فإنه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ؟

فإنه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ؟

تميم أبو دقة

كاتب وشاعر

بهذه الفـقرة الثامـنة من الإصحاح الثالث من رسالته إلى أهل رومية، لخص بولس منهج المسيحية القائم على الكذب. وللحق هو ليس أي كذب، بل هو كذب لمجد الله “لزيادة” صدقه لا كذب عليه! فهل من العدل إدانة هذا الكاذب الشريف الذي يسعى من وراء كذبه أن “يزداد” صدق الله؟!

عجيب أمر بولس هذا، الذي استخف بأهل رومية وبكل المسيحيين من بعد، وجعل من حقيقة بسيطة كهذه، وهي أن من يقترف الكذب هو كاذب خاطئ مدان، تُقرأ بالمقلوب، بل ويصبح القول بها على وجهها الصحيح مثيرا للاستغراب! والحقيقة أنه ليس صعبا أن يكتشف أي متدبر لرسائله ومتتبع لمنهجه أنه يقوم على قلب الأمور وتحويلها لكي تُفهم بعكس ما هي عليه في كثير من الأحيان.

فلسفة بولس باختصار قائمة على استغفال الناس والاستخفاف بهم وإدخالهم في أجواء روحانية مزعومة دون أية ضوابط. بل ربما يكون الضابط الأساس هو مخالفة المألوف والالتفاف عليه لإثبات أن هذا المخالف للمألوف يؤدي الغرض أكثر من المألوف لو تناولناه بشكل روحاني. والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن يكفي مراجعة مثال الختان الذي اجتهد في شرحه ليقلبه وليجعل عدم القيام به إنما هو ختان روحاني!

أما الرد على استفهامه الإنكاري وتعجبه فأقول: نعم يا بولس، فأنت مدان حسب اعترافك بالكذب لمجد إلهك في سبيل إظهار صدقه. ولكن أي مجد هذا، وأي إله هذا الذي يحتاج إلى كذبات بولس؟! هو حتما ليس الله تعالى الذي استعاروا اسمه من الإسلام ووضعوه في تراجمهم العربية، ولكنه إله بولس الواحد المثلث أو الثلاثة الموحد!

هذا الإله باختصار هو إله المسيحية المصنوع من الكذب، والذي يزداد مجده بكذبات بولس، كما ازداد مجده تاريخيا بكذبات من لحق ببولس من الكاذبين أمثاله. وتصلح هذه الفقرة من عهدهم الجديد في كتابهم المقدس أن تكون عنوان عمل المسيحية في هذه الفترة بشكل خاص، والتي تعاظم فيها الكذب حتى وصل إلى حدود غير معقولة تتكشف للناس يوما فيوما.

وعودة إلى تلك القاعدة البولسية، فيكون بلا شك الأكثر كذبا لأجل مجد الرب هو الأكثر تقدما في المسيحية والأعلى منـزلة، وهو إذ عمل على “زيادة” صدق ذلك الإله، لذا فالإله مدين له أيضا! وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. ليكذبوا لمجد إلههم أكثر، كي يزداد صدقه أكثر! وهنيئا للكاذبين.. عفوا … هنيئا للممجدين لهذا الرب والعاملين على زيادة صدقه!

ولأجل الحقيقة ومن باب العدل، فلا بد من تحليل تلك الفقرة لرؤية ما تقول. ومع أننا لا نلزمهم بالنص لأنه مترجم وليس موحى به، مع العلم أننا نقبل أن يحاكمونا على نص القرآن كلمة كلمة، فنحن ملزمون به، إلا أننا سنلتمس لهم عذرا ولن نلجأ إلى جعل التعابير تطبق على رقابهم، وسنركز على الفكرة التي نرحب بمحاولة دفاعهم عنها إن استطاعوا. وبالنظر إليها نجد أمرين خطيرين؛ الأول هو الاعتقاد بأن صدق الله يزداد! والثاني الاعتقاد بأن الكذب هو وسيلة زيادة هذا الصدق! وأحد الأمرين أسوأ من الآخر.

أولا، إن صدق الله مطلق، ومن الجهل وسوء الأدب الاعتقاد بأن هذا الصدق يزداد بأي وسيلة كانت، فكيف إن كانت الوسيلة الكذب! أما لو قال قائل إن الصدق المقصود هنا هو الحقيقة، وهي التي قد تكون خافية على الناس. ولكن هذا لا يحل المشكلة أيضا، وهذا لأن الحقيقة تنكشف ولا تزداد. فلو قلنا إن المترجمين قد أخطأوا والتمسنا لهم العذر، فإن المشكلة لم تحل بعد.إننا لو سلمنا جدلا أن الصدق المقصود هنا هو كـشـف الحقـائـق، فما زالت الفقرة تتضمن مغالطة منطقية وأخلاقية. فالمغالطة المنطقية قائمة على أساس أن الكذب نقيض الصدق، فكيف يمكن أن يزيد النقيض نقيضه؟! أما المغالـطة الأخلاقـية فهي اتخاذ وسيلة قذرة للوصول إلى هدف شريف، وهي الذرائعية أو البراغماتية التي يبدو أن بولس سبق فيها ميكافيللي! هذا المنهج قد يكون مقبولا عن بعض السياسيين الذين لا يقيمون وزنا للأخلاق ولا يبحثون إلا عن المصالح، ولكن أن يكون هذا منهجا دينيا فهو أمر لا يمكن قبوله.

إن هذا الإله العاجز الذي يحتاج إلى كذب بولس أو كذب غيره لزيادة صدقه، أو لكشف الحقائق الخاصة به، لا يستحق أن يعبد. فالإله الحق هو الله الحق جل وعلا، ولا سبيل للوصول إليه إلا بالحق، ولا يمكن كشف الحقائق التي أوجدها إلا بتحري الحق والصدق. هذا هو إله الإسلام الذي يدعو المسلمين دائما إلى تحري الصدق والحق في كل الظروف. هو الإله الذي أمر الإنسان بالصدق وأمره ألا ينظر إلى عواقبه حتى وإن كانت ظاهريا ستؤدي إلى ضرر فادح للشخص نفسه أو لأقرب المقربين له. فيقول تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيـرًا   (النساء 136)

كما لا يقبل إله الإسلام منا أن نكذب على من كذبوا علينا، بل علينا بالتزام الصدق حتى وإن ظننا أن فيه خسارة لنا. حيث يقول تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة 9)

والحق أن المسيحية في أول عهدها تعرضت إلى كثير من المظالم والافتراءات على يد اليهود وغيرهم. وقد عانى المسيحيون معاناة شديدة بسبب الظروف التي نشأت فيه دعوتهم. فالمسيح الذي جاءهم، والذي كان ملك اليهود الموعود الذي كان من المنتظر أن ينهض بحالهم، جاء بغير أب أولا. فاتّـهم اليهود أمه بالزنا بشكل فج ومقذع. حتى إن التلمود قد أورد قصة عنه تفيد أن أمه حملت به سفاحا وهي حائض من روح شريرة!

(انظر كتاب التلمود بلا قناع للقسيس أي بي برانيتس)

The Talmud Unmasked

By Reverend I.B Pranaitis

ثم ما إن بدأت دعوته تظهر حتى نجح اليهود في دفع الرومان إلى صلبه ومن ثم موته على الصليب أخيرا. وهكذا فقد أصبح ملعونا وفقا للتوراة! فماذا كانوا سيفعلون مقابل هذا الأمر؟ هو رجل مشكوك في مولده ومات ميتة ملعونة، فكيف يمكن أن يدافعوا عنه؟! فلم يجدوا غير الكذب أمامهم لكي يحاولـوا الالتفاف على هذه الأمور المحرجة.فحول مجيئه بدون أب، الأمر الذي لا مجال لإنكاره، وجدوا أن الوسيلة المثلى هي الادعاء بأنه ابن الله! وهكذا لن يخجلوا من تلك الولادة بعد. أما بخصوص موته على الصليب، فكان لا بد من جعل هذا الحدث المخزي هو الحدث الأهم الذي تنتظره البشرية. فأقروا بأنه مات ملعونا على الصليب، ولكن ملعونا من أجل البشرية وفداء لها! وكان صلبه في حقيقة الأمر تضحية إلهية كبيرة! وهكذا عندما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الدفاع عن صورته الظاهرية المحرجة كما كانوا يرونها، رفعوه إلى مرتبه الإله. بينما لو التزموا الصدق وقالوا إنه رسول الله الذي عانى في سبيل دعوته، والذي سيشهد الله على صدقه ولو بعد حين، لكان خيرا لهم وأقوم. ولكن أنى لهم ذلك!

ولقد جاء الإسلام بشهادة براءة المسيح وبتصديق رسالته وإظهار طهارته وطهارة أمه. وقد أعلن القرآن الكريم أن المسيح لم يكن ابن زنا، ولكنه بالمقابل لم يكن ابن الله، بل كان ابن أمه فقط الذي جاء بقدرة الله. وهكذا فقد أبطل مسألة الزنا وشهد مع المسيح ضد الظالمين من اليهود. أما بخصوص موته الملعون على الصليب فقد أعلن القرآن الكريم أنه لم يحدث! فلم يمت على الصليب ولم يقتل، بل حدثت شبهة في الأمر وظن اليهود والنصارى ذلك. ومع أن بعض المفسرين المسلمين لاحقا تخيلوا قصصا وهمية غير صحيحة لنجاته من الصليب، إلا أن المسلمين لا يختلفون في مسألة النجاة من الصليب بحد ذاتها، مهما اختلفت التفاصيل.

تلك هي مسيحية بولس التي تقوم على الكذب جملة وتفصيلا. ولكننا لا نتهم كل المسيحيين بالكذب ولا نقول إنهم جميعا هم المسيح الدجال. بل الدجال هو من نسجوا الأكاذيب وسعوا إلى ترويجها وحاولوا بكل صفاقة طمس نور الإسلام العظيم.

إن هذا الإعلان قوبل بالترحـاب، وأدى إلى التقريب بين المسلمين والنصارى في بداية البعثة الإسلامية. ولا شك أن المسيحي الحقيقي سيقدّر دوما الخدمة التي قدمها القرآن الكريم والرسول من خلال الشهادة بصدق المسيح وبراءته وأمه. وقد قدّر ذلك النجاشي والمقوقس بل وهرقل أيضا. ويمكن استشفاف هذا الأمر من سلوك هؤلاء الملوك والحكام النصارى الذين أكرموا رسل رسول الله وأعربوا عن تقديرهم لما جاء به.

إن هؤلاء الشرفاء من النصارى هم من ذكرهم القرآن الكريم بكل خير وبكل تقدير وأكد على أنهم الأقرب مودة للذين آمنوا. هؤلاء الذين لم يستمرئوا الكذب ولم يستسيغوه لينحرفوا عن حقيقة المسيح وعما جاء به من الحق، بل كانوا متعطشين لتلك الشهادة التي تعيد الاعتبار للمسيح أمام من اتهموه وظلموه. ولكن الخبثاء من المسيحيين من الذين نهجوا منهج بولس، وعملوا لزيادة مجد إلهه الذي يترعرع على الكذب، نكروا هذا المعروف ولم يقدروا تلك الشهادة. ثم سرعان ما تحولوا للارتماء في أحضان اليهود الذين ما انفكوا يعتقدون أن إلههم ليس سوى ابن زنا مهرطق مجدف على الله، وعملوا على مهاجمة الإسلام العظيم بسبب حقدهم الأعمى.

ومن العجيب أن تصف الأحاديث فتنة مسيحية بولس التي ستتعاظم في آخر الزمان بفتنه “المسيح الدجال”! ومن العجيب أن يكون الإنذار القرآني المتعلق بالدجال يلخص الأمر في قوله تعالى:

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا الكهف: 5 -6)

نعم.. إن يقولون إلا كذبا.. تلك هي مسيحية بولس التي تقوم على الكذب جملة وتفصيلا. ولكننا لا نتهم كل المسيحيين بالكذب ولا نقول إنهم جميعا هم المسيح الدجال. بل الدجال هو من نسجوا الأكاذيب وسعوا إلى ترويجها وحاولوا بكل صفاقة طمس نور الإسلام العظيم. ولعل من أسباب عدم التصريح في الأحاديث بأن الدجال سيكون المسيحية في آخر الزمان هو أن أكثر المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا كهؤلاء. كما أن البقية الباقية من المسيحيين الشرفاء في هذا الوقت ليست من الدجال أيضا. ولعل الواجب على هؤلاء الشرفاء أن يُعلوا من صوتهم كي لا يعلو صوت المسيح الدجال الذي يريد أن يلحق العار بالمسيحية بمجملها.

على المسيحيين أن يتذكروا أن “الحق يحررهم”، هذه الجملة التي أصبحت مضغة على ألسنة الدجالين دون أن يعملوا بها. فعلى كل فرد منهم أن يتحرى مكانه ليرى في أي جانب يقف؛ هل هو مع الدجال أم مع شرفاء المسيحية. وهنالك معيار بسيط لمعرفة ذلك؛ فكل فرد عليه أن ينظر فيما يأمره به أحباره ورهبانه؛ فإن وجدهم ملتزمين بالصدق ولا يحيدون عنه مطلقا، ولا يستخدمون أساليب ملتوية، فعليه حينها أن يطمئن، لأن الله لن يضيعه. أما إن وجدهم كاذبين فاسدين مفسدين، وإن وجدهم يأمرونه بالكذب ويطلبون منه المشاركة فيه، فعليه أن يعلم حينها أنه يعمل في سبيل إعلاء مجد إله بولس القائم على الكذب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك