الوعد الإلهي بجعل الكعبة المشرفة قبلة للمسلمين

في رحاب القرآن

  قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(145)

شرح الكلمات:

فلنوَلِّيَنَّك: ولاّه الأمر: جعله واليا عليه.(الأقرب) ولَّيتُ وجهي كذا: أقبلت به إليه (المفردات).

التفسير:

لقد ذكر بعض المفسرين عن هذه الآية روايات تقول إن الرسول كان يتجه في الصلاة إلى بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر نزول الأمر بتحويل القبلة (تفسير ابن كثير).

متى جاء النهي عن التطلع هنا وهناك في الصلاة؟ هذا مبحث على حدة. ولكن كون النبي ينظر إلى السماء لهذا الغرض فهو مما لا يقبله العقل السليم ولو للحظة واحدة. لو كان من عادة النبي في الأمور الأخرى أيضًا أن يرفع رأسه إلى السماء منتظرًا الأمر الإلهي فيها.. أمكن عندئذ القول إنه كان ينظر إلى السماء في صلاته لهذا الشأن. ولكن لا يجوز في صورة من الصور أن يُقبَل أمر يتعارض مع سُنة النبي وعمله في أحوال عادية بحجة أن عبارة (في السماء) وردت في القرآن الكريم. الحقيقة أن هذا أسلوب في التعبير أدى جهلهم به إلى قول إن النبي كان يحدق بنظره إلى السماء في شأن تحويل القبلة منتظرا الأمر الإلهي. في لغتنا أيضا يقولون: إن نظري إلى أمر كذا، أو يقولون إن وجهي قد تحول إلى الأمر الفلاني …ولا يعني ذلك أننا فعلا ننظر إلى جهة معينة بعيون مفتوحة. كذلك الأمر في قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، فإن معناه: إننا نرى أن فكرك يتجه مرة بعد أخرى إلى السماء. والمراد أن قلبك لا ينفك يتمنى أن ينزل الأمر من السماء في هذا الشأن.

ولو أخذنا الكلمات بمعناها الظاهر لم يستطع المفسرون أن يطبقوا هذا المعنى لأنه سيكون حينئذ: إننا نرى تقلب وجهك في السماء.. وتقلب الوجه في السماء غير ممكن. لأن الرسول موجود على الأرض. الحق أن “في” هنا بمعنى “إلى”، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم) (إبراهيم: 10)..وليس المراد هنا أنهم وضعوا أيديهم في أفواههم وإنما أرجعوها إلى أفواههم. ونفس الحال في قوله (تقلب وجهك في السماء) فليس المراد أن وجهه كان يتقلب في جو السماء هنا وهناك، وإنما المراد أن فكره كان يتجه إلى السماء دائما، وإلا فإن رفع الوجه إلى السماء مخالف لشأن ووقار النبي .

والمعنى عندي: أننا نرى اتجاه فكرك مرة بعد أخرى إلى السماء، وهذا كما يقال: (إن نظرتي مصوبة إلى ناحية كذا).. أي أننا ننتظر الفوز والنصر من تلك الناحية. كان النبي مأمورًا بالاتجاه إلى بيت المقدس، إلا أنه قد أدرك بناء على ما أظهر الله من الأنباء السابقة أن سيكون هناك أمر بالاتجاه إلى الكعبة وأن هذا التوجه سيكون أول خطوة إلى الرقي، لأن هذا الأمر جُعل علامة زمن ازدهار الإسلام، ومن ثم كان النبي يتجه إلى ربه منتظرا نزول الأمر بالتوجه إلى الكعبة.

وقد يكون حرف “في” بمعناه الأصلي.. والمراد من السماء هو أحكام السماء. فالمعنى أنك كنت تفكر مرة بعد أخرى في الأحكام السماوية، وكنت مضطربا في انتظار نزول الوحي الإلهي. يقولون في العربية: تكلمت معك في فلان.. أي تحدث معك في أمره. فالمراد من قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) إننا نرى أن فكرك يتجه مرة بعد أخرى إلى الأحكام السماوية. أي كان النبي ينتظر أن ينـزل الأمر الإلهي ليعيّن الكعبة المشرفة قبلة المستقبل.

قوله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) يعني سوف نحولك إلى قبلة ترضاها. وتبين هذه الآية بكل جلاء أن قوله (سيقول السفهاء) يحمل المعنى الذي ذهبت إليه.. لأنه لو كان هناك أمر نزل من قبل عن القبلة فلماذا قال تعالى الآن (فلنولينك قبلة ترضاها)؟

يفسر البعض قوله هذا بأننا سوف نجعلك واليا على هذه القبلة (الكشاف). ولكن لو كان المراد ذلك ما قال تعالى (قبلة ترضاها) بل قال بلدا أو كعبة أو بيتا ترضاه..لأن القبلة هنا بمعنى الجهة، ولا يكون أحد واليا على الجهة.. بل يكون واليا على بلد أو مدينة أو مكان. فلا يصح هذا المعنى.

وقد فسر العلامة ابن حيان قول الله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) أي لنمَكّننّك من ذلك (البحر المحيط)..وهذا يبين أن الأمر بتحويل القبلة لم يكن قد نزل بعد، وإلا لم يقل الله: سوف نمكنك من ذلك.

كان قول الله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) وعدا بجعل الكعبة قبلة، وأما قوله (فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) ففيه قد صدر الأمر بالاتجاه إلى الكعبة المشرفة لأول مرة، كما بين في قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أن هذا الأمر ليس خاصا بالمدينة وحدها.. فلا تظنوا أن الله تعالى أمر بذلك في المدينة فقط، لأنه لا يمكن لكم هناك الجمع بين الكعبة وبيت المقدس في اتجاه واحد. كلا، وإنما الأمر الآن هو أن تتوجهوا إلى الكعبة أينما كنتم، ولا تفكروا في الاتجاه إلى بيت المقدس.

يتبين من هذه الآيات أن نظر النبي في الأمور الروحانية كان ثاقبا لدرجة أنه على الرغم من وجود الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس.. إلا أنه كان على يقين كامل –بناء على فراسته الروحانية – بأن الأمر بالتوجه إلى الكعبة المشرفة نازل لا محالة في يوم من الأيام. ولكنه –من ناحية ثانية –كان شديد الاحترام للأمر الإلهي حتى أنه لم يدعُ الله قط ليحول القبلة إلى الكعبة، وإنما صوّب نظره إلى السماء منتظرا الأمر الإلهي. وفي آخر المطاف، وبفضل توجهه الروحاني هذا.. أنزل الله الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.

قال الله أولا (فولّ وجهك شطر المسجد الحرام) ثم قال (حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) واستخدم صيغة المفرد في الجملة الأولى، وصيغة الجمع في الحملة الثانية.. ذلك لأن الخطاب في الفقرة الأولى موجه إلى الرسول ، أما في الثانية فإلى جميع الأئمة والتابعين لهم في الصلاة في كافة البلاد والأمصار. لا شك أن الرسول عندما كان يسافر خارج المدينة كان يتجه إلى بيت الله حيثما كان، ولكن إقامته في معظم الأحيان كانت في المدينة، وكانت في خارجها مؤقتة. أما الآخرون فكانت إقامتهم في المدينة مؤقتة وفي خارجها دائمة..لذلك خاطب الله في الفقرة الأولى النبيَّ وحده، ولما كان الذين يصلون وراءه يتجهون إلى حيث يتجه النبي في صلاته فلم يذكرهم على حدة، واعتبر صلاة النبي شاملة لصلاتهم هم أيضا.

أرى أنه يمكن لنا أن نستدل من هذه الآية بصورة قطعية أن الله تعالى قد أمر في الإسلام بالصلاة مع الجماعة واعتبرها أمرًا ضروريًا جدًا، لأن الله قال: فول وجهك شطر المسجد الحرام، ولم يقل: فولوا وجوهكم، ذلك أن سائر المسلمين سينضمون إلى النبي في الصلاة مقتدين به، إلا المنافقين الذين لا يكونون معه بقلوبهم، ويتخلفون عنه في أعمالهم، والذين قال الرسول عنهم إنه يود لو أحرق بيوت الذين لا يحضرون صلاتي العشاء والفجر (مسلم، المساجد).

فصلاة الجماعة أمر غاية في الأهمية في الإسلام، وكان النبي يؤكد على ذلك لدرجة أنه (أتى النبي رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له. فلما ولى دعاه فقال له: تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم. فقال: فأجب) (المرجع السابق). ولكن الذين لا يحضرون إلى الصلاة في المسجد هذه الأيام رغم سماع النداء..أيُّ الأحجار تقف في طريقهم حتى يبقوا في بيوتهم؟ وأي عمى أصاب عيونهم حتى لا يحضروا للصلاة في المساجد؟ إن الرسول لم يسمح لهذا المكفوف الذي كان يتعثر وتسقطه الأحجار بأن يصلي في البيت..ولكن الناس في هذه الأيام يتركون صلاة الجماعة في المسجد لأعذار واهية، وهكذا يثبتون بعلمهم أنهم مصابون بعمى روحاني!

وبقوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أشار الله تعالى أنه فيما بتعلق بالإمامة فيكفي إصدار الأمر إلى شخص واحد.. لأن المسلمين جميعا سوف يصلون معه ووراءه، وهكذا سوف يشتركون في صلاته جميعا.

إذن لم يكن للمسيح حتى عشرة قدوسيين، ولكن سيدنا محمدا فيشهد عنه التاريخ أنه عندما فتح مكة كان في صحبته جيش من عشرة آلاف من القدوسيين دخل بهم مكة في كل جاه وجلال، وفتح قلوب أهلها ببرّه وعفوه وحسن معاملته، فودّعوا الكفر والشرك، وانضموا إلى صفوف غلمانه (السيرة الحلبية، ج3 فتح مكة).

وقوله تعالى (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم).. أي أن أهل الكتاب يدركون أن الأمر بتحويل القبلة جاء من الله بحسب الأنباء الموجودة في كتبهم. ولكن لا يعني ذلك أن جميع أهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك..وإلا لماذا لم يؤمنوا بالرسول ؟ فعدم إيمانهم يدل على أن هؤلاء لم يكونوا يعترفون بصدقه في قلوبهم، ولم يكونوا يتصورونه مصداقًا للأنباء التي في كتبهم السابقة. فالمراد من (الذين أوتوا الكتاب) هم فقط علماء اليهود وزعماؤهم الذين كانوا على معرفة تامة بكتبهم، كانوا مطلعين على أنباء من أنبياء بني إسرائيل، وكانوا يعرفون أن الشريعة سوف تتغير، وأن القبلة سوف تتحول أيضا. ولما كان القوم تابعين لزعمائهم..لذلك إذا أدرك الزعماء فكأنهم هم أيضا أدركوا وعرفوا هذا الأمر.

ومما لا شك فيه أننا لا نستطيع من التوراة –بسبب ما تعرضت له من تحريف على أيدي أهلها – أن نجد أنباء واضحة فيما يتعلق بإسماعيل ومكة المكرمة، ولكن مع ذلك نجد آثارًا لها باليقين. وأكبر نبأ في هذا الصدد ما ورد في سفر التثنية: “هذه هي تلك البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى مع عشرة آلاف قدوسي، وعن يمينه نار شريعة لهم” (تثنية 1:33-3)[1].

ولما كان الله يعلم أن هذا النبأ سوف يتنازع فيه المسلمون وأهل الكتاب فإنه منذ البداية وضع فيه كلمات لا يمكن أن يطبقها المسيحيون على أنفسهم.

إن أكثر وأشد ما تركز عليه المسيحية هو أن الشريعة لعنة (رسالة غلاطية 13:3)، ولكن الله تعالى جعل أعظم نبأ هنا أن هذا المبعوث سوف يحمل لهم شريعة نارية. فالأمة التي تعتبر الشريعة لعنة لا يحق لها أن تحاول تطبيق هذا النبأ على نفسها.

والخبر الثاني في هذه النبوءة أن هذا الموعود سوف يأتي ومعه عشرة آلاف من القدوسيين؛ ولكن المسيح بن مريم لم يحظ بعشرة من القدوسيين دعك من عشرة آلاف. فقد كان له اثنا عشر حواريا، أوقعه أحدهم – كما تقول أناجيلهم – في قبضة العدو، أما الآخرون فقد خذلوا المسيح وفرّوا عنه عندما جاء العدو ليمسك به. وكان هناك حواري واحد فقط سل سيفه وحمل على العدو فقطع أذنه

(متى 48:26-51)..ولكن هذا كان نتيجة حماس مؤقت..وإلا فإن الحالة الإيمانية للحواريين تتجلى

فيما حدث فيما بعد. فعندما أخذ عمال الحكومة المسيح وذهبوا به إلى رئيس الكهنة..وكان بطرس موجودا خارج الدار، فرأته جارية فقالت له: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر أمام الجميع، وقال: لست أدري ما تقولين. ثم خرج إلى الدهليز فرأته جارية أخرى فقالت: وهذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر وأقسم: إني لست أعرف هذا الرجل. وبعد قليل جاءه بعض الواقفين هناك وقالوا: حقا أنت منهم فإن لُغتك تُظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل (متى69:26-75).

إذن لم يكن للمسيح حتى عشرة قدوسيين، ولكن سيدنا محمدا فيشهد عنه التاريخ أنه عندما فتح مكة كان في صحبته جيش من عشرة آلاف من القدوسيين دخل بهم مكة في كل جاه وجلال، وفتح قلوب أهلها ببرّه وعفوه وحسن معاملته، فودّعوا الكفر والشرك، وانضموا إلى صفوف غلمانه (السيرة الحلبية، ج3 فتح مكة).

والخبر الثالث في هذه النبوءة هو أن شريعة جديدة سوف تظهر على جبال فاران. والمراد من جبال فاران هو جبال مكة..لأن العرب يطلقون اسم “برية فاران ” على ما حول مكة من وديان. ومعنى “فاران “في الحقيقة “اثنان من الفارين”. وقد أطلق هذا الاسم على هذا المكان بسبب السيدة هاجر وإسماعيل عليهما السلام اللذين سكنا هناك –كما ذكرت التوراة –بعد أن تعرضا لمضايقة من السيدة سارة.

ومما لا شك فيه أن فاران ورد عن عدة أماكن في التوراة (تكوين 14و21،عدد 10و12و13؛ الملوك الأول 11؛ صموئيل الأول 25، حبقوق 3).

فأولا-ما دام الاسم قد ورد عن أماكن مختلفة، فمن الضروري تعيين هذا المكان على ضوء الأحداث الواردة في النبوءة، وليس هناك طريق ثان لتعيينه، فإذا لم يكن المراد من جبال فاران ما حول مكة..فالسؤال المطروح: من هذا الذي جاء بعشرة آلاف من القدوسيين، وكان في يده اليمنى شريعة نارية؟ لو نظرنا إلى هذه الأحداث لتأكد لنا أن الرسول هو الإنسان الوحيد الذي جاء بشريعة نارية، والذي دخل مكة فاتحا مع عشرة آلاف من القدوسيين، والذي فضّل اليمين على اليسار في أعماله كلها، أما النصارى فيؤكدون على السير جهة اليسار. فالمراد من (فاران) هو فاران الذي ظهر فيه رسول الإسلام محمد ، وليس أي فاران آخر.

ثانيا- إن ورود اسم فاران لعدة أماكن في التوراة يؤدي بنا إلى الشك بأن بني إسرائيل أطلقوا اسم فاران على عدة أماكن للتشكيك في الأنباء المتعلقة بإسماعيل (عليه السلام)..كما فعلوا عند قرب بعثة النبي .. فعندما سمع اليهود من علمائهم أن نبيا سوف يُبعث في الجزيرة العربية واسمه محمد بدءوا يسمون أولادهم باسم محمد حتى يكون أحدهم مصداقًا لهذا النبأ(طبقات ابن سعد، ج1،ذكر من تسمى في الجاهلية بمحمد، وأسد الغابة، ذكر محمد بن أحيحة). من الممكن أن بني إسرائيل عندما أنبأ موسى عن “فاران ” أخذوا يطلقون الاسم على أماكن مختلفة حتى يظهر الموعود في أحد منها، ولكن محاولتهم لم تُجْدِهم شيئا، بل بعث الله الرسول الموعود بحسب الأنباء في مكة..التي كان العرب دائما يطلقون على ما حولها “برية فاران “.

ثالثا- الجبل الذي أطلق عليه اليهود اسم فاران يقع أيضا في الجزيرة العربية، مما يؤكد أنهم لم يستطيعوا جرّ فاران خارج الجزيرة العربية.

رابعا- هناك دليل في التوراة نفسها على أن فاران هي جبال مكة، فقد ورد فيها عن إسماعيل (عليه السلام) أنه (سكن في برية فاران)، وأخذت له أمهُ زوجةً من أرض مصر(تكوين21: 21).

فمكة هي البلدة الوحيدة الذي يقول أهلها إن إسماعيل كان بانيها. وليست هذه رواية واحدة، بل هناك قبائل وقبائل تنسب نفسها إلى إسماعيل، وجميع آثاره وجدت هناك حيث كانت تماثيل إسماعيل موجودة في الكعبة حتى زمن الفتح. فلا بد من التسليم بما يدعي به أهل مكة، وإلا فعلى اليهود والنصارى أن يقدموا تلك المدينة التي أسسها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. والتي ينسب أهلها أنفسهم إلى إسماعيل. فإذا لم يستطيعوا ذلك فلا بد لهم من الإقرار بأن مكة هي فاران التي وردت عنها هذه النبوءة. فإقامة إسماعيل هناك ثابتة، ويقول أهل مكة إنه أقام هناك، وفي هذا المكان توجد آثاره.. ولكن المكان الذي يدعيه اليهود والنصارى أنه “فاران” فلا يقول أهله إن إسماعيل أقام هناك، مع أن الناس عموما ينسبون مثل هذه الأمور بدون حجة للتفاخر والاعتزاز.

خامسا- العين التي أجراها الله لأجل إسماعيل توجد في مكة أيضا، وهذا ثبوت يقيني وقطعي بأن إسماعيل وهاجر جاءا إلى مكة وأقاما هناك.

ثم هناك نبأ في الإنجيل عن تحويل القبلة يقول: إن امرأة سامرية استقى منها المسيح قالت له: آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. فقال لها يسوع: يا امرأة، صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب (يوحنا 20:4-21).

في هذا النبأ يعلن المسيح في كلمات صريحة أنه لن يبقى هذا الجبل ولا أورشليم قبلة للعبادة، بل يعين الله قبلة أخرى بدلا منهما.

وليكن واضحا أن هذه العبارة لا تعني أن اليهود كانوا جميعا يذهبون للعبادة إلى أورشليم، أو أن السامريين كانوا يتعبدون عند هذا الجبل، ولكن المراد أنهم كانوا يتخذون أورشليم والجبل قبلة يتوجهون إليهما في عبادتهم. وقول المسيح أنهم لن يتعبدوا عند الجبل أو في أورشليم يعني أنهم لن يتجهوا إلى هذين المكانين في عبادتهم كقبلة لهم.

ولنتذكر أنه كما أن الإنجيل عبّر عن التوجه في العبادة إلى الجبل بقوله: (سجدوا في هذا الجبل)،كذلك استخدم القرآن الكريم نفي الأسلوب في قوله (قد نرى تقلب وجهك في السماء).. ولا يعني ذلك أن الرسول كان يدير وجهه في جو السماء، بل يعني أن فكره كان يتجه دائما إلى السماء.

وهناك عدة أنباء أخرى علاوة على هذين النبأين تدل على ازدهار الكعبة، ولكن نكتفي بهذين كمثال لهذا الغرض. ولنفترض أن اليهود لم يكونوا يدركون المراد من هذه الأنباء قبل وقوعها.. ولكن لم يكن من الصعب عليهم بعد تحققها أن يتفهموا أن هذا الأمر بتحويل القبلة كان بحسب نبأ قديم، والاعتراض عليه بمثابة الاعتراض على كتبهم هم.

ويمكن أن يكون قوله تعالى (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) عن المسلمين أنفسهم. فالمعنى أن الذين أوتوا كتابا كاملا مثل القرآن الكريم يدركون إدراكا كاملا أن الأمر بتحويل القبلة كان من الله تعالى، ليس لأنهم كانوا يعرفون سلفا بأن الكعبة ستكون قبلة لهم، وإنما لأنهم يعرفون أن محمدًا نبي ورسول صادق، وأن كلام الله تعالى ينـزل عليه، ومن المستحيل –والحال هذه –ألا يصدقوا بأن أوامره من الله وألاّ يطيعوه طاعة كاملة بكل معناها.

أما قوله تعالى (وما الله بغافل عما يعملون) فيخبر الله فيه أننا مطلعون على ما يفعلون. إن علماءهم الكبار يعرفون في قرارة نفوسهم أن محمدا رسول صادق، ولكنهم يرفضونه عنادا وكبرا..وإلا فإنهم يعرفون تماما أن هناك أنباء في كتبهم عن جعل الكعبة المشرفة قبلة، وعن بعث نبي في بني إسماعيل..ومع ذلك فإنهم غير مستعدين لتصديق هذا النبي عنادا وكبرا.

كان حادث تحويل القبلة في الشهر السادس أو السابع عشر بعد الهجرة، وقد ورد عن البراء بن عازب أن الرسول (ص) صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبل البيت، وأنه صلى أوّل صلاة صلاها –صلاة العصر..وصلى معه قوم. فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي قِبل مكة. فداروا كما هم قبل البيت (البخاري، كتاب التفسير، وابن كثير، آية سيقول السفهاء).

وفي رواية عن أبي سعيد بن المعلى أن الصلاة التي حدث فيها تحويل القبلة كانت صلاة الظهر، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة (ابن كثير). وذكر غير واحد من المفسرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر في مسجد بني سلمة، فسُمّي مسجد القبلتين (المرجع السابق).

يتبين مما سبق من الروايات أن بعضها تقول إن الأمر بتحويل القبلة نزل وقت صلاة العصر، والأخرى تقول وقت صلاة الظهر، ولكن يبدو أن الرواية القائلة بصلاة الظهر هي الأصح.. لأنه من الممكن أن الأمر نزل وقت الظهر، ولكن الراوي الثاني اشترك في صلاة العصر بعد أن تحولت القبلة، ولما رأى النبي متجها إلى الكعبة ظن أن الأمر بتحويل القبلة نزل وقت العصر، ولم يدر بخلده صلاة الظهر..لذلك نرجح الرواية القائلة بتحويل القبلة في صلاة الظهر.

ويؤكد هذا حديثُ نويلة بنت مسلم بأن الخبر جاءهم بذلك وهم في صلاة الظهر، قالت: فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال (المرجع السابق). إن من أحكام الصلاة في الإسلام أن يكون الرجال أمام النساء، فعندما نزل الأمر بتحويل القبلة اضطر الرجال والنساء إلى تغيير وضع الصفوف وتبادلوا الأماكن.

وقد ورد في هذا الباب أيضا أن أهل (قباء) لم يصلهم الخبر إلا وقت صلاة الفجر في اليوم الثاني. (البخاري، كتاب التفسير). ومن هذا نستدل أنه لو وصل الخبر من المدينة إلى أهل قباء بعد يوم –وهي على مسافة ميل واحد –فلا بد أن البراء بن عازب قد أخطأ في تعيين الوقت الذي تحولت فيه القبلة وقال إنه وقت صلاة العصر. إنه ظن أن تحويل القبلة تم وقتها لأنه اشترك في هذه الصلاة.. ولم يسأل أحدا متى نزل الأمر بتحويل القبلة، وإنما حسب أن صلاة العصر هي الصلاة الأولى التي تم فيها تحويل القبلة.

ولا تذكر هذه الروايات أيضا أن الرسول بعد هجرته إلى المدينة بدأ يصلي متجها إلى بيت المقدس بدلا من الكعبة، ولو صح ذلك لوجدنا رواية من أحد ممن جاءوا إلى المدينة قبل هجرة النبي..أنه كان قبل ذلك يتجه إلى بيت الله الحرام في مكة.

الحق أن النبي كان يتجه إلى بيت المقدس وهو في مكة أيضا، ولم يزل متجها في صلاته إلى بيت المقدس بعد هجرته إلى المدينة طيلة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا. فباطل تماما اعتراض القسيس ويري بأن الرسول بدأ يتجه في صلاته إلى بيت المقدس عندما جاء إلى المدينة إرضاء لليهود، وعندما لم ينل رضاهم اتجه مرة أخرى إلى مكة.

هناك رواية واحدة فقط تقول أن النبي بعدما جاء إلى المدينة اتجه إلى بيت المقدس إرضاء لليهود – والعياذ بالله. ولكن كلمات الرواية تدل على أنها من اختلاق منافق أو يهودي سيئ الطوية..وتقول: (أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن محمدا كان يستقبل صخرة بيت المقدس وهي قبلة اليهود، واستقبلها سبعة عشر شهرا ليؤمنوا به ويتبعوه ويدعوا بذلك الأميين من العرب؛ فقال الله عز وجل (لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله).

فعبارة أن محمدا كان يستقبل صخرة بيت المقدس تدل على أنها من اختراع منافق فتّان أو يهودي خبيث.. عندما رأى النبي قد اتجه إلى الكعبة المشرفة في صلواته احترق حسدا وكمدا..ووضع هذه الرواية ونشرها بين المسلمين ليوهم أن النبي صلى نحو بيت المقدس إرضاء لليهود، ولما فشلت هذه الحيلة رجع إلى الكعبة المشرفة. وذكر بعض المفسرين هذه الرواية الموضوعة – جهلا منهم وحمقا –في تفسيرهم وقالوا إن النبي توجه إلى بيت المقدس لتأليف اليهود (جامع البيان للطبري، تحت تفسير هذه الآية).

ومن البراهين على أن هذه الرواية موضوعة أنها جاء فيها أن محمدا كان يستقبل..ولم تقل “رسول الله” مع أن المسلمين ما كانوا ينادون النبي ولا يذكرون اسمه، وإنما كانوا يذكرون مقامه الروحاني ويقولون “رسول الله “. أما أصحاب الأديان الأخرى فكانوا ينادونه بكنيته “أبي القاسم” بدلا من اسمه إجلالا واحتراما له حسب العادة العربية.. فقد ورد في الحديث أن يهوديا جاء إلى الرسول ذات مرة في المدينة وبدأ يناقشه ويجادله ويكرر اسمه قائلا “ليس الأمر هكذا يا محمد..فكان النبي يجيبه بدون أي ضيق، ولكن الصحابة كانوا في ضيق وغضب لوقاحته..حتى أن أحدهم لم يصبر على ذلك وقال لليهودي: لماذا تناديه باسمه؟ إذا كنت لا تستطيع أن تقول: يا رسول الله، فناده بكنيته “أبي القاسم” فقال اليهودي: لا أنادي إلا بما سماه أبواه. فتبسم النبي وقال لأصحابه: لقد صدق فقد سماني أبواي محمدا، فدعوه ينادني به ولا تغضبوا.

يبين هذا بجلاء أن الصحابة كانوا لا يذكرون اسم محمد.. وكانوا يضيقون بمن يناديه باسمه من غير المسلمين. فهؤلاء الذين كانوا لحبهم وغيرتهم على رسول الله لا يطيقون أن يناديه أحد باسمه..كيف يمكن أن يتصور عنهم أن يحدثوا عنه باسمه وليس مقرونا بصفته الروحانية. هذه الرواية “أن محمدا..”تدل بنفسها على أنها ليست من فم مسلم وإنما هي من قول اليهود لأنهم هم الذين قالوا: لقد توجّه محمد إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، ولكنه الآن توجه إلى قبلة آبائه. ولم يفكر واضع هذه الرواية أن يتخير ألفاظا لا تكشف عن خداعه، فاخترع رواية شاء الله أن تكون كلماتها فاضحة لخداعه، وتبين أن الناطق بها منافق كذاب نسي- لشدة بغضه وعناده – أن الصحابة لا يستخدمون كلمة محمد وإنما يقولون (النبي، أو نبي الله، أو رسول الله ) قال كذا وكذا.

صحيح أن صاحب تفسير جامع البيان ذكر كلمة (النبي ) ولكن يبدو أن المسلمين هم الذين أضافوا هذه الكلمات عند نقل هذه الرواية. على أي حال، مهما كانت ألفاظ الرواية..فإن موضوع الرواية نفسه سيئ وخبيث لدرجة لا يقبلها إنسان سليم الفطرة ولن ينسبها إلى الرسول .

كذلك ذكر البيهقي في كتاب “دلائل النبوة ” رواية عن الزهري أنه صرفت القبلة نحو المسجد الحرام في رجب على رأس ستة عشر شهرا من مخرج رسول الله من مكة، وكان رسول الله يقلب وجهه في السماء وهو يصلي نحو بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل حين وجهه إلى البيت الحرام (سيقول السفهاء من الناس … يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وما بعدها من الآيات. فأنشأت اليهود تقول: قد اشتاق الرجل إلى بلده وبيت أبيه (ج2، باب تحويل القبلة). وقد ذكر ابن كثير هذه العبارة (لقد اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه) (تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية). وتؤكد هذه الرواية أيضا أن اتجاه النبي والمسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة كان شديدا أو شاقا على اليهود، وكانوا يعترضون على المسلمين بشدة ويقولون: ماذا جرى لهم؟ ..مرة يصلون إلى القبلة، ومرة يصلون إلى قبلة أخرى. وقد دفعهم ولعهم بالطعن في المسلمين أن وضعوا هذه الرواية المذكورة آنفا.

وعلى أي حال، تبين هذه الرواية بوضوح أن قول الله (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم)لم ينـزل بعد الأمر بتحويل القبلة وبعد اعتراض اليهود، وإنما نزل قبله، فبعد نزول الأمر بتحويل القبلة بدأ اليهود يعترضون، وأيضا تزلزلت أقدام بعض ضعاف المسلمين وارتدوا. هذا الموضوع أذكره خلافا لما قالته التفاسير الأخرى عامة، ولكن رواية البيهقي تصدق أن قوله تعالى (سيقول السفهاء …)لم ينـزل ردا على اعتراضات أثاروها من قبل.. وإنما جاء دحضا لاعتراضات سوف يثيرونها، وقد أنبأ الله سلفا بوقوعها.

[1] نسخة أردية. الناشر British and Foreign Bible Society لاهور،الهند، الطبعة السابعة 1908،وكذلك في طبعة 1922-راجع صفحات مصورة من النسخة الأردية ولإنجليزية في آخر التفسير..

Share via
تابعونا على الفايس بوك