فشل محاولة صلب المسيح عليه السلام

هذا الكتاب دراسة تحليلية موثقة للدفاع عن الحق الذي قامت عليه المسيحية الأولى النقية التي صدع بها المسيح الناصري عيسى بن مريم كما أنه بيان يكشف الحقيقة التي حجبَها تجّار الدين وسماسرة الخلاص، زبانية الترهيب وأصحاب صكوك الغفران.

والحق أن العقائد المسيحية قد اكتسبت صورتها الحالية من خلال عملية تغيير ممتدة على تاريخ المسيحية كله تقريبًا. فبدلا من الخوض في جدال لا نهاية لـه حول عملية التغيير تلك، اختار الكاتب دراسة العقائد المسيحية الحالية واختبارها على محكّ المنطق والعقل. وبالإضافة إلى موضوعات أخرى قد تمّ في هذا الكتاب بحث مسائل هامة كبنوة المسيح، الكفَّارة، الثالوث، المجيء الثاني للمسيح.

هذا عزيزي القارئ باختصار شديد هو محتوى هذا الكتاب القيِّم: «المسيحية رحلة من الحقائق إلى الخيال» لحضرة ميرزا طاهر أحمد (رحمه الله رحمة واسعة). ورأت أسرة «التقوى» نشره على صفحاتها عبر حلقات متسلسلة نظرا إلى الدعاية الواسعة التي نشطت بشكل خطير في الآونة الأخيرة صوتًا وصورةً وكتابةً بُعَيد الدمار الذي حلّ – ولا يزال يحلّ – بالمسلمين وأراضيهم من قِبل «الدجال».. القوى المادية للمسيحية بالتواطؤ مع الصهاينة. ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب بيان حُبٍّ صادق مخلص للمسيح والمسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كما أنه رسالة حبّ لهم، لأنه يقودهم إلى حقيقة مَن يحبّون، وما يحبّون: المسيح الحق، والمسيحية الحقة. ولقد آن الأوان لأن تُفني المسيحية الحقّة ضَلالَ من حرّفها وضيّعها، ولتعود بأجيالها وعالمها كلّه إلى هداية رب العالمين.

وقد حصل شرف نقل الكتاب إلى اللغة العربية للكاتب السوري الأستاذ محمد منير الإدلبي وراجعه ثُلّة من أبناء الجماعة المتضلّعين في اللغة والدين. «التقوى»

الفصل الرابع

صَلب المسيح!

قبل أن نتوجه إلى الوصف الإنجيلي للوقائع المتعلّقة بالمسيح وصَلبه، ربما يكون مناسبًا أن نذكر هنا باختصار فهمَ المسلمين الأحمديين لما حصل أثناء حادث الصليب وبعده. وسوف نتطرّق إلى هذا الموضوع هنا بإيجاز، أمَّا التفاصيل فسوف نناقشها فيما بعد.

نعتقد أن حادث الصليب كان محاولةً لقتل المسيح مثل أيّ محاولة أخرى للقتل. ولقد كان الصَّلب مجرّد سلاح استُخدم لتنفيذ تلك المحاولة الإجرامية. إلا أن محاولة صلبه فشلت ولم يتمكنوا من قتله على الصليب.

عندما نقول ذلك، فإننا نفهم هذا الأمر ونعبّر عنه تمامًا كما نعبِّر عن أية محاولة قتل أخرى. فإذا جرت محاولةُ قتل امرئ وفشلت، فلا يمكن القول إن هذا الشخص قد قُتِل. فمثلاً لو تمت مثل هذه المحاولة بالسيف، ثم فشلت فلا يمكن لأحد القول بأن هذا الشخص قد قُتِل بالسيف. وهكذا نؤمن – نحن المسلمين الأحمديين – بأنها كانت مجرد محاولة لقتل المسيح، وكان الصَّلب هو الأداة لتنفيذ تلك الجريمة. وبعد ساعات قليلة من المعاناة الشديدة على الصليب، وقبل أن يدركه الموتُ، أُنزِل من الصليب في حالة غيبوبة عميقة، ثم تمّ إنعاشه منها فيما بعد.

وكما أنه ليس ثمة دولة تستطيع أن تمنح الشخصَ المحكومَ عليه بالموت غطاء قانونيًا وحماية لحياته فيما لو أفلت من الإعدام بحيلة ما، كذلك لم يكن بالإمكان – حسب القانون الروماني – أن  تُمنح الحصانة لعيسى بعد حادث الصليب. وكان ذلك سببًا كافيًا لفراره من البلاد الخاضعة للنفوذ الروماني إلى أرض يكون حرًّا فيها. ولكن كان عليه أيضًا أن يؤدّي واجبًا آخر، وأن يحقق إحدى النبوءات. كانت هناك خراف إسرائيل الضالّة الذين كانوا بعد تشردهم من الأرض بسبب الغزو البابلي والروماني قد انتشروا في أراضٍ عديدة في اتجاه الشرق، وكانوا ينتظرون ظهور المسيح. وكان هذا هو السبب الآخر القوي جدًّا لهجرة عيسى من أرض يهودا إلى تلك الأراضي الأجنبية الغريبة عنه، حيث استقر اليهود على مدى قرون عديدة. وفي هذا القدر من البيان كفاية في الوقت الحالي.

وأود أن أوضّح شيئًا واحدًا لأولئك الذين يطلبون منّا برهانًا على وفاة عيسى الطبيعية بعد أن تمّ إنقاذه من الصليب، بأنهم بدون وجه حق يحمِّلوننا عبء تقديم البرهان.

إن ما كان يعنيه بالخراف الضالّة هو الأسباط العشرة من بني إسرائيل، الذين كانوا قد هاجروا قبل مجيء عيسى من أرض يهودا إلى بلادٍ شرقية نائية. إذن فكان وعده هذا يعني أنه لن يموت على الصليب، بل إن الله سيهبه حياة طويلة لمتابعة مهمته…

هناك ظواهر طبيعية معروفة لدى الإنسان ومفهومة عالميًا. نحن نعلم أن فترة حياة الإنسان على الأرض لا تتجاوز مئة وخمسين سنة أو ما يقاربها، ولكنها ليست بالتأكيد ألف سنة أو أكثر. وهذه معلومة عامّة تتعلّق بفترة الحياة البشرية على الأرض. وإذا ظنَّ أحدٌ أن شيئًا مناقضًا لهذه القاعدة قد حدث فعلاً، فإن عبء البرهان يقع على كاهله هو، وليس على كاهل من يعتقد بالقاعدة أكثر من اعتقاده بالاستثناءات. هذا الفهم يجب أن يطبَّق على الظروف المحيطة بحياة المسيح وموته. إن الذين يظنّون أنه لم يمت عليهم أن يأتوا بالبرهان، ولكن الذين يعلنون أنه مات حتمًا إنما يستندون إلى قوانين الطبيعة وبالتالي يجب ألا يُطالَبوا بتقديم أيّ برهان بعد ذلك، وإلا لادّعى كل واحد أن بعضًا من أجداده القدامى لم يمت. فإذا قام من يزعم بمثل هذا الزعم ويتحدّى الجميع أن يُثبتوا عكسه، فماذا يكون ردّ فعلهم؟ كيف يمكن لسامع بسيط أن يقبل مثل هذا التحدّي؟ إنه لن يسعه إلا القول: إن قوانين الطبيعة هكذا تعمل على كلّ كائن بشري دون استثناء. فإذا كان هناك من يزعم بشيءٍ يناقض قوانين الطبيعة فعليه تقع مسئولية تقديم البرهان.

هذا هو الجواب الأول، ولكنني الآن سأقوم بمحاولة متواضعة أخرى لأوضّح الأمور أكثر ومن وجهة نظر مختلفة. فمهما كانت صلة عيسى المسيح بالله فإنه لم يكن خارج متناول الموت. فالمسيحيون أنفسهم يؤمنون أنه قد مات. ولو كانت طبيعته مناقِضةً للموت فما كان ممكنًا أن يموت أصلاً. ومع ذلك فإننا نتّفق جميعًا على أنه قد مات مرّة واحدة على الأقل.

وأما الجزء المتبقي من البحث، فيدور حول معرفة زمن موته، هل مات على الصليب أم فيما بعد؟

آية النبي يونان (يونس)

يمكننا أن نبرهن من الكتاب المقدس على أن الله لم يتخلَّ عن المسيحَ، وأنه قد أنقذه من الموت المشين على الصليب. ويمكن دراسة هذا البرهان على ضوء الوقائع التي سبقت حادثة الصلب، وكذلك وقائع الصلب ذاتها والتي تلتها، كما هي مروية في العهد الجديد.

قبل حادثة الصلب بفترة طويلة وعَدَ عيسى قومَه بأنهم لن يروا إلا آيةَ يونان (يونس النبي)، حيث نقرأ في إنجيل متى الإصحاح 12 العدد 38-41 ما يلي:

“عندئذ أجابه بعض الكتبة والفريسيين، قائلين: «يا معلم، نرغب في أن نشاهد آية تجريها!» فأجابهم: «جيل شرير خائن يطلب آية؛ ولن يعطى آية إلا آية يونان النبي. فكما بقي يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا سيبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. سيقف أهل نينوى يوم الدينونة مع هذا الجيل ويدينونه؛ لأنهم تابوا لما أنذرهم يونان. وها هنا أعظم من يونان!”

إذن قبل أن نقرّر ماذا حدث للمسيح عيسى، يجب أن نفهم ماذا حدث للنبي يونان، لأن عيسى أعلن أن المعجزة ذاتها سوف تتكرّر بالنسبة له.

ماذا كانت آية النبي يونس ؟ هل مات في بطن الحوت، ثم قام من الموت فيما بعد؟ قد أجمع العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون جميعًا على أن النبي يونان لم يمت في بطن الحوت، بل ظلّ معلَّقًا بين الحياة والموت، ثم أنقذه الله من تلك الحال بإعجاز؛ في حينٍ لو كان هناك شخص آخر مكانه لمات. ومع ذلك فلا بدّ أن بعض قوانين الطبيعة الدقيقة قد تعاونت جميعًا بأمر من الله لإنقاذه من الموت. تذكََّرُوا أننا لا نناقش هنا فيما إذا كان ذلك الأمر ممكنًا أم لا، وإنما نشير هنا فقط إلى أن عيسى لما قال إن ما حدث ليونس النبي سوف يحدث له أيضًا؛ فلا بد أنه كان يعني، حصرًا، أنه سيحدث له مثل ما حدث للنبي يونس، وهذا ما فهمه كل الحضور. لا أحد في عالم اليهودية كلّه، سواء في أرض يهودا أو في أي مكان آخر حيث تشرَّد اليهود واستوطنوا، قد تلقّى من هذا الادعاء لعيسى أية رسالة تفيد فهما مخالفا لهذا الفهم. فجميعهم كانوا يؤمنون أن النبي يونس – بإعجاز أو بغيره – قد عاش لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الحوت، ولم يمت في تلك الفترة ولا للحظة واحدة. وبطبيعة الحال لدينا تحفّظاتنا حول هذا المفهوم! فإن قصة النبي يونس ، كما يرويها لنا القرآن، لا تذكر في أيّ موضع بأن يونس النبي قد ظلّ يُعاني في بطن الحوت لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال.

وعلى كلّ حال، فإننا نعود هنا إلى القضية المطروحة، ونحاول أن نسلّط الضوء على أوجه التشابه الحقيقية بين المسيح عيسى والنبيّ يونس عليهما السلام التي تنبّأ بها عيسى المسيح. هذه المشابهات تتحدث بوضوح عن قضائه ثلاثة أيام وثلاث ليال في ظروف حرجة، كما تتحدث عن معجزة نجاته من موتٍ محتمٍ، وليس عن عودته إلى الحياة بعد الموت. فقال عيسى إن هذا تمامًا سوف يحدث معه أيضًا.

وعدُ المسيح لبيت إسرائيل

الدليل الثاني والهام على عدم موت المسيح ونجاته من الصلب هو أنه أخبر قومه أن خراف بيت إسرائيل، الذين كانوا يقيمون داخل أرض يهودا وحولها، لم يكونوا وحدهم الخراف الإسرائيلية، وأنه لم يُرسَل من الله إليهم فقط، بل أيضًا إلى الخراف الأُخرى من القطيع ذاته. وكما أنه قد جاء لينقذهم (بيت إسرائيل) كذلك سوف يذهب وينقذ الآخرين أيضًا (الذين ليسوا داخل فلسطين)، حيث نقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح 10 العدد 16 ما يلي:

“ولي خراف أخرى لا تنتمي إلى هذه الحظيرة، لا بد أن أجمعها إلي أيضا، فتصغي لصوتي؛ فيكون هناك قطيع واحد وراع واحد.”

وكما هو معروف، لم يغادر عيسى أرض فلسطين إلى أيّ مكان آخر في الفترة بين وعده هذا وبين حادث الصلب.

والسؤال هنا: إذا كان يسوع قد صعد إلى السماء إلى الأبد، فهل كانت خراف بيت إسرائيل الضّالة قد صعدت إلى السماء قبله؟!

يقول المسيحيون إن يسوع، بعد أن أُنزل من على الصليب ميّتًا، فإن روحه عادت إلى جسده بعد ثلاثة أيام تقريبًا، ثم شوهد بعد ذلك يصعد بين الغمام ويختفي في أعماق السماء المجهولة، ليصل في النهاية إلى عرش أبيه وليجلس على يمينه!

فإذا كان هذا الأمر صحيحًا فسنواجه معضلة كبيرة حقًّا، وسنضطر إلى اختيار أحد الموقفين: الأول، وهو ذلك الموقف الذي اتخذه عيسى بنفسه، والآخر هو ذلك الذي اتخذه أتباعُه.

وهذان الموقفان لا يمكن التوفيق بينهما، وقبول أحدهما سيؤدي بالتأكيد إلى نفي الآخر تمامًا.

فإذا كان عيسى صادقًا في وعده لقومه – كما نعتقد – كان عليه، قبل أن يُرفع إلى السماء، أن يتذكّر وعده لهم، وأن يطلب من الإله الأب أن يمدّ في بقائه على الأرض كي يتمكن من السفر إلى البلاد التي ذهب إليها قبله كثير من قبائل بيت إسرائيل واستوطنوها. فما كان بوسع يسوع أن يصعد إلى السماء – والحال هذه – دون أن يُخلف وعده وعهده، ودون أن يلحق أضرارًا فادحة بشخصية الإله الكامل والإنسان الكامل المتمثلين معًا في شخصه.

وعلى العكس من ذلك إذا اعتبرنا رجال الدين المسيحي على صواب، وقَبِلْنا أن يسوع قد تناسى فعلاً وعدَه لبيت إسرائيل، وصعد إلى السماء رأسًا، فلا بدّ أن نستنتج، بقلب مُثقل بالهموم، أن رجال الدين المسيحي هم على الصواب حقًّا، ولكن عندئذ تتحوّل المسيحية.. للأسف.. إلى عقيدة زائفة، لأنه إذا ثبت كذب يسوع، فلا يمكن أن تكون المسيحية عقيدة صحيحة.

إننا نعتقد أن عيسى كان نبيًا صادقًا من الله، ولا يمكن أن يكون قد وعد كذبًا. إن ما كان يعنيه بالخراف الضالّة هو الأسباط العشرة من بني إسرائيل، الذين كانوا قد هاجروا قبل مجيء عيسى من أرض يهودا إلى بلادٍ شرقية نائية. إذن فكان وعده هذا يعني أنه لن يموت على الصليب، بل إن الله سيهبه حياة طويلة لمتابعة مهمته، وأنه لم يكن رسولاً إلى سِبطَين إسرائيليَّيْن فقط يقيمان حوله، بل كان أيضًا رسولاً إلى جميع أسباط بني إسرائيل.

يزوّدنا هذان البرهانان معًا بإشارة واضحة إلى ما كان سيحدث لعيسى بعد حادثة الصّلب.

أحداث الصّلب

وهناك مسألة أخرى ذات صلة بهذا البحث وتتعلق بالتاريخ والموعد اللذين حددهما بيلاطس للصلب. وحتى قبل أن يحدد التاريخ والوقت، نقرأ عن أشياء أخرى ينبغي ألا يتفاجأ المرء بها، والتي كانت قد لعبت دورًا هامًّا في أخذه قراره النهائي.

نعلم أولاً، بناءً على ما ورد في العهد الجديد، أن زوجة بيلاطس كانت تكره بشدةٍ إصدارَ زوجها حكمًا ضدّ عيسى، وذلك بسبب تأثير رؤيا رأتها في الليلة السابقة لمحاكمته. وكانت خائفة جدًّا بسبب هذه الرؤيا، بحيث أيقنتْ أن عيسى بريء تمامًا، حتى إنها رأت من الضروري أن تقاطع مجريات المحكمة، فنقلت فحوى هذا الحلم إلى زوجها قبل أن يُصدر حكمه (إنجيل متى 27: 19). وربما هذا الاحتجاج العاجل من قِبل زوجة بيلاطس هو ما دفع بيلاطس إلى أن يُظهر للناس براءتَه من مسؤولية الحكم على عيسى وإدانته، حيث نقرأ في إنجيل متى 27: 24 ما يلي:

“فلما رأى بيلاطس أنه لا فائدة، وأن فتنة تكاد تنشب بالأحرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع، وقال: «أنا بريء من دم هذا البار. فانظروا أنتم في الأمر!».”

وهذا يعني أن بيلاطس أقر أن عيسى كان بريئًا بلا شك، وأنه أصدر الحُكم القاسي ضد عيسى مكرَهًا. ويبدو واضحًا جليًّا من العهد الجديد أن المجتمع اليهودي ذا النفوذ القوي قد تآمر على عيسى، وأصرّ على معاقبته، ولذلك فإن أيّ قرار يتخذه بيلاطس معاكسًا لرغبة اليهود لا بد أن يتسبب في اضطراب خطير في المنطقة. وهذا ما جعل بيلاطس عاجزًا (عن إطلاق سراح عيسى)، وعبَّر عن ذلك بغسل يديه.

ولقد قام بيلاطس بمحاولة أخرى أيضًا لإنقاذ عيسى، حيث خيّر الجمع الثائر بين أن ينقذ حياة المسيح أو أن يُطلق لهم سراح مجرمٍ معروف اسمه باراباس. (متى 27: 15-17)

وهذا يدلُّنا على ما كان يدور في خلد بيلاطس في ذلك الوقت. لقد كان ضدّ فكرة إدانة المسيح تمامًا، وبسبب هذا الوضع النفسي والفكري حدّد فترة بعد ظهر يوم الجمعة موعدًا للصلب. إن ما حدث فعلاً لهو إشارة واضحة إلى أن بيلاطس فعل ذلك متعمِّدًا، لأن السبت لم يكن بعيدًا عن ظُهرِ يومِ الجمعة، وبصفته قيِّمًا على القانون كان يعرف أكثر من أي شخص آخر أنه لا بدّ أن يُنـزَل عيسى من على الصليب قبل أن يبدأ السبت بمغيب شمس يوم الجمعة؛ وهذا ما حدث بالضبط. وإن عملية الصلب التي كانت تستغرق عادة ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ على وجه التقريب كي يموت بعدها المصلوب معَذَّبًا على الصليب، لم تستغرق في حالة عيسى إلا ساعات قليلة فقط.

وإن المرء ليتعجب كيف يمكن لرجلٍ مثل عيسى.. الذي جعلت منه الحياة الخشنة شخصًا ذا بنية قوية.. أن يموت في هذا الوقت القصير!

ألا يمكن اعتبار هذا الحدث مفتاحًا لفهم لغز النبي يونس؟ بما أنه كان من الممارسة السائدة آنذاك أن المحكوم عليه يُعلَّق على الصليب لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن هذا يقرع جرسًا في ذهن المرء حول التشابه بين المسيح عيسى والنبي يونس عليهما السلام كما سبق آنفًا. يقال إن يونس بقي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ومن الممكن أن يكون هو أيضًا قد نُبذَ – بتدبير من الله تعالى – بالعراء حيًّا بعد ثلاث ساعات بدلاً من ثلاثة أيام. إذن ما حدث للمسيح عيسى بن مريم يصبح مرآة تَعكس وتعيد ما كان قد حدث للنبي يونس.

ولنعد الآن إلى ما حدث أثناء حادثة الصلب وحتى في اللحظة الأخيرة فنرى أن يسوع المسيح حتى في اللحظات الأخيرة يقف متضرعًا أمام الله صائحًا بإصرار وإلحاح :”إلهي إلهي لماذا تركتني”؟!

يا له من تعبير مأساويّ يعبِّر عن الألم العميق من حالة الإحباط التي كان فيها. إن هذا التضرع يشير بأدب إلى سابق وعد وتأكيد له من الله تعالى، وإلا لا معنى لمثل هذا الصراخ. إن هذا لبرهان ساطع على أن المسيح ما كان يرغب بمحض إرادته في أن يتحمل وزر الآخرين أو كان يتطلع بشغف إلى ساعة الموت. فلماذا إذن صرخة الكرب العميقة هذه، إذا كان العقاب قد جاء بناءً على طلبه؟! لماذا يلومُ يسوع أباه، أو حتى يدعوه من أجل الخلاص؟!

إن أقوال المسيح هذه يجبُ أن تُقرأ على ضوء ما قد حدث من قبل. كان يدعو الله طيلة الوقت لينقذه من تلك الكأس الـمُرَّة.

أما نحن المسلمين الأحمديين فنعتقد أنه من المستحيل ألا يستجيب الله دعوات شخص تقيٍّ وربانيٍ مثل عيسى، ولا بدّ أن يكون قد أُخبِر بأن دعواته قد استُجيبت. وأنا لا أعتقد أنه أسلم روحه على الصليب. وعندي، ليس هناك أيّ تناقض في موقف عيسى، بل أجد فيه انسجامًا تامًّا. والقول بموته كان انطباع أحد المشاهدين الذي لم يكن طبيبًا ولم يتسن له فحص المسيح طبيا. كان ثمة مُشاهد – يرقب بقلق واهتمام مخافة أن يدرك الموت سيده المحبوب – قد رأى انحناء رأس المسيح المتعب وذقنه المستقر على صدره، فصرخ قائلاً: آه “لقد أسلم الروح”. ولكن كما أسلفنا لا نناقش هنا مصداقية الرواية الإنجيلية وحقيقتها، ولا نناقش أيّ تفسير لها، بل إننا في هذا البحث نقوم بدراسة نقدية نتفحّص من خلالها الحكمة والمنطق في العقيدة المسيحية وفلسفتها.

إن المسألة الثابتة بوجه تام – سواء كان قد أغمي عليه أم مات – هي أن صرخته المؤلمة ودهشته على ما كان على وشك الحدوث، لبرهان قوي على أنه كان يتوقّع عكس ذلك تمامًا.

فإذا كان المسيح قد طلب الموتَ بنفسه، فليس هناك مبرر إطلاقًا للدهشة التي أبداها. وإن تفسيرنا كمسلمين أحمديين هو أن عيسى كان مندهشًا، لأن الله كان قد وعده بالخلاص من الموت على الصليب أثناء توسّلاته ودعائه في الليلة السابقة. ولكن كان لله تعالى خطة أخرى، فلقد جعل عيسى يُغمى عليه فقط حتى ينخدع الحرّاس فيعتقدوا أنه قد مات، ويسلموا جسده ليوسف الذي من  بَلْدَةِ الرّامّة حتى يسلّمه لأقربائه.

إن الدهشة التي نلاحظها في الكلمات الأخيرة التي نطق بها عيسى قد أظهرها بيلاطس أيضًا، الذي صاح حين أخبروه بموته: هل قد مات؟! حيث نقرأ في إنجيل مرقس الإصحاح 15 العدد 44 ما يلي:

  “فدهش بيلاطس من أنه قد مات، واستدعى قائد المئة واستفسره: هل مات منذ وقت طويل؟”

ولا بدّ أن بيلاطس كانت لديه خبرة طويلة تتعلّق بحالات الصلب خلال فترة عهده كحاكم لمنطقة “اليهودية”، ولم يكن ليعبّر عن دهشته لخبر موت المسيح لو لا قناعته أن الموت لا يمكن أن يدرك شخصًا معلّقًا على الصليب خلال فترة قصيرة لساعات قليلة فقط. ومع ذلك فقد قبل طلب تسليم جسد عيسى في ظروف غامضة. ولذا فإن بيلاطس متّهم بالتآمر إلى الأبد، حيث أنه تحت تأثير زوجته خطّط لأن يتم صلب عيسى في ساعة قريبة جدًّا من بداية سبت اليهود؛ وثانيًا أنه وافق على تسليم جسد عيسى رغم التقارير التي تُشكّك في موته!

إن قرار بيلاطس هذا قد أحدث قلقًا عظيمًا لدى اليهود، الذين كانوا قد رجوه حراسة قبر عيسى وعبَّروا عن شكوكهم بحقيقة موته، حيث نقرأ في إنجيل متى الإصحاح 27 العدد 62-66 ما يلي:

“وفي اليوم التالي، أي بعد الإعداد للسبت، تقدم رؤساء الكهنة والفريسيون معا إلى بيلاطس، وقالوا: «يا سيد، تذكرنا أن ذلك المضلل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فأصدِرْ أمرا بحراسة القبر بإحكام إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه، ويقولوا للشعب: إنه قام من بين الأموات، فيكون التضليل الأخير أسوأ من الأول». فأجابهم بيلاطس: «عندكم حراس! فاذهبوا واحرسوه كما ترون». فذهبوا وأحكموا إغلاق القبر، وختموا الحجر، وأقاموا حراسا.”

كذلك نجد في الإنجيل أن جسد المسيح، عندما أُنزل من على الصليب لم تُكسر ساقاه، في حين أن ساقَيْ كلّ من اللصَّين اللذين عُلِّقا معه قد كُسرتا لكي يموتا بشكل مؤكد. نقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح 19 العدد 31-33 ما يلي:

“ولما كان الإعداد يتم في ذلك اليوم، طلب اليهود من بيلاطس أن تكسر سيقان المصلوبين، فتؤخذ جثثهم لئلا تبقى معلقة على الصليب يوم السبت، ولا سيما لأن ذلك السبت كان يوما عظيما. فجاء الجنود وكسروا ساقي كلا الرجلين المصلوبين مع يسوع. أما يسوع، فلما وصلوا إليه وجدوه قد مات، فلم يكسروا ساقيه.”

إن ترك عيسى دون كسر ساقيه، لا بدّ أن يكون قد ساعده على صحوته من حالة الغيبوبة. وليس من المستبعد أن يكون حرّاس عيسى قد أُمروا من قِبل بعض مبعوثي بيلاطس ألاَّ يكسروا ساقي المسيح، ربما كان ذلك كبادرة احترام له ولجماعته المسيحية البريئة.

وطبقًا للإنجيل أيضًا، عندما طُعن جنْب عيسى خرج منه دم وماء. نقرأ في إنجيل يوحنّا الإصحاح 19 العدد 33-34 ما يلي:

“أما يسوع، فلما وصلوا إليه وجدوه قد مات، فلم يكسروا ساقيه. وإنما طعنه أحد الجنود بحربة في جنبه، فخرج في الحال دم وماء.”

فلو أنه كان قد مات وتوقف قلبه عن النبض، لكان من المستحيل أن يحدث هذا النـزيف الفوري ويندفع الدم والماء من جرحه! وإنما كان من الممكن – على الأكثر – أن ينساب دمٌ متخثّر. ولكن هذه ليست الصورة التي يقدّمها لنا العهد الجديد، بل جاء فيه: إن الدم والماء اندفعا في الحال! وأما فيما يتعلّق بذكر الماء فيجب ألاَّ يستغرب المرء من ذلك في حالة عيسى، إذ يمكن أن يكون قد أصيب بذات الجنب (Pleurisy)* في ساعات ابتلائه بالألم الشديد على الصليب. ربما نتجت إفرازات من غشاء الرئة بسبب الإجهاد الشديد الذي تعرض له المسيح أثناء الصلب. ويبدو أن هذه الحالة.. رغم كونها خطيرة ومؤلمة في الحالات العادية.. قد تحولت إلى صالح عيسى. لأنه عندما طُعن في جنبه فإن ذلك الكيس المائي يمكن أن يكون قد لعب دور الوسادة التي حفظت أعضاء الصدر من أن تخترقها الحربة بصورة مباشرة، فاندفع الماء ممزوجًا بالدم من الجرح دليلاً على أن ذلك القلب كان ينبض بقوة.

وثمة دليل آخر وهو أنه حسب الرواية الإنجيلية، بعد أن تمّ تسليم جسد عيسى ليوسف الراميّ، نُقل لتوِّه إلى مكان سرّي للدفن. وكان المكان عبارة عن قبر لا يسع لعيسى فقط، بل أيضا لاثنين آخرين معه لأجل الاعتناء به. نقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح 20 العدد 10-12 ما يلي:

  “ثم رجع التلميذان إلى بيتهما. أما مريم فظلت واقفة في الخارج تبكي عند القبر. وفيما هي تبكي، انحنت إلى القبر. فرأت ملاكين بثياب بيض، جالسين حيث كان جثمان يسوع موضوعا، واحدا عند الرأس والآخر عند القدمين.”

ليس ذلك كل شيء، بل يخبرنا أيضًا العهد الجديد أن مرهمًا – كان قد أُعِدَّ مسبقًا – استُعمل لعلاج جروح عيسى. (راجع إنجيل يوحنا الإصحاح 19 العدد 39-40)

هذا المرهم الذي أعده تلاميذ عيسى، كان يحتوي على مواد ذات خصائص شافية للجروح ومسكنة للألم… إلخ. فعلامَ كل ذلك الاهتمام والقيام بذلك العمل الشاق لجمع 12 نوعًا من المواد النادرة لتحضير مرهمٍ أصلا؟!

إن هذه الوصفة المستخدمة لعلاج جروح عيسى مسجلة في كثير من الكتب الطبية القديمة الموثوق بها مثل الكتاب الشهير “القانون في الطب” لأبي علي بن سينا. إذن فما كانت الحاجة إلى استعمال مرهم على جثة هامدة؟!

ولا يمكن أن يكون لهذا أي معنى إلا إذا كان لدى الحواريين سبب قوي للاعتقاد بأن عيسى سوف يُنـزل من على الصليب حيًا وليس ميتًا. وهكذا فان القديس يوحنا هو التلميذ الوحيد الذي غامر بإعطاء شرح يبرِّر تحضير المرهم واستعماله لمعالجة جروح عيسى. وهذا أيضا يؤيد الحقيقة. فإن عملية استعمال المرهم على جثة هامدة، كانت تعتبر سلوكًا شاذًا وغير مفهوم لدى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن عيسى كان ميتًا حين استعمال المرهم! ولهذا السبب كان على القديس يوحنا أن يقدم شرحًا لذلك. فقال إن ذلك قد تم لأنها كانت عادة يهودية شائعة بأن يدهنوا أجساد أمواتهم بالمراهم العطرية والحنوط. وإنها لحقيقة هامة يجب الانتباه إليها أن جميع العلماء المعاصرين الذين بحثوا في هذا الأمر متفقون على أن القديس يوحنا لم يكن من أصل يهودي، وأنه برهن على ذلك بشرحه هذا. فمن المعلوم والمؤكد أن اليهود أو بني إسرائيل لم يستعملوا مطلقًا أيّة مراهم، أيّا كان نوعها على أجساد أمواتهم. وعليه فإن العلماء مقتنعون أن القديس يوحنا لا بد أن يكون من أصل غير يهودي وإلا لما كان يجهل التقاليد اليهودية إلى هذا الحد. إذن لا بد من أن يكون هناك سبب آخر لهذا الأمر.

لقد تمّ استعمال ذلك المرهم بغية إنقاذ عيسى من موت وشيك. وإن الشرح الوحيد يكمن في حقيقة إن حواريّي عيسى لم يكونوا يَتوقعون موته، كما لم يمت هو فعلاً على الصليب. وأن الجسد الذي أُنزل من الصليب لا بد أن يكون قد أظهر علامات الحياة قبل استعمال المرهم؛ وإلا فإن الأمر يبدو في حق من قام بهذا العمل غاية في الغباء، وهو عمل لا مبرر له ولا فائدة منه. إذ ليس من المحتمل أن يكون أولئك الذين قد أعدُّوا هذا المرهم مسبقًا، قد فعلوا ذلك دون دلالة قوية على أن عيسى لن يموت على الصليب بل سيُنـزل عنه حيّا، ولكن مجروحًا بجراح خطرة تحتاج إلى دواء ناجع.

كما يجب ألا يغيبن عن البال أن مكان القبر، حيث وُضع عيسى، بقي سرًّا مكتومًا يعرفه القليلون من تلاميذه. والسبب الواضح في ذلك أنه لا زال حيًا ولم يكن قد تخطى الخطر بعد.

أما الذي حدث في القبر فإنه موضع نقاش من نواحٍ كثيرة، ولا يمكن أن تصمد هذه الأحداث أمام الفحص الانتقادي، كما أن هذه الأحداث لا يمكنها أن تثبت أن الشخص الذي خرج من القبر كان قد مات فعلاً ثم قام من الأموات.

الدليل الوحيد الذي لدينا هو اعتقاد المسيحيين أن عيسى الذي خرج من القبر، كان له الجسد نفسه الذي صُلب، وعليه العلامات والجروح نفسها!

فإذا كان قد شوهد خارجًا من القبر بالجسد ذاته، فالنتيجة المنطقية الوحيدة التي يمكن استخلاصها هي أنه لم يمت إطلاقًا.

وهناك دليل آخر يشير إلى استمرارية حياة عيسى، هو كما يلي:

لقد شوهد المسيح بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال، ليس من قِبل الناس عامة، بل من قِبل حوارييه فقط. وبمعنى آخر، من قِبل أناس كان يثق بهم فقط لأنه كان يتجنب ضوء النهار ويقابلهم تحت ستر ظلام الليل فحسب! وللمرء هنا أن يستنتج من الرواية الإنجيلية، أن عيسى كان مضطرًا للابتعاد من مصدر الخطر بسرعة وسرّية!

والسؤال هنا هو: إذا كان عيسى قد أُعطي حياة جديدة وأبدية بعد موته الأول، ولم يكن مقدّرًا له أن يعاني من موت ثانٍ؛ فلماذا كان يتخفّى عن أعين أعدائه، سواء كانوا عملاء الحكومة أو عامة الناس؟!

كان ينبغي عليه أن يظهر على اليهود وممثلي الإمبراطورية الرومانية، ويقول لهم: ها أنا ذا أحظى بحياة أبدية؛ حاوِلوا قتلي ثانية إن أردتم، فإنكم لن تقدروا على ذلك. لكنه فضَّل أن يظل متخفّيًا، ليس لأن فكرة الظهور على الناس لم تُعرض عليه، بل على العكس، فقد كانت تلك الفكرة بالتحديد قد عُرضت عليه كي يُظهر نفسه للعالَم، ولكنه رفض وواصل الابتعاد عن منطقة “اليهودية” كي لا يتبعه أحد. فنقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح 14 العدد 22 ما يلي:

“فسأله يهوذا، غير الإسخريوطي: «يا سيد، ماذا جرى حتى تعلن لنا ذاتك ولا تعلنها للعالم؟»”

كما نقرأ في إنجيل لوقا الفصل 24 العدد 28-29 ما يلي:

“ثم اقتربوا من القرية التي كان التلميذان يقصدانها، وتظاهر هو بأنه ذاهب إلى مكان أبعد. فألـحّا عليه قائلين: «انزل عندنا فقد مال النهار واقترب المساء». فدخل لينـزل عندهما.”

هذا ما يُظهر بكل قوة حالةََ إنسان فانٍ لم يكن جسده بمنأى عن الموت أو الجراح. كما يبين لنا أن عيسى لم يمت بمعنى أنه تخلص من العنصر البشري الذي فيه، بل ظل نفسه على حالته الطبيعية تمامًا، أيَّة كانت. ولم يكن هناك موتٌ يفصل ما بين نفسه القديمة والحديثة. وهذا ما نسميه حسب الخبرة البشرية: بـ “استمرارية الحياة”.

إن روحًا أو شبحًا من عالم آخر لا يتصرّف بالتأكيد مثلما تصرّف عيسى أثناء لقاءاته السرية تحت ستار الليل مع أصدقائه وأصحابه المقرّبين!

إن ما حدث فعلاً لهو إشارة واضحة إلى أن بيلاطس فعل ذلك متعمِّدًا … وبصفته قيِّمًا على القانون كان يعرف أكثر من أي شخص آخر أنه لا بدّ أن يُنـزَل عيسى من على الصليب قبل أن يبدأ السبت … وإن عملية الصلب التي كانت تستغرق عادة ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ على وجه التقريب كي يموت بعدها المصلوب معَذَّبًا على الصليب، لم تستغرق في حالة عيسى إلا ساعات قليلة فقط.

وأما مسألة كون عيسى شبحًا أو خيالاً فقد أنكرها عيسى بنفسه. فعندما ظهر لبعض تلاميذه -بعد نجاته من الصلب-، لم يستطيعوا إخفاء خوفهم منه لأنهم ظنوا أنه لم يكن عيسى ذاته بل شبحه (روحه). وعندها فهم عيسى ما يعانونه من مخاوف وتردد وبدد مخاوفهم بإنكار كونه روحًا أو شبحًا وأكّد أنه هو عيسى ذاته الذي صُلب، حتى دعاهم لفحص جروحه التي ما زالت حديثة العهد. نقرأ في إنجيل يوحنا الإصحاح 20 العدد 19-27 ما يلي:

“ولما حل مساء ذلك اليوم، وهو اليوم الأول من الأسبوع، كان التلاميذ مجتمعين في بيت أغلقوا أبوابه خوفا من اليهود، وإذا يسوع يحضر وسطهم قائلا: «سلام لكم!» وإذ قال هذا، أراهم يديه وجنبه، ففرح التلاميذ إذ أبصروا الرب. فقال لهم يسوع: «سلام لكم. كما أن الآب أرسلني، أُرسِلكم أنا». قال هذا ونفخ فيهم وقال لهم: «اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياهم غفرتُ لهم، ومن أمسكتم خطاياهم، أمسكت!». ولكن توما، أحد التلاميذ الاثني عشر، وهو المعروف بالتوأم، لم يكن مع التلاميذ، حين حضر يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون: «إننا رأينا الرب!» فأجاب: «إن كنت لا أرى أثر المسامير في يديه، وأضع إصبعي في مكان المسامير، وأضع يدي في جنبه، فلا أومن!» وبعد ثمانية أيام، إذ كان تلاميذه مجتمعين ثانية داخل البيت وتوما معهم، حضر يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط وقال: «سلام لكم!» ثم قال لتـوما: «هات إصبعك إلى هنا، وانظر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي. ولا تكن غير مؤمن بل كن مؤمنا!»”

إن ظهور عيسى لتلاميذه لا يؤكد، بشكل من الأشكال قيامه من الموتى. كل ما يتأكد هو ببساطة نجاته من كروب الموت على الصليب.

وكي يزيل عيسى أيّ سوء فهم أو إشكال قد يكون عالقًا في أذهانهم، سألهم ماذا كانوا يأكلون؟ وحين أخبروه أنهم كانوا يأكلون سمكًا وخبزًا طلب شيئًا من ذلك الطعام، لأنه كان جائعًا، وأكل منه. فقد جاء في إنجيل لوقا الإصحاح 24، العدد 41- 43 ما يلي:

“وإذ ما زالوا غير مصدقين من الفرح ومتعجبين، قال لهم: «أعندكم هنا ما يؤكل؟» فناولوه قطعة سمك مشوي. فأخذها أمامهم وأكل”.

إن هذا لبرهان داحض لعقيدة قيامه من الموت، أي إحياء طبيعة الإنسان فيه بعد ما مات مرة ثم أُعيد إلى الحياة. وإن المشاكل التي تنشأ عن مثل هذا الاعتقاد المتعلق بقيام عيسى من الموتى ذاتُ شقّين:

فإذا كان يسوع لا يزال من نوع “الإله البشر” أو “الناسوت”، كما يزعمون عنه قبل الصلب، فما كان بمقدوره أن يتخلص من الإنسان الذي بداخله. وهذا بدوره يؤدي إلى حالة غاية في التعقيد والإشكال. ماذا فعل الموت به أو بهما، أي: البشر الذي في يسوع والإله الذي فيه؟

هل الرُوح البشرية وكذلك الإلهية غادرتا معًا، ثم عادتا أيضًا معًا، إلى ذات الجسد الأرضي بعد أن دَخَلتا الجحيم معًا! أم كانت الروح الإلهية في عيسى هي التي عادت إلى الجسد البشري، بدون الروح البشرية؟ إن ما يحيّر الإنسان هو: أين اختفت تلك الروح؟

هل كانت رحلتها إلى الجحيم رحلة بلا عودة؟ بينما الروح الإلهية فيه بقيت هناك ثلاثة أيام وثلاث ليال فقط! وهل كان الله، أبًا ليسوع البشر؟ أم ليسوع الابن؟ هذه المسألة يجب أن تحل نهائيًا كي تتضح الصورة.

هل كان جسد يسوع، من ناحية جسدًا لإله، ومن ناحية أخرى جسدًا لبشر؟

إن مفهوم الإله كما يقدمه العهد القديم والعهد الجديد هو أن الله ليس مادّيا، ولا محدودًا، ولا دور للمادة في شخصه أو كيانه مطلقًا.

انطلاقًا من هذا الفهم، دعونا ننظر إلى مراحل التطور المختلفة لعيسى خلال رحلته، مُذ كان جنينًا في رَحم السيدة مريم.

إن المادة المستخدمة في خلق عيسى، جاءت جميعها من الأم البشرية، دون أن تكون ثمة ذرة منها من قبل الله. طبعًا كان الله قادرًا على أن يخلق عيسى بشكل إعجازي، ولكن – من وجهة نظري – يَظلّ المخلوق مخلوقًا (لا إلهًا) سواء كان خلقه إعجازيًا، أم عاديًا. ويمكننا أن نقبل فكرة أن شخصًا ما هو أبٌ لابنٍ ما، إذا كانت مادة الأب ومادة الأم كلتاهما قد شاركتا معًا وبشكل متساوٍ أو جزئيٍ في تكوين هذا الابن بحيث تكون – على الأقل – بعض مادة المولود قد اشتُقت من مادة هذا الأب.

يبدو جليًا للقارئ من هذا التحليل أنه لم يكن لله تعالى أيّ دور أبوي على الإطلاق في عملية الحمل لهذا الجنين البشري، وإن كامل جسمه المادي، بجميع أجهزته المتعلقة بالقلب، والتنفس، والأوردة، والخلايا، والأعصاب المركزية، كانت ناتجة عن الأم البشرية وحدها.

فأين إذن عنصر بُنوّة يسوع الذي لم يكن سوى وعاء لروح الله وليس أكثر من ذلك؟

إن هذا الفهم الجديد للعلاقة بين الله ويسوع، يمكن أن يوصف.. من حيث المنطق وبقناعة تامة.. بأي شيء آخر سوى علاقة الأب بالابن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك