مباحثات ومساجلات

مباحثات ومساجلات

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (16)

 كشف زيف عقيدة تأليه المسيح

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

كان سيدنا أحمد كثيرا ما يُعبّر عن حُزنه الشديد.. وكثيرا ما كان يذكر أن ما يعصر قلبه من شدة الأسى.. هو عقيدة تأليه المسيح التي وضعتها الكنيسة المسيحية. وكان يود من أعماق وجدانه أن يجد وسيلة ما.. يحسم بها ذلك الموضوع حتى يتخلص الجنس البشري بأكمله من تلك الفرية الشنيعة. ولم يكن يترك أي فرصة تُتاح له دون أن يُبيّن الحق للناس، ويشرحه شرحا وافيا على الأساس الذي قدمه القرآن الكريم، وأيضا على أساس الكتب المقدسة التي يؤمن بها المسيحيون أنفسهم، وكذلك على أساس من العقل والمنطق السليم. وكلما قام بتفنيد عقيدة ألوهية المسيح التي لا تقوم على أساس ولا على منطق.. فإنه كان حريصا أشد الحرص على تبيان أنه شخصيا.. وحسب توجيهات وتعاليم القرآن الكريم.. يؤمن بالمسيح عيسى بن مريم باعتباره نبيا صالحا من عند الله تعالى، وأنه.. بهذه الصفة.. يُكِنُّ له كل الحب والاحترام.

ولم يكن ذلك الأسى الذي يشعر به سيدنا أحمد .. لمجرد أن المسيحيين يدينون بعقيدة تختلف عن دين الإسلام الذي جاء هو يدعو إليه. فالإسلام يحترم حرية الآخرين في العقيدة، حتى ولو كانت عقيدة خاطئة، فيقول تعالى:

قُلْ يَآ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ …. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (سورة الكافرون)

ويقول:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف:30)

كذلك فقد حضّ الله تعالى على عدم إيذاء المشاعر الدينية للآخرين، بل إنه منع من توجيه الإهانة أو السباب إلى الآلهة الباطلة التي يعبدها الناس من دون الله فقال:

وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (الأنعام:109)

ولكن مع هذا.. كان لا بد لسيدنا أحمد من إعلان الحقيقة، ولا مناص له من قول الحق والدعوة إليه، فالغرض إذن لم يكن عداءً لهذا القوم أو لذاك من أهل الأديان، وإنما كان الغرض هو توضيح الحق ودعوة الناس إليه.

وعلى هذا فإن مهمة كسر الصليب المنوط بها المسيح الموعود ، ليس الهدف منها جرح مشاعر المسيحيين، ولا الاستهزاء بمعتقداتهم، بل الهدف منها هو الدفاع عن المسيح نفسه، وتبرئته من التهمة الشنيعة التي ألصقها به اليهود.. ووافقهم فيها المسيحيون.. وإن اختلفت أسباب كل منهم، غير أن النتيجة في الحالتين كانت واحدة: وهي أن المسيح .. بموته على الصليب والعياذ بالله.. قد صار ملعونا مثل الشيطان اللعين. لذلك.. فقد كان قلب سيدنا أحمد ينفطر حزنا وأسى على المسيحيين الذين أسلموا عقولهم لهذه العقائد الباطلة بغير تفكر ولا تدبر.

وكان المبشرون المسيحيون من ناحية أخرى يقومون بحملات ضارية.. ليس فقط لنشر عقائد الكنيسة المسيحية ودعوة الناس لقبولها والاقتناع بها.. وإنما لمهاجمة العقائد الإسلامية، والتهجم على الدين الإسلامي، والتهكم على القرآن الكريم، وانتقاد الرسول الأعظم انتقادا يُدمي القلوب، ويَفطر النفوس، ويصيب المؤمن بالغثيان، بسبب الأساليب الملتوية والأكاذيب والافتراءات التي كانوا يصمون بها رسول الله ، وهو الذي كان أحرص الناس على نجاتهم وهدايتهم إلى طريق الله المستقيم.

وفي عام 1893 استطاعت مجهودات الكنيسة المسيحية أن تحرز تقدما ملحوظا في جانديالا Jandiala وهي بلدة في قطاع أمرتسر. وقد أثار ذلك قلق السكان المسلمين، وجعلهم يتماسكون سويا، ويتّحدون جميعا لمواجهة تلك الأخطار التي تهدد دينهم. وفي الاجتماعات التي كانت تعقدها الكنيسة في الهواء الطلق.. من حين لآخر في تلك البلدة.. بغرض التبشير بالمسيحية، كان المسلمون يثيرون بعض الأسئلة المحرجة، مما جعل سلطات الإرسالية التبشيرية المشرفة على تلك المنطقة تتوَجس بعض القلق، وأفضوا بتلك المخاوف إلى الأب الدكتور هنري مارتن كلارك.. المسؤول عن الإرسالية الطبية في قطاع أمرتسر. فكتب الأب الدكتور هنري مارتن كلارك إلى أحد المسلمين المقيمين في جانديالا، يقترح عليه عقد مباحثة علنية بين مندوبين عن كل من الجانبين، وذلك حتى يمكن للطرفين أن يقررا أي الأديان هو الدين الصحيح.

ولما وصل هذا الخطاب إلى المرسل إليه، كتب بدوره خطابا إلى سيدنا أحمد ، بتاريخ 11 إبريل (نيسان) 1893، يطلب إليه أن يمثل المسلمين في المناظرة المزمع عقدها. وعلى ذلك.. فقد تبادل سيدنا أحمد مع الأب هنري مارتن كلارك بعض المراسلات، ومن خلالها تم الاتفاق على عقد مناظرة عامة في مدينة أمرتسر، في المدة من 22 مايو (أيار) إلى 3 يونيو (حزيران) 1893. وفي هذه المناظرة تقرر أن يقوم سيدنا أحمد بتمثيل المسلمين، ويقوم عبد الله آتهم بتمثيل الإرسالية المسيحية. واتفق الطرفان على أن تُقام المناظرة في مكان إقامة الأب هنري مارتن كلارك في أمرتسر، كما اتُّفِق على أن تتناول المناظرة موضوعات: صدق الإسلام، وصدق القرآن، وصدق رسول الله ، وأيضا موضوع ألوهية عيسى بن مريم .

وعلى هذا فإن مهمة كسر الصليب المنوط بها المسيح الموعود ، ليس الهدف منها جرح مشاعر المسيحيين، ولا الاستهزاء بمعتقداتهم، بل الهدف منها هو الدفاع عن المسيح نفسه، وتبرئته من التهمة الشنيعة التي ألصقها به اليهود..

كان عبد الله آتهم واحدا من علماء المسلمين، الذين أسلموا عقولهم للمبشرين المسيحيين، وافتتنوا بضلالاتهم ودعاياتهم، فكان أن دخل المسيحية وصار أيضا من علمائها. ولعل ذلك ساعده في الحصول على وظيفة مرموقة في الحكومة، قضى فيها بعض الوقت حتى بلغ سن التقاعد، ومن بعدها تفرّغ تماما للدعوة إلى المسيحية، فكان يُلقي المحاضرات عن المسيحية، ويكتب المقالات تمجيدا لها ودفاعا عنها، ودعوة للمسلمين الآخرين للدخول فيها. وعلى هذا فقد كان عبد الله آتهم من أنشط الدعاة المسيحيين، الذين ارتفع صوتهم وعلا شأنهم في مجال الدعوة إلى المسيحية.

وقبل انعقاد المناظرة بأسبوعين، كتب سيدنا أحمد إلى عبد الله آتهم، فذكر أن المناظرة قد تكون مجرد مناقشة أكاديمية، وقد يستفيد منها بعض الناس، ولكنها ليست الوسيلة الحاسمة التي تدل على صدق دين من الأديان. ولهذا.. فإنه يقترح أن يتوجه طرفا المناظرة إلى الله تعالى بالدعاء، لكي يُظهر سبحانه من لدنه آية لتأييد الفريق الذي يكون على الحق، ولكن الدكتور كلارك لم يوافق على ذلك الاقتراح. وأثناء عقد المناظرة كرر سيدنا أحمد اقتراحه مرة أخرى، وبينما كان الدكتور كلارك ما زال مصمما على عدم الموافقة.. فإن عبد الله آتهم اتخذ موقفا أكثر ليونة، وذكر أنه رغم تحفظه من عدم اشتراكه شخصيا في الدعاء.. فإنه لا مانع لديه أن يدعو أحمد بما يشاء.

واستمرت المناظرة لمدة خمسة عشر يوما.. تم خلالها كتابة صحائف طويلة في الاجتماعات التي عُقدت بين الطرفين.. تناولت الموضوعات التي اتفق الطرفان على بحثها في كل يوم من أيام المناظرة. وكان يتم قراءة تلك الصحائف وتبادلها بين الفريقين. وقد ضمّن سيدنا المسيح الموعود آخر صحيفة له الإعلان التالي:

“عندما دعوت الله تعالى بكل تضرع وابتهال، وسألته أن يحكم في هذا الأمر، وقلت إننا لسنا سوى بشر ضعفاء، وبدون حكمك لا نستطيع أن نحقق شيئا.. فأعطاني ربي هذه الآية بشارة منه، مؤدّاها أن الفريق الذي يتبع الباطل عمدا.. من بين الفريقين ويترك الإله الحق ويؤله الإنسان العاجز، فإن مصيره أن يُلقى في الهاوية خلال خمسة عشر شهرا.. باعتبار شهر واحد إزاء كل يوم من أيام المناظرة، وأنه سيلقى ذلا وهوانا كبيرين شريطة ألا يرجع إلى الحق. وأما الذي على الحق.. ويؤمن بالله الحق.. فإنه بذلك سوف ينال الإكرام …. والآن فإني أسأل المندوب المحترم (أي عبد الله آتهم) أنه إذا تحققت هذه الآية فهل تقبلها كدليل قاطع وكنبوءة من لدن الله تعالى ظهرت بحسب رغبتك أم لا؟ ألا تكون حينئذ برهانا قويا على أن رسول الله ، الذي وصفتَه في كتابك “أندروناي بايبل” بأنه الدجّال، إنما هو رسول صادق؟” (الحرب المقدسة، الخزائن الروحانية ج6 ص291-293)

كان لتلك الكلمات أثرا مفزعا كوقع الصاعقة على عبد الله آتهم، وكأن يدا خفية من ظهر الغيب قد ألقت في قلبه رعبا قاتلا، فانتابته رعدة لم يستطع إخفاءها عن أعين الموجودين، وشحب لون وجهه وأصابته غُصّة، فرفع يديه بمحاذاة أذنيه علامة الاستسلام، وأخرج لسانه وحرك رأسه كعادة أهل البلاد، ليبين أنه لم يكن يقصد الإساءة إلى رسول الإسلام، ثم كرر نطق الكلمات: “إنني أتوب.. إنني أتوب.. إنني لم أقصد أبدا توجيه أية إهانة، ولم أصف النبي مطلقا بأنه دجّال.”

(Mirza Ghulam Ahmad of Qadian, by Iain Adamson. Elite International Publication Ltd. Page 83 Ed. 1989)

وبعد انتهاء المناظرة انزوى آتهم تماما واختفى من الحياة العامة، ولم يُلق أي محاضرة أو خطاب عام، ولم يكتب كلمة واحدة ضد الإسلام أو ضد رسول الإسلام . وكان ينتقل للإقامة من مكان إلى مكان، وأصيب بهَوَس ورعب من بعض الخيالات التي كانت تطارده، واستولى عليه إحساس بالخوف من الموت، وكانت تلك الخيالات والأوهام تسبب له عذابا شديدا ورعبا قاتلا. واستمر الحال كذلك إلى أن انقضت مدة الخمسة عشر شهرا.

وبعد انقضاء تلك المدة.. بدأ بعض الناس يثيرون الاعتراضات ضد سيدنا أحمد ، ويتهمونه بأن نبوءته لم تتحقق.. وهي تلك التي ذكرها عن هلاك عبد الله آتهم في خلال خمسة عشر شهرا، باعتبار أنه هو الفريق الذي يتبع الباطل. ونسي هؤلاء أن النبوءة كانت مشروطة بالشرط: “إذا لم يرجع إلى الحق”. وقد أقر آتهم علنا أمام الناس أنه قد تاب، وأنه لم يكن يقصد الإساءة إلى الإسلام أو إلى رسوله الكريم ، وأنه خلال الخمسة عشر شهرا امتنع تماما عن إلقاء الخطب، ولم يتفوّه بكلمة واحدة ولم يخط حرفا واحدا بيديه، لا ضد الإسلام ولا دفاعا عن المسيحية، بل إنه انزوى تماما عن الحياة العامة. كذلك نسي المعترضون رحمة الله الواسعة التي تنال المذنب الآثم، إذا توقف عن ارتكاب الإثم وتاب إلى الله تعالى، حتى ولو كانت تلك التوبة توبة مؤقتة يعود بعدها الآثم إلى ارتكاب الإثم مرة أخرى. ولكن البشر يحكمون على الأمور بمنظارهم الضيق.. فما كادت الشهور الخمسة عشر تنقضي، وعبد الله آتهم ما زال على قيد الحياة، إلا وأقاموا الضجيج والاعتراض على أن النبوءة لم تتحقق، رغم أنهم رأوا كيف كان آتهم يعاني من الخوف والرعب، وينتقل للإقامة من مكان إلى مكان كالفأر المذعور، ورغم أن النبوءة كانت مشروطة بالرجوع إلى الحق.

وفي 5 سبتمبر (أيلول) عام 1894 أصدر الإمام المهدي منشورا أتبعه بمنشور آخر بعد أربعة أيام، شرح فيه خلفية الظروف المحيطة بالنبوءة التي كان قد أعلنها عند نهاية المناظرة، وذكر أن إقرار آتهم بالتوبة أمام الملأ عند سماعه النبوءة، وموقفه السلبي الغير فعّال بعد ذلك الذي لم يتلفظ فيه بكلمة أو بحرف واحد، ضد الإسلام أو دفاعا عن المسيحية طيلة مدة الخمسة عشر شهرا، ليدل بدلالة واضحة على أنه قد رجع إلى الحق، وغيّر من مسلكه تجاه الإسلام. وذكر سيدنا أحمد أنه إن لم يكن ذلك صحيحا.. فليتقدم عبد الله آتهم ويُعلن هذا ويُقسم على ذلك، فإن فعل.. فإنه حتما سوف يلقَى الموت في خلال عام واحد من يوم إعلان قسمه. وأضاف سيدنا أحمد أنه إذا أقسم آتهم على أنه لم يرجع إلى الحق، ثم بقي رغم ذلك على قيد الحياة بعد مرور اثني عشر شهرا.. فإن سيدنا أحمد سوف يدفع له مكافأة قدرها ألف من الروبيات، كاعتراف منه وإقرار بالهزيمة.

لم ينطق عبد الله آتهم بحرف، ولم يرد على إعلانات المسيح الموعود .. لا بالرفض ولا بالقبول. حينئذ أرسل سيدنا أحمد خطابات بريدية مسجلة إلى كل من عبد الله آتهم، والأب الدكتور هنري مارتن كلارك، والأب عماد الدين، يدعو فيها آتهم أن يحلف اليمين، ويطلب من الأب كلارك والأب عماد الدين أن يُقنعاه بذلك. وقد كتب الدكتور كلارك يقول إن آتهم ليس على استعداد لأن يحلف اليمين. حينئذ نشر سيدنا أحمد إعلانا آخر بتاريخ 20 سبتمبر (أيلول) عام 1894، يدعو فيه آتهم أن يحلف اليمين، ووعده بجائزة قدرها ألفان من الروبيات إذا حلف اليمين. وأرسل آتهم خطابا إلى سيدنا أحمد يقول فيه إنه مازال مسيحيا وإنه لا يؤمن بالإسلام. فأصدر سيدنا أحمد منشورا آخر بتاريخ 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1894، رد فيه على كثير من الاعتراضات التي أثارها بعض الناس، ثم تحدى آتهم مرة أخرى أن يُقسم في اجتماع عام بأنه خلال الخمسة عشر شهرا لم يُغير مسلكه بتاتا تجاه الإسلام.

ولم يرُد آتهم على ذلك التحدي أيضا، إلا أنه كتب في صحيفة “نور أفشان” الصادرة بتاريخ 10 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1894، وهي صحيفة مسيحية، أنه من غير المسموح به أن يحلف اليمين إلا في الأمور المتعلقة بالقضايا التي تُنظر أمام المحاكم، وأنه لا يستطيع أن يحلف اليمين في أية مناسبة أخرى. واعترف بأنه قد اعتراه الخوف في خلال مدة الخمسة عشر شهرا، ولكنه ادّعى أن ذلك الخوف كان بسبب خشيته من أن يُدبر مرزا غلام أحمد أو أحد أتباعه أمر مقتله.

وأصدر سيدنا أحمد منشورا آخر في 27 أكتوبر (تشرين الأول)، أكد فيه على أنه لا هو.. ولا أحد من أتباعه.. يهتم بمقتل آتهم، لأن هذا أمر يتقرر في السماء، ولا يكون من تدبير البشر. وقد ضاعف المكافأة المعروضة على آتهم إلى أربعة آلاف روبية، وذكر كذلك أن حلف اليمين في سبيل الله تعالى أمر لا يتعارض مع التعاليم المسيحية، وأضاف أن الله تعالى لن يترك آتهم طويلا دون عقاب، حتى ولو لم يحلف اليمين، لأنه حاول أن يخدع العالم بصمته وبإصراره على رفض القسم.

وفي 13 سبتمبر (أيلول) عام 1895 نشرت صحيفة “نور أفشان” المسيحية مقالا، ذكرت فيه أنه قد انقضى اثنا عشر شهرا وما زال آتهم على قيد الحياة. ورغم أن الصحيفة تعلم جيدا أن مدة الإثني عشر شهرا تبدأ منذ أن يحلف آتهم اليمين، وحيث إنه لم يحلف فليس هناك مدة محددة، غير أن هذا كان أسلوب المبشرين المسيحيين، الذين يريدون أن يثيروا العامة ضد المسيح الموعود بألاعيبهم الملتوية، وفي نفس الوقت يظهرون بمظهر الساذج الذي يريد أن يستفسر فقط عن سبب عدم هلاك آتهم. والعجيب أن الكثير من المسلمين يقعون ضحايا هذا الشَرَك والخداع، ويُصدقون الدعايات المسيحية، وينساقون وراءها بدون تدبر وبغير تفكير. وقد أصدر المسيح الموعود منشورا للرد على هذا المقال، يقول فيه إنه لم تتحدد أي فترة زمنية لنُزول العقاب على آتهم، حيث إنه لم يحلف اليمين كما طُلب منه.

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 1895 تحدث أحد المبشرين المسيحيين.. واسمه فتح مسيح.. إلى أحد أصحاب أحمد ، وقال إن آتهم لم يحلف اليمين لأن أحمد ليس من رجال الدين الرسميين، وليس له سوى حفنة من الأتباع. وفي الحال أصدر سيدنا أحمد منشورا آخر، دعا فيه فتح مسيح أن يحدد العدد الذي يُقنع آتهم بحلف اليمين، وإذا أراد التماسا موقعا عليه من ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من المسلمين، فإنه على استعداد لترتيب ذلك بشرط إقناع آتهم أن يحلف اليمين.

ولكن بالطبع لم تكن هذه غير محاولة أخرى للاصطياد في الماء العكر، من جانب المبشرين المسيحيين في محاولتهم لنشر تلك الأفكار بين المسلمين.. للإقلال والحط من مقام وشأن المسيح الموعود .. زاعمين أنه ليس سوى رجل بسيط لا شأن له، وليس له سوى حفنة صغيرة من الأتباع، وبالتالي فكل ما يفعله أو يقوله يجب ألا يؤخذ على محمل الجد، أي بمعنى آخر.. يجب ألا يستمع الناس لمرزا غلام أحمد ولا يصدق أحد كلامه.

ورغم كل المحاولات المتكررة لإقناع آتهم بحلف اليمين، فإنه أصر إصرارا عنيدا على موقفه ولم يتزحزح عنه، مما يدل على أن الرعب كان يعتريه خَوْفًا وفَرَقًا من العقاب الإلهي، وفزعا من أن يقصف الموت عمره إذا حلف اليمين كذبا. ومع هذا فقد دهمه الموت فجأة فمات قبل مرور سبعة أشهر في فيروزبور، ودفن هناك غير مأسوف عليه.

كانت المناظرة التي عُقدت بين المسيح الموعود وبين عبد الله آتهم فرصة كبيرة للكشف عن خواء وزيف الادعاء القائل بألوهية يسوع كما تنشره الكنيسة المسيحية. كذلك فقد أتاحت المناظرة المجال للدفاع عن الإسلام وشرح جمال عقائده ومنطقية تعاليمه. وقد تسبب ذلك في نكسة شديدة لمجهودات الكنيسة التبشيرية في كل أنحاء البنجاب، وبالذات في أمرتسر، حيث يرأس الإرسالية التبشيرية فيها الدكتور هنري مارتن كلارك.

وقد وقعت حادثة طريفة خلال عقد المناظرة دبّرها الدكتور كلارك وزملاؤه، ولكن تدبيرهم انقلب عليهم، وجلب لهم الخزي وأصابهم بالخجل، وأوضح أن نظرتهم للأمر كله كانت تفتقد الأمانة والمصداقية، ولم تكن المسألة بالنسبة لهم سوى محاولة للاستهزاء والسخرية بسيدنا أحمد . فقد حدث في أحد الأيام أن دبّر الجانب المسيحي حضور ثلاثة من الأشخاص، أحدهم أعرج، والثاني أعمى، والثالث أصم. ولما بدأ الاجتماع تظاهروا بأنهم يريدون أن يختبروا صدق دعوى المسيح الموعود برؤية آية على يديه. وقالوا إن يسوع كان يشفي الأعرج والأعمى والأصم بواسطة لمسة من يده، وحيث إن أحمد يدّعي أنه هو المسيح الموعود المماثل ليسوع المسيح.. فإنه يستطيع أن يشفي هؤلاء الأشخاص بنفس الطريقة. ثم أضافوا أنهم لتسهيل الأمر على المسيح الموعود، فإنهم قد أحضروا ثلاثة أشخاص حتى يقوم أحمد بشفائهم أمام الناس.

كان المبشرون المسيحيون يتصوَّرون أنهم بهذا التدبير قد أحرجوا المسيح الموعود ، وأنهم قد وضعوه في موقف عصيب لا يستطيع الفكاك منه، وأنهم بهذه الحيلة التي دبّروها قد حاصروه في ركن لا مفر له منه. ولو كان سيدنا أحمد رجلا مدّعيا أو كذابا أو مفتريا على الله لأسقط في يده، ولأخذ يتعلل بعلل واهية، ويعتذر بأعذار تافهة، حتى يخرج من هذا المأزق. ولكن الرجل الصادق الذي يؤيده الله تعالى لا يخاف بأسا ولا رهقا. ولذلك فقد كانت دهشة المبشرين المسيحيين كبيرة حين رد عليهم المسيح الموعود، بكل اتزان ودون أن يعتريه أي حرج على الإطلاق.. وقال لهم إن الأناجيل هي التي تزعم أن يسوع قد قام بتلك المعجزات، وإن تلك الأناجيل نفسها تقول إن أتباع يسوع الذين يؤمنون به يستطيعون القيام بعمل معجزات مماثلة، وحسب نفس هذه الأناجيل.. فإن يسوع بنفسه يقول إنه إذا كان في قلوبهم ولو مثقال حبة خردل من إيمان، فإنهم يستطيعون شفاء المرضى بلمسة من أيديهم، بل إنهم يستطيعون أن يقولوا للجبل أن ينتقل من مكانه فينتقل. وشكرهم سيدنا أحمد على أنهم قد أتاحوا فرصة عظيمة لإثبات صدق دينهم حسب ما يقوله الإنجيل، فإذا كان ما قاله يسوع في الإنجيل صحيحا، وإذا كانوا هم مؤمنين صادقين بيسوع، فإنهم يستطيعون بلمسة من أيديهم شفاء هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين رتّبوا هم بأنفسهم حضورهم في ذلك الاجتماع. أمّا هو.. فلم يدّع بتاتا أن لديه القدرة على شفاء المرضى بلمسة من يده، وعلى ذلك فليس عليه إثبات شيء لم يدّعيه. وقد بُهت المبشرون المسيحيون لرد المسيح الموعود ، وبسرعة راحوا يدبرون أمر التخلص من الرجال الثلاثة الذين كانوا قد أحضروهم من قبل.

بعد انتهاء المناظرة أثيرت الكثير من التساؤلات حول مسلك آتهم تجاه الإسلام، وعما إذا كان قد تأثر فعلا من أثر النبوءة التي أعلنها المسيح الموعود . ولما مات آتهم في 27 يوليو (تموز) 1896 وتبعه موت بانديت ليكهرام في 6 مارس (آذار) 1897 تماما كما سبق أن أعلنه المسيح الموعود بدقة بالغة، أثار ذلك حفيظة كل من الهندوس والمسيحيين. وفي منتصف عام 1897.. ونظرا لتصدي سيدنا أحمد لكل من الفريقين دفاعا عن الإسلام.. كان كل من الفريقين يتحرّق غيظا وسخطا ضد سيدنا أحمد . وسعى هؤلاء بالوقيعة وتأليب المسلمين ضد سيدنا أحمد، واستعملوا جميع الوسائل المتدنية، وغير الشريفة، ليحاربوه ويعزلوه عن الجماهير. وكانت الذمم تُشترى بثمن بخس، وكان الجهّال من المولويين المسلمين فريسة سهلة، يسهل قيادها وتوجيهها من حيث لا يشعرون. ثم كان هناك أيضا المشايخ المتعصبّون، الذين يرفضون أيّ جديد، ولا يتبعون إلاّ ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، حتى ولو كان هذا الجديد هو ما يقول به القرآن ويصرح به رسول الله ، لذلك فقد أفتى هؤلاء بكفر سيدنا أحمد، وأهدروا دمه، وأعلنوا أن اغتياله يُعد عملا عظيما يُدخل مرتكبه الجنة بغير حساب.

وفي هذا الجو المشحون بالعداء الشديد والسخط الحانق على سيدنا أحمد، دبّر الأب الدكتور هنري مارتن كلارك مكيدة للتخلص من سيدنا أحمد، يجلب بها عليه العار والمهانة، ويزيحه من الطريق إلى الأبد، مما يبين بوضوح افتقار أولئك المبشرين المسيحيين إلى التمسك بالمبادئ الأخلاقية السامية، ويدلل على أنهم لا يحملون بين جنوبهم ضميرا يمنعهم من التآمر الدنيء، وارتكاب أحط الأعمال عن طريق استعمال غيرهم من الناس، حتى يظهروا هم بالمظهر البريء والمتحضر.

ولم يُدرك الأب كلارك في ذلك الوقت أنه كان يتآمر ضد مبعوث الله تعالى، الذي وعد سبحانه أن يعصمه ويحفظه ويدافع عنه ويدفع عنه كل أذى، ويهين من أراد إهانته حسب الوحي الذي أنزله على عبده المسيح الموعود والذي يقول:

“إِنِّي مُهِينٌ مَنْ أَرَادَ إِهَانَتَكَ، وَإِنِّي مُعِينٌ مَنْ أَرَادَ إِعَانَتَكَ”

ورغم أن المكيدة التي دبرها الأب كلارك قد لاقت قبولا واستحسانا من أوساط الآرياسماج والهندوس، كما نالت التأييد أيضا من بعض المشايخ المسلمين الذين أعماهم التعصب المقيت، غير أن كل هذا لم يخفف من أثر المهانة الشديدة والازدراء الذي صُبّ على رأس الأب كلارك حين انكشفت مكيدته وانفضحت جريمته. وإليكم ما حدث:

في أول أغسطس (آب) عام 1897، تقدم الدكتور هنري مارتن كلارك بشكوى إلى محكمة قطاع أمرتسر، متهما سيدنا أحمد بأنه قد تآمر على قتله. وتأييدا لهذا الاتهام الخطير.. أحضر شابا مسلما اسمه عبد الحميد ليؤيد أقواله. وأدلى الشاب فعلا بشهادته بعد أن حلف اليمين.. أن مرزا غلام أحمد قد حرّضه على أن يذهب إلى أمرتسر، ويغتال الدكتور هنري مارتن كلارك. وعلى أساس هذه الشهادة.. أصدرت نيابة قطاع أمرتسر أمرا بالقبض على سيدنا أحمد، وأرسلت الأمر إلى نيابة قطاع گورداسپور، الذي تقع فيه قاديان ويقيم فيها المسيح الموعود . وسرعان ما أدركت نيابة أمرتسر عدم اختصاصها، فحوّلت شكوى دكتور كلارك إلى قطاع گورداسپور، وطلبت النيابة إعادة إرسال الأمر بالقبض على سيدنا أحمد، الذي صدر من نيابة أمرتسر، وعدم تنفيذه لانتفاء الاختصاص. ولكن لم يستطع أحد الاستدلال على أمر القبض هذا لإعادته إلى محكمة أمرتسر، فهو لم يصل إلى نيابة گورداسپور، ولا يعلم أحد أين وكيف ومتى ولماذا اختفى ذلك الأمر.

أصدر قاضي قطاع گورداسپور.. مستر إم. دابليو. دوجلاسMr. M. W. Douglas  إخطارا إلى سيدنا أحمد بالمثول أمام المحكمة، لتقرير ما إذا كان الأمر يقتضي حبسه على ذمة القضية. وقد مَثلَ سيدنا أحمد أمام المحكمة في 10 أغسطس (آب)، واستمعت المحكمة إلى شهادة عبد الحميد وبعض الشهود الآخرين. واستمرت تلك الإجراءات حتى يوم 13 أغسطس (آب)، وتبيّن القاضي أثناء ذلك وجود تناقض بين شهادة عبد الحميد أمام نيابة أمرتسر، وبين أقواله التي أدلى بها أمامه. ولم يقتنع القاضي بمصداقية عبد الحميد في أداء الشهادة، واكتشف أن عبد الحميد كان يقيم تحت إشراف الإرسالية المسيحية في مدينة “بطالا”، ولم يكن تحت إشراف سيدنا أحمد. ولما كانت شهادته تتسم بالتناقض، وبها الكثير من الثغرات التي تثير العديد من التساؤلات.. فقد أمر القاضي دوجلاس أن يتولى مدير البوليس التحقيق معه واستجوابه لاستخلاص الحقيقة فيما حدث.

وشكرهم سيدنا أحمد على أنهم قد أتاحوا فرصة عظيمة لإثبات صدق دينهم حسب ما يقوله الإنجيل، فإذا كان ما قاله يسوع في الإنجيل صحيحا، وإذا كانوا هم مؤمنين صادقين بيسوع، فإنهم يستطيعون بلمسة من أيديهم شفاء هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين رتّبوا هم بأنفسهم حضورهم في ذلك الاجتماع.

وبدأ المستر لو مارشاند Mr. Le Marshand مدير البوليس في القطاع التحقيق مع عبد الحميد، وكان قد بدأ يُسجل جزءا من أقواله حين انفجر عبد الحميد باكيا، ووقع على أقدام مستر لو مارشاند، واعترف بأنه قد شهد شهادة زور بناء على تحريض بعض المبشرين المسيحيين، فقد كانوا يحيطون به، ووضعوه تحت مراقبتهم لعدة أيام، ووعدوه ببعض الأموال، ولكن عبد الحميد كان في حالة من البؤس الشديد، بسبب الشهادة التي أدلى بها، حتى إنه فكر في الإقدام على الانتحار.

ولما انعقدت المحكمة.. أعاد عبد الحميد الإدلاء بأقواله، وذكر الحقيقة كاملة، وأرشد عن الذين حرّضوه، فاتجهت أصابع الاتهام إلى الأب الدكتور هنري مارتن كلارك. وهكذا استطاع القاضي دوجلاس أن يكشف هذه المؤامرة التي دبّرها المبشرون المسيحيون، وأدرك أن التهمة الموجهة إلى سيدنا أحمد تهمة باطلة ولا أساس لها من الصحة، وعلى هذا فقد قضى برفض الدعوى، وأعلن براءة ساحة سيدنا أحمد . وأخبره أنه من حقه أن يتقدم بشكوى إلى المحكمة ضد الدكتور مارتن كلارك، للاتهام الباطل المزيف الذي وجهه له. ولكن سيدنا أحمد.. بكل عزّة وترفع وكرامة الأنبياء.. أجاب بأنه ليس لديه أية رغبة لأن يشتكي الدكتور كلارك أمام أية محكمة أرضية، وإنما شكواه مرفوعة أمام محكمة السماء، بين يدي القاضي الأعظم .

وقد مات الدكتور كلارك فجأة أيضا قبل مرور ثلاث سنوات على هذه الواقعة وذلك في 16 مايو (أيار) عام 1900 فذهب حيث سبقه القس عبد الله آتهم من قبل، غير مأسوف عليه هو الآخر.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك