ملامح الهجرة النبوية الشريفة

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

وتم نزع الأصنام من محاريبها وقُذف بها في الطرقات. وأولئك الذين تعوّدوا الركوع أمام التماثيل والأصنام بدأوا يرفعون رؤوسهم عاليا، فقد عقدوا العزم على ألا يركعوا إلا لله الواحد الأحد. وتعجب اليهود!!

الإسلام ينتشر في المدينة

اقترب موسم الحج، وبدأ الحجاج يتوافدون إلى مكة من جميع أنحاء بلاد العرب. وكان الرسول يذهب حيثما يجد أيّة مجموعة من الناس، ليخبرهم عن الله الواحد، ويطلب منهم أن يكفوا عن كل أنواع التطرّف والتجاوزات، وأن يعبروا الطريق إلى ملكوت الله تعالى. وقد أصغى البعض وأبدَى شيئًا من الاهتمام، والبعض أراد أن يستمع ولكن أهل مكة حالوا بينهم وبين ذلك، والبعض ممن ركب رأسه توقف ليسخر ويخرج ما في داخله من حقد واحتقار. وكان الرسول في وادي “مِنى” حين رأى مجموعة من ستة أو سبعة من الأفراد ينتمون إلى قبيلة الخزرج، وهي قبيلة تسكن في يثرب وتتحالف مع اليهود، فسألهم إن كان يمكنهم الإنصات لما يريد أن يقوله. كانوا قد سمعوا عنه، وأثار اهتمامهم بأمره، فوافقوا. وقضى الرسول بعض الوقت معهم ينبّئهم بأن مملكة الله صارت على الأبواب، وأن الأصنام سوف تزول وتختفي، وأن فكرة وحدانية الله سوف تعلو وتسود، كما سوف تسود قيم النقاء والطهارة مرة أخرى وينتشر الورع بين الناس، فهل يمكن أن يرحّبوا بهذه الرسالة في المدينة؟ وكان لكلام الرسول وقع جليل في قلوب هذه المجموعة فقبلوا الرسالة، ووعدوا أن يجتمعوا بالآخرين عند عودتهم إلى المدينة، ويبحثوا معهم الأمر، وفي العام القادم سيرفعون رأيهم للنبي عما إذا كانت المدينة على استعداد لاستقبال المهاجرين المسلمين القادمين من مكة. وعندما عادوا التقوا بأصدقائهم وأقاربهم وتحدثوا معهم فعلاً.

في ذلك الوقت كان في المدينة قبيلتان عربيتان وثلاث قبائل يهودية. القبائل العربية هي الأوس والخزرج، والقبائل اليهودية هي بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع. كانت الأوس والخزرج في حرب دائمة، وكانت قبيلتا قريظة والنضير في حلف مع الأوس، أما بنو قينقاع فكانت في حلف مع الخزرج. وكان الجميع قد تعبوا من الحرب ومالوا إلى السلام، وقرروا في النهاية تنصيب زعيم الخزرج عبد الله بن أُبيّ بن سلول ملكًا على المدينة. وكان الأوس والخزرج قد سمعوا من اليهود الكثير من النبوءات المكتوبة في التوراة، كما سمعوا أيضًا الروايات اليهودية عن المجد المفقود لليهود، وعن مقدم نبيّ “مثيل لموسى”. وتعوّد اليهود أن يقولوا إن مقدم هذا الرسول قد صار على الأبواب، وقد أوشك أن يظلهم زمانه، وأن مقدم ذلك الرسول سيكون علامة على عودة مجد بني إسرائيل والقضاء على أعدائهم. وعندما سمع أهل المدينة عن أن الرسول قد ظهر في مكة، تأثروا بذلك تأثرًا بالغًا، وتساءلوا إن كان هذا هو الرسول الذي سمعوا عنه من اليهود.

وقد آمن الكثير من الشباب في الحال، وفي موسم الحج التالي جاء إلى مكة اثنا عشر رجلاً ليبايعوا الرسول . كان عشرة منهم ينتمون لقبيلة الخزرج واثنان من قبيلة الأوس، ولقوا الرسول في وادي “مِنى”، ووضعوا أيديهم في يد الرسول وبايعوه على الإيمان بوحدانية الله تعالى وعزمهم على الكفّ عن كل الآثام المعروفة، والامتناع عن وأد البنات، وقوْل الزّور، وأن يطيعوه في كل ما يأمرهم به من معروف. ولما عادوا إلى المدينة، راحوا ينشرون الدين الجديد بين جميع الناس. وزادت حماستهم وحميّتهم. وتم نزع الأصنام من محاريبها وقُذف بها في الطرقات. وأولئك الذين تعوّدوا الركوع أمام التماثيل والأصنام بدأوا يرفعون رؤوسهم عاليا، فقد عقدوا العزم على ألا يركعوا إلا لله الواحد الأحد. وتعجب اليهود!! إن قرونًا من الصداقة والمناقشات مع العرب فشلت في إحداث الأثر الذي أحدثه ذلك المعلم الذي ظهر في مكة في أيام معدودات. وكان أهل المدينة يتوافدون على القلة الذين أسلموا ليعرفوا منهم المزيد عن الإسلام، ولكن هذا العدد القليل لم يكن ليستطيع الإجابة على هذا الكم الكبير من التساؤلات، ولم تكن لديهم المعرفة الكافية التي تؤهلهم لذلك، فقرروا أن يرسلوا إلى الرسول ليطلبوا منه أن يبعث إليهم من يقوم بتعليمهم أمور الإسلام، ووافق الرسول على إرسال مُصعَب بن عُمَير، وهو أحد شباب المسلمين الذين ذهبوا إلى الحبشة، فكان مُصعب أوّل مبشر إسلامي يخرج من مكة.

وفي تلك الأثناء، تلقى الرسول وعدًا عظيمًا من الله عز وجل. فقد رأى رؤيا جليلة، ورأى نفسه في بيت المقدس وقد اصطف الأنبياء خلفه لصلاة الجماعة. وكان بيت المقدس في الرؤيا يرمز للمدينة المنوّرة التي كان من المقدّر لها أن تكون المركز الإسلامي الذي تنطلق منه عبادة الله الواحد الأحد، أما الأنبياء الآخرون الذين احتشدوا خلف الرسول فقد كانوا يرمزون إلى أتباع الأديان الآخرين الذين سوف ينضمون إلى الإسلام، وأن الإسلام سيصبح دِينًا للعالم أجمع.

ومع مرور الوقت، كانت الظروف في مكة تزداد حرجًا، وصار الاضطهاد في أبشع صوره التي من الصعب تصورها. وقد سخر أهل مكة من هذه الرؤيا التي أعلن عنها الرسول ووصفوها بأنها أحلام يقظة وأماني الخيال. وقليلاً ما كانوا يعلمون أن الأساس قد أقيم بالفعل لبناء “أورشليم الجديدة” كما جاء في نبوءات الكتاب المقدس، وأن الناس في الشرق والغرب في شوق ولهفة ليسمعوا الرسالة العظمى الأخيرة من الله تعالى.

وفي تلك الأيام، اشتعلت الحرب بين قيصر الروم وكسرى فارس، وانتصر الفُرْس على الروم، واحتلت جيوش الفرس الشام وفلسطين، ودمروا القدس، واستولوا على مصر وآسيا الصغرى، واستطاع القادة الفُرس أن ينصبوا خيامهم على مشارف البسفور، على بعد عشرة أميال فقط من القسطنطينية. وتهلل أهل مكة للنصر الذي حققه الفُرس، وقالوا إن حكم الله قد صدر، فها قد انتصر أولئك الذين يعبدون الأصنام في فارس على أهل الكتاب من الروم. وفي ذلك الوقت تلقى الرسول الوحي القرآني التالي:

غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم: 3- 7)

وتحققت النبوءة في سنوات قلائل، فقد هزم الروم الفرس واستردوا جميع البلاد التي فقدوها. وقد تحقق أيضًا الجزء الذي يقول:

  وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ،

فقد بدأ الإسلام يتقدم. وكان أهل مكة قد اعتقدوا أنهم قضوا على الإسلام لما أقنعوا الناس ألا يستمعوا إلى المسلمين، بل يظهروا لهم العداوة والاحتقار. وفي نفس الوقت، تلقى الرسول وحي الله عز وجل يخبره بأنباء انتصار المسلمين والقضاء على نفوذ أهل مكة. وقد أعلن الرسول الآيات التالية:

وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (طه: 134-136)

لقد طالب أهل مكة أن يروا آية من عند الله تعالى، فأخبرهم سبحانه أن النبوءات التي وردت في الكتب السابقة عن الرسول والإسلام يجب أن يكون فيها الكفاية، ولو أن الله تعالى أهلكهم بعذاب قبل أن يتم شرح الإسلام لهم لقالوا إنهم لم تكن لديهم الفرصة لدراسة الآيات. وعلى ذلك، ينبغي على أهل مكة أن ينتظروا.

وتوالى كل يوم نزول الوحي الذي يَعِدُ بنصر المؤمنين وهزيمة المشركين. وعندما ينظر أهل مكة إلى قوتهم ويسر حالهم، وإلى ضعف المسلمين وفقرهم، ثم يسمعون وعود التأييد الإلهي وانتصار المسلمين وهي تتوالى يوميًا في الوحي النازل على الرسول كانوا يعجبون ويعجبون. فهل أصابهم الجنون أم أن الرسول هو الذي أصابه الجنون؟ لقد كانوا يأملون أن يُرغم التعذيب المسلمين على الخضوع وترك إيمانهم والعودة إلى دين أهل مكة، وأن الرسول نفسه وأتباعه المقربين سوف يبدأ الشك يساورهم في صدق دعواه. ولكنهم بدلاً من ذلك استمعوا لتوكيد جازم واثق كما يلي:

فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (الحاقة:39-53)

لقد أنذر الله تعالى أهل مكة أن جميع آمالهم الغالية سوف تنهار وتتحطم، فالرسول ليس بشاعر ولا بكاهن ولا يتقوّل على الله، وإن القرآن المجيد تذكرة للمتقين. وصحيح أن منهم من يكذبه، ولكن له أيضًا معجبيه الذين لا يريدون أن يعترفوا بعظمته، لأنهم يغارون من جمال تعاليمه، وجلال حقائقه، فتصيب قلوبهم الحسرة، ولا شك أن جميع الوعود والنبوءات التي جاءت فيه سوف تتحقق يقينًا. وعلى الرسول ألا يهتم بالمعارضين، بل يستمر في تسبيح ربه العظيم.

وأقبل الموسم الثالث للحج، وكان بين حجاج المدينة رهط من المسلمين، وقد رغب هؤلاء المسلمون في الالتقاء بالرسول على حِدة بسبب المعارضة الشديدة من أهل مكة.

كان تفكير الرسول الخاص يتجه أكثر وأكثر إلى المدينة كمكان واعد محتمل للهجرة، وقد ذكر الرسول هذا لبعض المقربين إليه من أقاربه، ولكنهم حاولوا إقناعه بالعدول عن كل الأفكار التي تنحو هذا النحو. وقالوا ينصحونه إنه رغم المعارضة الشديدة في مكة، فإن له قرابات عديدة من ذوي النفوذ. ثم إن احتمالات النجاح في المدينة غير مؤكدة، وإذا تبين أن المدينة مثل مكة في العداء أو أشد، فكيف يستطيع أقاربه في مكة حينئذ أن يقدّموا إليه يد المساعدة؟ غير أن الرسول كان مقتنعًا أن الله تعالى قد كتب أن تكون المدينة هي مكان الهجرة، ولذلك رفض نصيحة أقاربه وقرر الهجرة إلى المدينة.

وباختصار، لقد حقق هذا الرهط من مسلمي المدينة تميزًا كبيرًا في الولاء والإيمان. لقد جاءوا إلى مكة لا من أجل الثروة، بل من أجل اليقين، ولقد نالوا فيضًا وافرًا من هذا اليقين.

بيعة العقبة الأولى

بعد منتصف الليل التقى الرسول مرة ثانية بمسلمي المدينة في وادي العقبة مع عمه العباس y. كان عدد مسلمي المدينة يبلغ ثلاثة وسبعين، اثنان وستون منهم من الخزرج، وأحد عشر من الأوس. وضمّ الرهط امرأتين، الأولى هي أمّ عمارة؛ من بني النجار الذين تعلموا الإسلام من مُصعب بن عُمَير، وكانوا قومًا يملؤهم الإيمان واليقين. وقد أثبتوا جميعًا أنهم أعمدة للإسلام، وكانت أمّ عمارة رضي الله عنها نموذجًا لهم، فقد غرست في نفوس أبنائها ولاءً لا يتزحزح للإسلام. وفي الحرب التي وقعت مع مسيْلمة الكذاب بعد وفاة الرسول ، أُخذ أحد أبنائها، وهو حبيب بن زيد بن عاصم ، أسيرًا إلى مسيلمة الكذاب. وقد حاول مسيلمة زعزعة عقيدة حبيب؛ فسأله قائلاً: “هل تؤمن أن محمدًا رسول الله”؟ فأجاب حبيب: “نعم”. فسأله مسيلمة: “وهل تؤمن أني رسول الله”؟ فقال حبيب: “لا”. وعندئذ أمر مسيلمة بقطع أحد الأطراف من جسد حبيب. ثم سأله مرة أخرى: “أتؤمن أن محمدًا رسول الله”؟ فأجاب حبيب: “نعم”. فسأله: “أتؤمن أني رسول الله”؟ فأجاب حبيب: “لا”. وعند ذلك أمر مسيلمة بقطع طرف آخر من جسد حبيب، وظل هكذا يقطع طرفًا بعد طرف حتى تمزّق جسد حبيب إلى أشلاء. ولقد مات حبيب ميتةً قاسية بشعة، ولكنه ترك خلفه مثالاً لا يُنسى للبطولة والتضحية من أجل العقيدة الدينية. (السيرة الحلبية، ج2، ص17)

وأما أم عمارة فقد صحبت الرسول في العديد من الغزوات.

وباختصار، لقد حقق هذا الرهط من مسلمي المدينة تميزًا كبيرًا في الولاء والإيمان. لقد جاءوا إلى مكة لا من أجل الثروة، بل من أجل اليقين، ولقد نالوا فيضًا وافرًا من هذا اليقين.

وتكلم العباس ، مدفوعًا بالروابط الأسرية والإحساس بالمسئولية الشرعية عن سلامة الرسول فقال للوفد:

“يا معشر الخزرج. إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه. فهو في عزّ من قومه ومنَعة في بلده. إلا أنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مُسْلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزّ ومنَعة من قومه وبلده”.

فقام البراء قائد الرهط وأجاب بثقة ويقين:

“لقد سمعناك. وإن قرارنا لحازم في هذا الشأن، وحياتنا رهن أمر رسول الله، لقد عزمنا وإننا ننتظر قرار الرسول” (السيرة الحلبية ج 2 ص 18)

عرض الرسول الإسلام مجددًا وبيّن تعاليمه. وأخبر الوفد أنه سيذهب إلى المدينة إذا كانوا سيمنعون الإسلام كما يمنعون نساءهم وأطفالهم. ولم يكن قد أكمل حديثه حين صاح الرهط الثلاثة والسبعون في صوت واحد: نعم نعم. وفي غمرة حماسهم نسوا أنه قد يسمعهم أحد. وحذرهم العباس حتى يخفضوا الصوت. ولكن الإيمان كان يتدفق في قلوب ذلك الرهط وكان وجدانهم يموج باليقين، فلم يعد الموت شيئًا مرهوبًا في عيونهم. وعندما سمعوا تحذير العباس صاح أحدهم بصوت عال: يا رسول الله إنَّا لسنا خائفين، وإذا أذنت لنا فإنّا نستطيع أن نقاتل أهل مكة الآن وننتقم لما أجرموا في حقك. لكن الرسول قال إنه لم يُؤمر بقتال. عند ذلك عقد الوفد بيْعة الوفاء وانفضّ الاجتماع.

عرفت مكة بأمر الاجتماع. فذهبوا إلى خيام أهل المدينة حيث اشتكوا هؤلاء الزائرين لسادتهم، لكن عبد الله بن أبيّ بن سلول، وهو سيد سادتهم، لم يكن يدري شيئًا عما حدث، فأكد لأهل مكة أن هذا الخبر إشاعة كاذبة، فلقد اختاره أهل المدينة زعيمًا ولا يمكنهم فعل شيء كهذا بدون علمه ورضاه. لم يكن عبد الله قد علم بعد أن أهل المدينة قد طرحوا حكم الشيطان، ورضوا بحكم الله بدلاً.

الهجــرة

عاد الوفد إلى المدينة، وبدأ الرسول وأتباعه يستعدّون للهجرة. وبدأت الأسر تختفي الواحدة بعد الأخرى. كانت الشجاعة تملأ قلوب المسلمين ليقينهم أن ملكوت الله قريب. وأحيانًا كان الزقاق كله يتم إخلاؤه في ليلة واحدة، ويصبح أهل مكة ليروا أبواب كل منازل هذا الزقاق مغلقة، فيعلمون أن قاطنيها قد هاجروا إلى المدينة. ولقد أدهشهم أن يكون للإسلام كل هذا التأثير العجيب.

وفي النهاية، لم يبق أحد من المسلمين في مكة سوى بعض العبيد، والرسول نفسه وأبو بكر وأهله، وعلىّ بن أبي طالب . وتأكد لأهل مكة أن فريستهم توشك أن تفلت، فاجتمع سادتهم ثانية وقرروا أنه لا بد من قتل الرسول . وبتدبير إلهي خاص، كان الموعد الذي حدّدوه لقتل الرسول هو الموعد الذي حدّده الله تعالى لنجاته. وعندما اجتمعوا عند باب بيت الرسول في نيّة مبيّتة لقتله، كان ينسلّ خارجًا في سرّية تحت جنح ظلام الليل. ولا بد أن أهل مكة قد خافوا أن يحبط تدبيرهم الأحمق بعمل من طرف الرسول ، لذلك باشروا عملهم بحذر، وعندما مرّ الرسول نفسه عليهم ظنوه شخصًا آخر، وانسحبوا متوارين جانبًا. وكان أبو بكر، وهو الصديق الأثير لدى الرسول ، قد علم بخطة الرسول قبل التنفيذ بيوم، فانضم إليه في حينه. وغادر الاثنان مكة، ولجآ إلى غار يسمى غار ثور؛ على قمة جبل يبعد ثلاثة أميال من مكة. وعندما علم أهل مكة بإفلات الرسول ، اجتمعوا وأرسلوا قوة مسلحة تطارده، يقودها قصّاص أثر. وبلغت القوة جبل ثور، وأمام الغار الذي يختفي فيه الرسول وأبو بكر، وقف قصّاص الأثر قائلاً إن محمدًا إمَّا أن يكون في الغار أو أنه صعد إلى السماء. وسمع أبو بكر ذلك، فدقّ قلبه بعنف وقال في همس: “لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآنا”. فقال الرسول : “لا تحزن إن الله معنا”. فقال أبو بكر: “إني لا أخشى على نفسي بل أخشى عليك، فإنني إن مت فما أنا إلا امرؤ عادي، ولكن لو أنك مت فذلك يعني موت الإيمان والدين (الزرقاني). فطمأنه الرسول قائلاً لـه: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما” (البخاري، كتاب المناقب).

كان الله عز وجل قد قدّر أن ينتهي طغيان مكة، وكتب العزة والانتشار للإسلام. لذلك فقد خدع المطاردون أنفسهم؛ فسخروا من قول قصّاص الأثر، وقالوا له إنّ الغار مكشوف ولا يُغري باللجوء إليه، ونظرًا لوجود الحيات والأفاعي به، فمن الخطر أن يلجأ إليه أحد. ولو أنهم انحنوا قليلاً لرأوا الرسول وصاحبه، ولكنهم لم يفعلوا، فصرفوا قصّاص الأثر، وعادوا إلى مكة.

وانتظر الرسول وأبو بكر يومين بالغار، وفي الليلة الثالثة حسب الخطة الموضوعة، جاءت ناقتان سريعتان إلى الغار؛ إحداهما للرسول   والدليل الذي سيرشد إلى الطريق، والأخرى لأبي بكر وخادمه عامر بن أبي فُهَيرة.

وسقطت عاصمة الفُرس في يد المسلمين حيث استولوا على كنوز كسرى، وفيها سواراه الذهبيان اللذان كان يلبسهما عند ممارسة السُلطة…. وعندما وُضعت غنائم الحرب أمام عمر ، لمح السوارين وتذكّر ما قال الرسول لسُراقة. لقد كانت نبوءة عظيمة، نطق بها الرسول وهو في أقصى درجات الضعف. وقرر عمر أن يقدّم تحقيقًا عمليًا للنبوءة على رءوس الأشهاد. فدعا سُراقة، وأمره أن يلبس السواريْن. … فلبس السواريْن، ورأى المسلمون نبوءة رسول الله وقد تحققت.

سراقة يطارد الرسول صلى الله عليه وسلم

قبل أن ينطلق الرسول ، نظر خلفه إلى مكة، وتفجّرت المشاعر في قلبه. لقد كانت مكة مسقط رأسه، عاش فيها طفلاً ورجلاً، وتلقّى فيها دعوة الله عز وجل. لقد كانت المكان الذي ازدهر فيه آباؤه منذ إسماعيل . ومع جيشان هذه الخواطر، ألقى عليها نظرة أخيرة طويلة وقال: “عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللهِ وَلَوْ لا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”. عند ذلك قال أبو بكر : “هل تنتظر قرية أخرجت نبيّها سوى الهلاك”؟

عندما فشلت خطة المطاردة، وضع أهل مكة جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي برأس الهاربيْن إلى مكة حيّين أو ميّتين، محمد وأبي بكر . وأُعلن الخبر في القبائل المحيطة بمكة، وأغرت الجائزة سُراقة بن مالك؛ أحد سادة البدو، فبدأ في مطاردة الرهط المهاجر، وأخيرًا لمحهم على الطريق إلى المدينة. رأى جملين على البعد محمّلين، فخمّن أنهما لابد يحملان محمدًا وأبا بكر. فهمز حصانه، غير أنه قبل أن يذهب بعيدًا، إذا به يتعثر ويسقط، ومعه سراقة. إن رواية سُراقة في هذا الصدد لذات مغزى. قال سُراقة:

“فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره. فركبت فرسي وعصيت الأزلام، وذهبت فرسي تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات (من الواضح أن ذلك كان خوفا على سلامة الرسول )، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها، فنهضَت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان. فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره. فناديتهم بالأمان فوقفوا. فركبت فرسي حتى جئتهم، فوقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله. فقلت لـه: إن قومك قد جعلوا فيك الديّة. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: أَخْفِ عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمن. فأمر عامر بن فُهَيرة، فكتب لي في رقعة من أدم. وعندما أردت أن أعود بالكتاب تلقى رسول الله وحيًا عن المستقبل، فقال يا سُراقة، كيف أنت إذا لبست سواري كسرى؟ فسألته دهشًا: أيّ كسرى؟ كسرى بن هرمز؟ إمبراطور الفُرس قال الرسول: نعم”. (أُسُد الغابة)

وبعد هذا اليوم بستة عشر أو سبعة عشر عامًا، تحققت النبوءة حرفيًّا. لقد دخل سراقة الإسلام، وذهب مهاجرًا إلى المدينة، ومات الرسول ، وبعده مات أبو بكر ، ثم أصبح عمر خليفة الإسلام. ودفع نفوذ الإسلام المتنامي الفُرس إلى الإحساس بالغيرة، فهاجموا المسلمين. ولكنهم بدلاً من إخضاع المسلمين، خضعوا هم للمسلمين. وسقطت عاصمة الفُرس في يد المسلمين حيث استولوا على كنوز كسرى، وفيها سواراه الذهبيان اللذان كان يلبسهما عند ممارسة السُلطة. وكان سُراقة بعد إسلامه قد تعوّد على تكرار ذكر مطاردته للرسول ورهطه، وكان يقصّ ما جرى بينه وبين رسول الله. وعندما وُضعت غنائم الحرب أمام عمر ، لمح السوارين وتذكّر ما قال الرسول لسُراقة. لقد كانت نبوءة عظيمة، نطق بها الرسول وهو في أقصى درجات الضعف. وقرر عمر أن يقدّم تحقيقًا عمليًا للنبوءة على رءوس الأشهاد. فدعا سُراقة، وأمره أن يلبس السواريْن. واعترض سُراقة لأن ارتداء الذهب محرّم على الرجال في الإسلام. فقال عمر إن ذلك حق، ولكن تلك المناسبة كانت استثناء. لقد رأى الرسول سواري كسرى على معصميه، فكان لا بد له من لبسهما. لقد كان اعتراض سُراقة قائمًا على احترامه لتعاليم الرسول ، وإلا فإنه كان يتلهف على تحقيق هذه النبوءة العظيمة تحقيقًا عمليًا. فلبس السواريْن، ورأى المسلمون نبوءة رسول الله وقد تحققت. (أُسُد الغابة)

لقد أصبح الرسول المطارَد ملكًا. ورغم أنه لم يعد هو نفسه في هذا العالم، إلا أن أولئك الذين اتبعوه استطاعوا أن يشاهدوا كلماته ورؤياه تتحقق.

Share via
تابعونا على الفايس بوك