قرءانا عربيا غير ذي عوج

قرءانا عربيا غير ذي عوج

مصطفى ثابت

تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضا بأنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمدًا كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتى فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.

وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتابا فريدا لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمدا كان رجلا عبقريا.. وإنه كان طفرة من بين البشر.

اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية.   «التقوى»

موضوع النسخ في القرآن

وحيث إننا في معرض بحث الدلائل على خلو القرآن من العوج، فإنه من الجدير ألاّ نغفل ذكر أمر من الأمور الجسام التي ألصقها العلماء بالقرآن، بينما لم يُنزل الله بها حكما ولا سلطانا، وإنما كان الأمر مجرد اجتهاد من علماء أخلصوا نيتهم لله، وبذلوا جهدهم قدر طاقتهم، فأصابوا في أمور وأخطئوا في أمور، فأثابهم الله أجرين على ما أصابوا فيه، ورزقهم أجرا على ما أخطئوا فيه.

ذلك هو موضوع النسخ في القرآن.

والنسخ الذي قصده العلماء معناه إبطال حكم من أحكام القرآن بسبب نزول حكم آخر بعده.. كان يبدو لهم أنه يتعارض مع الحكم الأول. وقد قال بالنسخ بعض العلماء.. بل الكثير منهم.. حين بدا لهم من القرآن أمر قصُرَت فيه الأذهان عن إدراك التوافق الخفي بين الأحكام، فلم يروا غير التناقض الظاهري. ومن هنا كان المخرَج لهم أن زعموا أن الحكم الذي نزل مؤخرا.. والذي كان يبدو لهم أنه يتعارض مع الحكم الأول الذي نزل مقدّما.. قد نسخ الحكم المقدّم.. أي أبطله. وعلى ذلك.. فعند هؤلاء العلماء آيات وأحكام في القرآن باطلة، أي أن حكمها باطل، لا يصح.. بل لا يجوز العمل بها، حيث إن هناك أحكاما أخرى نزلت بعدها فنسختها وأبطلتها.

وقد بالغ بعض العلماء في موضوع النسخ هذا، حتى إنهم زعموا وجود ما يقرب من خمسمائة آية من آيات القرآن أحكامها باطلة، أي تعطلت أحكامها وأُلغيت بأحكام أخرى تلتها في النزول. والبعض من العلماء الذين استطاعوا التوفيق بين التعارض المزعوم في أكثر هذه الآيات، أوصلوا عدد الآيات المنسوخة إلى خمس آيات فقط.

وهكذا نسي هؤلاء.. ولعله نسيان النفوس البشرية ولكن مع وجود الإخلاص وتوافر حسن النية.. أن كتاب الله كتاب لا عوج له. ولعلهم نسوا أنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولعلهم أيضا نسوا أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا…

وقد نشأ موضوع النسخ في القرآن في عصور الاجتهاد والبحث في أمور الشريعة. ومع مرور العصور وتعاقب الأيام.. صار موضوع النسخ في القرآن من العلوم التي تُدَرّس في المعاهد الدينية والجامعات المتخصصة في تدريس العلوم الدينية. وصار النسخ في القرآن من “العلوم” التي وُضعَت لها القواعد والأصول والفروع.

وقد زعم من زعم أن هناك آيات “منسوخة حكما وباقية لفظا”، أي أن هناك آيات في القرآن قد بَطُل حكمها، ولا يصح العمل بها، ولكن ألفاظها لا تزال موجودة في القرآن.. يقرؤها الناس في كتاب الله ولكن لا يعملون بها. كذلك زعموا أن هناك آيات “منسوخة لفظا وباقية حكما”، أي أن هناك آيات ليست مكتوبة في القرآن لأن ألفاظها نُسخت وبطلت، فلا يجوز قراءتها، ولا يحتويها المصحف، ولا يجوز أن تُكتب فيه، ولكن حكمها باق وواجب العمل به!! ومثال ذلك ما يزعمون أنه يُقرر رجم الزاني المحصن حسب “الآية” المنسوخة لفظا والباقية حكما وهي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.

وهم فيما أسموه “علم الناسخ والمنسوخ” قد اختلفوا في عدد الآيات المنسوخة في القرآن، فمن اشتط منهم زعم أنه مئات من الآيات.. يبلغ الخمسمائة بل يزيد، ومن اعتدل منهم زعم أنه بضع آيات فقط. ثم اختلفوا كذلك فيما يَنسخ القرآن.. فزعم الكثير منهم أن القرآن فقط هو الذي ينسخ القرآن، بينما زعم البعض أن الحديث الصحيح يمكن أيضا أن ينسخ آيات الكتاب الحكيم.

وهكذا نسي هؤلاء.. ولعله نسيان النفوس البشرية ولكن مع وجود الإخلاص وتوافر حسن النية.. أن كتاب الله كتاب لا عوج له. ولعلهم نسوا أنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولعلهم أيضا نسوا أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فراحوا يزعمون أن ما كان في ظنهم اختلافا بين أحكام القرآن.. هو علم يجب دراسته! فقرروا أنه لا ينبغي لفقيه أن يتصدّى للأحكام القضائية، ولا يجوز أن يُفتي المفتون في الأمور الشرعية، دون دراية بما أسموه علم الناسخ والمنسوخ!!

فما هي حقيقة الأمر إذن؟

إن الله تعالى.. في سابق علمه وجليل حكمته.. حينما أنزل أحكامه لم يُنزلها دفعة واحدة. وقد ذكر تعالى أنه لم يُنزل القرآن جملة واحدة، وإنما تدرّج بالأحكام تيسيرًا على الناس، وتربيةً وتدريبًا لهم على أن يأخذوا بالأمر اليسير الذي تستطيعه نفوسهم وتتمكن منه قدراتهم. فإذا ارتقوا إلى مقام.. وتمكنوا من حسن طاعة أمر من أوامر الله.. هداهم سبحانه إلى مقام أعلى مما وصلوا إليه، وحثهم على طاعة أمر أجلّ مما سبق. وهكذا.. أخذ بيدهم وربّاهم خطوة خطوة، حتى اكتمل نزول الشريعة كلها وقد تعوّد الناس ودرّبوا أنفسهم على الطاعة والانصياع لأمر الله، دون مشقة لا قِبَلَ لهم بها، وبغير صعوبة لا يقدرون عليها، إذ لا يُكلف الله نفسا إلا وُسعها.

وخير مثال يُمكن أن يُقدّم في هذا الشأن هو التدرّج في تحريم الخمر. فقد كان العرب أكثر الأمم سقوطا في هوة هذا الداء الخبيث، بل إنهم فاقوا جميع الأمم انغماسا في هذا الإثم الخسيس. وكبّلوا أنفسهم بسلاسل هذه العادة المقيتة فصاروا عبيدا لها، حتى إنهم كانوا يشربون الخمر بدل الماء، وكانوا يقضون لياليهم وأيامهم سُكارى ينتشون في الخيال، ويعيشون في عالم الهذيان. ولم يكن من مقتضى الحكمة أن يُحرّم الله تعالى شرب الخمر بأمر واحد، فيشُق على الناس إطاعة أمره. وهو سبحانه أعلم بطبائع خلقه، ويعلم أن فرض الأمر دون تدريب وإعداد.. يؤدّي إلى الطاعة في الظاهر والعصيان في الخفاء، الأمر الذي يؤدّي في النهاية إلى العصيان في العلن.. كلما واتت الناس فرصة للهرب من سطوة القانون.

ولنا في التجربة الأمريكية خير شاهد على فساد تلك الخطة.. إذ حاولت الحكومة الأمريكية أن تمنع شرب الخمر بإصدار قرار وقانون دون أن تؤهل له الرعيّة، وبغير أن يسبق الأمر توعية وتربية، وبلا تدريب لهم على تحمل التغيير المنتظر في عاداتهم وأمزجتهم، وبغير توفير البديل الذي يتوافق مع رغبات الناس وميولهم. واستدعى ذلك أن تنفق الحكومة الملايين على إنشاء جهاز بوليسي لفرض القانون بقوة القانون لا بوازع الضمير، فتحايل الناس على الإفلات من سطوة القانون، وراحوا يخرقون القوانين كلما واتتهم الفرصة، فترعرعت العصابات المجرمة، وزاد انتشار الجريمة، وكان من نتائج قانون منع الخمر أن عمّ فساد أكثر وأكبر من فساد الخمر نفسها، حتى اضطرّت الحكومة أن تخضع للأمر الواقع، الذي لم تُعد له عُدّته في التدريب والتدريج، فأباحت شرب الخمر، ونسخت القانون الأول الذي كان يُحرّم شربها.

كان هذا هو التدرّج الحكيم في فرض الشريعة.. وما أحكمه! وكان هذا هو التصرّف الجليل في تحريم الخمر.. وما أجمله! ولكن.. أن يُقال فيما بعد من بعض العلماء أن الآية الأولى التي أنزلها الله تعالى في حق الخمر والميسر قد صارت منسوخة.. أي أن حكمها باطل…. هذا هو ما لا يُرضي من القول، وما لم يُنـزل الله به من سلطان.

وأمّا في الإسلام.. سواء في الخمر أو في غيرها من الأمور التي كان يستدعي الأمر فيها مراعاة ظروف البشر، وتدريبهم لإنشاء الوازع النفسي في قلوبهم لا مجرد الخوف من القانون، وتعليمهم وتهذيبهم لخلق الضمير والدافع الداخلي في نفوسهم، وتقوية الرغبة في الطاعة لا مجرد الهيبة من عصا السلطة وحدها، وتربيتهم لإذكاء روح المساءلة الشخصية عند الناس، فيُحاسب الناس أنفسهم قبل أن تبطش بهم يد القانون.. كان الْمُشرّع الحكيم يأخذ الناس بالتدريج في أحكامه، ويلفت أنظارهم إلى ما فيه الخير لهم وإلى ما فيه ضررهم. فأشار في أول الأمر إلى أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير، كما أن فيهما أيضا منافع للناس. فليس في الوجود شيء لا نفع فيه البتّة، وإنما رغم وجود بعض النفع فإن ضرر الخمر والميسر أكبر وأخطر من نفعهما. لذلك أنزل الله تعالى قوله:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ (البقرة:220)

هكذا لفت الْمُشرّع الحكيم انتباه الناس إلى أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير، رغم ما فيهما أيضا من المنافع للناس. ولكنه وجّه أنظارهم إلى أن إثمهما أكبر من نفعهما، والأوْلى بالمؤمنين الصالحين أن يربأوا بأنفسهم عن الوقوع في الإثم. غير أنه ترك الأمر لهم لكي يتفكروا فيه، ويُدرّبوا أنفسهم على ما فيه خيرهم، ويتفكروا فيما فيه صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، كما تقول الآية الكريمة:

  لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

ولمّا تأصّل ذلك التعليم في أذهانهم، واعتادت نفوسهم أن تأنف من إثم الخمر.. رغم عدم الامتناع تماما عنها، وتربأ النفس المؤمنة أن تختار ما كان إثمه أكبر من نفعه.. رغم ضعفها الذي قد ينتابها في بعض الأحايين، أخذ المشرع الحكيم بيدهم خطوة أخرى على الطريق، فمنعهم من تأدية الصلاة.. إذا حدث أن شرب أحد منهم الخمر حتى الثمالة، إذ لا يليق بالمؤمنين أن يقفوا بين يدي مولاهم ويؤدوا الصلاة وهم سُكارى. وأنزل الله تعالى حكمه:

يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (النساء:44)

وفي هذه المرحلة لم يُحرّم الشارع شُرب الخمر، وإنما ضيّق بحكمته الأوقات التي يمكن للمرء أن يتعاطى فيها الخمر، إن لم يكن قد ابتعد عنها تماما. فالمؤمنون المخلصون كانوا قد عوّدوا أنفسهم على استبدال مجالس الخمر ومنادمة الجلساء، باجتماع الصلوات الخمس ومناجاة الله الودود الكريم الرحيم بالذكر والصلاة. وكان من الطبيعي للنفوس البشرية.. التي تحولت من نفوس أمّارة بالسوء إلى نفوس مطمئنة.. ألاّ تجد راحتها في شرب الراح، بل في النهل من عيون الإيمان التي فجرها رسول الله في قلوبهم ووجدانهم. كان من طبيعة الأمور لهؤلاء الذين ربّاهم رسول الله أن يستبدلوا نشوة شرب الخمر بنشوة حب الله، ويستعيضوا عن مجتمعات الندماء ومقارعة الكؤوس بمجتمعات العلم والعرفان التي كان يعقدها رسول الله . فكانوا يجلسون إليه في شوق، وينصتون إليه في لهفة، يلتقطون كل كلمة مباركة تخرج من بين شفتيه لتكون لهم نورا ونبراسا. كان من مسلّمات الأمور أن يستبدل الناس موائد الخمر والميسر بموائد ربانية أنزلها الله تعالى من السماء، وضمتها صحائف كتابه العزيز، فكانوا يتغذون منها غذاءً لا يبغون عنه حولا، وينهلون منها شرابا غدقا، يفيض من عيون العلم والحكمة والمعرفة التي فجرها الله لهم تفجيرا.

لقد سَرَت في نفوسهم روح جديدة، وغمرت قلوبهم مشاعر جميلة، وصقلت ضمائرهم أحاسيس نبيلة، وصار حب الله وحب رسوله أحب إليهم من الدنيا وما فيها. فلما استقر بهم الأمر على هذا المقام، ناداهم منادي السماء يقول:

يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (المائدة:91-93) يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا

 من ذا الذي ينادي عليهم.. إنه رب العالمين، إنه الرحمن الرحيم، إنه مالك يوم الدين، إنه فاطر السموات وخالق الأرضين، إنه محبوبهم الذي آمنوا به وملأ حبه قلوبهم ووجدانهم، ومن أجله تركوا أهلهم وهاجروا من أوطانهم، وضحوا في سبيله بأموالهم وأرواحهم. إن الحبيب يناديهم.. ينادي كل فرد منهم.. من المؤمنين المخلصين.. فتصغي لندائه أسماعهم، وتتداعى له أفئدتهم، وتنتشي له قلوبهم، وتسعد به نفوسهم، وتهتز له أرواحهم، ويستنير به وجدانهم.. شوقا لسماع وحي الله الذي يتوجّه إليهم.

نَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ

ابتعدوا عنه ولا تقتربوا منه بتاتا.. لم يستدع الأمر تفسيرا من المفسرين، ولم يبحث أحد في القاموس عن معنى كلمة “اجتنبوه”، ولم تُعقد المناظرات والمجادلات حول ما إذا كانت تلك الكلمة تعني أن الخمر قد صارت محرّمة أم أنها غير محرّمة.. فليست هذه هي القضية. إن الأمر الْمُنَزَّل يقضي بأن يجتنبوه فيجتنبوه.

لقد فهمت عقولهم التي استنارت بنور الإيمان أنه حين ينـزل أمر الله باجتناب شيء، يكون هذا الشيء المجتنب محرما بأشد درجات التحريم، حتى إنه لا يجوز لهم مجرد الاقتراب منه. إن الميتة والدم ولحم الخنزير قد حرمها الله على المؤمنين، ولكن من الممكن مثلا استعمال جلد الحيوان الميت والاستفادة به إن لم يكن قد أصابه العطب. أما الخمر.. فلا يجوز صنعها ولا حملها ولا بيعها ولا شراؤها ولا تقديمها ولا الوجود في مجالسها. نعم.. لقد فهمت عقولهم المؤمنة أن الأمر باجتناب الخمر والميسر يعني تحريمهما بأشد أساليب التحريم.. تماما كما أكد الله تعالى على تحريم قول الزور، وعلى تحريم الرجس من الأوثان، وعلى تحريم عبادة الطاغوت، وعلى تحريم كبائر الإثم والفواحش، فاختار لفظ الاجتناب لكل هذه الأمور، فقال:

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ (الشورى:38) وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل:37)

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج:31)

والحكم لا ينـزل بغرض حرمانهم من مُتع الحياة، أو منعهم من الاستمتاع بأطايب الشراب، فإن الله يريد لهم اليسر ولا يريد لهم العسر، ورسول الله جاء ليحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. لذلك حين يأتي أمر الله باجتناب الخمر.. يأتي مع الحكم والأسباب والحيثيات والحكمة التي استدعت نزول الأمر. إن كل هذه الأمور التي عليهم أن يجتنبوها

رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فيِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ .

وتفهم نفوسهم المطمئنة حيثيات الحكم، وتدرك قلوبهم المؤمنة الحكمة من وراء الأمر، وتعلم أرواحهم المتصلة بالله أن الله قد حرّم عليهم تلك الأمور لأنها من عمل الشيطان الذي يريد أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة. وهم الذين ألّف الله بين قلوبهم بالمحبة والمودة، فكيف يسمحون للشيطان أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء؟ وهم الذين وجدوا حياتهم في موائد ذكر الله، فصار هذا الذكر هو غذاءهم الروحي الذي لا يحيون بدونه، فكيف يتركون الشيطان ليسلب منهم غذاء الروح والحياة؟ وهم الذين وجدوا قرة أعينهم في الصلاة التي تصلهم بمحبوبهم، فيقفون بين يديه في جوف الليل يناجونه ويتبتّلون إليه، ويعتصر قلوبهم الشوق إلى لقائه والقرب منه وطلب رضاه، فتتهدج صدورهم بين ضلوعهم، كأنها القدور تغلي على المرجل، وتجري دموعهم ساخنة.. تلسع وجناتهم وتبلل أماكن سجودهم، فهي دموع المحبة والشوق والوصال.. إنها دموع الحمد والشكر والامتنان لله الذي هداهم إليه وعرَّفهم بنفسه، وجعلهم أولياءه، وبعث فيهم أعظم رسله وخاتم أنبيائه، فكيف يسمحون للشيطان أن يصدهم عن الصلاة وهي عماد حياتهم وقرة عيونهم ونور بصيرتهم؟

ثم يتساءل سبحانه وهو يعلم إجابتهم.. يتساءل: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ ؟ والإجابة.. بعد الاعداد والتربية، والتعَود على البدائل المحببة إلى نفوسهم لسنين.. هي في الإجراء العملي الذي قام به أولئك المؤمنون في التو واللحظ بمجرّد سماع الأمر الإلهي.. إذ قاموا بتكسير الأوعية والأواني التي كانوا يحفظون فيها الخمر، حتى سالت الخمور في الطرقات كأنها سيول تجري إلى مخافض الأرض. لم يستدع الأمر تجنيد قوة كبيرة من الشرطة، ولم يتطلب الحال أن تضرب عصا السلطة على أيدي الناس، ولم تقم الدولة بتجهيز قوات خاصة من الشرطة لفرض القانون رغم أنوف الناس، ولم يتحايل الناس على مخالفة القانون، فليس أحب إليهم من ذكر الله ومن الصلاة، وليس أقرب لقلوبهم من طاعة الله، وليس أعز على نفوسهم من طاعة رسول الله.

كان هذا هو التدرّج الحكيم في فرض الشريعة.. وما أحكمه! وكان هذا هو التصرّف الجليل في تحريم الخمر.. وما أجمله! ولكن.. أن يُقال فيما بعد من بعض العلماء أن الآية الأولى التي أنزلها الله تعالى في حق الخمر والميسر قد صارت منسوخة.. أي أن حكمها باطل.. لأن الآية الثانية قد نسختها وأبطلت حكمها، وأن يُزعَم بأن الآية الثالثة قد أبطلت حكم الآية الثانية ونَسَختها.. فلا يصح العمل بها رغم وجود ألفاظها في القرآن.. لأنها من الآيات المنسوخة التي بطل حكمها ولكن بقي لفظها.. هذا هو ما لا يُرضي من القول، وما لم يُنزل الله به من سلطان.

ولعله من الجدير أن ننوّه مرّة أخرى بأن من اجتهد من العلماء في هذه المسألة قد أصاب في أمور واخطأ في أمور. وكما أوضح رسول الله إن الله يُجازي المجتهد المصيب بأجرين، ويُكافئ المجتهد المخطئ بأجر واحد. ولا نملك سوى أن ندعوَ لجميع هؤلاء العلماء الذين خلوا من قبل بنوال الأجر والثواب لما أصابوا فيه، والعفو والمغفرة من الله لما أخطأوا فيه بحسن نيّة.

ولكن الآن.. في هذا العصر.. عصر التنوير وتجديد الفكر والدين.. تبين أنه لا نسخ في القرآن.. وأن جميع أحكام القرآن قائمة وصحيحة، ولا يبطل منها حكم، ولا ينتسخ منها أمر، ولا يُلغَى منها فرض، بل إذا اقتضت الظروف أن يعمل بها الناس تكون كلها واجبة، وواجب العمل بها منذ أن أنزلها الله تعالى وإلى يوم القيامة. وبذلك لم يعد لمن يقول بالنسخ حجة يتمسّك بها، والإصرار على وجود النسخ في القرآن إنما هو إصرار على منكر، واستمرار القول بوقوع النسخ في كتاب الله من بعد ما بيّنه الله تعالى إنما هو أمر جلل وخطب عظيم وكتمان للحق بعد ظهوره. ويعلن تعالى أن كتمان ما أنزله الله من البينات والهدى يستتبعه اللعنة من الله ومن الناس كما يقول سبحانه:

إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاه لِلنَّاسِ فيِ الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (البقرة:160)

إن دراسة الآيات الثلاث التي نزلت في الخمر تُبيّن لنا أن التدريج في نزول التشريع لا يعني أبدا نسخ أي منها أو إبطال حكمها. فالآية الأولى تقرر حقيقة مؤدّاها أن في الخمر إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . هذه حقيقة.. سيظل حكمها قائما ما دام للخمر والميسر وجود. ومن ذا الذي يُنكر أن في الخمر والميسر منافع للناس؟ ولكن فيهما أيضا إثم كبير، وهذا الاثم الكبير أكبر من كل منفعة لهما. وإن أنكر بعض الناس هذه الحقيقة لجهل أو عناد.. فإن الخالق العليم أعلم بخصائصهما، وهو يُقرر بكل وضوح أن فيهما إثما وفيهما منافع، وأن الإثم أكبر من المنافع. إن هذه حقيقة أبدية لم تُنسخ ولن تبطل ولن تتغير.

ثم الآية الثانية تقول:

  لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ .

إنها أمر بعدم أداء الصلاة في حالة السُّكر، وليست أمرا بشرب الخمر في غير وقت الصلاة. كذلك فهي لا تقول للمؤمنين إن الخمر مباحة ما دام الإنسان لا يؤدي الصلاة. بل إن الآية لم تتعرّض بتاتا لإباحة الخمر ولا لتحريمها، فإن ذكر الخمر لم يأت في سياقها بالمرة، إنما هي تأمر بعدم أداء الصلاة إذا كان الإنسان في حالة من السُّكر.

والسُّكر قد يكون بسبب شرب الخمر وقد يكون بسبب آخر.. إن حالة النوم الشديد التي لا يكون فيها الإنسان يقظا تماما يعي ما يقول يمكن أن تكون سُكرًا. والمريض الذي لم يفق تماما من أثر المخدر بعد إجراء العمليات الجراحية يمكن أن يكون في حالة من حالات السكر. والمصروع الذي يغيب عن وعيه ولا يتنبه تماما من غفوته يمكن أن يكون في حالة سكر. وكذلك أيضا من غلبه ضعفه وشرب الخمر حتى صار في حالة سكر.. إن كل هؤلاء تقول لهم الآية ألاّ يقربوا الصلاة أثناء تلك الحالة من السكر، حتى يعلموا ما يقولون. فالآية لا تأمر بشرب الخمر في غير أوقات الصلاة، ولا تنص على إباحة السكر فيما عدا وقت الصلاة، وإنما تنص على عدم أداء الصلاة أثناء حالة السكر.. بصرف النظر عن مسببات السكر. وهذا الأمر الذي تنص عليه الآية الكريمة قائم ومستمر وواجب العمل به كلما اقتضته الظروف، أي كلما تعرّض الإنسان لحالة سكر بسبب من الأسباب المشار إليها أو من غيرها. فالآية لم يبطل حكمها بل هو باق بقاء الدنيا إلى يوم القيامة. وليس هناك تعارض بينها وبين الآية الأولى، ولا بينها وبين الآية الثالثة، وليس هناك ناسخ ولا منسوخ في القرآن الكريم.

ولكن.. كيف بدأ موضوع النسخ في القرآن؟ ولماذا يكاد يجمع علماء السلف على وقوعه في القرآن؟

لقد بدأ بقصور بشري وضعف إنساني عجز عن التوفيق بين ما ظنه العلماء متعارضا. وكان من أيسر السبل لرفع التعارض المظنون.. القول بأن الله قد أبطل هذا الحكم بالحكم الآخر الذي أنزله فيما بعد، خاصة وقد وجد العلماء في كتاب الله آية أخطأ بعضهم في تفسير معناها، إذ يقول تعالى:

مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:107)

وقد فهم المجتهدون من هذه الآية أن ما يذكره الله تعالى بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ هو آية من آيات القرآن الكريم، وحيث إن الله تعالى، حسب فهمهم، يأتي بمثلها أو بخير منها، فلا ضير إذن. بل لعله، حسب ما اشتط إليه بعض العلماء، أمر يدلل على قدرة الله تعالى الذي يُقرر في الآية الكريمة.

لقد أخطأ المجتهدون في تأويل قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ ، فظنوا أن المقصود بالآية هو آية من آيات القرآن الكريم، مع أن سياق الآيات يُشير بجلاء إلى أن الآية التي ذُكر فيها النسخ.. والمذكورة أعلاه.. إنما هي للرد على رغبة كان يتمناها الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين.

يقول تعالى:

  مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّنْ رَبِّكُمْ، وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَآءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَآ ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة:106-107)

فآية النسخ هذه إنما نزلت في معرض الرد على الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين الذين كرهوا نزول القرآن على المؤمنين، وتمنوا لو لم يُنزل الله تعالى من خير على المسلمين، فيرد الله تعالى عليهم بقوله:

  وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَآءُ ،

 وهو يختص رسوله والمسلمين بهذا الدين الجديد الذي يُنزله الله تعالى قرآنا وكتابا وتشريعا. وهذا التنزيل إنما هو آية من الله تعالى.. نسخت وأبطلت الآيات السابقة التي أنزلها الله تعالى على الأمم الغابرة، فانتهت.. بنزول القرآن.. كل تلك الكتب والشرائع التي سبق نزولها، فزالت دولتها، وعفَا عليها النسيان. وكانت قد ارتفعت عنها الحفاظة الإلهية، فدبّ فيها الفساد، ونالتها أيادي العبث والتحريف، وقد بطلت جميعها ونُسِخَت وأُلغِيت. وليس هذا بالأمر الغريب على الله تعالى.. فهو العليم الحكيم.. الذي يعلم الخير، وهو الذي ينزّل الفضل من لدنه.

وإن كان في الآيات السابقة التي أنزلها الله تعالى على الأمم السالفة من خير  نسيه الناس.. أو كان فيها من الحقائق ما غاب عن أذهان الأقوام التي نزلت إليها تلك الكتب.. فإن الله الذي هو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .. قادر على أن يأت بمثلها أو بخير منها في كتابه العزيز الحكيم.

أمّا موضوع تعارض أحكام آيات القرآن، مع أحكام آيات أخرى في القرآن، فهو أمر لم تُقر به تلك الآية ولا أيّ آية أخرى في القرآن. إن الناس بطبعهم يعتبرون كتابهم المقدس آية من آيات الله، وهو لا شك كان كذلك حين أنزله الله تعالى في وقته ولأجله المحدود. ولكن بعد انتهاء الأجل المقدر له.. فإنه يصير كالجسد الميت الذي غابت عنه روحه، فالأولَى به أن يُهال عليه التراب ويطويه النسيان، لأن الآية الجديدة التي أنزلها الله تعالى بنزول كتابه القرآن قد استبدل بها الله الآيات السابقة والكتب الغابرة. والناس لا يريدون ذلك، فيرمون الرسول بالافتراء والكذب على الله تعالى، لأنهم لا يُريدون لكتبهم النهاية وانقضاء الأجل. وتعبيرا عن ذلك يقول تعالى:

وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوآ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءِامَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل:103)

إن هذا التبديل في الآيات قد تم بنزول القرآن الذي استبدل به الله تعالى جميع الآيات السابقة في الكتب التي أنزلها الله على الأقوام السالفة، مما أثار حفيظة أولئك المخالفين والمعارضين فرموا رسول الله بالافتراء.

ويؤكد القرآن على أن تبديل الآيات المشار إليه في هذه الآية لا يتعلق بآيات القرآن الكريم، فإن آيات القرآن لا تتبدّل ولا تتغير لأنها تحت حفاظة خاصة من الله تعالى، ولذلك فقد أمر الله رسوله أن يرد على المخالفين بقوله تعالى:

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَان غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم (يونس:16)

وهذا ردّ مُفحم على من لا يرجون لقاء الله.. إن رسول الله لا يستطيع أن يُبدل القرآن من تلقاء نفسه، فإن تبديل القرآن يُعتبر عصيانا لله تعالى. وقد قضى الله تعالى بسابق علمه وحكمته ألاّ يمس القرآن تبديل في آياته ولا حتى في كلماته. يقول تعالى:

وَاتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (الكهف:28)

وبهذا يتضح الأمر تمام الوضوح.. إن الله تعالى لم يسمح بوقوع أي تبديل في كلمات الله التي جاءت في القرآن، وبالتالي فلا تبديل في آيات الفرقان، ولا تبديل للأحكام، ولا نسخ ولا إبطال لأحكام الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا ناسخ ولا منسوخ. ورحم الله علماءنا الكرام.. الذين اجتهدوا فأخطأوا، وجزاهم الله خيرا على قدر اجتهادهم وإخلاص نياتهم.

غير أن بعض المتفيهقين من أشباه العلماء يدّعون أن رسول الله ، وحاشاه ذلك، قد نسي بعض الآيات التي أوحاها الله تعالى إليه، فنسخها الله وأبطلها كأنها لم تكن. بل لقد بلغ الإسفاف ببعض كتب التفسير أن احتوت روايات ساذجة بلهاء، مؤدّاها أن الله تعالى أنزل على رسوله الكريم بعض آيات من القرآن، فأمر بها أن تُكتَب فكُتِبت على بعض أوراق الشجر، ثم جاءت عنزة فأكلت تلك الأوراق، وكان رسول الله قد نسي تلك الآيات، فلم يعلم ماذا أنزل الله، فاضطرب قلبه لذلك، ولكن الله طمأنه بأنه سبحانه قد نسخ تلك الآيات! ولعل هذا كان نوعا آخر من النسخ الذي تُنسخ فيه الآية وحكمها أيضا، فهي منسوخة لفظا ومنسوخة حكما، وكأنها لم تنزل بالمرة!!

إن الله تعالى لم يسمح بوقوع أي تبديل في كلمات الله التي جاءت في القرآن، وبالتالي فلا تبديل في آيات الفرقان، ولا تبديل للأحكام، ولا نسخ ولا إبطال لأحكام الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا ناسخ ولا منسوخ….

إننا لا نستطيع أن نقبل هذا الهراء، ولا نرضَى به أبدا، حتى ولو قال به علماء الدنيا كلها. خاصة وأنه لم يقم به أي دليل من آية أو حديث صحيح، وإنما هي روايات خرافية لم يقم على مصداقيتها أي برهان، حتى إن المستشرقين الغربيين.. وحتى المعادين منهم للإسلام.. لم يقيموا وزنا لتلك الروايات في نقدهم لكتاب الله العزيز.

إن الله تعالى قد أوصى رسوله قائلا:

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ الله (الأعلى:7-8)

والاستثناء في الآية يعود على الفعل سَنُقْرِئُكَ ولا يعود على النسيان، فيكون معنى الآية: سنُقرؤك إلاّ ما شاء الله فلن تنسى ما نُقرؤك إياه. والآية تقرر حقيقة.. لأن حرف “لا” في قوله فَلاَ تَنْسَى هي “لا” النافية، وليست هي “لا” الناهية، لأن “لا” الناهية تجزم الفعل الذي تنهَى عنه. ولو كانت “لا” في قولـه فَلاَ تَنسَى هي لا الناهية لوجب أن يجزم الفعل بحذف الياء وتكون الآية: (فلا تنسَ).

وحيث إن الفعل ليس مجزوما في الآية الكريمة، فهذا يدل على أنها “لا” النافية، ويكون المقصود هو نفي النسيان. وبذلك فإن الآية تؤكد على أن ما يُقرئه الله تعالى لنبيه لن ينساه بتاتا، وإنما سيظل دائما وأبدا في عقله وقلبه ووجدانه. وقد أشار الرسول إلى أن جبريل عليه السلام كان يُعارضه.. أي يُذاكره.. بالقرآن في كل عام مرّة، وأنه في العام الذي تُوفّي فيه رسول الله عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وذلك حتى يكون الرسول على يقين تام من أنه لم ينس من القرآن كلمة ولا حرفا. فكيف يسوغ لبعض الناس أن يزعموا بأن رسول الله قد نسي بعض ما أوحاه الله إليه، وأن هذا الذي نسيه قد نسخه الله تعالى؟

لا شك أنه يخطئ ويجانب الصواب من يزعم أن الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ مَا شَآءَ الله يعود على النسيان.. وكأن الله في زعم هؤلاء الناس يقول: سنقرؤك فلا تنسى إلا ما شاء الله لك أن تنساه. وهذا الرأي فاسد بالبداهة لأنه لا يليق بالله سبحانه وتعالى. فإذا كان ما أنزله الله تعالى على رسوله مما تنطبق عليه الأوصاف التي وصفها الله تعالى لكتابه العزيز.. من كونه كتابا لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يجدون فيه اختلافا كثيرا، إلى آخر هذه الأوصاف التي ذكرنا بعضها فيما سبق، فلماذا جعل الله رسولَه ينسى هذه الآيات التي أنزلها الله تعالى؟ وإذا كانت تلك الآيات التي يُزعَم أنها قد نُسيت.. مما لا تنطبق عليه أوصاف القرآن.. أي أن فيها ريبا، ويأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، ويجدون فيها اختلافا كثيرا.. فلماذا أنزل الله مثل هذه الكلمات الهابطة التافهة التي لا يصح حتى أن يُطلق عليها لفظ “آية”؟ وهل هذا أمر يليق بحكمة الله وقُدرته وقَدْره؟ تعالى الله عما يصفون!

لا.. إن رسول الله لم ينس شيئا من القرآن المجيد، والمسلمون حفظوا كتاب ربهم في قلوبهم وبين ضلوعهم،  تماما كما أنزله الله تعالى على نبيه الكريم.

وهكذا.. يظل كتاب الله دائما وأبدا.. كتابا قَيِّما.. أنزله الله على عبده، ولم يجعل له عوجا.

قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر:29)
Share via
تابعونا على الفايس بوك