التيسير في الصيام
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (188)

شرح الكلمات:

الرفث: كلام يتضمن ما يُستقبح ذكره من أمور الجماع ودواعيه، وجُعل كناية عن الجماع (المفردات).

اللباس– اللباس أصلا هو الستر، أي ما يستر ويخفي ويغطي، ولكن القرآن بيّن له معاني أخرى. ففي سورة الأعراف ذكر فائدتين للباس (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا) (الأعراف: 27) فكأن اللباس سترٌ للعورة وزينة للمرء. ثم ذكر فائدة أخرى فقال (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) (النحل: 82). فاللباس أيضا للوقاية من ضرر الحر والبرد والبأس.

تختانون – افتعال من خان يخون. يقال اختانه اختيانا: أُؤتمن فلم ينصح. وخان العهد: نقضه (الأقرب).

عفا-عفا عنه، وله، وعن ذنبه: صفح عنه وترك عقوبته وهو يستحقها، وأعرض عن مؤاخذته. عفا الله عن فلان: محا ذنوبه. وقد يُستعمل دعاء عفا الله عنكم فيما لم يسبَق ذنب ولا يُتصور منه ارتكاب الذنب (الأقرب).

باشِروهن– باشر الأمر: تولاه بنفسه. وباشره النعيم: أفاض عليه حتى كأنه مسَّ بشرته (الأقرب). المباشرة: الإفضاء بالبشرتين وَكُنِّيَ به عن الجماع (المفردات).

عاكفون– الاعتكاف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم (المفردات).

التفسير:

يقول الله إنه يجوز لكم أن تعاملوا زوجاتكم في ليالي الصيام بدون تكلف، لأنهن لباس لكم وأنتم لباس لهن.

وكما سبق ذكره، فإننا نعرف من القرآن ثلاثة منافع للباس: ستر العورة والزينة والوقاية من الحر والبرد، ومن الحرب باستخدام الدروع. فبقوله تعالى (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) بيّن كيف ينبغي أن تكون العلاقات بين الزوجين. قال: يجب أن يكون الزوجان كاللباس لبعضهما البعض دائما. أي أولا –أن يستر كل واحد عيوب الآخر. ثانيا –أن يكون زينة له. وثالثا –أن يكون عونا للآخر في ساعات العسر وسببَ سكينة وطمأنينة في حزنه وقلقه. فكما أن اللباس يحفظ الجسم ويحميه من تأثيرات الحر والبرد والحرب.. كذلك يجب أن يكون كل واحد من الزوجين محافظا على الآخر. انظروا إلى نموذج السيدة خديجة رضي الله عنها.. كيف أنها بعد زواجها من النبي قدمت إليه كل مالها على الفور حتى لا يعاني أي صعوبة من قلة المال. وليستمر في أعمال خدمة الخلق بكل طمأنينة وسكينة. ما أعظمه وأروعه من نموذج قدمته لتحسين الحياة الزوجية وتوطيدها.

قوله (عَلِم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) يعني أن الله يعرف جيدا أنكم كنتم تتلفون حقوق أنفسكم ولا تؤدونها، فالآن قد تفضل عليكم وأصلح حالكم.

الحقيقة أن الله أشار بذلك إلى ما كان الصحابة يكنونه من حب وعشق للعبادة وذكر الله. فلما رأوا بركات رمضان، وأن الله ينزل من السماء إلى الأرض في هذه الأيام المباركة ويمطر على عباده أنواره وبركاته.. أرادوا أن يبيتوا ليالي رمضان في ذكر الله وعبادته وأن يترفعوا عن العلاقات الجنسية. كما فرضوا على أنفسهم قيودا لا داعي لها فيما يتعلق بالطعام والشراب. فقد ورد في الحديث عن البراء أنه – قبل نزول هذه الآية – كان إذا نام أحد من الصحابة وقت الإفطار لم يتناول شيئا طوال الليل ولا في السحور حتى يحل مساء اليوم القادم. ومرة كان أحد الأنصار صائمًا، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ وأطلب لك. وحيث إنه كان يعمل طوال يومه، فقد غلبته عينه فجاءت امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غُشِيَ عليه. فذُكر ذلك للنبي فنـزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام …. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (البخاري، الصوم).

يجب أن يكون الزوجان كاللباس لبعضهما البعض دائما. أي أولا –أن يستر كل واحد عيوب الآخر. ثانيا –أن يكون زينة له. وثالثا –أن يكون عونا للآخر في ساعات العسر وسببَ سكينة وطمأنينة في حزنه وقلقه. فكما أن اللباس يحفظ الجسم ويحميه من تأثيرات الحر والبرد والحرب..

الواقع أن هذه القيود التي فرضها المسلمون على أنفسهم كانت نتيجة لبعض التقاليد اليهودية. فاليهود إذا صاموا يوم الكفارة صاموا من الصبح إلى الصبح التالي (الموسوعة اليهودية، ج5،كلمة Private Fasts). وتقليدا لليهود ظن المسلمين أيضا أن الإنسان إذا نام فلا يجوز له بعد ذلك أكل شيء، وكذلك لا يجوز للمتزوجين ممارسة علاقاتهم الزوجية خلال رمضان. لقد ظنوا أنه كما يحظر الطعام يحظر عليهم العلاقات الجنسية. يقول الله: لا نفع ولا داعيَّ لهذه المشقة وإنما ينفع الإنسان ويباركه أن يتقيد بما فرضه الله عليه، ولا داعي أن يفرض الإنسان على نفسه قيودًا من عنده، فهذا غير سليم.

قوله (فتاب عليكم وعفا عنكم): أي رحمكم ومنَّ عليكم بهذا التيسير، فوجب عليكم الشكر لله تعالى. والقيام بأعمال الخير بمزيد من الشوق والنشاط.

يتبين من ذلك أن عباد الله المؤمنين عندما يتحملون المشاق ابتغاء مرضاة الله فإن رحمته تجيش وتفور وتهيئ لهم السهولة بشكل أو آخر. وكأن الله يجازيهم على إخلاصهم يدًا بيد.

قوله (فالآن باشِروهن وابتغوا ما كتب الله لكم). هناك فرق بين كتب عليه وكتب له. كتب عليه أي فرض عليه، كتب له أي عيَّن له حقّا أو جائزة، وتعني مجازا قدّر له وقضى، فالمعنى: ابتغوا ما جعله الله لكم حقا، وافعلوا ما لم يحرمه الله عليكم بل أجازه لكم، ولا داعي لتركه. أو ابتغوا ما قدّره الله لكم من أولاد، واتبعوا السبيل الذي قرّره لكم للحصول عليهم.

وأيضا يعني قوله (وابتغوا ما كتب الله لكم): اسعوا جاهدين في طلب ما قدّره لكم من بركات في هذا الشهر. إن عادتكم السابقة المتسببة في ضياع حقوقكم كان الممكن أن تُلحق بأجسامكم ضررا يمنعكم من تحمل المشقة وبذل المجهود، ولكن الله قد تدارك هذا الأمر وحمى أجسامكم من مشقة لا داعي لها. فمن واجبكم أن تشمروا وتسعوا لنيل رضوان الله تعالى، وتبحثوا عن تلك الدرجات العالية التي قدرها الله لكم في رمضان.

قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يعني كلوا واشربوا إلى أن يتضح خيط الصبح من خيط الظلام جليّا.

يتبين من الحديث الشريف أنه عندما نزلت هذه الآية كان بعض الصحابة يحتفظون بخيط أبيض وخيط أسود ظنًا منهم أن لهم أن يأكلوا ويشربوا إلى أن يستطيعوا التمييز بين الخيطين، فقد ورد أن عدِيًا جاء مرة إلى النبي وقال له: “يا رسول الله، جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ، أعرف الليل من النهار، فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار”(البخاري، الصيام). كذلك كان هنا آخرون منهم يحتفظون بالخيط الأبيض والأسود، وكانوا لا ينفكون يأكلون ويشربون حتى يظهر لأعينهم الفرق بين الخيطين.. إلى أن أنزل الله كلمة (من الفجر)، فأدركوا أن ليس المراد خيطين ماديين، وإنما المراد أن يتضح الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب. وفي بلدنا البنجاب هناك بعض الفلاحين الذين يحتفظون بالخيطين الأبيض والأسود، ولما كان الإنسان لا يرى الخيط إلا في ضوء كافٍ لذلك يستمرون في الأكل والشرب إلى أن يسطع ضوء النهار، ولما كان منهم من هو مصاب بضعف البصر فمن الممكن أن يستدل بعضهم من ذلك على جواز الأكل والشرب حتى بعد طلوع الشمس حين يتمكنون من التمييز بين الخيطين.

فهذا التعبير على سبيل المجاز، وإنما المراد ألا تتركوا الأكل والشرب بناء على الوهم وتقولوا لعل الصبح قد طلع، بل لكم أن تأكلوا حتى يتبين الفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب.

وفي قوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل) لا يعني الليل الظلمة الشديدة، وإنما المراد هو غروب الشمس. فقد ورد في الحديث أن النبي قال: “لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر ” (مسلم، الصيام).. أي ما دام الناس يبادرون إلى الإفطار بمجرد غروب الشمس فسيبقون بخير.. أي تبقى فيهم الروح الحقيقية للأحكام الإسلامية الصحيحة، أما إذا وقعوا في اتباع التقاليد والأوهام فإنهم يغفلون عن الفرائض، وتدفعهم أوهامهم إلى دوار يتخبطون فيه إلى ما طائل منه.. ويشبهون في ذلك شخصا ينوي الصلاة، فيمد يده ليمس كتف الإمام ويقول: نويت أن أصلي خلف هذا الإمام؟ ثم بالتدرج يتقدم إلى أن يدفع الإمام دفعا ويقول: وراء هذا الإمام أصلي! هؤلاء الذين يصبحون فريسة للأوهام ينتظرون أولا مغيب الشمس، ولكن ما داموا يرون الشفق الأحمر في السماء فإنهم لا يطمئنون.. وينتظرون وقتا أطول حتى تخيم الظلمة الشديدة فيفطرون. هذا الطريق مخالف للشرع. يقول الله تعالى (أتموا الصيام إلى الليل ووقت الليل يبدأ من مغيب الشمس، فلا يعني ذلك أن تنتظروا إلى الظلمة الشديدة كي تفطروا).

وقوله (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد). هناك اختلاف في الرأي عما إذا كان هذا النهي عن جماع النساء بسبب الاعتكاف أم لحرمة المساجد. (التفسير الكبير، الرازي). أرى أن هذا النهي ليس بسبب الاعتكاف، وإنما لحرمة المساجد. ويشير إلى ذلك قوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد).

ولْنتذكر أن المباشرة تعني أيضا مجرد اللمس. والثابت من الحديث أن السيدة عائشة –رضي الله عنها–كانت تغسل رأس النبي ، وتمشط شعره وهو معتكف في المسجد (البخاري، الصوم). فالنهي هنا إنما هو عن العلاقات الخاصة بين الزوجين أو ما يؤدي إلى ذلك، وليس مجرد اللمس.

قوله (تلك حدود الله فلا تقربوها).. أي لا تقربوا هذه الحدود حتى لا تزِلّ قدمكم إلى محارم الله. وقد نبه النبي إلى ذلك صحابته فقال: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ”. (البخاري، الإيمان) فمحارم الله هي حماه، فإذا اقترب منها الإنسان تعرض لخطر الوقوع فيها وارتكاب المحرمات التي توجب غضب الله. فالتقوى الحقيقية أن يتجنب الإنسان الاقتراب من حدود الله حتى لا يُزلّ الشيطان قدمه.

(كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون).. المراد من آيات الله أوامرُه. يقول إن الغرض الحقيقي من أوامر الله هو أن تتولد التقوى فيكم، فيجب أن تضعوا دائما التقوى نصب أعينكم.. فلا تتعدوا حدود الله فحسب.. بل تتجنبوا الشبهات مخافة الزلل والابتعاد عن التقوى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك