النجاح الحقيقي.. القضاء التام  على الشر
  • النبأ عن غلبة التوحيد
  • مصدرية الوحي واحوال الناس
  • إبحار لغوي
  • حجم المسؤولية النبوية
  • المعية النبوية ومسؤوليتنا نحن

___

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (هود: 110)

التفسـير:

يمكن أن تُعتبر (ما) الواردة في قوله تعالى مما يعبد هؤلاء موصولة أو مصدرية بمعنى: فلا تكُ في مريةٍ وشكٍ من الذين يعبدهم هؤلاء، أو من عبادتهم لهؤلاء. فالمراد من الجملة:

أولاً: لا تستغرب من أنه كيف يمكن أن يشرع أحد في عبادة شيء سوى الله تعالى. ذلك أن الإنسان الذي لا يفكر فيما يرثه عن الآباء من عقائد ونظريات، لا يُستبعد منه ارتكاب مثل هذه الحماقة. ونظرًا إلى هذا المعنى لا بد من التسليم أن الآية لا تخاطب من عاشوا زمنَ نزول القرآن الكريم، وإنما تخاطب أهل زمنٍ سوف يمّحي فيه الشرك عن أعين الناس وسوف يُكتب الانتشار والغلبة للتوحيد الخالص، حتى يستغرب المرء عندئذ متسائلاً: هل يمكن أن يعبد الإنسان شيئًا ما سوى الله تعالى. وهكذا تمثّل هذه الآية نبأً عن غلبة التوحيد. والذين كانوا يعيشون في مركز الإسلام في زمن غلبته قد رأوا بأم أعينهم تحقُّقَ هذا النبأ القرآني، بل إن أهل عصرنا أيضًا ليعجبون من العديد من عقائد الكفار المشركين التي تحدث عنها القرآن الكريم.

ثانيًا: وقد يكون المعنى: أيها المخاطب، لا تحسَبَنّ أن هؤلاء سوف ينجون من العذاب، فإنهم يقتدون بآثار الأولين، وما دام الأولون لم ينجوا من العذاب الذي استحقوه فكيف يمكن أن يكون هؤلاء في مأمن منه.

ثالثًا: وقد تعني الآية: أن لا تظنّ بأن شركاءهم الذين يعبدونهم هم الذين أمروهم بما أدّى بهم إلى الشرك. كلا، بل لم يأمرهم أحد بشيء من هذا القبيل، وإنما هي أفكار وأوهام ورثوها عن آبائهم الذين اختلقوها من عند أنفسهم.

وكلمة (غير منقوص) حال مؤكّدة لقوله تعالى إنا لموفّوهم نصيبَهم ، لأن التوفية نفسها تعني أداءً وافيًا كاملاً، فجاء قوله غير منقوص تأكيدًا لنفس المعنى بأنه لا الأولون نجوا من العذاب كجزاء وفاقٍ على ما فعلوه، ولا هؤلاء سينجون منه.

يجب أن لا يغتر أحد بما نعطيهم من مهلةٍ فيظن أنهم سينجون من العقاب. كلا، فإن أعمالهم مسجلة لدينا، كما أن المهلة ليست إلا لمدة محدودة معينة، وسوف يأتي يومٌ تنتهي فيه المهلة فينالون فيه جزاءً وافيًا على ما ارتكبوه من السيئات.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (هود: 111)

التفسيـر:

الآن عند نهاية السورة لفت الأنظار مرة أخرى إلى الموضوع الذي ذكره في مستهلها وقال: إن الوحي كان ولا يزال ينـزل من عند الله تعالى، ولكن الناس لا ينتفعون به. لقد أنزلنا على موسى كتابًا تضمن نبأً عن نزول كتاب سماوي آخر، ولكن الناس نسجوا حول هذا النبأ سياجًا من الشكوك والشبهات غير مكترثين بفداحة جريمتهم، والحق أنه لولا قرارٌ سـبَقَ من جانبـنا لدمّرناهـم على جريمتهم النكراء هذه.

والقرار المشار إليه هو نفسُ ما ذكره في الآيتين التاليتين وما شابههما: وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدونِ (الذاريات: 57) وقوله: ورحمتي وسعتْ كلّ شيء (الأعراف: 157).. أي أن الله تعالى قد خلق العباد ليرتقي بهم ارتقاء روحانيًا، وقد قضى أن يعاملهم برفقٍ ورحمةٍ، ولذلك لا يتعجل عقابَهم على أخطائهم حتى لا يُحرَموا من الرقي الروحاني بل لينالوا الهدى.

وقوله تعالى وإنهم لفي شك منه مريب إشارة إلى أمرين، الأول: إن هذا الكتاب نزل لتطهير الناس من الشكوك والوساوس، ولكنهم عادوا وبدأوا يشكون فيه بسبب أمراضهم الباطنة. والثاني: أنهم بدلاً من أن ينتفعوا ممّا أنزلنا إليهم برحمتنا الواسعة ويكونوا عبادًا لنا شاكرين يقعون فريسةً لشتى أنواع الشبهات حول ما نزل إليهم، ظانين أنه لو كـان هذا كتاباً صـادقًـا فلمـاذا لا يعذّبنا الله على رفضنا إياه؟

وَإِنَّ كُلاَّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (هود: 112)

التفسيـر:

المفسرون لا يختلفون في بيان معنى هذه الآية، ولكن اللغويين منهم قد ذهبوا مذاهب شتّى فيما يتعلق ببيان تركيبها. ويرجع اختلافهم إلى كلمة (لَمّا)، لأنها قد استُخدمت هنا خلافَ الاستخدام الشائع. فهي تُستخدم عمومًا على ثلاثة أوجهٍ: أولها أن تختص بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضياً كقوله تعالى: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم (الجمعة: 4).

وثانيها: أن تختص بالماضي فتقتضي جملتين وُجدَت ثانيتُهما عند وجود أولاهما نحوُ: لَمَّا جاءني أكرمته، وقال ابن جنّي: إنها تكون عندئذ ظرفاً بمعنى (حين)، وقال مالك: بمعنى (إذ).

وثالثها: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الجملة الاسمية نحو: إنْ كلُّ نفسٍ لَمَّا عليها حافظ (الطارق: 5)، كـما تدخل على الماضي لفظاً لا معنىً نحوُ: أُنشِدُك الله لَمَّا فعلتَ أي ما أسألك إلا فِعلَك. (مغني اللبيب).

ونظراً لاستخدامها غير الشائع هذا وقع النحويون في المشاكل حتى قال المبرد: “إنها لحنٌ”. وقال الكسائي: “ما أدري ما وجهُ هذه القراءة” (روح المعاني تحت الآية).

وقال ابن جنيّ: (لَمَّا) زائدة، ولكنه لم يقدم على قوله دليلاً. بينما يرى الآخرون: “أنها مركبة من (لمِن مّا)، فأُبدلت النون ميمًا وأُدْغِمَتْ، فلمّا كثرتْ الميماتُ حُذفت الأولى. وهذا القول ضعيف، لأن حذف مثل هذه الميم استثقالاً لم يثبت”.

“وأضعَفُ منه قول آخر: إن الأصل (لَمَّا) بمعنى جمعًا، من لَـمَّ يلمّ بمعنى جمعَ، كقوله تعالى (وتأكلون التراثَ أكلاً لَمَّا)، ثم حُذف التنوين إجراءً للوصل مجرى الوقف، لأن استعمال (لَمَّا) في هذا المعنى بعيد، وحذف التنوين من المنصرف في الوصل أبعد”. (مغني اللبيب).

وأرى أن أفضل الآراء ما يراه ابن الحاجب حيث يقول: “إنها (لَمَّا) الجازمة حُذف فعلها، والتقدير: لَمَّا يُهمَلوا، أو لَمَّا يُتركوا”. (مغني اللبيب).

مع العلم أن (لَمَّا) تفارق (لم) الجازمة للمضارع في خمسة أمور منها: أن مَنفيَّ (لم) لا يجوز حذفُه بينما يجوز حذفُ منفيّ (لَمَّا) كقول الشاعر:

فجئتُ قبورَهم بدءًا ولـمّاوناديتُ القبورَ فلم يُجبنَهْ

أي زُرتُ قبور أسياد قومنا ولم أكن بعد بدأً (أي سيدًا)، ولكن القوم أخذوا يعتبرونني كبيرًا لهم.

وقد فضَّلَ ابن هشام  رأي ابن الحاجب، إلا أنه يرى أن المحذوف هو (يهملوا أو يتركوا) والتقدير هو: (لَمَّا يوفَّوا أعمالهم) أي أنهم إلى الآن لم يوفَّوها وسيوفَّونها. ويتفق العلامة محمد ابن حيان الأندلـسي أيضًا مع هذا الرأي، ولكـنه يرى أن التقـدير (وإنْ كلاً  لَمَّا ينقصْ من جـزاء عمله) (تفسير البحر المحيط).

والرأي عندي ما يراه ابن الحاجب فإنه ثابت من اللغة ومطابق للقواعد العربية، وأما الآراء الأخرى فإننا لا نخطئها تمامًا نظرًا لما يحتلّه أصحابها من مكانة علمية مرموقة، ولكنها بعيدة عن المألوف وبادية التكلّف.

أما مسألة المحذوف فهي مسألة هامشية وبسيطة، لأن القاعدة في مثل هذه الظروف أن يكون المحذوف ملائمًا للسياق. والمحذوفات الثلاثة التي بيَّنَها أئمة اللغة هؤلاء متقاربة المعنى في الحقيقة، ويمكن أن تختار أيّاً منها، وإن كنت أرى أن ما ذكره ابن هشام أحقُّ  بالترجيح لمطابقته للكلمات القرآنية وتقديره: (وإنّ كلاً لَمَّا يوفَّوا أعمالهم ليوفّينَّهم ربك أعمالهم)، والمعنى هو يجب أن لا يغتر أحد بما نعطيهم من مهلةٍ فيظن أنهم سينجون من العقاب. كلا، فإن أعمالهم مسجلة لدينا، كما أن المهلة ليست إلا لمدة محدودة معينة، وسوف يأتي يومٌ تنتهي فيه المهلة فينالون فيه جزاءً وافيًا على ما ارتكبوه من السيئات.

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير   (هود:113)

شرح الكلمـات:

استقِمْ: استقام الأمر: اعتدل، ويقال: استقام له الأمر، وفي القرآن: (فاستقيموا إليه) أي في التوجه إليه دون الآلهة (الأقرب). واستقامة الإنسان: لزومُه المنهجَ المستقيم (المفردات).

لا تطغوا: طغى يطغى طغًى وطُغيانًا وطِغيانًا: جاوَزَ القَدْرَ والحدَّ. طغى فلان: أسرفَ في المعاصي والظلم (الأقرب).

التفسيـر:

تعلن هذه الآية أن الرسول ليس بمسؤول عن نَفسه وحدها، بل من واجبه أيضًا العمل على إصلاح أتباعه. ونفس هذه المسؤولية تقع على خلفائه والمؤمنين به. والحق أن الإنسان يصاب بالهول بالنظر إلى ضخامة هذه المسؤولية كمًّا وكيفًا. فكمّيتها مذكورة في قوله تعالى فاستقِم و ومَن تاب معك . وأي شك في أن ثبات الإنسان على أوامر الله تعالى دون انقطاع مصطحبًا زملاءه وأصحابه ليس بأمر هيّن أبدًا. وأما كيفيتها ونوعيتها فمذكورة في قوله تعالى كما أُمرتَ . وهكذا تتعاظم هذه المسؤولية لأنه تعالى يأمرنا أن تكون استقامتنا إلى المستوى الذي يريده. وما أشدَّ وما أصعب على الإنسان الضعيف أن يحقق هذا المستوى في العمل بأوامر رب السماوات والأرض.

كما يتضح من الآية أن الاستقامة وحدها لا تنفع الإنسان شيئًا، وإنما تنفعه الاستقامة التي تتفق مع المشيئة الإلهية اتفاقًا كاملاً. يظنّ بعض الناس جهلاً أنهم مواظبون على الصلاة والصوم فلا خوف عليهم. ولكن الواقع أن الصلاة أو الصوم في حد ذاته ليس شيئًا مطلوبا ولا غاية منشودة، وإنما الهدف الحقيقي أن يعيش الإنسان مطيعًا لأوامر الله تعالى، ومنقادًا لمشيئته. بل الحق أن الصلاة أو الصوم نفسه يمكن أن يجعل الإنسان شيطانًا مريدًا إذا قام به خلافًا لحكم الله تعالى، فمثلاً قال النبي “لا يتحرى أحدكم.. فيصلّي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها” (مسلم، الصلاة). كما نهى عن صوم يومين يوم الفطر ويوم الأضحى وقال لا يصوم فيهما إلا الشيطان. فالحق والحق أقول: إنه لا يمكن للإنسان أن يرث أفضال الله تعالى ما لم يكن سلوكه تابعًا للمشيئة الإلهية تمامًا، وما لم يكن رضوانه عزّ وجل هو الحافز لكل عمل يصدر منه.

كما تبيّن الآية أنه لا مناص لمن كان يؤمن بالله ورسوله الكريم من اتّباع أسوته الحسنة، لأن الله تعالى يأمر هنا فاستقِم كما أُمرتَ ومن تاب معك . وهذا يعني أن المقياس الحقيقي لصحة أي عمل هو ما وضعه الله لرسوله وما بيّنه بأسوته الحسنة، وإلا لم يوجّه الخطاب إلى الرسول والمؤمنين معاً في كلمة واحدة فاستقم كما أمرتَ ومن تاب معك ، بل قال: أما من تاب معك فعليه كذا وكذا. وفي هذا تنبيه أن من واجب المؤمنين أن يتأسوا دائمًا بأسوة الرسول الكريم. والواقع أن تحقيق هذا الهدف صعب جداً، وأنه مهما سعى المرء وكدح في سبيل ذلك فإنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من الجهد، لأننا لا نستطيع أن نقول: سنسعى بحسب مستوانا ودرجتنا، والرسول يسعى وفق مقامه ومنـزلته، كلا، بل إنّ الله تعالى يأمر أن يحاول المؤمنون أيضًا الوصولَ ثم الثباتَ على نفس المقام الذي هو مأمور للثبات عليه.

ولكن المؤسف هو أن المسلمين قد أساءوا الفهم والعمل وانحطوا لدرجة أنهم لا يسعون بأنفسهم للوصول والثبات على هذا المقام، وإذا ما منَّ الله على عبد من عباد الله بهذا المقام الأسمى سمّوه كافرًا ودجّالاً. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وقوله تعالى كما أُمرتَ يوضّح أنه لا ينفع الإنسان من أعماله إلا ما كان ملائمًا للموقف. فمثلاً إذا بدأ أحد يرفع ذكر الله باللسان عاليًا في موعد الصلاة بدلاً من أدائها، أو قام بأعمال تحول دون الصوم في أيام الصيام، أو صام في وقت القتال وتخلف عن الجهاد، فلن تغنيه هذه الأعمال شيئًا. لذلك على الإنسان أن يفكر دائمًا ويرى أي الأعمال أفضل في ذلك الوقت وفي ذلك الموقف، ويسعى للعمل بما يلائم المواقف، لأن العمل الذي يتفق مع مقتضى الحال هو الذي يُكسبه رضوان الله تعالى.

إنه لا يمكن للإنسان أن يرث أفضال الله تعالى ما لم يكن سلوكه تابعًا للمشيئة الإلهية تمامًا، وما لم يكن رضوانه عزّ وجل هو الحافز لكل عمل يصدر منه.

إنه لما يثير دهشتي أن أحدًا من المفسرين العصريين ذوي الفطنة الخامدة قد فسّر على ضوء هذه الآية  قولَ الله تعالى ومن يُطِعِ اللهَ والرسولَ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً (النساء: 70)

حيث قال: كما أن الصحابة لا يمكن لأحد منهم أن يصبح “خاتم النبيين” عملاً بهذه الآية من سورة هود، كذلك لا يمكن لأحد من الأمة أن ينال درجة النبوة عملاً بهذه الآية من سورة النساء، كما تزعم الجماعة الإسلامية الأحمدية. (بيان القرآن، الآية).

ولكني أقول: إن “مع” هنا تعني المعيّة في عمل التوبة وليس في “ختم النبوة”. فهل يوجد هناك مدّعٍ واحد يقول بأن الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – ما كانوا تائبين، وإنما كان الرسول هو التائب وحده. فإذا كان الرسول وأصحابه كلهم نالوا درجة التائبين، وإن كان بين توبته وتوبتهم بَون شاسع جدًا، فلماذا لا نقول عن آية سورة النساء بأن كِلا الفريقين سوف ينال النبوة وإن كان بين درجاتهما تفاوت كبير دون شك.

لقد تركتْ هذه الآية في قلب النبي من الوقع والتأثير ما جعله يقول: “الهُود وأخواتها شيّبتني قبل الشيب” (الدر المنثور، سورة هود). ذلك أنه فكّر أن هؤلاء التائبين معه ليسوا مشمولين فيمن هم في زمنه فحسب، بل سوف يكونون في أمته إلى يوم القيامة، فكيف يمكن أن يحمل المسؤولية عن تربيتهم أيضًا. هذا هو التفكير الذي كان يَقُضُّ مضجعه فعجّل إليه الشيب. غير أن الله عزّ وجل قد فَرِح لقلقه وخشيته هذه بحيث كفل له المهمة ووعده بأنه تعالى لا يزال يبعث في هذه الأمة أناسًا يحظون بقربه لاتباعهم خطوات النبي المباركة ويقومون بإصلاح الأمة.

هذا، ويجب أن نفكّر الآن في أنفسنا لنرى ما الذي فعلناه لأداء هذه المسؤولية مقارنةً بما فعله الرسول الكريم ، لأن الله تعالى قد فرض علينا – كما فرض على رسوله – إصلاحَ أنفسنا، والاهتمام أيضًا بإصلاح المؤمنين الآخرين. ويستطيع كل إنسان أن يدرك بأدنى تدبر أن العمل بهذا الأمر الرباني لا يمكن أن يتم بدون نظام كامل، لأن المؤمن يستطيع أن ينصح إخوانه المؤمنين الذين حوله، ولكن يستحيل عليه تفقُّد حال المسلمين جميعًا وتوجيه النصح للمؤمنين القاطنين في مختلف أرجاء العالم، اللهم إلا أن يكون هناك نظام متكامل لهذه المهمة ويكون هذا المسؤول جزءًا منه، وعندئذ سوف يتحقق له ذلك وهو جالس في بيته. وإنه يمكن أن يصبح جزءًا من هذا النظام إذا دعمه بماله أو وقته أو قلمه أو لسانه أو معرفته مساهماً في كل خدمة تتم في إطار هذا النظام. وفي الوقت الحاضر إنما هي جماعتنا الإسلامية الأحمدية التي تمتاز بهذه الميزة، فهي الجماعة الوحيدة التي تقوم بواجب تبليغ الإسلام في شتى بلاد العالم تحت نظام قائم. وعندما يرسل فلاّح بسيط من أفرادها من قرية نائية في  بنجاب أو رجل كادح يقطن جبال أفغانستان وهو يجهل جغرافيتها أقول إن مثل هؤلاء الناس البسطاء حين يرسلون شيئا من دَخلهم إلى صندوق الجماعة فإنهم لا يؤدون بذلك واجبهم الشخصي نحو التبليغ فيما حولهم فحسب، بل إنهم يشتركون أيضًا في الجهود التي تُبذَل لنشر الإسلام في جاوا وسومطرة وأوروبا وإفريقيا وغيرها من البلاد والقارات، وهكذا فإنهم يؤدون – ولو إلى حدٍّ ما – هذا الواجب الذي يفرضه الله عليهم في هذه الآية.

كما أن الآية توجه أنظارنا إلى أهمية توعية الأولاد، ولكن الأسف أن الناس لا يهتمون بهذا الأمر كما ينبغي.

رُوي عن أبي عليّ السرّي قوله: رأيت (أي في المنام) النبي ، فقلت: يا رسول الله، رُوي أنك قلتَ: شيّبتْني هُود؟ قال: نعم. فقلت: ما الذي شيّبَك، قصَصُ الأنبياء وهلاكُ الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله: فاستقِمْ كما أُمرتَ (سُنن البيهقي، شُعب الإيمان).

وقد روى الدارمي وأبو داود في مراسيلهما والبيهقي في شعب الإيمان: قال رسول الله : “اقرأوا هودَ يوم الجمعة” (البيهقي، شعب الإيمان).

وهذا أيضًا يؤكد علاقة هذه الآية بالنظام والجماعة، لأن يوم الجمعة أيضا يوم اجتماع ونظام.

أفليس عجيبًا إذن أن لا تذوب قلوبنا من تأثير هذه السورة التي بلغ وقعها في قلب النبي – رغم صبره وجلَده – إلى حد أنها شيّبته قبل أوان المشيب، مع أننا أحق منه بخشية الله تعالى.. لكي يُعيننا على أداء هذا الواجب الثقيل الذي ألقاه على عواتقنا الضعيفة.

والواقع أن الإسلام لا يقيم للنجاح الفردي أي وزن ولا قيمة، ولذلك إذا لم ننهض بالقوم كلهم وفي جميع المجالات فلن نحقق في الحقيقة أي فلاح، وإلى ذلك يشير الله بقوله لا تطغوا أي أن عدم الاعتناء بباقي القوم ظلم وطغيان، لأن التهاون بهم سوف يتيح الفرصة للسيئة كي ترفع رأسها من جديد. إن إحراز الفرد الواحد رقيًا كبيراً ومقامًا عاليًا لا يجدي العالم فتيلاً، لأن الظلمة ستُخيّم مرة أخرى فورَ وفاته. وإنما النجاح الحقيقي أن يسلك الجميع سبل الخير حتى يتم القضاء على الشر كليةً. ولكن الأسف أن المسلمين – رغم هذا التعليم القرآني الصريح – لم يتخلفوا اليوم في مجال العلوم الدينية فحسب، بل أيضاً في مضمار العلوم المادية والترقيات الدنيوية. فلا يساهمون في عملية النهوض بالإنسانية من الناحية المادية إلاّ قليلاً، بينما يسعى أبناء الأمم الأخـرى بكل شجـاعة وبسـالة في إحراز قصـب السبق في كل المجالات العلمية.

وأمّا قوله تعالى (إنه بما تعملون بصير) فيعني أنه ينظر إلى جهودكم الجماعية كما ينظر إلى جهودكم الفردية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك