إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

 

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعاً التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي جميل ينعش الذاكرة والفؤاد.

وتستعيد (التقوى) مع قارئ اليوم بعضاً من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

الأدب الكاذب

كنا وكان الأدب حالاً قائمة بالنفس تمنع صاحبها أن يُقدم على شر، أو يحدّث نفسه به، أو يكون عوناً لفاعليه. فإن ساقته إليه شهوة من شهوات النفس أو نزوة من نزوات العقل، وجد في نفسه عند غشيانه من المضض والارتماض، ما يُنغصه عليه ويُكدر صفوه وهناءه، ثم أصبحنا وإذا الأدب صور ورسوم، وحركات وسكنات، وإشارات والتفاتات، لا دخل لها في جوهر النفس، ولا علاقة لها بشعورها ووجدانها، فأحسن الناس عند الناس أدباً وأكرمهم خلقاً، وأشرفهم مذهباً، من يكذب.. على أن يكون كذبه سائغاً مهذباً، ومن يخلف الوعد.. على أن يحسن الاعتذار عن إخلافه، ومن يبغض الناس جميعاً بقلبه.. على أن يحبهم جميعاً بلسانه، ومن يقترف ما شاء من الجرائم والذنوب.. على أن يحسن التخلص من نتائجها وآثارها، وأفضل من هؤلاء جميعاً عندهم أولئك الذين برعوا في فن “الآداب العالية”.. أي فن الرياء والنفاق، وتفوقوا في استظهار تلك الصورة الجامدة التي تواضع عليها “جماعة الظرفاء” في التحية والسلام؛ واللقاء والفراق؛ والزيارة والاستزارة والمجالسة والمنامة؛ وأمثال ذلك مما يرجع العلم به غالباً إلى صغر النفس وإسفافها، أكثر مما يرجع إلى أدبها وكمالها؛ فكأن الناس لا يستنكرون من السيئة إلا لونها؛ فإذا جاءتهم في ثوب غير ثوبها.. أنِسوا بها وسكنوا إليها؛ ولا يعجبهم من الحسنة إلا صورتها؛ فإذا لم تأتهم في الصورة التي تعجبهم وتروقهم.. عافوا وزهدوا فيها، أي أنهم يفضلون اليد الناعمة التي تحمل خنجراً، على اليد الخشنة التي تحمل بدرة، ويؤثرون كأس البللور المملوءة سماً، على كأس الخزف المملوءة ماء زلالاً، ولقد سمعت بأذني من أخذ يعد لرجل من أصدقائه من السيئات ما لو وزع على الخلق جميعاً للوث صحائفهم، ثم ختم كلامه بقوله: وإني على ذلك أحبه وأجله لأنه رجل “ظريف”! وأغرب من ذلك كله أنهم وضعوا قوانين أدبية للمغازلة والمعاقرة والمقامرة، كأن جميع هذه الأشياء فضائل لا شك فيها، وكأن الرذيلة وحدها هي الخروج عن تلك القوانين التي وضعت لها، وما عهدنا ببعيد بذلك القاضي المصري الذي أجمع الناس في مصر منذ أيام على احتقاره وازدرائه، لا لأنه لعب القمار.. بل لأنه تلاعب بأوراق اللعب في أحد أندية القمار، وسموه لصاً دنيئاً، والقمار لصوصية من أساسه إلى ذروته.

أعرف في هذا البلد رجلين يجمعهما عمل واحد، ومركز واحد: أحدهما خير الناس، والآخر شر الناس، وإن كان الناس لا يرون رأيي فيهما.

أما الأول فهو رجل قد أخذ نفسه منذ نشأته بمطالعة كتب الأخلاق والآداب، ومزاولتها ليله ونهاره. فقرأ فيها فصول الصدق والأمانة والعفة، والزهد والسماحة والنجدة، والمروءة والكرم، وقصص السمحاء والجواد، والرحماء والمؤثرين على أنفسهم، وافتتن بتلك الفضائل افتتاناً شديداً، ثم دخل غمار المجتمع بعد ذلك، وقد استقر في نفسه أن الناس قد عرفوا من الأدب مثل ما عرف! وفهموا من معناه مثل ما فهم، وأخذوا منه بمثل الذي أخذ، فغضب في وجه الأشرار، وابتسم في وجهه الأخيار، والأولون أكثر عدداً وأعظم سلطة وجاهاً، فسُمي عند الفريقين شرساً متوحشاً؛ وامتدح إحسان المحسن، وذم إساءة المسيء، والمحسنون في الدنيا قليلون، فسمي وقحاً بذيئاً حتى بين المحسنين، وبذل معروفه للعاجز الخامل، ومنعه القادر النابه؛ فلم يشعر بمعروفه أحد فسمي بخيلاً؛ واعتبر الناس بقيمهم الأدبية؛ لا بمقاديرهم الدنيوية، فلقي الأغنياء والأشراف بمثل ما يلقى به العامة والدهماء؛ فسمي متكبراً؛ وقال لمن جاءه يساومه في ذمته: إني أحبك ولكني أحب الحق أكثر منك؛ فكثر أعداؤه وقل أصدقاؤه.

أما الثاني فأقل سيئاته أنه لا يفي بوعد يعده؛ ولكنه يحسن الاعتذار عن إخلاف الوعود فلا يسميه أحد مخلافاً؛ وما رآه الناس في يوم من أيامه عاطفاً على بائس أو منكوب؛ ولكنه يبكي لمصاب البائسين المنكوبين؛ ويستبكي لهم فعُدّ من الاجواد السمحاء؛ وكثيراً ما أكل أموال اليتامى وأساء الوصاية عليهم؛ ولكنه لا يزال يمسح رؤوسهم؛ ويحتضنهم إلى صدره في المجامع والمشاهد كأرحم الرحماء وأشفق المشفقين؛ فسُمي الوصي الرحيم؛ ولا يفتأ ليله ونهاره ينال من أعراض الناس ويستنزل من أقدارهم، إلا أنه يخلط جده بالهزل، ومرارته بالحلاوة، فلم يعرف الناس عنه شيئاً سوى أنه الماجن الظريف.

ذلك هو الأدب الذي أصبح في هذا العصر رأياً عاماً يشترك فيه خاصة الناس وعامتهم، وعقلاؤهم وجهلاؤهم؛ ويُعلمه الوالد ولده والأستاذ تلميذه؛ ويقتتلون على أعز الأشياء وأنفسها حتى تبدلت الصور، وانعكست الحقائق، وأصبح الرجل المخلص أحرج الناس بصدقه وإخلاصه صدراً، وأضلهم بهما سبيلاً، لا يدري أيكذب فيُسخط ربه ويرضي الكاذبين؟ أم يصدق فيرضي نفسه ويسخط الناس أجمعين؟ ولا يعلم أيهجر هذا العالم إلى عزلة منقطعة، يقضي فيها بقية أيام حياته غريباً شريداً؟ أم يبرز للعيون فيموت هماً وكمداً؟

يجب أن يكون أدب النفس أساس أدب الجوارح، وأن يكون أدب الجوارح تابعاً له وأثراً من آثاره فإن أبى الناس إلا أن يجعلوا أدب الحركات والسكنات أساس صلاتهم وعلائقهم، وميزان قيمهم وأقدارهم، فليعترفوا أن العالم كله مسرح تمثيلي، وأنهم لا يؤدون فيه غير وظيفة الممثلين الكاذبين.

مصطفى لطفي المنفلوطي

النظرات – الجزء الثالث

Share via
تابعونا على الفايس بوك