اللغة العربية أم لكل لسان

اللغة العربية أم لكل لسان

مصطفى ثابت

السيرة المطهرة (20)

بقلم: مصطفى ثابت[1]

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

لم يكن الأمر بالنسبة لسيدنا أحمد هو مجرّد كتابة المقالات أو الكتب باللغة العربية، وليس الغرض أن يُبيّن علوّ باعه ونور يراعه، بل كان يؤكد على أن من آتاه الله علوم القرآن، وحكمة الفرقان، فلا بد أن يـؤتيه أيضا علوم اللغـة العربيـة. وفي أواخر القرن التاسـع عشـر (1895)، كتب مقدّمة كتاب أراد أن يخصصه لكشف سرّ من الأسرار التي علّمه الله تعالى إياها من القرآن الكريم، وهي أن اللغة العربية أمّ اللغات، وأنها اللغة التي علّمها الله تعالى لآدم ، وأن اللغات الأخرى جميعها قد اشتُقّت وتفرّعت من اللغة العربية، وحيث إنها لغة ربّانية.. فقد أنزل الله تعالى كتابه القرآن في هذه اللغة الرفيعة، وجعل آخر شرائعه بنفس اللسان الذي بدأ به الوحي على آدم .

وقد انشغل سيدنا أحمد بأمور الدعوة التي كلّفه الله بها، فكتب بعد هذه المقدّمة ما يقرب من خمسين كتابا باللغة العربية والأردية، فلم يستطع إكمال هذه المقدمة للكتاب الذي أسماه: “منن الرحمن”. غير أنه قد جاء من بين أتباعه الكرام، من أمسك بالخيط الذي قدّمه سيدنا أحمد ، وراح يتتبّع اللغات وأصولها ومنابعها، فاستطاع أن يثبت نشوء الكثير من اللغات.. الحديثة والقديمة.. من اللغة العربية، تماما كما أكّد على ذلك الإمامُ المهدي . وكان اسم هذا العالم الجليل: محمد أحمد مظهر، رحمه الله وطيّب ثراه، وقد كرّمه المركز العالمي لسير الخالدين International Biographical Center, Cambridge, United Kingdom، ومنحه جائزة: “رجل العام العالمي” لعام 1992/ 1993International Man of the Year ، إذ إنه نشر 47 كتابا تناول في كل كتاب منها لغة من اللغات المعاصرة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والسنسكريتية وغيرها، وأثبت نشوءها من اللغة العربية بتتبع أفعالها وأسمائها ومقاطعها، وقد اعترف الكثير من علماء اللغات بأهمية أعمال هذا الرجل، التي يعود كل الفضل فيها إلى ما ذكره الإمام المهدي، وما تلقاه من الله .

وفيما يلي نقتطف بعض الباقات من الجمل التي احتوتها المقدمة الفريدة التي كتبها سيدنا أحمد :

“الحمد لله الرب الرحمان، ذي المجد والفضل والإحسان، خلق الإنسان، علّمه البيان، ثم جعل من لسانٍ واحدة ألسنةً في البلدان، كما جعل من لون واحد أنواع الألوان، وجعل العربية أُمًّا لكل لسان، وجعلها كالشمس بالضوء واللمعان. هو الذي نطق بحمده الثقلان، وأقرّ بربوبيته الإنس والجان، تسجد له الأرواح والأبدان، والقلب واللسان يحمدان. سبحان ربنا رب ما يوجد وما يكون وكان، يفعل ما يشاء وكل يوم هو في شان. يُسبّح له كل ناطق وصامت، ويبغي رحمه كل زائغ وسامت، وهو رب العالمين. له الحمد والمجد وهو مولى النعم في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله سيد الرسل، ونور الأمم، وخير البريّة، وأصحابه الهادين المهتدين، وآله الطيبين المطهّرين، وجميع عباد الله الصالحين.

أما بعد.. فيقول عبد الله الأحد، أحمد.. عافاه الله وأيّد، إني كنت مولعًا من شرخ الزمان، بتحقيق المذاهب والأديان، وما رضيتُ قط ببادرة الكلمات، وما قنعتُ بطافي من الخيالات، ككل غبيّ أسير الجهلات، ومحبوس الخزعبلات، وما أصررتُ على باطل ككل جهول ضنين. وما حرّكني إلى أمر إلاّ أعين التحقيق، وما جرّني إلى عقيدة إلاّ قائد التعميق، وما فهّمني إلاّ ربي الذي هو خير الْمُفهّمين. وإنه كشف عليّ أسرارًا من الحقائق، وأنزل عليّ عهاد المعارف والدقائق، وأعطاني ما يُعطي المخلصين.

فلما وجدت الحق بفيضانه، ورُبّيتُ بلبانه، رأيتُ شكر هذه الآلاء، في أن أموّن خدمة الدين والشريعة الغرّاء، وأُرِي الناس نور الدين المتين، وأُرِي ملكوته بعساكر البراهين، وأراعي شؤون صدوق أمين.

وما هذا إلاّ فضل ربي، إنه أراني سبل الصادقين، وعلّمني فأحسن تعليمي، وفهّمني فأكمل تفهيمي، وعصمني من طرق الخاطئين. وأوحى إليّ أن الدين هو الإسلام، وأن الرسول هو المصطفى السيد الإمام، رسول أُمّيّ أمين. فكما أن ربنا أحد يستحق العبادة وحده، فكذلك رسولنا المطاع واحد لا نبي بعده، ولا شريك معه وأنه خاتم النبيين. فاهتديتُ بهداه، ورأيت الحق بسناه، ورفعتني يداه، وربّاني ربّي كما يُربي عباده المجذوبين. وهداني وأدراني، وأراني ما أراني، حتى عرفتُ الحق بالدلائل القاطعة، ووجدت الحقيقة بالبراهين الساطعة، ووصلتُ إلى حق اليقين.

فأخذني الأسف على قلوب فسدت، وأنظار زاغت، وعقول فالت، وآراء مالت، وأهواء صالت، وأوباء شاعت من إفساد المفسدين. ورأيتُ أن الناس أكبّوا على الدنيا وزينتها، فلا يصغون إلى الملّة وأدلّتها، ولا ينظرون إلى نضارها ونضرتها، ويُعرضون كأنهم مرتابون وليسوا بمرتابين، ولكنهم آثروا الدنيا على الدين. لا يقبلون لِعَمْيِهِم دقائق العرفان، ولا يرون علاء البراهين. وكيف وإنهم يؤثرون سبل الشيطان، ويُصرّون على التكذيب والعدوان، ولا يسلكون محجّة الصادقين. فطفقتُ أدعو الله ليؤتيني حُجّة تفحم كفرة هذا الزمان، وتناسب طبائع الحدثان، لأُبَكّت سفهاءهم وعقلاءهم بأحسن البيان، وتتم الحجّة على المجرمين. فاستجاب ربي دعوتي، وحقق لي منيتي، وفتح عليّ بابها كما كانت مسألتي ومُراد مهجتي، وأعطاني الدلائل الجديدة البيّنة، والحجج القاطعة اليقينية، فالحمد لله المولى المعين.

وتفصيل ذلك أنه صرف قلبي إلى تحقيق الألسنة، وأعان نظري في تنقيد اللغات المتفرّقة، وعلّمني أن العربية أمّها، وجامع كيفها وكمّها، وأنها لسان أصليّ لنوع الإنسان، ولغة إلهامية من حضرة الرحمان، وتتمّة لخلقة البشر من أحسن الخالقين.

ثم عُلّمتُ من كلام الله ذي القدرة، أن العربية مخزن دلائل النبوّة، ومجمع شواهد عظمة هذه الشريعة، فخررتُ ساجدًا لخير المنعمين. وقادني داعي الشوق إلى التوغّل في العربية، والتبحّر في هذه اللهجة، فوردتُ لجّتها بحسب الطاقة البشرية، ودخلتُ مدينتها بالنصرة الإلهية، وشرعتُ الاختراق في سُبلها ومسالكها، والانصلاتَ في طرقها وسككها، لأستعرف ربيبة خدرها، وأذوق عصيدة قِدْرِها، وأجتني ثمار أشجارها، وأُخرِجُ دُرَرَ بحارها، فصرتُ بفضل الله من الفائزين.

ولم يفتني بها مطلع، ولا خلا مني مرتع، ورأيت نضرتها، ورعيتُ خضرتها، وأُعطيتُ من ربي حظًّا كثيرا، ودخلا كبيرا في عربي مبين. حتى إذا حُصّلَت لي دُرُرها ودَرّها، وكُشِفَ عليّ معدنها ومقرّها، وأراني ربي أنها وحي كريم، وأصل عظيم لمعرفة الدين، وأن شهبها ترجم الشياطين. ومع ذلك رأيت لُغاتٍ أخرى كخضراء الدمن، ووجدتُ دارها خربة وأهلها في محن، ووجدتها شادّة الرحال للطّعن كالمتغرّبين. فأُلقي في رَوعي أن أُؤلّف كتابا في هذا الباب، وأضع الحق أمام الطلاّب، وأُحسِنُ إلى الخلق كما أَحسَن إليّ رب الأرباب، لعل الله يهدي به نفسًا إلى أمور الصواب، وما أبتغي به إلاّ رضا الرّب الوهّاب، وهو مقصودي لا مدح العالمين.

وإني ما أخرجتُ شيئا من عيبتي، فبأي حق أطلب محمدتي، ووالله ما خرَجَت من فمي كلمة، وما انكشفت عليّ حقيقة إلاّ بتفهيمه، وما علمتُ شيئا إلاّ بتعليمه، والله يعلم وهو خير الشاهدين. فلا تثن عليّ بصالحٍ في هذه الخطّة، واشكروا الله فإن كلها من حضرة العزّة، هو الذي أحسن إليّ وهو خير المحسنين.” (منن الرحمن، الخزائن الروحانية ج 9 ص 145-168)

ثم يذكر بعد هذا انفطار قلبه بسبب انصراف الناس عن الاهتمام بالدين ودراسة القرآن الكريم فيقول:

“… وكان قلبي يقلق، وكادت نفسي تزهق، لو لم يكن معي قوي متين. وإنه مولانا ولا مولى للكافرين، وإنه يجيب دعاءنا ويسمع بكاءنا ويأتينا إذا أتيناه مضطرين. وكذلك إذا خوّفني هجوم الآفات، وأرعدني ضعف المسلمين والمسلمات، فبكيت في وقت من الأوقات، ودعوتُ ربي قاضي الحاجات، وناديتُ مولاي كالمتضرّعين. وقلتُ يا رب أنت ملجأنا في كل حين، ونحن إليك نشكو وأنت أحكم الحاكمين، فلا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ولا تُحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. فاستجاب لي ربي وأعطاني إربي، ونصرني وهو خير الناصرين. فكنتُ يومًا أتذكر قلّة البعاع، وأرتعد كاللعاع، وأقلق في هذه الأحزان، وأقرأ آيات القرآن، وأفكر فيها بجهد الجنان، وأزجي نضو التدبّر والإمعان، وأدعو الله أن يهديني طرق العرفان، ويُتم حجّتي على أهل العدوان، ويتلافى ما سلف من جور المعتدين.

وإني ما أخرجتُ شيئا من عيبتي، فبأي حق أطلب محمدتي، ووالله ما خرَجَت من فمي كلمة، وما انكشفت عليّ حقيقة إلاّ بتفهيمه، وما علمتُ شيئا إلاّ بتعليمه، والله يعلم وهو خير الشاهدين. فلا تثن عليّ بصالحٍ في هذه الخطّة، واشكروا الله فإن كلها من حضرة العزّة، هو الذي أحسن إليّ وهو خير المحسنين.

فبينما أنا أفتش كالكميش، وقد حميَ وطيس التفتيش، وأنظر بعض الآيات، وأتوسّم فحواء البيّنات، إذا تلالأت أمام عيني آية من آيات الفرقان، ولا كتلألؤ درر العمان. فإذا فكّرتُ في فحوائها، واتّبعتُ أنواع ضيائها، وأجزتُ حمى أرجائها، وأفضيتُ إلى فضائها، وَجَدتُها خزينة من خزائن العلوم، ودفينة من السرّ المكتوم. فهزت عطفي رؤيتها، وتجلّت لي كجمرة قُوّتها، وأصبى قلبي نضارها ونضرتها، واغتالت العدا كريهتها، وسرَت مهجتي صرّتها، فحمدلتُ وشكرتُ لله رب العالمين. ورأيت بها ما يملأ العين قرّة، ويعطي من المعارف دولة، ويسرّ قلوب المسلمين. وعُلّمتُ من سرّ اللغات ومثواها، وزُوّدتُ من فص الكلمات ونجواها، وكذلك أُعطيتُ من أسرارٍ عليا ونِكاتٍ عظمى، ليزيد يقيني ربي الأعلى، وليقطع دابر المعتدين.

وإن كنتَ تحب أن تعرف الآية وصولها، فاقرأ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ، وإن فيها مدح القرآن وعربي مبين. فتدبّرها كالعاقلين، ولا تمر بها مرور الغافلين. واعلم أن هذه الآية تُعظّم القرآن والعربية ومكّةَ، وفيها نورٌ مزّق الأعداء وبكَّتَ، فاقرأها بتمامها، وانظر إلى نظامها، وفتش كالمستبصرين. وإني تدبرتها فوجدت فيها أسرارًا، ثم أمعنتُ فرأيت أنوارًا، ثم عمّقتُ فشاهدتُ مُنَزّلاً قهّارًا رب العالمين. وكُشف عليّ أن الآية الموصوفة، والإشارات الملفوفة، تهدي إلى فضائل العربية، وتشير إلى أنها أمّ الألسنة، وأن القرآن أمّ الكتب السابقة، وأن مكّة أمّ الأرضين. فاقتادني بروق هذه الآية، إلى أنواع التنطس والدراية، وفهمتُ سرّ نزول القرآن في هذا اللسان، وسرّ ختم النبوّة عل خير البريّة وختم المرسلين.

ثم ظهرت عليّ آيات أخرى، وأيّد بعضها بعضا تترًا، حتى جرّني ربي إلى حق اليقين، وأدخلني في المستيقنين. وظهر عليّ أن القرآن أمّ الكتب الأولى، والعربية أمّ الألسنة من الله الأعلى، وأما الباقية من اللغات فهي لها كالبنين أو البنات. ولا شك أنها كمثل ولدها أو ولائدها، وكل يأكل من أعشارها وموائدها، وكل يجتنون فاكهة هذه اللهجة، ويملأون البطون بتلك المائدة، ويشربون من تلك اللجة، ويتخذون لباسًا من هذه الحلّة، فهي مُربية أعارها الدَّست، واختار لنفسها الدست. وأما اختلاف الألسنة في صور التركيب، فليس من العجيب، وكذلك الاختلاف في التصريف واطراد المواد، ليس من دلائل عدم الاتحاد، ولولا اختلاف بهذا القدر في التركيبات، لامتنع تغاير يوجب كثرة اللغات، فإن وجود التراكيب المختلفة، هو الذي غيّر صور الألسنة، وهو السبب الأول للتفرقة. فلا يسوغ لمعترض أن يتكلم بمثل هذه الكلمات، وأين منتدحة هذه الاعتراضات؟ فإنها مُصادرة ومن الممنوعات. وكفاك أن الألسنة كلها مشتركة في كثير من المفردات. وما أوغلتُ بل سأريك كأجلى البديهيات، فاستقم كما سمعت ولا تكن من المخطين ….” (المرجع السابق ص180-185)

“… وأمّا تفصيل آيات تؤيد آية أم القرى، وتبيّن أن العربية أم الألسنة، وإلهام الله الأعلى، فمنها آية من الله المنّان، في سورة الرحمن، أعني قوله: خَلَقَ الإِنْسَانَ علَّمَهُ الْبَيَانَ فالمراد من البيان اللغة العربية، كما تشير إليه الآية الثانية، أعني قوله تعالى: عَرَبِيٌّ مُبِينٌ . فجعل لفظ المبين وصفا خاصّا للعربية، وأشار إلى أنه من صفاته الذاتية، ولا يشترك فيه أحد من الألسنة كما لا يخفى على المتفكّرين. وأشار بلفظ الْبَيَانَ إلى بلاغة هذا اللسان، وإلى أنها هي اللسان الكاملة، وأنها أحاطت كلما اشتدّت إليه الحاجة، وتصوبت مطرها بقدر ما اقتضت البلدة، وفاقت كل لغة في إبراز ما في الضمائر، وساوى الفطرة البشرية كتساوي الدوائر، وكل ما اقتضته القوى الإنسانية، وابتغته التصورات الإنسية، وكل ما طلبه حوائج فطرة الإنسان، فيحاذيها مفردات هذه اللسان، مع تيسير النطق وإلقاء الأثر على الجنان، فاتّبع ما جاءك من اليقين.

ثم سياق هذه الآية يزيدك في الدراية، فإنه يدل بالدلالة القطعية على ما قلنا من الأسرار الخفيّة، لتكون من الموقنين. فتفكّر في آية: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، فإن الغرض فيها ذكر القرآن، والحث على التلاوة والإمعان، ولا يحصل هذا الغرض إلاّ بعد تعلم العربية، والمهارة التّامة في هذه اللهجة، فلأجل هذه الإشارة قدّم الله آية: عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، ثم قفاه آية: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، كأنه قال المنّة منّتنان: تنْزيل القرآن وتخصيص العربية بأحسن البيان، وتعليمها لآدم لينتفع به نوع الإنسان، فإنها مخزن علوم عالية، وهداياتٍ أبدية من المنّان، كما لا يخفى على المتدبّرين.

فالحاصل أنه ذكر أوّلا نعمة الفرقان، ثم ذكر نعمة أخرى التي هي لها كالبنيان، وأشار إليها بلفظ البيان، ليُعلم أنها هو العربي المبين. فإن القرآن ما جعل البيان صفة أحد من الألسنة من دون هذه اللهجة، فأي قرينة أقوى وأدلّ من هذه القرينة لو كنتم متفكّرين. ألا ترى أن القرآن سمّى غير العربية أعجميّا، فمن الغباوة أن تجعلها للعربية سميّا، فافهم إن كنت زكيًّا، ولا تكن من المغرضين، والنص صريح وما ينكره إلاّ وقيح من المعاندين.

ومنها ما قال ذو المجد والعزّة، في آية بعد هذه الآية، أعني قول الله الحنّان: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ . فانظر إلى ما قال الرحمن، وفكّر كذي العقل والإمعان، وتذكّر كالمسترشدين. فإن هذه الآية تؤيد آية أولى، ويفسر معناها بتفسير أجلى، كما لا يخفى على المفكّرين. وبيانه أن الشمس والقمر يجريان متعاقبين، ويحملان نورا واحدا في اللونين. وكذلك العربية والقرآن، فإنهما تعاقبا واتّحدا البروق واللمعان، أمّا القرآن فهو كالشارق المنير، والعربية كالبدر المستنير، ومع ذلك ترى العربية أسرع في المسير، وأجرى على لسان الصالح والشرير، وما كانت شمس القرآن أن تدرك هذا القمر، وكذلك قدّر الله هذا الأمر وأنهما بحسبان، ويجريان كما أُجرِيا ولا يبغيان، بحسابٍ مقدّرٍ من الرحمن. فترى أن القرآن يجري برعاية أنواع الاستعداد، ويكشف على الطالب أسرار المعاد، ويُربي الحكماء كما يُربّي السفهاء، ويعلم العقلاء كما يعلم الجهلاء، وفيه بلاغ لكل مرتبة الفهم، وتسلية لكل أرباب الدّهاء والوهم، وساوى جميع أنواع الإدراك، من أهل الأرض إلى أهل الأفلاك، وإنه أحاط دوائر فهم الإنسان، مع التزام الحق وإقامة البرهان، وإنه نور تام مبين. وأمّا اللغة العربية فحسبانها أنها تجري تحت مقاصد القرآن، وتتم بمفرداتها جميع دوائر دين الرحمان، وتخدم سائر أنواع التعليم والتلقين….”  (المرجع السابق ص188-192)

“واعلم أن للعربية، وصحيفة القدرة، تعلّقات طبعية، وانعكاسات أبدية، كأنهما مرايا متقابلة من الرحمان، أو توأمان متماثلان، أو عينان من منبع تخرجان وتصدغان، فانظر ولا تكن كالعمين. فهذه نصوص قاطعة، وحجج يقينية على أن العربية هي اللسان، والفرقان هو النور التام، الفرقان! ففكر ولا تكن من الغافلين. ومن فكر في القرآن وتدبر كلمات الفرقان، ففهم أن هذا قد ثبت من البرهان، وما كتبناه كالظانين، بل أوتينا علما كنور مبين.

ثم اعلم يا طالب الرشد والسداد، أن التوحيد لا يتم إلاّ بهذا الاعتقاد، ولا بد أن نؤمن بكمال الوثوق والاعتماد، بأن كل خير صدر من رب العباد، وهو مبدأ كل فيض للعالمين. ومن المعلوم عند ذوي العرفان، أن طاقة النطق والبيان، من أعظم كمالات نوع الإنسان، بل هي كالأرواح للأبدان، فكيف يُتَصور أنها ما أُعطيت من يد المنّان؟ كلا.. بل هي تتمّة الخلقة البشرية، وحقيقة الأرواح الإنسيّة، وإنها من أعظم نعم حضرة الأحدية. ولا يتم التوحيد إلاّ بعد هذه العقيدة، أيرضى مُوَحّدٌ بأمرٍ فيه نقص حضرة العزّة، أو فيه شرك كعقائد المشركين؟ وإن الذين يعرفون الله حق العرفان، يعلمون أنه في كل خير مبدأ الفيضان، وأنه موجد الموجودين. ولا يتكلمون، كالدّهريين والطبيعيين، أولئك الذين أوتوا حظّا من المعرفة، وسُقوا من كأس توحيد الحضرة، وجُعلوا من الفائزين. وإن ربنا كامل من جميع الجهات، ولا يُعزَى إليه نقص في الذات أو الصفات، وإنه حميد لا يفرط إليه ذمّ، وقُدّوسٌ لا يلحقه وصم، وهذا هو محجة الاهتداء، ومشرب الأولياء والأصفياء، وصراط الذين أنعم الله عليهم، وسبيل الذين نوّر عينيهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

فوالله الذي هو ذو الجلال والإكرام، إن البشر ما وجد كمالا إلاّ من فيضه التام، وهو خير المنعمين. أم يقولون أن نعمة النطق ما جاءت من الرحمن، وما كان معطيها خالق الإنسان؟ فهذا ظلم وزور وغلوّ في العدوان كالشياطين. وتلك قوم ما قدروا الله حق قدره، وما نظروا إلى شمسه وبدره، وما فكروا أنه هو رافع كل الدّجَى، وأنه خالق الأرض والسماوات العلَى، خلق الإنسان ثم أنطقه ثم هدَى، وما من نعمة إلاّ أعطَى، فهذا هو ربنا الأعلَى، وخالقنا الأغنَى. وسِعَت نِعَمُه ظاهرنا وباطننا، وأحاطت آلاؤه أبداننا وأنفسنا. هو الذي خلق الإنسان، وأتم الخلق وزان، وأكمل الإحسان، فكيف يُظَنّ أنه ما علّم البيان؟ أتظن أنه قدر على خلق البشر، وما قدر على الإنطاق وإزالة الحصر، أو كان من الغافلين؟ أفأنت تعجب ههنا من قدرة رب العالمين؟ وترى أنه قوي متين، وأنه خالق الجوهر والعرض، ومُنَوّر السماوات والأرض، ومجيب دعوة الدّاعين. فهل لك أن تتوب إليه وتميل، وتتحامى القال والقيل؟ والله يحب الصالحين.

فلما ثبت أن ربنا هو نور كل شيء من الأشياء، ومنير ما في الأرض والسماء، ثبت أنه المفيض من جميع أنحاء، وخالق الرقيع والغبراء، وهو أحسن الخالقين. وإنه أعطى العينين، وخلق اللسان والشفتين، وهدى الرضيع إلى النجدين، وما غادر من كمالٍ مطلوب، إلاّ أعطاها بأحسن أسلوب. فمن الغباوة أن تظن أن النطق الذي هو نور حقيقة الإنسان، ومناط العبادة والذكر والإيمان، ما أُعطى مع الخلقة من الرحمن، بل وجده البشر بشق النفس وجهد الجنان، بعد تطاول أمد وامتداد الزمان، وهل هذا إلاّ افتراء الكاذبين؟ ومن آمن بالذي له كمال تام في الذات والصفات، وفيوض متنوعة لأهل الأرض والسماوات، وعرف أنه مبدأ الفيوض من جميع الجهات، يؤمن بالضرورة بأنه أعطى كل شيء خلقه وما غادر شيئا من الكمالات، وهو مفيض كل فيض احتاجت إليه طبائع المخلوقات بحسب الاستعدادات. وما نعب غُرابٌ إلاّ بتعليمه، وما زأر أسدٌ إلاّ بتفهيمه. هو منبع كل خير وفيضان، ومُعَلّم كل نطقٍ وبيان، وكذلك كان شأن رب العالمين. أتزعم أنه ربّى الإنسان كرجل عاجز من إكمال التربية؟ لا.. بل ربّاه بأيدي القدرة التامّة، حتى وهب له لقب الخليفة، وكمّله بكمال الفضل والرحمة، وأعطى له ما لم يُعْطَ أحدٌ من المخلوقين. وإنه هو الله الذي يُربّي الأشجار بتربية كاملة، حتى يجعلها دوحًا ذات عظمة، ويزينها بزهر وأنواع ثمرة، وأظلال باردة ممدوة تسرّ الناظرين. فما زعمك أنه خلق الإنسان خلقا غير تام، وما بلّغه إلى مقام فيه كمال نظام، وتركه ناقصا كاللاغبين؟

ثم العلوم التي توجد في مفردات اللسان العربية، تشهد بالشهادة الجلية، أنها ليست فعل أحدٍ من البريّة، وأنها من خالق السماء والأرضين. ولا يختلج في قلبك أن الإنسان لا يتولّد ناطقا متكلّمًا، بل يجد هذا الكمال متعلّمًا، كما نشاهد بالحق واليقين. فإن هذا الإيراد عليك لا لك، فأصلح حالك، ولا يغفل بالك كالنائمين. فإنّك إذا قبلتَ أن النطق لا يحصل إلاّ بالتعليم، فلزمك أن تقبل أن البشر الأول ما فهم إلاّ بالتفهيم، فأقررتَ بما أنكرتَ إن كنت من المتفكرين. وقد جرّب الناس، وتظاهر الخبرة والقياس، أن الأطفال المتولّدين، لو يتركون غير متعلّمين، ولا يعلمهم لسانهم أحدٌ من المعلّمين، فلا يقدرون على نطق، ولا يجيبون المنطقين، بل يبقون كبكم صامتين. فأي دليل أوضح من هذا لمن طلب الحق وهو أمين، وما اتّبع سبل الضالين؟ فجاهِدْ حق الجهاد، وفكر كأهل الرشاد، ولا تستعجل كالمعرضين.

ومن أجلى البديهيات، أن آدم خُلق من يد رب الكائنات، وما كان أحدٌ معه من المعلمين والمعلمات. فثبت أن معلمه كان خالق المخلوقات، أفلا تؤمن بقدرة قوي متين؟ أفلا تعلم أن وجود البريّة، ظلّ لصفة الربوبية؟ وبها كان ظهورهم في هذه النشأة، وكان النطق من تتمة خلق الإنسان، فكيف يُجوّز الخداج للذي ظهر من يدي الرحمن؟ أتزعم أن الله الذي نفخ روحه فيه، ما كان قادرًا أن يُنطِق فيه؟ ما لك لا تفكر كالمسترشدين؟” (المرجع السابق ص195-202)

ولو لم يك ضيق المجال لاسترسلت في سرد الأدلة التي ساقها سيدنا أحمد على أن اللغة العربية هي أم اللغات، وحبذا لو رجع القارئ إلى هذه المقدّمة القصيرة التي كتبها الإمام المهدي بأسلوب عربي شائق وجميل ليرى قبسًا من النور الذي علّمه إياه رب العالمين. ويستطيع القارئ الأريب الذي ينظر إلى هذه الأمور بنور الله تعالى، أن يرى أن هذا العلم والعرفان الذي أنعم الله تعالى به على عبده الإمام المهدي ، لا يمكن أن يناله أحد من الكذابين أو المتقوّلين على الله والمفترين، بل هو فضل محض من رب السماوات والأرضين، يؤيد به الصادقين المخلصين، ويعين به الأولياء والمرسلين.

[1] كاتب من مصر الشقيقة

Share via
تابعونا على الفايس بوك