خمسة براهين ساطعة على كون القرآن الكريم من عند الله
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (الآية: 35)

التفســير:

لقد ساق القرآن هنا برهانًا عظيمًا على بطلان عقيدة الشرك بالله، ولكن الناس عمومًا لم ينتبهوا إليه. يقول الله تعالى: إن القدرة على خلق الأشياء  تثبتُ من القدرة على إعادة خلقها من جديد، وإلا لادَّعى كل شخص أنه هو خالق الأشياء. فمثلا لو ادَّعى أحد اليوم وقال: أنا الذي خلقت الكون، لفنّدنا ادعاءه بقولنا: حسنًا، تعالَ فاخلقْه أمامنا مرة أخرى. يقول الله تعالى: إننا لا نقدّم الخلق الأول كدليل على قدرتنا على الخلق والإيجاد فحسب، وذلك كيلا يزعم أحد أن عيسى أو غيره كان أيضًا شريكًا لنا في عملية الخلق، وإنما دليلنا هو أننا قادرون على إعادة هذا الخلق من جديد.

والمطالبة بإعادة الخلق تحقق هدفين:الأول: أنه يتم بذلك اختبار المدّعي الكاذب فورًا؛ والثاني: أنه يؤكد على أزلية الخلق الإلهي. فنعلم مثلاً أن الغلال لا تزال تنبت من الغلال منذ القدم، فلو ادعى أحد اليوم بأنه هو الخالق لها قلنا له: هذه الغلال لا تزال تنبت من الغلال منذ القدم، وأما أنت فقد وُلدت البارحة فكيف نعتبرك خالقًا لها. إنَّ الآلهة الباطلة محدودٌ زمنها، وأما النّواميس الإلهية فأزلية قديمة، فكيف يمكن أن تكون الآلهة الباطلة المحدودة الزمن خالقةً لهذه الظواهر القائمة منذ الأزل بحسب قوانين طبيعية محددة.

ولذلك سألهم أحد: من الذي يتولى عملية الخلق وإعادته؟ فإن قالوا: الله، فسيكون سؤالنا: ما دام الله قد قدّر لعملية الخلق سننًا محددة منذ الأزل ولا تزال الموجودات تتكون وفق هذه السنن، فكيف يثبت تدخُّلُ شركاء لله من آلهة باطلة في عملية الخلق، بل وما الداعي لذلك يا تُرى؟

كما تشير الآية إلى أن المَلِك الأزلي الذي خلق هذه السلسلة غير المتناهية من الكائنات كيف يمكن أن يفوّض أمر هدايتها إلى غيره، أو يقوم بهداية قوم معينين ويحرم الآخرين منها؟ لو كان صاحب الخلق الأول هو غير من يعيد الخلق باستمرار لأَمكنكم القول بأن الخالق الأول قام بهداية الأولين، ولكن المشرف على إعادة الخلق بالتناسل لم يحفل بهداية الآخرين. ولكن ما دام الذي خلق أولاً ثم الذي أشرف على استمرار الخلق وإعادته ربًا واحدًا كيف يمكن أن يهدي الأولين ويحرم المتأخرين من الهدى.

الحق أن الله تبارك وتعالى قد أضاف كلمة (هذا) تأكيدًا على أن هذا الكتاب يحتوي على معارف عالية ومفاهيم سامية بحيث يستحيل على الإنسان أن يأتي بمثلها. فالجملة القرآنية ليست دعوى بلا دليل، وإنما فيها الدليل أيضا…..

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (الآية: 36)

شرح الكلمـات:

يَهدِّي: فعل مضارع من باب الافتعال من (الهدى)، أصلُه يهتدي. اهتدى يهتدي اهتداءً. مُطاوعُ هَدَى. (الأقرب)

التفســير:

يقول الله تعالى: إذا كان الله لا يهدي الناس فهل شركاؤكم هم الذين يهدونهم. لو كانوا هم الهادين لحق لكم القول بأن الله قد فوّض إليهم أمر الهداية، ولكن هل يمكن أن تأتوا بمثال واحد على نزول شرع أو تعليم من قِبل صنم أو إله من آلهتكم الباطلة؟

إنه لعجيب حقًّا أنه رغم الانتشار المتزايد للعقائد الوثنية في العالم، إلا أنه لا يوجد ولا كتاب واحد يدّعي أَنَّه هداية للناس وأنه نزل بوحي من أحد هذه الآلهة أو الأصنام. لقد اخترع الوثنيون الأكاذيب أنواعًا وألوانًا، ولكن لم يدّعِ أحد منهم بوجود مثل هذا الكتاب ولو ادعاءً كاذبًا. فكيف يرفض المشركون – والحال هذه – نزولَ الهدي من عند الله تعالى؟ إن الذي خلق العباد لا بدَّ أن يدبّر أمر هدايتهم.

كما وفنّد هنا الوثنية مرة أخرى إذ قال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتبع أمّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهدى . والهداية هنا تعني التوجيه إلى الأمور الروحانية، كما تعني أخذ الشيء من مكان إلى آخر، وهذا المعنى الأخير ينطبق تماماً على أصنام المشركين حيث ينقلونهم من مكان إلى آخر.

وأما قوله تعالى أفمن يهدي إلى الحق فأرى أن المراد به أنبياء الله عليهم السلام الذين يُبعثون لهداية الناس إلى الحق. فالمعنى: هل أنبياء الله أحرى وأحق بأن يتّبعهم الناس ويطيعوهم، أم أصنامكم، أو العاكفون عليها ممن هم بأنفسهم بحاجة إلى هدي الآخرين، ولا يستطيعون تقديم أيِّ تعليم أنزلته آلهتهم إزاء تعاليم الأنبياء.

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُون (الآية: 37)

شرح الكلمات:

الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويُستعمل في اليقين والشك، ويكون اسمًا ومصدرًا. (الأقرب)

لا يغني: أغنى عنه غَناءَ فلانٍ: ناب عنه وأَجزَأَه. ما أغنى فلان شيئًا: أي لم ينفع في مهمٍّ ولم يكفِ مؤونةً. (الأقرب)

التفســير:

للظن ثلاثة معانٍ كما ذُكر آنفًا: الأول: الاعتقاد الراجح الغالب، والثاني: الشك، والثالث: اليقين، وقد جاء هنا بمعنى الشك. ذلك أن الحق والاعتقاد الراجح الغالب لا يتعارضان، لأن الاعتقاد الغالب المبني على البراهين إنما يحصل طالما يكون الحق خافيًا على الأعين، وأما إذا تبين الحق وحَصْحَصَ فلا يبقى هناك أي اعتقاد غالب عند أحد، وإنما تتصدى للحق عندئذ فقط الأوهامُ الفاسدة التي لا تستند إلى أي برهان، وإنما أساسها العناد أو ضعف النفس.

فالله تعالى يقول هنا: إن أكثرهم واقعون في وحل العقائد الوثنية بسبب الأوهام فقط، إذ لم يأتهم أي هدي أو رسالة من آلهتهم الباطلة.

وأما قوله تعالى وما يتبع أكثرُهم إلا ظناًّ فليس المراد به أن أكثرهم يتمسكون بعقائد وثنية بناءً على الظن، بيد أن بعضهم يتمسكون بها بناءً على  الأدلة والبراهين. كلا، وإنما المراد به أن بعضهم يشركون إما طمعًا أو عنادًا وتعصبًا، وإن كانوا في قرارة نفوسهم يدركون بطلان الشرك، ولكن معظمهم يأتون أعمالاً وثنية وهم موقنون بصحتها، إلا أَنَّ يقينهم هذا لا يكون يقينًا حقيقيًا مبنيًا على البراهين والخبرة، وإنما أساسه مجرد أوهام لو فكَّروا فيها تفكيرًا موضوعيًا لتخلصوا منها.

ومرة أخرى يعلن القرآن هنا عن المبدأ الحق بأن لا يرمي الإنسان معارضيه بسوء النية والكذب. وذلك لأن أكثر الناس يوقنون أن دينهم حق في الواقع، وإنْ كان يقينهم هذا مبنيًّا على ضعف نفوسهم، لأنهم لا يسعون لمعرفة الحق كما ينـبغي، وإنما يتهاونون في ذلك ويتكاسلون.

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الآية:38)

شرح الكلمات:

أن: حرفٌ يجيء على أربعة أوجه، أحدها أن تكون حرفًا مصدريًا  ناصبًا للمضارع، فتكون مع صلتها على حسب ما يطلبها العامل (الأقرب)

تصديق: التصديق: نسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل. صدّقه: ضدُّ كذّبه. (الأقرب)

التفسـير:

قبل هذه الآية كان الحديث عن ضرورة نزول الهدي الإلهي، وأنه ليس بمقدرة أحد دون الله تعالى، إنسانًا كان أو أحدًا من الآلهة الباطلة، أن يعرض من عنده منهجًا روحانيًا للناس، وأن الأمر الواقع أيضا يؤكد هذا إذ  إن الناس لم يتلقوا أبدًا أَي منهج روحاني من آلهتهم الباطلة. ومِن هذا البيان المبدئي الأساسي انتقل إلى القضية الأصلية التي يدور حولها النقاش وقال مستفهمًا: هل يمكن أن يكون هذا القرآن من تأليف إنسان؟ وردّ عليه بنفسه قائلاً: كلا، ثم كلا.

والحق أن الآية تحتوي على بحث لطيف للغاية حول كون هذا القرآن الكريم من عند الله وحده، ولكنّ المفسرين، للأسف، لم يُعيروا ما  في هذه الآية من معارف ومزايا العنايةَ الكافيةَ ولم يلقوا عليها من الضوء إلا قليلاً.

تتضمّن الآية خمسة براهين ساطعة على كون القرآن الكريم من عند الله تبارك وتعالى، وإليكم بيانها:

البـرهـان الأول:

إن هذا الكتاب يحتوي على معارف ومفاهيم لا يقدر الإنسان على معرفتها بنفسه، وإنما هو الله وحده الذي يُطلع عليها من يشاء، إذ يقول: وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله فأعلن بذلك أن فيه معارف وأموراً لا يعلمها إلا الله وحده. ونعلم من دراسة القرآن أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله هي الأمور الغيبية والأنباء المتعلقة بالمستقبل. ففي هذه السورة التي نحن بصدد تفسيرها يقول الله تعالى:   فقُل إنما الغيب لله (الآية: 21). فالكلام الذي يشتمل على أنباء غيبية  لا يقدر على بيانها إلا الله، فكيف يمكن أن ينشأ الظنُّ أنها من عند إله غير الله سبحانه وتعالى.

ومما يدعو للعجب، أن القسيس “وهيري” قد بسط لسانه بالطعن في الجزء الأول من هذه الآية وقال بأن هذا ادعاء من القرآن لا دليل عليه إذ اكتفى القرآن بقوله: وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ، ولم يأتِ  ببرهان على ادعائه، ولم يبين كيف ولماذا!؟ (تفسير وهيري للقرآن).

إنه لمن المؤسف حقًا أن أقول إن “وهيري” يجهل تمامًا المحاسنَ الدقيقة اللطيفة التي لا يمكن بدونها أن تُسمَّى أيّ من اللغات لغةً، ولا سيما محاسنَ اللغة العربية التي تمتاز وتنفرد عن غيرها في أداء المعاني الواسعة بكلمات موجزة جدًا.

الواقع أن كلمة (هذا) في قوله تعالى وما كان هذا القرآن.. هي الدليل الذي ساقه القرآن على صحة هذا التحدي القرآني، إذلم يقل الله (وما كان القرآن..) وإنما قال وما كان هذا القرآن . فلماذا أضاف كلمة (هذا)، يا تُرى، مع أن كلمة القرآن تطلق على كتاب واحد فقط في العالم، وليس على كتابين أو أكثر حتى تمس الحاجة إلى زيادة كلمة (هذا)؟!

الحق أن الله تبارك وتعالى قد أضاف كلمة (هذا) تأكيدًا على أن هذا الكتاب يحتوي على معارف عالية ومفاهيم سامية بحيث يستحيل على الإنسان أن يأتي بمثلها. فالجملة القرآنية ليست دعوى بلا دليل، وإنما فيها الدليل أيضا، إذ تعلن أن في هذا القرآن أمورًا لا يقدر أحد على الإتيان بها إلا الله وحده، ويمكن معرفتها بكل سهولة في مواضيع القرآن الكريم، وإلى هذه الأمور الفريدة النادرة تُشير كلمة (هذا).

وهناك في كلّ لغة أساليب وجمل كهذه تؤدي هذا المعنى. فمثلاً في لغتنا الأردية يقولون على سبيل الاستفهام الإنكاري: هل هذا الشخص يكون كاذبًا، أو هل هذا الأمر يعتبر خطأً؟ ولا أحد من العقلاء يمكن أن يقول إنها دعاوَى بلا دليل، لأنها تعني:  كيف يمكن لهذا الشخص.. المعروف بين القوم بصفاته الطيبة التي لا حاجة لذكرها… أن يُعتبر من الكاذبين.

فكلمة (هذا) تؤدي كل هذه المعاني، كما هي الحال في الآية أيضًا. ولكن الأسف على أن هؤلاء القساوسة الجاهلين تمامًا بمحاسن اللغة العربية ودقائقها،  يأخذون الأقلام ويجلسون لكتابة تفسير كلام الله القرآن الكريم، فيرتكبون أخطاء فادحة، كما يوقعون فيها غيرهم ممن يثقون بهم على جهلهم . فيا ليتهم كانوا قد رجــعوا واستــشاروا بعــضًا من إخوانهم المستشرقين غير المتعصبين.

البـرهـان الثاني

الذي ساقه القرآن على كونه منهجًا روحانيًا كاملاً، هو ولكن تصديق الذي بين يديه أي أنه كما يؤكد بنفسه على كونه كلاماً من عند الله وليس افتراء أحد، وذلك باشتماله على أنباء غيبيّة، فإن صدقه يتأكد من كلام الأنبياء السابقين أيضًا، إذ يحتوي كلامهم على أنباء عديدة عن نزول كلام كهذا وقد تحققت في شكل القرآن. فأيها الكفار! إنكم إن لم تصدّقوا القرآن فسوف تُعتبرون مكذِّبين للأنبياء الأولين، إذ كذّبتم ما أدلوا به من أنباء في شأن نزول هذا الكتاب.

ولنعـلم أن من أساليـب القرآن أنه – بدلاً من أن يقول إن الأنبياء الأولين مصدِّقون لمن بعدهم – يتحدث عن تصديق المتأخرين منهم للأولين، وقد اتبع هذا الأسلوب عند الحديث عن عيسى ويحيى وغيرهما من أنبياء الله عليهم السلام. ذلك أن الأولين يُدلون بأنباء عن  الآخرين ولا ريب، ولكن الذين يأتون فيما بعد يختمون بدورهم على صدق الأولين بتحقيق ما أنبأوا به من قبل. فكان الطريق الأمثل لبيان هذه الحقيقة ما اختاره القرآن، لأن القول بأن هذا النبي أو هذا الوحي يصدّقه الأنبياء الأولون، لا يحمل من الوقع والتأثير ما يوجد في قولنا: إن هذا النبي أو الكلام هو الذي يتم به تصديق النبي السابق، وإلاّ للزم تكذيبه، إذ إنّ هذا الأسلوب يفحم ويخضع في الحال أتباع النبيين السابقين.

لقد أتى القسيسون باستنتاج غريب من هذه الآية وأمثالها إذ يقولون: إنها تبرئ ساحة التوراة والإنجيل من تهمة التحريف بأيدي الناس!(تفسير وهيري)

والحق أن كل ما يعنيه القرآن بكونه مُصدِّقاً لما بين يديه من الكتب السماوية هو مجرد الإعلان عن تلك الكتب أنها كانت من مصدر إلهي. أما قولهم بأن هذا يعني أن الوحي السابق لا يزال محفوظاً من التحريف فإنهم بذلك يحمّلون الكلماتِ القرآنية ما لا تحتمل ويستنتجون ما لا يصح أبدًا. إن القرآن حافل بالأدلة على وجود التحريف في التوراة والإنجيل، كما أن سنة الرسول الكريم لشاهد قوي على ذلك. فلو كانت الكلمات القرآنية تعني في الحقيقة ما ذهب إليه هؤلاء القسيسون لما تردد اليهود والنصارى في الاعتراض على الرسول ، ولكن التاريخ لا يذكر أي اعتراض من جانبهم، بل الثابت أنه لَفَتَ نظر المسلمين لِمَا في كتبهم قائلاً: “لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم” (البخاري، الشهادات). فلو كانت كتبهم خالية من التحريف تمامًا  لمَا منع الرسول المسلمين من تصديق ما فيها.

وإن قيل: فلماذا يستشهد القرآن بالتوراة والإنجيل في معرض الحديث عن بعض القضايا، إذا كان يرى أن فيهما تحريفًا؟  فالجواب هو أنّ هذا لا يدل أبدًا على خلوّهما من التحريف، إذ إنّ العالم كلّه يستشهد بالكتب التاريخية، ومع ذلك ليس هناك عاقل واحد يعتبر أيّاً منها صحيحًا تمام الصّحة. إنما يعني هذا الاستشهاد تصديقَ حادث معين مذكور في كتاب ما وليس كل الكتاب.

البـرهـان الثالث

هو وتفصيل الكتاب أنّ في القرآن شرحًا وتفصيلاً للكتب السابقة. وهذا أيضا برهان عظيم على صدق القرآن وعلى كونه من الله عز وجل، إذ يستحيل فهمُ أي كتاب سماوي سابق بدون الاستعانة بما ورد في القرآن من مواضيع ومفاهيم. فمثلاً، لا شك أن التوراة والإنجيل والفيدا والزند وأفستا كلها تتحدث عن توحيد البارئ تعالى، وصفاته  وتجلياته، والوحي، والنبوة، والبعث بعد الموت وغيرها من الأمور الروحانية والأخلاقية، ولكن ليس بينها كتاب واحد يذكر هذه القضايا ببيان واضح، وإنما نضطر للاستعانة بالقرآن لحل ألغازها ومُعضلاتها.

خـذوا مثـلاً التوحيـد – هذه القضيـة الكبرى في الروحانيـات- فكلٌّ مــن هذه الكتب يتحدث عن التوحيد، ولكن بحديث مجمل موجز يكتنفه الغموض. واقرأوا ما كتبه أتباع هذه الكتب قبل نزول القرآن من مقالات وشروح حول التوحيد، فستجدونها تحمل معلومات ناقصة للغاية، ولكن الأمر معاكس تمامًا لما كتبوه بعد نزول القرآن، مما يؤكد أنه بانتشار المعارف القرآنية انكشفت الحقيقية لهم، فشرحوا على ضوئها عقائدهم الدينية الغامضة من قبل.

وتليها أهميةً قضيةُ النبوة، التي نرى معالجتها في التوراة والإنجيل وغيرهما غامضة تمامًا، ذلك لأن أهل هذه الكتب ما استطاعوا بعدُ أن يقفوا على حقيقة مفهوم كلمة “نبي” في أسفارهم المقدسة. أما القرآن فقد وضَّح هذا الموضوع وجلاّه، وهذه هي الحال نفسها بالنسبة للقضايا الهامة الأخرى.

فالآية تعلن أن هذا الكتاب يشرح ويوضح ما ورد في الكتب السابقة من مواضيع غامضة ومعانٍ مبهمة، فإذا رفضتموه فلن يكون لكم بد من الاعتراف بأن الله لم يستطع أن يبين في كتبكم الضخمة والعديدة أموراً قد ذكرها هذا الشخص في كتاب موجز. فلا مفر لكم من أحد الأمرين: إما أن تصدّقوا القرآن، أو تكذّبوا كتبكم السابقة أيضًا.

البـرهـان الرابع

على صدق القرآن هو أنه (لا ريب فيه) ولا مجال للشك فيه.. أي أن هذا الكتاب بنفسه يسوق الأدلة على صدقه ولا يحتاج إلى الآخرين لبيانه. فقد وضّح مطالبه ومفاهيمه بحيث إن الذي يتدبر فيه كما ينبغي يجد فيه البراهين والأدلة على حقانيته. أما الشك الذي يتولد عند أحدٍ فليس سببه هذا الكتاب المصحوب بالأدلة على صدقه، وإنما منشأه غفلة القارئ وتهاونه في محاولة الفهم الصحيح .

وهذا الأمر أيضا يشكل دليلاً على كون هذا الكتاب من عند الله تبارك وتعالى، إذ ليس بوسع إنسان أن يُثبت الأمور الغيبية بشكل مقنع كامل، لأن العديد منها لا يُثبَت أبدًا بالأدلة العقلية وحدها، وإنما يتطلب الأمر دليلاً من المعاينة والخبرة الشخصية، والإنسان الضعيف لا يستطيع أن يهيئ الأسباب التي تساعد الناس على مشاهدة الأمور الغيبية واختبارها، وإنما الله وحده هو القادر على أن يهيئ لهم أدلة هي بمثابة الاطّلاع على الغيب. خذوا مثلا الوحي والإلهام. إنه أمر غيبـي، ويستطيع الإنسان أن يسوق على وجود ظاهرة الوحي الإلهي أدلة عقلية، ولكن ليس بوسعه أن يفتح على أحد بابَ الوحي أو يَعِدَه بنزوله عليه. ولكن الكتاب الرباني قادر على كل ذلك، فبإمكانه أن يعلن أن الذين يصدّقونني سيفتح الله عليهم باب الوحي، كما أن تصديق إعلانه ممكن بفعل إلهي إذ ينـزل الله بالفعل وحيه عليهم. فالكتاب الذي يعلن – كدليل على نزول الوحي الإلهي حقًا – أن هذا ليس عجبًا، بل إن وحي الله ينـزل الآن وسوف يستمر في النزول مستقبلاً أيضًا، وأن مئات البشر سوف يسمعون كلام الله تعالى.. أقول: إذا أعلن كتاب ما ذلك فلا شك ولا شبهة في كونه وحيًا إلهيًا حقًا. إذ ليس بوسع الإنسان أن يأتي بمثل هذه البراهين المقنعة على وجود الوحي الإلهي، وأن يستأصل الشكوك بهذا الشكل.

البـرهـان الخامس

على صدق القرآن هو كونه (من رب العالمين).. بمعنى  أن تعاليمه تُجلّي الصفةَ الإلهية (رب العالمين)، فشرائعه لا تخص قوما دون قوم أو زمنا دون زمن، كما كانت الكتب السابقة، وإنما هي ذات صبغة عالمية؛ إنها للأمم بأسرها، وللعصور كلها، وقد روعيَ فيها حاجات كل قوم وقضايا كل زمن.

وهذا الأمر أيضا ليس في مقدرة أي إنسان، إذ ليس بوسع أحد أن يراعي حاجات كل قوم ومتطلبات كل عصر. لأن الإنسان إنما يتأثر بما حوله فقط، ولا يراعي حتى من حاجات نفسه هو إلا ما كان ظاهرًا باديًا لعينيه. وإنما الله وحده القادر على إنزال تعليمٍ نافع لكل شعب وصالح لكل عصر، لا يفقد صلاحيته بتغير الزمن، مراعيًا كلّ ما في فطرة الإنسان من حاجات ومشاعر. والقرآن متّسم بهذه المزايا إذ يراعي تمامًا الطبيعة البشرية بكل أنواعها. فإنه لا يأمر مثلاً أن نرحم دائمًا دون انتقام أبدًا ، أو أن ننتقم دومًا دون عفوٍ أبدًا، بل يعلّمنا أن نرحم في محل الرحمة، ونعاقب إذا كان العقاب ملائمًا. وهذا هو شأنه في جميع تعاليمه، فميزتها أنها تراعي الطبائع البشرية جمعاء وتنظر إلى الظروف كافة، وتأخذ في الاعتبار العالم والجاهل معًا. وهذا برهان عظيم على أنه كلام من رب العالمين. فتبارك الله أحسن الخالقين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك