مولد الأمل

السيرة العطرة (2)

مولد الأمل

 

في عام 1520م رحل مرزا هادي بيك (Mirza Hadi Beg) من سمرقند إلى البنجاب التي تقع في الجزء الشمالي من الهند، واستقر مع أهله في منطقة من مقاطعة غورداسبور (Gurdaspur). كان مرزا هادي بيك زعيما من الزعماء الأسيويين من أصل مغولي، ولما رحل عن سمرقند اصطحب معه ما يقرب من مائتين من عماله وخدامه. والمعروف أن مرزا هادي بيك كان من ذرية الحاج برلاس عم الأمير تيمورلنك المشهور في سمرقند، والذي يُعتبر قبره هناك أحد المعالم التي يزورها السياح. وكان المكان الذي استقر فيه مرزا هادي بيك يبعد ما يقرب من سبعين ميلا شرقي مدينة لاهور، وهناك أسس قرية أحاطها بجدران عالية وأسماها إسلام بور.

ولما كان مرزا هادي بيك سليل نفس العائلة الملكية التي ينتمي إليها الإمبراطور بابر.. الجالس على عرش الإمبراطورية الهندية ويرأس الحكومة المركزية في دلهي.. فقد منحه الإمبراطور مقاطعة من الأرض تحتوي على مئات من القرى، وعينه قاضيا للمقاطعة والمناطق المجاورة. وبذلك صارت القرية التي أنشأها تعرف باسم “قاضي إسـلام بور”، وبمرور الزمن سقط لفظ “إسلام بور” من الاستعمال وصارت تعرف باسم “قاضيان”، ثم تطور الاسم إلى “قاديان”.

ورغم أن مقر العائلة كان يبعد عن العاصمة الإمبراطورية في دلهي، إلا أن أفراد عائلة مرزا هادي بيك كانوا من وقت لآخر يتقلدون مناصب هامة في الحكومة الإمبراطورية المركزية. وفي أيام اضمحلال الحكم المغولي في الهند، اتخذ مرزا فيض محمد.. رأس العائلة حينئذ.. خطوات حاسمة للقضاء على الفوضى التي عمت البنجاب في ذاك الوقت. وتقديرا لخدماته.. أنعم عليه الإمبراطور فرّوخيار في عام 1716 بلقب “هَفْت هزاري”. ولمن ينال شرف حمل هذا اللقب الحق في تكوين قوة عسكرية تعمل تحت إمرته وتتكون من سبعة آلاف مقاتل. ولذلك لم يكن يُمنح هذا اللقب إلا لأعضاء العائلة الملكية فقط. وقد خلع الإمبراطور على مرزا فيض محمد لقب “أسد الدولة” تقديرا لخدماته التي دافع بها عن سلطة الإمبراطور والحكومة.

وبعد وفاة مرزا فيض محمد.. اضطر ابنه مرزا كل محمد (Mirza Gul Mohammad) أن يخوض معركة يائسة ضد القوى الفوضوية التي بدأت تنتشر في البنجاب منتهزة فرصة ضعف الحكومة الإمبراطورية. واستمرت تلك الحالة أثناء حكم كل من محمد شـاه، وشـاه عالم، وعالم كير الثاني. وكان مرزا فيض محمد يحذر السلطات المركزية في دلهي من تزايد الأخطار المحدقة، ويطلب المساعدات العسكرية من الحكومة لمقاومة تلك الأخطار والقضاء على حركات التمرد التي زاد انتشارها. وكان يتلقى الكثير من الوعود من الحكومة ولكن دون أن ينال القوة والمساعدات العسكرية التي كان يطلبها. ولم يكن أمامه سوى أن يستمر في جهاده للدفاع عن سلطة الحكومة الإسلامية ضد حركات التمرد، ولكن دون تحقيق نجاح مذكور. فالبنجاب في ذلك الوقت كانت مسرحا لحركات التمرد التي كان يقوم بها بعض الناس من رؤساء القبائل، وبعض العصابات التي كانت تعيش على السلب والنهب منتهزة فرصة ضعف الحكومة المركزية. ولما كان مرزا كول محمد يتمتع بقوة عسكرية ويتمتع أيضا بشخصية قيادية.. فقد استطاع الدفاع عن ممتلكاته الخاصة، والتي كانت تشمل في ذلك الوقت مقاطعة تحتوي على ما يقرب من خمسة وثمانين قرية، وأصبح في واقع الأمر الحاكم المتصرف على هذه المقاطعة.

كان مرزا كل محمد رجلا على جانب كبير من الصلاح والتقوى، وكان يرعى العلم والعلماء، ولذلك فإن الكثير من طلاب العلم والعلماء كانوا يتوافدون إليه، فكان يعتني بهم وينفق عليهم. ولكنه مع ذلك كان من ناحية أخرى يخوض معركة خاسرة ضد القوى الفوضوية التي كانت تحاصره، وسرعان ما سقط نفوذ الحكومة الإمبراطورية المسلمة في أيدي السيخ، وخاصة في المقاطعات التي تتوسط البنجاب.

وبعد مرزا كل محمد خلفه ابنه مرزا عطا محمد، وفي زمنه قوي نفوذ السيخ وزادت شوكتهم حتى إنهم حاصروه من كل جانب وسلبوا أملاكه، ففقد الكثير من القرى التي كانت تحت حكم أبيه، وتقلصت سلطته حتى لم تعد تزيد على قاديان نفسها، التي صارت في واقع الأمر مجرد قلعة محاصرة، يحيط بها السيخ وقواتهم من كل مكان. وفي عام 1802 استطاعت قوات السيخ التابعة لرام غرهـ (Ramgarh) أن تخترق خطوط الدفاع في قاديان عن طريق الخيانة، فسقطت قاديان.. ووقع مرزا عطا محمد وكل أفراد أسرته في الأسر، ونُهبت المتاجر والبيوت، وهُدمت المساجد ودور العبادة، وتحَول أحد المساجد إلى معبد للسيخ وما زال قائما حتى اليوم. وقد أحرق السيخ مكتبة العائلة التي كانت تحتوي على أعداد كبيرة من الكتب الهامة والمخطوطات النادرة. وقُتل أعداد غفيرة من سكان قاديان المسلمين، غير أن عائلة مرزا عطا محمد نجت من القتل، واكتفى السيخ بطردهم من قاديان.

خرجت العائلة في هم وغم وألم عظيم، وعبرت نهر بياس إلى بيغوال (Begwal) حيث كان يقيم سردار فتح سنغ أهلوواليا (Sardar Fateh Singh Ahluvalia) وهو أحد جدود المهاراجا كبورتهله (Maharaja Kapurthala). وقد أكرمهم السردار فتح سنغ وأحسن إليهم بشكل لم يطلبوه ولم يكونوا حتى يتوقعوه. وجعل لهم قدرا من المال.. لم يكن بالطبع يكفي حاجاتهم، ولكنهم كانوا شاكرين للمهاراجا صنيعه وممتنين له فضله وكرمه. وأقامت العائلة هناك حوالي خمس عشرة سنة إلى أن مات مرزا عطا محمد بعد أن دس له السم بعض أعدائه، وقرر ابنه مرزا غلام مرتضَى أن يدفن جثمان أبيه في مقبرة العائلة في قاديان، ولكن سلطات السيخ هناك عارضت ذلك الأمر، مما أثار حفيظة المسلمين المقيمين في قاديان، وتطور النّزاع إلى حركة تمرد واسعة من السكان على سلطات السيخ، الأمر الذي حَدَا بسلطات السيخ إلى الموافقة على دفن الجثمان تفاديا لوقوع الاضطرابات التي قد تهدد أمنهم.

وفي تلك الأيام كان المهاراجا رنجيت سنغ (Maharaja Ranjit Singh) قد دعم سلطته، واستطاع أن يبسط نفوذه على كل العصابات التي كانت تثير الذعر والفوضى في البنجاب. وفي عام 1818 سمح لمرزا غلام مرتضَى وأفراد عائلته أن يقيموا في قاديان. والتحق مرزا غلام مرتضى وأخوه بجيش المهاراجا وأبليا بلاء حسنا، وأسديا للمهراجا خدمات كثيرة في أماكن عديدة تقرب من حدود كشمير التي استولى عليها المهاراجا عام 1819.

وفي هذه الفترة التي كان يخدم فيها مرزا غلام مرتضى في جيش المهاراجا.. خفت حدة المظالم والمعاناة عن كاهله هو وأسرته.. تلك المظالم التي كانت تثقل كاهل المسلمين عموما في البنجاب بسبب الاضطهاد المرَوّع الذي كان السيخ يصبونه على المسلمين. واستمرت العائلة مع هذا تعاني اضطهاد السيخ وعداءهم الشديد للمسلمين في تلك الأثناء. واستمر حال الأسرة كذلك حتى عام 1834 حينما أدرك المهاراجا مدى ولاء وإخلاص مرزا غلام مرتضى والجهد الذي بذله في خدمته، فقرر أن يعيد إليه خمس قرى من عشرات القرى التي كانت عائلته تمتلكها. وتم هذا حين وُلِد له صبي في يوم الجمعة الموافق الثالث عشر من شهر فبراير (شباط) عام 1835. وكان هذا هو الابن الثاني له فأسماه مرزا غلام أحمد. وبهذا كان مولد الطفل بشيرا بأن الشدائد قد بدأت تزول عن كاهل هذه العائلة التعسة، وبمولد ذلك الغلام انتهت المحن والكوارث التي حلت بأهله، وبدأ يهل عليهم عهد جديد يعم فيه السلام والاطمئنان، وكأن الدهر قد عاد يبتسم مرة أخرى لهذه العائلة، وبدأ نسيم الأمل في غد جديد يهب على أحلام تلك الأسرة الصغيرة، ولم يكن أحد يعلم في ذلك الآن أن هذا الأمل الذي وُلد لم يكن أملا للأسرة الصغيرة وحدها.. وإنما كان الأمل الذي كانت تنتظره الأسرة الإنسانية بأسرها.. إنه الأمل الذي كان المسلمون يرقبون ظهوره.. وهو الأمل الذي كان يترقبه أهل الكتاب من نصارى ويهود.. وهو الأمل الذي كان ينتظره أهل الأديان جميعا.

وجدير بالذكر أنه عندما وُلد مرزا غلام أحمد كان تَوأما لأخت سبقته في المولد، ثم توفيت لبضعة أيام. وترجع أهمية هذا الميلاد إلى أنه يحقق نبوءة ذكرها الشيخ محيي الدين بن عربي، وهو من علماء الإسلام المعروفين، فقال إن الإمام المهدي سوف يولد تَوأما مع أخت له.

مات المهاراجا رنجيت سنغ عام 1839 حين كانت القوات البريطانية على أبواب البنجاب، وسرعان ما تحطمت قوة السيخ وانهارت تماما تحت أقدام جنود الإمبراطورية البريطانية. وقضى هؤلاء على المظالم التي كان السيخ يصبونها على رؤوس سكان البنجاب المسلمين، والتي قاسى المسلمون منها الأمرّين سواء في المجال الديني أو السياسي، حيث إنهم حُرموا من كل حقوقهم الإنسانية، وعانوا الاضطهاد الديني والظلم السياسي. واستمر الأمر كذلك حقبة طويلة من الزمن، ولم تخِفَّ حدة تلك المظالم إلا بقدر يسير في عهد رنجيت سنغ، ولكنها انتهت تماما بدخول الإنجليز إلى البنجاب وانتزاعهم السلطة من أيدي السيخ.

أصاب السيخ هزيمة ساحقة على أيدي الإنجليز في 21 فبراير (شباط) من عام 1849 مما أدى إلى استيلائهم على البنجاب في 2 أبريل (نيسان) من نفس السنة. وأوقف الإنجليز الاضطهاد والظلم الذي كان السيخ يصبونه على الأهالي المسلمين، وحكموا البنجاب من خلال مجلس إدارة استمر حتى عام 1853 حين عُيِّن على تلك الولاية الهندية مندوب عام. وكان من نتائج محاولات التمرد التي وقعت في عام 1857 أن انتهى حكم شركة الهند الشرقية، ووقعت الملكة فيكتوريا مرسوما ملكيا في 2 أغسطس (آب) عام 1858 يقضي بأن يؤول حكم الهند إلى التاج البريطاني، وبدأ بذلك عهد من السلام والاستقرار في الهند، بعد أن طالت أيام الشقاء والشحناء التي تعرض لها المسلمون في الهند عامة وفي البنجاب على وجه الخصوص.

وبدخول الإنجليز إلى البنجاب تمت مصادرة جميع ممتلكات عائلة مرزا غلام مرتضى إلا من قاديان وبعض القرى المجاورة. وفي كتاب “زعماء البنجاب” الذي ألفه سير لابل جريفن وكولونيل ماسي والذي راجعه سير هنري كريك ونُشر عام 1910.. جاء الوصف التالي للعائلة التي ولد فيها مرزا غلام أحمد:

“في عام 1530.. آخر عام في حكم الإمبراطور بابر.. نزح هادي بيك وهو مغولي من سمرقند إلى البنجاب واستقر في مقاطعة غورداسبور، وكان رجلا ذا علم فعُيِّن قاضيا أو حاكما على مقاطعة تحتوي على سبعين قرية إلى جوار قاديان التي يقال إنه أسسها وأسماها “قاضي إسلام بور”، والتي تحوّل اسمها بمرور الزمن إلى قاديان. وعلى مدى عدة أجيال تقلدت العائلة عدة مناصب رفيعة في الحكومة الإمبراطورية بالهند، ولكن عندما قويت شوكة السيخ عانت العائلة من الفقر والاضطهاد. واشتبك كول محمد وابنه عطا محمد في قتال مستمر مع “رامغاره” و”كانهايا” اللذين كانا يسيطران على المناطق المحيطة بقاديان. وفي النهاية.. بعد أن خسر كل أملاكه ونفوذه.. هاجر عطا محمد إلى بيغوال حيث عاش تحت حماية سردار فاتح سنج أهلوفاليا (وهو الحاكم الحالي لولاية كورثالا) حيث عاش هناك ما يقرب من اثني عشر عاما. وعند وفاته سمح رنجيت سنغ لغلام مرتضى أن يعود إلى قاديان، وأعاد إليه جزءا كبيرا من أملاك عائلته.

وكان رنجيت سنغ قد استولى على كل الأراضي والممتلكات التي كانت في قبضة رامغار ميسال. وحينئذ التحق غلام مرتضى بخدمة المهاراجا وأدى له خدمات جليلة على حدود كشمير.

وفي أيام نَونهال سنغ وشير سنغ وداربار كان غلام مرتضى يؤدي وظيفته في الخدمة العسكرية، وقد أُرسل مع جنرال فنتورا إلى ماندي وكولو عام 1841، وفي عام 1843 ذهب إلى بشاور على رأس فرقة عسكرية من المشاة، وقد أبلى بلاءً متميزا ضد قوات المقاومة في هزارا. وحينما وقع تمرد عام 1848 ظل هو مخلصا للحكومة وحارب تحت لوائها، كذلك أدى أخوه غلام محيي الدين خدمات جليلة في ذلك الوقت. ولما سارت قوات بهاي مهراجا سنغ إلى مُلتان لمساعدة قوات ديوان مول راج، قام غلام محيي الدين مع ملاك الأراضي في المنطقة.. “لانكرخان ساهيوال وصاحب خان تيوانا” بإثارة السكان المسلمين، وبقوة عسكرية من “ديال صاحب” استطاعوا الهجوم على المتمردين وهزموهم شر هزيمة، فانسحبوا إلى تشناب حيث هلك منهم ما يقرب من ستمائة مقاتل.

وقد ظلت أملاك هذه العائلة الصغيرة مصادرة.. ولكن الحكومة كانت تدفع مبلغ سبعمائة روبية كمعاش لغلام مرتضى وأخيه، كما أعطتهم الحكومة حق الاحتفاظ بممتلكاتهم في قاديان والقرى المجاورة. وقد بذلت العائلة خدمات جليلة أثناء اضطرابات 1857 وانضم غلام مرتضى هو وابنه غلام قادر مع عدة رجال إلى قوة الجنرال نيكلسون الذي قضى على المتمردين في الفرقة السادسة والأربعين الذين هربوا من سيالكوت.” (مترجم عن كتاب “الأحمدية.. بعث الإسلام” للسيد محمد ظفر الله خان)

كان مرزا غلام مرتضى طبيبا حاذقا وكان يعالج الناس بالمجان ولا يرضى أن يتقاضى ثمنا للعلاج، فقد كان إنسانا كريما معطاءً يتمتع بشخصية قوية مؤثرة، حتى إن الناس كانوا يقفون عند رؤيته احتراما له وإجلالا. كذلك فقد كان رجلا أديبا.. وكثيرا ما كان يقرض الشعر أيضا. وفي نهاية عمره بنى مسجدا في مركز قاديان، وهو المسجد المعروف الآن باسم المسجد الأقصى. ورغم أن موارده المالية في ذلك الوقت كانت محدودة للغاية.. إلا أنه أنفق مبالغ كبيرة لبناء ذلك المسجد. وقد بذل مجهودات متواصلة لاسترجاع ممتلكات عائلته وأملاك آبائه، وتقدم بعدة التماسات للحكومة البريطانية بهذا الشأن، ولجأ إلى القضاء مرات بعد مرات، ولكن دون جدوى.. إذ لم تستجب الحكومة البريطانية لأي من التماساته، ولا أعادت إليه شيئا من أملاك العائلة. ورغم أنه أنفق جانبا كبيرا من ماله وجهده على القضايا العديدة التي رفعها ضد الحكومة ليحصل على ممتلكاته المصادرة، إلا أنه لم يستطع.. حتى أخريات أيام حياته.. أن يحقق أي هدف من أهدافه.

ويجدر بنا أن ننقل هنا نبذة عما كتبه سيدنا مرزا غلام أحمد باللغة العربية عن تاريخ عائلته إذ يقول:

“وقع في نفسي أن أكتب شيئًا من سوانحي وسوانح آبائي في هذه الرسالة، لأعرّف به الناسَ أمري، لعل الله ينفعهم، ويزيدهم قوّة لِرفع الضلالة، ولعلّهم يفكّرون في أصل الحقيقة، ويميلون إلى العدل والنَّصَفة.

فاعلموا، رحمكم الله، أني أنا المسمى بـ غلام أحمد بن ميرزا غلام مرتضى، وميرزا غلام مرتضى بن ميرزا عطا محمد، وميرزا عطا محمد بن ميرزا ﮔـل محمد، وميرزا ﮔـل محمد بن ميرزا فيض محمد، وميرزا فيض محمد بن ميرزا محمد قائم، وميرزا محمد قائم بن ميرزا محمد أسلم، وميرزا محمد أسلم بن ميرزا دلاور بيـﮓ، وميرزا دلاور بيـﮓ بن ميرزا إله دين، وميرزا إله دين بن ميرزا جعفر بيـﮓ، وميرزا جعفر بيـﮓ بن ميرزا محمد بيـﮓ، وميرزا محمد بيـﮓ بن ميرزا محمد عبد الباقي، وميرزا محمد عبد الباقي بن ميرزا محمد سلطان، وميرزا محمد سلطان بن ميرزا هادي بيـﮓ.

ثم اعلموا أنّ مسكني قريةٌ سُمّيت ببلدة الإسلام، ثم اشتهر باسم “قاديان” في هذه الأيام. وهي واقعة في الفنجاب بين النهرين “الراوي” و”البياس”، إلى جانب المشرق مائلا إلى الشمال من “لاهور” الذي هو صدر الحكومة ومركز البلاد الفنجابية.

وإني قرأتُ في كتب سوانح آبائي وسمعت من أبي أن آبائي كانوا من الجرثومة المـُغْليّة. ولكن الله أوحى إليّ أنّهم كانوا من بني فارس لا من الأقوام التركيّة. ومع ذلك أخبرني ربي بأنّ بعض أمهاتي كُنَّ من بني الفاطمةِ، ومن أهل بيت النُّبوّةِ، والله جمع فيهم نسل إسحاق وإسماعيل من كمال الحكمة والمصلحة.

وسمعتُ من أبي وقرأت في بعض سوانحهم أنّهم كانوا في بدء أمرهم يسكنون في بلدة “سمرقند”، قبل أن يرحلوا إلى الهند، وكانوا من أمراء تلك الأرض ووُلاتها، ومن أنصار الملّة وحُماتها. ثم طرحتْهم النوى مَطارحَها، وبسطتْ إليهم سيول السفر جوارحَها، حتى إذا وطئوا أرض هذه البلدة التي تسمى بـ”قاديان” ورأوا هذه الخِطّة المباركة، والتُّربة الطيبة، سرّتْهم ريحها وماؤها، وسوادها وخضراؤها، فألقَوا فيها عصا التَّسْيار، وكانوا يرجّحون البدو على الأمصار، ورُزقوا فيها من الله ضيعةً وعقارًا، وملكوا قرًى وأمصارًا. ثم إذا مضى زمانٌ على هذه الحالة، ونزل قضاء الله وقدره على السلطنة الـمُغليّةِ، أمّرهم الله في هذه الناحية، وانتهى الأمر إلى أَنّهم صارُوا كمَلِكٍ مستقل في هذه الخِطّة، وكان في يدهم مِن كل نهجٍ عِنانُ الحكومة، وقضى الله وطرهم من الفضل والرحمة. وبعد ما زجّوا زمانًا طويلا في النّعمة والرفاهةِ، والشرف والنباهة، أخرج الله بمصالحه العميقة وحِكمه الدقيقة قومًا يقال له “الخالصة”، وكانوا قسيّ القلب لا يكرمون الشرفاء، ولا يرحمون الضعفاء، وكُلّما دخلوا قريةً أَفْسدوها، وجعلوا أعِزّةَ أهلها أذِلّة، فصارت مِن جورهم بُدُورُ الإسلام كالأَهِلّة. وكانوا من أعادي الإسلام، وأكبر أعداء ملة خير الأنام. ففي تلك الأيام صُبّت على آبائي المصائب من أيدي تلك اللئام، حتى أُخرجوا من مقام الرياسة، ونُهبت أموالهم من أيدي الكفرة، ونُطحوا من جُيُودٍ، وهُجّروا من ظلٍّ ممدودٍ، ولبثوا في أرض الغُربة إلى سنين، وأُوذوا إيذاءً شديدًا من الظالمين، وما رحمهم أحد إلا أرحم الراحمين. ثم ردّ الله إلى أبي بعض القُرى في عهد الدولة البرطانية، فوجد قطرةً أو أقلّ منها من بحر الأملاك الفانية.

فخلاصة الكلام أنّ آبائي ماتوا بمرارة الخيبة والحسرات، بعدما كانوا كشجرةٍ مملوّةٍ من الثمرات، وبعد أيامٍ كانت كالعذاري المتبرّجات. فوجدتُ قصصهم محلَّ عبرةٍ تسيل بذكرها العبرات، ولا ترقأ عند تصوّرها الدموع الجاريات. ولما رأيتُ ما رأيتُ، أخذتني الرقّة فبكيتُ، وناجيتُ نفسي بأن هذه الدنيا ليست إلا كغدّار، وليس مآلها إلا مرارةُ خيبةٍ وتبار. وأرهقتني دار الدنيا بضيقها، وأُلقي في قلبي أن أعاف بريقَها، فصرف الله عني حبّ الدنيا ورؤية زينتها، والتمايل على شجرتها وثمرتها. وكنت أحبّ الخمول، وأؤثر زاوية الاختفاء، وأفرّ من المجالس ومواقع العُجْب والرياء. فأخرجني الله من حجرتي، وعَرّفني في النَّاس، وأنا كارهٌ من شهرتي، وجعلني خليفة آخر الزمان، وإمام هذا الأوان.” (الخزائن الروحانية ج 22، ضميمة حقيقة الوحي ص703-705)

كانت زوجة مرزا غلام مرتضى تنتمي إلى عائلة شريفة من عائلات المغول في “أيما”، وهي قرية في مقاطعة هوشياربور. وكانت تسمى “جراغ بي بي” ويعني هذا الاسم: “سيدة المصباح المنير”. كانت سيدة سخية وكريمة ومضيافة، وكانت تعتني بالفقراء وتنفق على أمور معيشتهم أثناء حياتهم، ثم إذا مات منهم أحد كانت تتولى الإنفاق على دفنه دفنا كريما لائقا. وكانت زوجة صالحة مخلصة ونعم الرفيق لمرزا غلام مرتضى في كل من حالات العسر واليسر، وكان هو يحمل لها كل تقدير وإعزاز، وكثيرا ما كان يستشيرها ويأخذ بنصيحتها في أموره الخاصة. وكانت أما رؤوفا رؤوما تسبغ على أولادها المحبة والرعاية والحنان والعناية. ولما كبر ابنها مرزا غلام أحمد (ومعناه خادم محمد ) وظهرت منه بوادر الانعزال عن الدنيا وشؤونها والزهد فيها والتوجه إلى أمور الدار الآخرة.. كانت تتفهم مسلكه وتقدِّره، بينما كان أفراد العائلة الآخرين ينكرون عليه مسلكه وينتقدونه. وقد توفيت عام 1868 ودفنت في مدافن الأسرة غرب قاديان. وكان مرزا غلام أحمد يحبها حبا جما، ويبرها برا يليق بها وبذكراها العطرة، وكلما تحدث عنها وعن مآثرها كانت عيناه تفيض من الدمع، وكثيرا ما كان يزور قبرها ويدعو الله لها بالرحمة والجنة.

وقد صحب مرزا غلام أحمد والدته خلال صباه عدة مرات عند زيارتها لأبويها في مقاطعة هوشياربور، حيث كان يلعب في مجاري النهيرات الجافة التي كانت تجري من التلال إلى الوادي أثناء الفصل المطير. وكانت طفولته تتميز عن غيرها من طفولة أقرانه بأنه كان هادئ الطبع رصين النفس، نادرا ما يكتئب أو يشعر بالقلق، وكان يتمتع بهيبة ووقار. ورغم أنه كان يلعب مثل بقية الأطفال الذين في مثل عمره إلا أنه كان يبدو دائما جادا غير هازل، وكان مترفعا عن صغائر الأمور، مما كان يكسبه احترام من يحوطونه رغم حداثة سنه.

حدث ذات مرة أنه كان يلعب في أحد الحقول المجاورة لقاديان بالقرب من أحد الرعاة الذي كان يرعى بعض الأغنام، وطلب مرزا غلام أحمد من الراعي أن يستحضر له شيئا من منـزله.. ووعد بأنه سوف يرعى له الغنم إلى حين عودته، وفعلا ذهب الرجل وترك أغنامه في عهدة الصبي. وهكذا أتاح له الله فرصة رعي الغنم، ولو لفترة قصيرة، فإن رعي الغنم هو القاسم المشترك بين الأنبياء جميعا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك