمام ربهم. وتذكر باقي آيات السورة سجود أرواحهم وطاعتهم الحقيقية

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا .

أي أن تواضعهم ليس نابعًا من جبن أو مذلة وإنما عن عبودية الرحمن الخالصة. حينما يقفون أمام ربهم يوقنون أنهم فعلاً أمام الحضرة الأحدية. فعبادتهم مبنية على بصيرتهم الإيمانية وعلى تجارب روحية حقة، وسجودهم خالص لله ، وليس فيه أي ذرة لغيره.

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا :

يا رب أبعد عنا عذاب الجحيم لأنه مهلك ويسحق سحقًا. لقد أكدت هذه الآيات بل بعبارة أدق، قرنت تواضع عباد الرحمن بإيمانهم أنهم سيبعثون بعد الموت للحساب. إن إيمانهم هذا هو الذي يدفعهم لإصلاح أنفسهم ويوطدون صِلاتهم بالله كي ينتفعوا منها في الحياة الآخرة أيضًا.

وفي هذا دلالة على أن المجهودات الفكرية والعقلانية لوحدها لا تُوصل الإنسان إلى الله. إن البراهين الواضحة تجعل الرحلة الروحانية إليه سهلة وهينة. في حياتنا اليومية نرى أنه إذا جهز الإنسان نفسه للسفر إلى مكان فإنه يخطط للحصول على شيء غال وثمين من جهة، ومن أخرى يحاول اجتناب الشر والسوء والمخاطر قدر المستطاع. وقد ذكر القرآن المجيد هذين الهدفين في مواضع مختلفة، وعلى سبيل المثال ذكر أن سيدنا ومولانا محمد المصطفى كان مبشرًا ونذيرًا. يوجد في فطرة الإنسان مزيج من الطمع والخوف، ولذلك نرى أن الأنبياء يأخذون بعين الاعتبار هذين الإحساسين عند النصيحة والموعظة. وقد يرتكب المؤمن خطأ ويقع في مصيبة ما. فلأجل ذلك ورد في الآية بأن علاقة عباد الرحمن بربهم مبنية على المحبة والمودة، وفي نفس الوقت يخافون من محاسبة يوم الحساب. مثالا هناك شخص بصدد قضاء إحدى حاجاته في غابة ما، وقد يشعر بعد فترة بالإرهاق التام ويقول: لا أستطيع أن أمشي خطوة واحدة. ولكن عندما يرى أسدًا أو حيوانًا مفترسًا قادمًا في اتجاهه يركض سريعًا خوفًا منه. فيندهش المرء ويتساءل من أين جاءتني هذه الطاقة والقدرة الهائلة على الركض؟! توجد في باطن الإنسان قوة خفية ولكنه لعدم دراسته للقدرات المكنونة فيه يجهل وجودها ولا يستغلها بأحسن صورة. ولكن في مواضع وحالات الخطر والخوف تتأثر تلك القوة وتثبت وجودها. لهذا أنصح جميع الذين يشعرون بمشاق وصعوبة عند سلوكهم وتخطيهم سبل عباد الرحمن بأن يعلموا ويوقنوا بأن الإيمان باليوم الآخر يمحو هذه العقبات من سبيلهم. فلأجل ذلك قال الله تعالى بأن عذاب الجحيم يخوّف الناس ويحثهم على إصلاح أعمالهم، وتجنب جميع الموبقات المؤدية إلى جهنم.

حالة وعي

وعلى المرء الطموح الذي يرغب في الالتحاق بزمرة عباد الرحمن أن يجعل خوفه من الذنوب والآثام مضاهيًا لإيمانه بيوم الحساب.. ترون بعض الورود والأزهار الجميلة والجذابة على أشجار ذات أشواك خطيرة. فمعظم الناس لا يقتطفونها خوفًا من ضرر الأشواك. وقد تكون هذه الأزهار سامة، فكل من يقتطفها يمكن أن يلقى حتفه. كذلك الحية الخطيرة مهما تكن جميلة وجذابة (للبعض) فإنها خطيرة ولا يتجرأ أحد أن يمسكها. فحالة الوعي هذه تُجنب الإنسان مساوىء كثيرة. نفس المقاييس نختبرها عندما يدرك المرء حقيقة الإثم والذنب وأضرارهما فيسهل عليه تجنبهما. وبذلك يحمي الله سبحانه وتعالى الكثير من الناس من الوقوع في الذنوب خوفًا، حيث إن البعض يزعمون أن حبهم لبعض الموبقات لا يسمح لهم بالاستغناء عنها. ويؤكد في بداية آيات بحثنا بأن عباد الرحمن يتضرعون ويبتهلون أمام الله تعالى ليس فقط لحبهم لذاته وإنما لخشيته أيضًا. مثلما تبدو بعض الورود جميلة ولكن مخاطرها أكبر من جمالها فالنجاة في عدم قطفها.

ضرورة الرهبة والرغبة

قد يواظب المرء على ارتكاب السيئات بسبب حبه المتزايد لها وإدمانه عليها. وكما قال أحد الشعراء باللغة الفارسية ما تعريبه: يا حبيبي إن كرمك وسخاءك عليَّ جعلني متمردًا، وبالرغم من ذلك لا زلتَ تشفق عليّ، فلمَ لا تعاقبني؟ ونفس هذه الحالة نجدها في أُسر مختلفة. فنجد أن بعض الآباء والأمهات يبالغون في دلالهم لأولادهم لدرجة أنهم يتمردون عليهم ويخرجون عن طاعتهم واحترامهم، وغالبًا ما يؤدي بهم عملهم الشنيع هذا إلى تدمير حياتهم ودفن مؤشرات النجاح المستقبلية. فقد ثبت أن الإحساس بالأمل والرغبة في الحصول على مقابل للأعمال الخيرية والخوف من العقاب عند ارتكاب الموبقات أمران لا زمان، ومزيجهما هذا يكون حتمًا لإصلاح الإنسان ولتربيته. إن أبسط وأنجع وسيلة نقل عرفها الإنسان هي “الدراجة الهوائية” وهي كما تعرفون مُكونة من عجلتين ولا نقدر على الحركة أو التنقل بواسطتها دونهما، وفي حالتنا هنا فالرغبة والرهبة هما هاتان العجلتان. قال الله تعالى إن عباد الرحمن يبيتون سجّدًا وقيامًا، لأنهم من ناحية يُحبون الله حبا جما، ومن أخرى عرفوا وأدركوا مقامه وقدرته على العقاب.

القرار النهائي بيد الإنسان

ورد في سورة الزمر الآية 59:

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِين

أي أن الله تعالى غفور وفي نفس الوقت شديد العقاب، لدرجة أن الإنسان يموت خوفا في حضرته. وحينما يرى عباد الرحمن عذابه يدركون خطورة الأخطاء والتقصيرات التي يمكن أن تصدر عنهم. فيتقربون من الله بعبادتهم، ليس على أساس أنه غفور رحيم فحسب، بل لأنه شديد العقاب أيضًا. انظروا كيف رسم الله صورة متوازنة لعباد الرحمن، حيث قال:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا .

لقد أيقنوا أنه يصعب على المرء المكوث في عذاب جهنم لبضع لحظات. فيتساءلون: ترى ماذا سيكون مصيرنا لو مكثنا فيها مدة طويلة؟ ونجد أن نفس الأسلوب ونفس العبارات قد وردت عند الحديث عن جنة الفردوس. ولفت الله تعالى انتباههم بأن أمامهم خيارين، إما أن يقبلوا عذاب الجحيم

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ،

أو يختاروا الجنة

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا .

ثم أضاف قائلا:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا .

أي يعتدل عباد الرحمن في إنفاقهم. لا يبذِّرون أموالهم وطاقاتهم زيادة على اللزوم، ولا يجعلون أيديهم مغلولة وينقلبون إلى بخلاء من الطراز الأول. إنهم غالبا ما يحسمون أمورهم باتخاذهم القرارات المبنية على التوازن والاعتدال. وقد ورد ذكر هذا التوازن في سورة الرحمن حيث قال الله تعالى:

وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ

أي أنه تبارك وتعالى رفع السماء ووهبها مكانة عالية وجعلها مصدر منفعة بمعنى أنه لم يبالغ في ذلك بل على عكس ذلك قام بهذا العمل بكل اعتدال وتوازن وإلا لسقطت السماء بما فيها على ما هو أدنى منها.. فإذا أردتم أن تكون لكم مكانة عالية عند الله فلا تحيدوا عن الاعتدال والتوازن، لأن كل رفعة تتطلب عدلا وإنصافا، فهذا هو الباب إليها وهذا ما أشار إليه القرآن المجيد.

حينما يذكر القرآن الكريم موضوعًا ما نجده لا يتجاهل الشروط والصفات الأساسية لتحقيق المرام المذكور. وفي هذا دليل على أن القرآن ليس كتاب خرافات ولكن كتاب وقائع علمية ومنطقية وتاريخية، وأيضًا بأسلوبه الإعجازي هذا يثبت أنه ليس من صنع إنسان. فقد اقتضت رحمة الله أن نزل القرآن الكريم خلال مدة ثلاثة وعشرين سنة تحققت فيها جميع مفاهيم وموازين الاعتدال والتوازن.

قد يحتاج المرء إلى تعديل تصرفاته وسلوكه بعد أن يعزم على الالتحاق بزمرة عباد الرحمن. فيجب عليه أن يعتدل في نفقاته ويتجنب التبذير والتظاهر والرياء.. فالسعادة لا تتولد من كمية الأموال الطائلة التي تصرف بدون حاجة وبدون اعتدال وتوازن. وقد يكون الرجل الفقير أسعد بكثير من الثري وذلك لأنه أدرك مفهوم الاعتدال وطبَّقه على تصرفاته وسلوكه، وقد يدمر الثري حياته بسبب تجاهله لهذه النقاط.

مقتضيات العدل والإنصاف

من مقتضيات العدل والإنصاف أن لا تجعلوا شريكا لله تعالى:

B]وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ (الفرقان: 69). إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: 14).

ومن المعلوم أن الظلم نقيض العدل.. وفي مواضع مختلفة من القرآن الكريم نجد أنه عندما ذكر سيئات الشرك ذكرها على العموم مقرونة بالإجحاف وعدم الإنصاف، فليكن واضحا بأن الظلم يحتوي على معنيين الأول هو الجهل التام بالحقائق الواضحة والمعروفة، والثاني هو إعطاء الحق لغير صاحبه. ومن المعقول أيضا أن تطلق كلمة “الظلم” على الشرك بشكل واضح ومفصل، لأننا نجد مفهوم الظلم مكنونًا في عقيدة الشرك، لأن الذين يتجاهلون حقوق الله في الحقيقة يظلمون أنفسهم ولا يعطونها حقوقها المشروعة.

ثم قال الله تعالى:

وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ .

إن عباد الرحمن لا يأكلون أموال الناس بالباطل بل يراعون حقوقهم، ويأتمنهم الكثير على أملاكهم وأموالهم. فليس من المعقول أن المحافظين على حقوق الناس سيقتلونهم بدون سبب. في حالات استثنائية يأذن الله تعالى للمؤمنين بقتل المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ظلمًا واضطهدوهم لأنهم أعلوا كلمة التوحيد، فليس للمؤمنين الخيرة في أمرهم ووجب عليهم القتال، وإذا لم يستجيبوا لكان ذلك جريمةً من قبَلهم. يحمل تاريخ الإسلام بين طياته حادثة فريدة من نوعها إذ رُوي عن أبي بكر الصديق (وكان معروفًا برقة القلب وبتأثره بسرعة لدرجة أن دموعه كانت تسيل لأبسط الأمور خشيةً لله تعالى). أنه في إحدى الغزوات كان ابنه يحارب في صف المشركين إذ أنه لم يكن مسلمًا وقتئذ. وخلال المعركة سنحت للابن فرصة قتل أبيه، ولكنه تراجع عن ذلك ولم يفعل. وبعد مدة ذكر لوالده هذه الحادثة كي يستجلب رضاءه، ولكن حضرة أبي بكر الصديق أجابه بأنه لو كان هو في مكانه لقتله. لنفترض أن عملية القتل هذه قد تمت، فلا حرج على أبي بكر، إذ أن الله تعالى شرع له إياها ولا لوم عليه. فعباد الرحمن بالرغم من رقة قلوبهم وطبائعهم يقيمون حدود الله ولا يخشون لومة لائم ولا يهتمون بحال الذين حكم عليهم المولى بالإعدام، بل على النقيض من ذلك ينفذون حكمه تعالى بكل صرامة وجلال.

نأتي الآن إلى هذا القسم من الآية: وَلَا يَزْنُونَ الذي أساء الكثير فهمه وقالوا كيف ذكر الزنى بعد القتل. ذلك لأن الإنسان الطاغية إذا تجرأ وقتل نفسًا بريئة بدون حق، بإمكانه أن يعطي حياة لنفس أخرى بطريقة غير شرعية أيضا.. ولكن ليس من المعقول أن يصدر عمل شنيع مثل هذا من عباد الرحمن الذين أصبحوا نموذجا حيًّا لمفاهيم العدل والإنصاف. وقال تبارك وتعالى: لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ أي أن عباد الرحمن يُقيمون حقوق الله ، ولا يتصرفون كآلهة على وجه الأرض. فالموت والحياة بيد الله. ولا يستطيع أحدًا أن يُميت أحد إلا بإذنه أو يكون سببا في خلق أحد إلا بإذنه أو يكون سببا في خلق أحد إلا بإذنه أيضا. وعباد الرحمن يقتلون بالحق ويكونون أدوات في عملية الخلق بالحق أيضا. وهذا ما أشارت إليه آية: وَلَا يَزْنُونَ

وتذكر الآيتان التاليتان:

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا

هؤلاء مجموعة من الناس لا علاقة لهم بعبادة الرحمن ولا ينتسبون إليهم. وقد أكد سبحانه وتعالى أنهم لا يُعدُّون من مرة عباد الرحمن إذ لا يوجد أي تشابه أو علاقة بين الطرفين. ثم أنذرهم بأنه سيضاعف لهم العذاب وسيمكثون في أوضاع رهيبة لمدة طويلة. وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ثم أرشدهم إلى أن وسيلة النجاة الوحيدة أمامهم هي أن يسلكوا مسالك عباد الرحمن. أما الذين يرفضونها ولا يُبالون بها فسيضاعف لهم العذاب. ثم قال تعالى:

إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا .

ذكرت هنا التوبة، وقد يطرح سؤال نفسه هل تأتي التوبة بعد الإيمان أم يأتي الإيمان بعد التوبة. فليكن معلومًا بأن الإيمان ينقسم إلى قسمين، الإيمان السطحي والإيمان الباطني ذو الجذور اليقينية والحقيقية. وقد يَثبُتُ إيمان المؤمن الصادق بتوبته، فإذا آمن بالله تعالى وبعقابه وبالجحيم إيمانًا حقيقيًّا وقويًّا فذلك يمهد له التوبة الصادقة. إن التوبة النصوح تغرس في المرء الإيمان الصادق الذي يؤدي به إلى دائرة العمل الصالح. وعن هؤلاء النخبة من الناس قال الله تعالى

فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ

تشير هذه الآية صراحة إلى أن الإنسان ليس لديه القدرة على تغيير سيئاته إلى حسنات، ولكن الإرادة القوية التي نسجها الله في فطرته إذا ما نماها وثقفها ستتمكن من السيطرة على ميوله وشهواته وتتمركز في باطنه وتسيطر على كيانه وقلبه، ثم يأخذ قراره الحاسم ويغير جميع جوانب سلوكه السلبية إلى جوانب إيجابية. ففي هذه الظروف وبعد قراره الحاسم وبعد إظهاره الرغبة في التغيير الجذري تصبح أعماله ترجمانا لما في قلبه مثلما أشارت إلى ذلك آية: إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ، تتأثر رحمة الله بخصوصه ويبدل الله سيئاته إلى حسنات. وبعد هذه الخطوة الهامة نجده يُهرول في اتجاه خالقه بصفة عفوية وتلقائية وبدون توقف: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا وبعد أن يتيقن المرء ويقتنع بعظمة الله وبشدة عقابه يتخلى عن أعمال كثيرة بناء على التوبة النصوح. بل نجده يعيش في أحضانه . ثم قال تعالى:

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا

أي عندما يتوب المرء توبة نصوحًا تتولد فيه صفات وخصائص إيجابية منها أنه لا يشهد الزور ويمر باللغو مر الكرام. وإنني لا أشاطر رأي الكثيرين بخصوص تفسير هذه الآية بهذه الصفة البسيطة فأرى أنهم لا يشاركون في أي أعمال تحتوي على الكذب والزور. وقد استُعملت نفس هذه العبارة في موضع آخر في القرآن الكريم بهذا المعنى:

فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (البقرة: 186)

أي الذي شاهده وعاينه. وكي يطمئن قلبي ويهدأ بالي راجعت بعض تفاسير السلف الصالح حول هذه الآية لأبحث هل ذكر بعضهم نفس المعنى الذي توصلت إليه أم لا؟ فوجدت أن العلامة الراغب الأصفهاني كتب تحت هذه الآية نفس المعنى الذي ذكرته آنفا. “أي لا يحضرون بأنفسهم ولا بتفكيرهم واهتمامهم أو إرادتهم أيّ مجلس أو تظاهرة تحتوي على الكذب والزور. والشهادة عملية تتم فقط بعد معاينة ومشاهدة حدث ما”.

ثم قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا . انتبهوا إلى هذه الكلمات. الآيات التي تتحدث عن ملامح وصفات عباد الرحمن بدأت ب: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ، أي أن عباد الرحمن لا يُجالسون الجهال، وإذا خاطبوهم يسلمون عليهم ويمضون. لقد زرعت توبة عباد الرحمن النصوح فيهم هذه الخصال الحميدة الجديدة، ولم يحدث هذا التغيير من باب الصدفة كما يتوقع البعض.

ثم جاء ذكر فريق آخر عُرفوا بضلالهم أرشدهم الله إلى الطريقة التي يجب اتباعها إذا أرادوا إصلاح شأنهم والرجوع إلى الصراط المستقيم. ومن ضمن أوصافهم أنهم : والَّذينَ لا يَشهدُونَ الزُّورَ أي أنهم يجتنبون الشرك الذي هو في حد ذاته أكبر مظهر للزور. ثم أكد القرآن الكريم على هؤلاء الناس كي يبتعدوا عن الشر وكي ينجحوا في هذا المرام تجدهم لا يرغبون في اللغو بجميع صوره، وتنشأ لديهم حاسة ورغبة جديدة أشار إليها القرآن الكريم كالآتي:

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا .

تشير هذه الآية إلى أن حبهم لله  ورغبتهم في التقرب منه أدت بهم إلى تجنب اللغو.

اجعلوا هذا المقياس نصب أعينكم وقيسوا به أعمالكم وافحصوا به حالتكم هل أنتم في عملية قرب متواصل من الحضرة الإلهية، أم في بعد مستمر؟ لاحظتُ في وجوه وملامح بعض الإخوة حينما يحضرون خطب الجمعة أو الدروس الدينية مللاً وسأمًا. أجسامهم في المسجد وعقولهم الله وحده يعلم أين هي. يصلهم صوتي عبر مكبرات الصوت، ولكن يبدو أن آذانهم ليست صاغية. ولكنهم إن شاهدوا برامج تلفزيونية يحبذونها لا ترى على وجوههم هذا الملل والسأم. وإذا ما أزعجهم أحد أبنائهم يغضبون عليه. هذا هو الفرق والحد الفاصل بين عباد الرحمن وغيرهم من عامة الناس. لقد أودع الله في فطرة الإنسان القدرة على فحص أعماله ومحاسبة نفسه، وقد وضح لنا المقاييس السليمة التي إن قاس بها المرء أعماله ونفسه سيكون إن شاء الله من الناجين. إن الطرق والوسائل التي وصفها تعالى تبدو صعبة وشاقة ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن يضع أمامنا جميع العلامات والإشارات اللازمة التي إن استرشدنا بها واتبعناها سنتخطى جميع العراقيل وسنصل إلى بر الأمان والحب والوئام، وندخل إن شاء الله العزيز القدير في زمرة عباد الرحمن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك