الصبغة الإلهية
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِن اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(139)

شرح الكلمات:

صبغة– الصبغة: الملة؛ الدين؛ الفطرة؛ الصباغ أي دباغ الجلد(الأقرب). فتعني “صبغة الله”: اختاروا دين الله؛ أو اتبعوا الطريق الذي هداكم الله إليه؛ أو اتبعوا الفطرة التي وهبكم الله إياها.

التفسير:

لقد وردت هنا كلمة “صبغة الله” كمفعول به. من أساليب اللغة العربية حذف الفعل في بعض الأحيان إغراء في شيء. وهنا أيضا حُذِفَ فعل “اتبعوا” قبل كلمة “صبغة الله”، والتقدير: اتبعوا صبغة الله. والمراد: عليكم اتباع دين الله بغض النظر على من نزل هذا الدين، أو إلى أي شعب ينتمي. فما دام التعليم قد جاء من عند الله تعالى وهو ربكم وربنا فيجب ألا يكون لديكم عذر يمنعكم من قبول دين جاء منه، لأن النجاة محصورة في أن يتبع الإنسان دينًا جاء من عند الله. هذا باعتبار “الصبغة” بمعنى الدين.

وإذا اعتبرنا الصبغة بمعنى الملة أي الطريق فالمراد أن الإنسان يكون على خير ما دام يتبع الطريق الذي عيّنه الله له، ولكنه إذا ترك طريق الله واتبع أهواء نفسه واختار سبيلا غير سبيل الله أهلكته أهواؤه وألقته في هوة الدمار.

وإذا أخذنا الصبغة بمعنى الفطرة فالمعنى أن على الإنسان أن يفصل في الخلافات على ضوء ما تمليه عليه فطرته، فقد جعل الله فطرة كل إنسان طاهرة، وهي تساعد كثيرا على معرفة الصدق والحق. ولكن هذا لا يعني أن الفطرة الصحيحة تغني عن الدين؛ كلا، وإنما هي وسيلة لمعرفة الدين الصحيح. ولو كانت فطرة أحد قد مُسخت بيده فإنه لا يستطيع معرفة الدين الحق. ومثال الفطرة الصحيحة أن يأتي إلى المرء خطاب صديق له فيضع المنظار على عينيه لقراءته. ولكن إذا وضع المنظار على عينيه دون أن يقرأ الخطاب لعُدَّ من الحمقى. فالدين كالخطاب المرسل من عند الله تعالى، والفطرة الصحيحة كالمنظار. فكما أن الخطاب هو الأصل، والاستغناء عنه اكتفاءً بالمنظار يدل على الجهل…كذلك كل من يعتبر نفسه في غنىً عن الدين مكتفيا بالفطرة السليمة فهو أيضا أحمق.

ومن معاني”صبغة الله” الاصطباغ بصبغته، فالمعنى أن عليكم أن تتصفوا دائما بالصفات الإلهية، وتنظروا باستمرار هل أصبحتم مظاهر لصفات الله أم لا؟

الحق أن الإنسان لم يُخلق إلا للاتصاف بصفات الله وأن يكون مظهرا لها. وقد أودع الله الفطرةَ الإنسانية استعدادا لهذا الغرض . ليس هناك إنسان يستطيع القول إنه ليس عنده الاستعداد ليكون مظهرا لصفة الربوبية أو الرحمانية أو الرحيمية أو المالكية. وهناك حديث يشير إلى هذا المعنى فيقول الرسول “خَلق الله آدم على صورته” (البخاري، الاستئذان). والظاهر أن الله تعالى ليست له صورة مادية، ولا يقول الإسلام بذلك. فالمراد من الحديث أن الله قد أودع آدم استعدادا وصلاحية ليكون مظهرا لصفاته جل وعلا، فلا يمكن لإنسان أن يقول إنه لا يستطيع أن يكون مظهرا لصفات الله. بل كما أن الله ستّار وشكور ووهاب ورزاق..كذلك يمكن للإنسان أن يكون في دائرته واستطاعته ستارا وشكورا ووهابا ورزاقا.

والحق أنه بحسب الوجهة الإسلامية..لا يمكن أن يحظى أحد بقرب الله ما لم يكن مظهرا لصفاته تعالى، وما لم يكن بينه وبين الله مشابهة ومشاركة من نوع ما، وما لم يصطبغ بصبغته. انظروا إلى الحشرات كيف أنها تتلون بلون الأشجار التي تقع عليها وتعيش فيها. انظروا إلى الفراشات كيف أنها تتخذ ألوان الأزهار التي تحوم حولها وتقف عليها. فهل نحن أضعف حولا من هذه الحشرات، وهل ربنا أقل شأنا –والعياذ بالله- من هذه الأشجار الأزهار؟ أهذه الحشرات والفراشات تتلون بلون الأغصان والأزهار … ولكن عباد الله إذا اقتربوا من ربهم فإنهم لا يمكن أن يتلونوا بلونه ويصطبغوا بصبغته؟ الحق أن سوء الظن الناشئ من قلب الإنسان هو الذي يجعله خائبا وخاسرا. يخبرنا النبي أن ربي قال”أنا عند ظن عبدي بي” (مسلم، الذكر)، سوف أعامل عبدي كما يظن فيَّ. فالذين لا يكون في قلوبهم إحساس بعظمتهم وإيمان بربهم لا ينالون شيئا؛ ولكن الذين يعرفون أن الله تعالى أعزهم وأكرمهم وأودعهم قوى خارقة ويوقنون أن ربهم رحيم، وأنه سوف ينعم عليهم نعما جزيلة عظيمة فلا يبقون فارغي الوفاض، بل ينالون نصيبهم منها بحسب جهادهم ويقينهم.

فالله تعالى ينبهنا أنه لا بد لكم في هذه الحياة الدنيا من أن تصطبغوا بصبغة أحد ما.. وما دام الحال هكذا فإننا ننصح ألا تصطبغوا بصبغة أهليكم أو أصحابكم أو أبنائكم أو أساتذتكم أو بيئتكم أو حكومتكم..بل عليكم أن تصطبغوا بصبغة إله واحد..فصِلتُكم به هي الذريعة لنجاتكم.

قوله(ومن أحسن من الله صبغة)يعني: من الذي يكون صبغته فيكم أجمل وأبهى من صبغة الله؟ إنكم إذا اتخذتم ألوانه-سبحانه وتعالى- فلن تكون أشكالكم منفرة كالمهرِّجين، وإنما تكون صوركم من أروع الصور التي تراها الدنيا فتبهرها، وسوف يشرفكم بكلامه، ويفتح عليكم أسرار غيبه، ويمتعكم بنعم غير عادية.

أتذكر مرة أنني ذهبت إلى “دلهي” فقابلني هناك عالم كبير من علماء الرياضيات –هو البرفسور مولر، وقال لي أثناء الحديث إنه وبعض أصحابه من العلماء الكبار في نيويورك قد توصلوا في أبحاثهم وتحقيقاتهم إلى أن هناك مركزًا لكل هذا الكون تدور حوله الشمس وغيرها من ملايين الأجرام السماوية، وأضاف قائلا: إن نظريتي تقول إن هذا المركز هو الإله. وكأنه أراد القول بأن العلم كان من قبل يرفض وجود إله للكون، ولكننا أثبتنا بهذا البحث وجود مركز يتحكم في نظام الكون، وأن هذا المركز هو الإله.

فالله تعالى ينبهنا أنه لا بد لكم في هذه الحياة الدنيا من أن تصطبغوا بصبغة أحد ما.. وما دام الحال هكذا فإننا ننصح ألا تصطبغوا بصبغة أهليكم أو أصحابكم أو أبنائكم أو أساتذتكم أو بيئتكم أو حكومتكم..بل عليكم أن تصطبغوا بصبغة إله واحد..فصِلتُكم به هي الذريعة لنجاتكم.

فقلت له:إنني لا أعترض على بحثك هذا، فهناك مركز لهذا الكون، بل إن القرآن أيضا يقول إن هذا الكون يجري في ظل نظام وأن له مركزا، ولكن ليس صحيحا أن هذا المركز هو الإله. وسبب ذلك أن الله تعالى يشرفني بإلهامات، ويطلعني على أسرار من الغيب، ولو كان هذا المركز هو الإله –كما تقول..فأخبرني هل يستطيع هذا المركز أن يخبر أحدا بالغيب عن طريق الإلهام؟ فقال: لا. لا يلقي هذا المركز بأي إلهام. قلت: فكيف أقبل أن هذا المركز هو الإله؟ إنني بتجربة شخصية أعلم أن الله تعالى يحدثني ببعض الأمور الغيبية التي تتحقق في ميعادها، بعضها في مدى ستة أشهر، وبعضها في سنة، وبعضها في سنتين، وبعضها في أكثر، وهذا يثبت أن الإلهام الذي تلقيتُه كان من عند الله تعالى.ثم ضربت له مثالا وقلت: أخبِرني، هل هذا المركز الذي تعتبره إلها يستطيع أن يخبر أحدًا من وراء الغيب أن أميركا سوف ترسل إلى بريطانيا في الحرب العالمية معونة طيران قدرها 2800 طائرة مقاتلة؟ وكنت أشير بذلك إلى الرؤيا التي رأيتها في الحرب العالمية السابقة التي أخبرني الله أثناءها أن أمريكا سوف تُمِدُّ بريطانيا بهذا المدد. بل إن الله تعالى أطلعني على كلمات البرقية نفسها، ورأيت أن المسؤول البريطاني يرسل إلى بلده برقية جاء فيهاThe American government has delivered 2800 aeroplanes to the British government. وبعد شهرين بالضبط من هذه الرؤيا أرسل المسئول البريطاني برقية من أمريكا تحمل نفس هذه الكلمات. ثم أُرسل هذا العدد من الطائرات إلى بريطانيا من أمريكا.

قال لي البر فسور: هذا المركز الكوني لا يمكن أن يتنبأ بمثل هذه الأنباء. فقلت له: إذن لا بد من الاعتراف أن هناك إلها غير هذا المركز، وهو إله هذا المركز وآلاف مثله من المراكز، إنني بتجربتي الشخصية أعرف أن الله تعالى ينـزل على عباده كلاما يشتمل على كثير من الأنباء الغيبية. لك أن تعتبر هذا المركز هو الإله، ولكننا نطلق اسم الإله على ذات عليم خبير، ونعرف أنه ذو القدرة؛ وذو الجلال؛ وذو الجمال؛ وذو العلم؛ وذو الحكمة؛ وذو البسطة؛ وهو محيٍ؛ مميت؛ حليم؛ مهيمن؛ وهاب؛ غفور؛ شكور؛ ودود؛ كريم؛ ستار… وله غيرها من الصفات الحسنى. فما دامت هذه الصفات غير موجودة في هذا المركز الذي تتحدث عنه، ومن ناحية أخرى إننا نتلقى الإلهام من ذات تتجلى بصفاتها على الدنيا من طريق كلامها.. ومع أن العالم كله يعارض كلامه ويخالفه فإن كلامه يتحقق.. فكيف يمكن بعد هذه التجربة الشخصية أن نقبل نظريتك؟

قال: إذا كانت هذه الأمور صحيحة صادقة فلا بد من اعتبار نظريتنا خاطئة، لأنه بعد وجود هذا الكلام والإلهام لا يمكن لنا القول بأنه ليس هناك إله يتحكم في هذا المركز وهذا الكون كله.

فبقوله”صبغة الله” ينصح الله الإنسان أن يكون مظهرا لصفاته، أو أن يصطبغ بصبغته وهذا هو الهدف والغاية من خلق الإنسان، وهذا هو المدار لنجاته وتقربه إلى الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك