آيات من السماء

آيات من السماء

مصطفى ثابت

السيرة المطهرة (23)

 

حين يرسل الله تعالى نبيا من الأنبياء، فإنه يؤيّده بالخوارق والمعجزات لكي يوقن الناس في زمنه أنه فعلا نبي مرسل من عند الله. ومهمة الأنبياء السابقين ورسائلهم كلها كانت محدودة زمانًا ومساحةً، أي أنها كانت محصورة في قوم من الأقوام أو قبيلة من القبائل أو بلد من البلدان، كما أنها كانت مؤقتة وليست باقية وخالدة إلى يوم القيامة. فلما بعث الله تعالى سيدَ المرسلين بدين الإسلام، قضى سبحانه أن يكون هذا الدين هو الدين الذي لا يحدّه زمن ولا تحصره مساحة، بل هو للناس كافة في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا لم يحفظ الله تعالى الأديان السابقة من التغيير والتبديل والتحريف، بينما وعد سبحانه بالحفاظ على الإسلام لأنه الدين الكامل والخاتم والأخير. لذلك نرى أيضا أن المعجزات التي آتاها الله تعالى للأنبياء السابقين جميعا قد اندثرت وضاعت ولم يعد لها أثر. أين سفينة نوح ، وأين نار إبراهيم الخليل؟ أين عصا موسى الكليم، وأين أولئك الذين شفاهم المسيح ؟ ولكن أعظم المعجزات التي أوتيها رسول الله وهي القرآن، لا تزال قائمة وكائنة وموجودة لتكون دليلا على نبوته، ولتقف برهانا ساطعا على صدق رسالته إلى يوم القيامة.

وليس معنى هذا أن رسول الله لم يُؤتَ من المعجزات سوى القرآن. نعم.. لو لم يكن لرسول الله أية معجزة أخرى سوى القرآن، لكان هذا كافيًا لأن يكون دليلا على عظمة شأنه، عند مقارنة القرآن الكريم بمعجزات الأنبياء الآخرين، ومع هذا فقد آتاه الله تعالى ما لا يُحصى من الخوارق والمعجزات. والمعجزة كما ذكرنا تقع من عند الله تعالى تدليلا على صدق نبي بعثه الله، ولهذا فإن من ينتفع بهذه المعجزات، هم أولئك الذين يرونها بأعينهم حين وقوعها. وأمّا بعد ذلك.. فإن التابعين يؤمنون بهذه المعجزات لا عن رؤية، ولكن لأنهم سمعوا بها. ولولا أن القرآن قد ذكر سفينة نوح، ونار إبراهيم، وعصا موسى، وشفاء المسيح للأكمه والأبرص، لما آمنّا بهذه المعجزات جميعها.

وحين نقول إن الله تعالى قد آتى رسول الله ما لا يُحصى من الخوارق والمعجزات، فإننا لا نقول ذلك مبالغة ولا تعصّبًا وانحيازًا، وإنما لأنها الحقيقة الواقعة التي نراها بأعيننا. فمن معجزاته ما وقع أثناء حياته ورآه معاصروه، بصرف النظر عن إيمان الناس بها أو عدمه، ومنها ما وقع بعد وفاته ورآه التابعون من بعده، ومنها ما لا يزال يقع حتى في عصرنا الحالي.

لقد انشق القمر في عهد رسول الله ورآه الناس، سواء كانوا من المؤمنين برسول الله أو من أعدائه من قريش، وذلك حين أشار إلى القمر وقال انظروا.. فشاهد الناس الذين كانوا حاضرين آنذاك انشقاق القمر.  لم ينشق القمر بالفعل إلى نصفين.. دخل أحدهما في كُمّ جلباب الرسول وخرج من الكم الآخر كما جاء في بعض الروايات، ولكن الناس الذين كانوا حاضرين في ذلك المكان شاهدوا فعلا أن القمر قد انشق، ولعلهم شاهدوا فعلا أن أحد النصفين قد دخل في كم جلباب الرسول وخرج من الكم الآخر. وليس معنى هذا أن كوكب القمر قد انشق ودخل في كم الرسول، فنحن نعلم أن حجم القمر يساوي ربع حجم الأرض، وبالتالي فإن نصف القمر يساوي ثمن حجم الأرض، فإذا علمنا أن محيط الأرض يزيد عن 24 ألف ميل، وقطرها يقل قليلا عن ثمانية آلاف ميل، فإن كتلة تساوي ثمن حجم الأرض سوف يبلغ قطرها حوالي ألف ميل ومحيطها حوالي ثلاثة آلاف ميل، ولا يمكن بالطبع لهذه الكتلة الجبارة أن تدخل في كم جلباب الرسول. غير أن هذا لا يمنع أن تكون المجموعة من الأفراد التي كانت في معية رسول الله، قد شاهدت فعلا أن القمر قد انشق كما ذكر القرآن وقوع تلك الظاهرة، والله الذي خلق أولئك الأفراد وأخرجهم من بطون أمهاتهم وأعطاهم القدرة على رؤية الأشياء، والذي جعل موسى يرى العصا كأنها حية تسعى.. لا شك أنه قادر على أن يجعلهم يروا بأعينهم هذه الظاهرة.

ومن معجزات الرسول التي تحققت بعد وفاته، ما أخبر به أثناء حفر الخندق حول المدينة، فقد جاء في الروايات أن حجرًا كبيرا اعترض طريق الحفر، فأبلغ المسلمون الأمر إلى رسول الله ، فضرب الحجر ثلاث ضربات، فانكسر الحجر وأمكن إزاحته من الطريق. والمعجزة في ذلك هي أنه حينما كان يضرب الحجر بمعْوَله تطاير بعض الشرر، كما يحدث عادة في مثل تلك الظروف، ولكن الله تعالى جعل رسوله يرى من خلال هذا الشرر المتطاير أمورًا أبلغ الناس عنها، وهي أنهم سوف ينتصرون على الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية، وسوف ينفقون ثرواتهما في سبيل الله. فالمعجزة ليست في كسر الحجر الذي لم يستطع المسلمون كسره، ولا في تطاير الشرر الذي عادة ما يتطاير حين يُضرب الحجر بالمعوَل، ولكن المعجزة في النبأ الغيبي الذي رآه رسول الله وأخبر عنه، ثم تحقق ذلك النبأ بعد وفاته وبعد مرور العديد من السنوات على تلك الواقعة.

والأنباء الغيبية التي ذكرها رسول الله لا حصر لها، وهي تتحقق حينما يشاء الله لها أن تتحقق في وقتها، وكل نبأ منها هو معجزة تشهد على صدق وعظمة وجلالة شأن سيد الأنبياء والمرسلين.

ومن الأنباء الغيبية التي ذكرها رسول الله نبأ عن ظهور الإمام المهدي . وفي واقع الأمر.. إن هناك الكثير من الأنباء والروايات عن الإمام المهدي، وأكثرها يقع فيه الاختلاف والتعارض، ويبدو أن ظروف الحكم والسياسة في عصور الدولة الأموية والعباسية والفاطمية، قد أضافت الكثير إلى ما ذكره رسول الله عن الإمام المهدي. لذلك يستوجب الأمر للباحث الأمين، أن يكون على جانب كبير من الحرص والحذر، حين التعرض للروايات التي بين أيدينا عن الإمام المهدي، والتي جمع بعضها أهل السُنّة وجمع أكثرها أهل الشيعة. وبدراسة تلك الروايات، يتضح بجلاء أن كل مجموعة من هؤلاء، كانوا يضعون الأحاديث لتنطبق على رجل منهم، فالإمام المهدي أحيانا يكون من نسل فاطمة رضي الله عنها، وأحيانا أخري يكون من نسل العباس عم الرسول، وهو سوف يظهر في بيت المقدس، وأحيانا يظهر في مكة، وأحيانا أخرى يظهر من غار في باطن الأرض، وهكذا.

غير أن هناك نبأ معينا ذكرته كتب أهل السُنّة وكتب أهل الشيعة على السواء، ويربط هذا النبأ ظهور الإمام المهدي بظاهرة فلكية، ليس في مقدور أحد من البشر تحقيقها، ولا التحكم فيها، ولا منع وقوعها. وعلى ذلك.. فلا يمكن لأحد الوضاعين أن يكون قد اخترع هذه الرواية، ولا يمكن لبشر أن يتنبّأ بوقوع هذه الظاهرة كعلامة على ظهور الإمام المهدي، إلاّ إذا كان يعلم الغيب. والله تعالى يقول عن نفسه أنه هو وحده عالم الغيب، وأنه لا يُظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول.

وحيث إن الله تعالى وحده هو عالم الغيب، وحيث إنه لا يُظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فإننا نستطيع أن نستخلص قاعدة على جانب كبير من الأهمية تختص بتحقق الأنباء الغيبية. فالنبأ الغيبـي الذي يذكره رسول الله ، أو حتى ذلك النبأ الذي يُنسب قوله إلى رسول الله، ولا نعرف يقينا إذا كان هو قائله أم لا، والذي يحققه الله تعالى بحذافيره ولو بعد مرور مدة طويلة من الزمان، لا يمكن أن يكون من اختراع الوضّاعين، وإنما هو حتما من أنباء الغيب التي تلقّاها رسول الله من عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

ومع نشر فتاوى التكفير وإهدار دم سيدنا أحمد ، ودعوة المسلمين إلى مقاطعته هو والحفنة من الناس الذين اتبعوه، صار سيدنا أحمد في شبه عزلة عن العالم. الجميع كانوا يُعادونه، والبعض من ضعاف النفوس من بين القلائل الذين اتبعوه تخلوا عنه وتركوه، مما جعله يشعر بأن الأبواب كلها قد سُدّت في وجهه. غير أن باب الله تعالى هو الذي ظل مفتوحا له على مصراعيه، فلجأ إلى الدعاء والتضرع إلى رب العالمين.

وفي أحد كتب الحديث المعروفة.. وهو سنن الدار قطني لصاحبه العالم المشهور علي بن عمر البغدادي الدار قطني، الذي وُلد بعد خمسين عاما من بعد الإمام البخاري، جاء الحديث التالي الذي رواه الإمام الباقر محمد بن علي . وفي هذا الحديث يحدد رسول الله النبوءة العظمى التي تتعلق بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان، ويُعين اليوم الذي تتحقق فيه هذه النبوءة، فيقول:

“إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السماوات والأرض. ينكسف القمر لأول ليلة (أي أول ليلة من ليالي خسوف القمر) من رمضان، وتنكسف الشمس في النصف منه (أي تنكسف في النصف من أيام كسوف الشمس) ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض”.

ويذكر هذا الحديث أن ظهور الإمام المهدي، يرتبط بوقوع ظاهرة فلكية معينة، وهي وقوع كسوف لكل من الشمس والقمر، في شهر معين بالذات هو شهر رمضان. والمعروف أن خسوف القمر يقع عند منتصف الشهر القمري، أي في ليلة 13 – 14 – 15، وحسب الحديث المذكور يقع خسوف القمر في أول ليلة من ليالي خسوف القمر من شهر رمضان أي ليلة 13. كذلك فإن الشمس لا تنكسف إلاّ عند نهاية الشهر العربي، والأيام التي يمكن أن يقع فيها كسوف الشمس هي 27 – 28 – 29، وبحسب الحديث الشريف، فإن كسوف الشمس سوف يقع في منتصف أيام كسوف الشمس، أي يوم 28 من شهر رمضان. ولا يخفَى بالطبع أن ظهور الإمام المهدي يكون مرتبطا باجتماع كسوف الشمس والقمر في شهر رمضان، وفي الأيام المحددة لكل منهما، وأن هاتين الظاهرتين تكونان علامتين وآيتين على صدق الإمام المهدي الذي لا بد وأن يكون قد ظهر أولا، وأعلن عن نفسه، وذكر أنه الإمام المهدي المنتظر، ثم تقع هاتان الآيتان تصديقا له، فتكونان بمثابة شهادة من السماء ومن خالق السماوات والأرض.

ولما ظهر سيدنا أحمد على مسرح الأحداث في الهند، وأعلن في عام 1890- 1891 أنه الإمام المهدي المنتظر وأنه المسيح الموعود الذي ينتظر المسلمون نزوله، هاجت وماجت ضده طوائف المسلمين والمسيحيين على السواء، وأطلقوا ألسنتهم وأقلامهم بالتطاول عليه سبًّا وشتمًا وتحقيرًا، وحاولوا تأليب الحكومة ضده واستعداء السلطات عليه، وزعموا أن المهدي يحارب غير المسلمين ويقتلهم بالسيف قتلا، مما جعل الحكومة تتوجس منه شرًّا، خاصة وأن الحكومة البريطانية كانت قد عانت كثيرا من المشاكل في السودان، بسبب دعوة محمد أحمد المهدي المعروف بالمهدي السوداني، الذي ادّعى أنه الإمام المهدي المنتظر، وكان يحارب الإنجليز هناك. كذلك قامت في إيران دعوة علي محمد الذي ادّعى أيضا أنه المهدي المنتظر، وأثارت هذه الدعوة الكثير من القلاقل المسلحة، وكانت مصدر قلق للحكومة هناك. ومع نشر فتاوى التكفير وإهدار دم سيدنا أحمد ، ودعوة المسلمين إلى مقاطعته هو والحفنة من الناس الذين اتبعوه، صار سيدنا أحمد في شبه عزلة عن العالم. الجميع كانوا يُعادونه، والبعض من ضعاف النفوس من بين القلائل الذين اتبعوه تخلوا عنه وتركوه، مما جعله يشعر بأن الأبواب كلها قد سُدّت في وجهه. غير أن باب الله تعالى هو الذي ظل مفتوحا له على مصراعيه، فلجأ إلى الدعاء والتضرع إلى رب العالمين.

وفي عام 1893 نشر كتابا باللغة العربية اسمه: “نور الحق”، رد فيه على المزاعم الكاذبة التي روّجها ضده أحد علماء المسلمين الذين وقعوا فريسة للتبشير المسيحي فدخلوا في المسيحية، واحتفظوا بأسمائهم الإسلامية، وراحوا يكتبون المقالات وينشرون الكتب ضد الإسلام، وضد رسول الله . وفي إعلان للحكومة البريطانية في ذلك الكتاب قال:

“… إن رجلا من الذين ارتدّوا من دين الإسلام، ودخلوا في الملّة النصرانية، أعني النصراني الذي يُسمّي نفسه القسيس عماد الدين، ألّف كتابا في هذه الأيام، لخدع العوام، وسمّاه: “توزين الأقوال”، وذكر فيه بعض حالاتي بافتراءٍ بحتٍ لا أصل له، وقال إن هذا الرجل رجل مفسد ومن أهل العداوة، وإني وجدت في طريقة مشيه آثار البغاوة، وليس من نصحاء الدولة، وأتيقّن أنه سيفعل كذا وكذا، وإنه من المخالفين. فالملخص إنه حثّ الحكومة في ذلك على إيذائي، ومع ذلك فرّغ إناءه في سبيّ وازدرائي، وأفرغ قذر لسانه على بعض أحبّائي، وأكثر القول في ديانتنا المقدسة، وشتم خير الرسل وبالغ في التوهين. وتكلّم بكلمات ترتجف منها القلوب، وتهيج في الأفئدة الكروب، وسوف نكتب قليلا منها ونجوب أستار الجاهلين.” (نور الحق الجزء الأول، الخزائن الروحانية ج 8 ص 33-34)

وفي نهاية الكتاب نشر بيانا يخاطب فيه ضمائر المخلصين من الناس قال فيه:

“أيها العزيز.. أقص عليك قصتي إن استمعتَ، وحبّذا أنت لو اتّبعتَ، قد سمعتَ كلام الذين بادروا إلى تكفيري، فأوضح لك الآن معاذيري، وإن شئتَ فكن عذيري أو من اللائمين.إني امرؤ من المسلمين، أؤمن بالله وكتبه ورسله وخير خلقه خاتم النبيين. لستُ من الذين يجترؤون على خلاف المأثور من خير الكائنات، بل من الذين يخالفون ربهم ويُطهّرون الخطرات. بيد أني أُعطيتُ مقامات الرجال، وعلّمني ربي فهداني إلى أحسن المقال، وجعلني مهديّ الوقت ومن المجددين. فما فهم المكفّرون كلامي، وكفّروني قبل التدبر في مرامي، فقلتُ والله لست بكافر ويعلم ربي إسلامي. فما تركوا قول التكفير، بل أصرّوا على ما فعلوا وظلموا في التقرير والتحرير، وقالوا كافر كذّاب، ونتربّص عليه العذاب. والله يعلم أنهم من الكاذبين المفترين، أو الجاهلين المستعجلين. أأفتريتُ على الله بعدما أفنيتُ عمري في مساعي الدين، حتى جاوزت الخمسين؟ وحماني مقلة ربي من سبل الشياطين، وما كانت منيتي في مدة عمري إلاّ حماية دين خير الأنام، وإعلاء كلمة الإسلام، وكفى بالله شهيدا وهو خير الشاهدين.” (المرجع السابق ص183-184)

وتلا ذلك دعاء وتضرّعات لله تعالى حتى يفتح الله بينه وبين قومه بالحق، ولكي يُبين سبحانه للناس أنه ليس من الكاذبين المفترين، وأنه هو فعلا الإمام المهدي الذي كانوا يترقبونه وينتظرونه، وهو المسيح الموعود الذي كانوا يتطلعون إلى السماء في انتظار نزوله، فقال:

“يا ربّ.. يا ربّ الضعفاء والمضطرّين، ألستُ منك؟ فقل وإنك خير القائلين. كثُر اللعن والتكفير، ونُسبتُ إلى التزوير، وسمعتَ كله ورأيتَ يا قدير، فافتح بيننا بالحق وأنت خير الفاتحين. ونجّني من علماء السوء وأقوالهم، وكِبرهم ودلالهم، ونجّني من قومٍ ظالمين. وأنزِلْ نصرًا من السماء، وأدرِكْ عبدك عند البلاء، ونزِّلْ رجسك على الكافرين. وصرتُ كأذلّة مطرود القوم، ومورد اللوم، فانصرنا كما نصرت رسولك ببدرٍ في ذلك اليوم، واحفظنا يا خير الحافظين. إنّك الربّ الرحيم، كتبتَ على نفسك الرحمة، فاجعل لنا حظًّا منها وأرنا النصرة، وارحمنا وتُب علينا وأنت أرحم الراحمين.

ربّ نجّني مما يقصدون، واحفظني مما يريدون، وأدخلني في المنصورين. ربّ فرّج كربي، وأحسن منقلبي، وأظفرني بقصْوَى طلبي، وأرني أيام طربي، وكن لي يا ربّي، يا عالم همّي وإربي، وصافني وعافني يا إله المستضعفين. كذّبني كل أخ الترّهات، وكفّرني كل أسير الجهلات، وما بقي لي إلاّ أن أنتجع حضرتك، وأطلب عونك ونصرتك، يا قاضي الحاجات، لعلّك تردّ نهاري بعد أن صغت شمسي للغروب، وضجر القلب من الكروب. ووالله ما تأوّهي لفَوْت أيام السرور، ولا للتنعم والحبور، بل للإسلام الذي صال عليه الأعداء، وأفَلَتْ شموسه وطالت الليلة الليلاء، وظهرت المداجاة في فِرَق الإسلام، والتفرقة في أمّة خير الأنام، وأمّا الكفّار وأحزاب اللئام، فقد انتظموا في سلك الالتئام. والحسرة الثانية أن فينا العلماء والفقهاء والأدباء، ولكنهم فسدوا كلهم وأحاطت عليهم البلاء، إلاّ ما شاء الله. ربّ فارحم وتقبّل منّا دعاءنا، وإليك الشكوى والتجاء. يقولون إنّا نحن أعلام الدين، وعمائد الشرع المتين، ولكني ما أرى فيهم أحدًا كذي مقول جريّ، خادم دين نبينا كمُحبّ وليّ، بل سقطوا في الشهوات والأهواء، والدعاوي والرياء، وما أجد أكثرهم إلاّ فاسقين. وكنت أخال في رَيْق زماني، أنهم أو أكثرهم من أعواني، ولكنهم ولّوا دبرهم عند الابتلاء، وكان هذا قدرًا مقدّرا من حضرة الكبرياء. فالآن أُفرِدتُ كإفراد الذي يبيتُ في البيداء، أو كالذي يقعد في أهل الوبر وسكان الصحراء. فالآن قلّت حيلتي، وضعفت قوّتي، وظهر هواني على قومي وعشيرتي، ولا حول ولا قوّة إلاّ بك يا ربّ العالمين. إليك أنَبْتُ، وعليك تَوكّلتُ، وبك رضيتُ. ربّ فاستر عوراتي، وآمن روعاتي، ولا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين. بيدك البذل والعطاء، والعزّ والعلاء، وإذا أتيتَ فلا يأتي البلاء، وإذا نزلتَ فلا ينْزل الضرّاء. وأشهد أن لا إله إلاّ أنت، ولا رافع إلاّ أنتَ، ولا دافع إلاّ أنتَ، عليك توكّلتُ، وبحضرتك سقطتُ، وأنت كهف المتوكلين. أحسن إليّ يا مُحسني ولا أعلم غيرك من المحسنين. وصلّ وسلّم على رسولك ونبيّك محمد وعظّم شانه، وأَرِ الخلق برهانه، إنّا جئناك لدينه باكين. تعلم ما في قلوبنا، وتنظر ما في صدورنا، وإنّا معك طوعًا، وما ندّخر عنك صدقًا وروعًا، وما كنا أن نهتدي لولا أن هديتنا، وما وجدنا لولا ما أعطيتنا. فلا حمد إلاّ لك، ويرجع إليك كل حمد الحامدين. إنّك ربّ رحيم، وملك كريم، فمن جاءك ووالاك، وأحبّك وصافاك، فلا تجعله من الخائبين. فبشرى لعباد أنت ربهم، وقوم أنت مولاهم، سبقت رحمتك غضبك، ولا تُضيّع عبادك المخلصين، فالحمد لك أولا وآخرا وفي كل حين.” (المرجع السابق ص184- 186)

هذا هو الدعاء الذي دعاه الإمام المهدي وتضرّع به إلى مولاه، إنه دعاء المضطر الذي يذوب قلبه ووجدانه أملا ورجاء في نصر الله تعالى وتأييده. ونلفت انتباه القارئ إلى جملة من الدعاء يقول فيها: ”فانصرنا كما نصرت رسولك ببدر في ذلك اليوم واحفظنا يا خير الحافظين“. ولقد استجاب الله تعالى هذا الدعاء، وأنزل نصره للإمام المهدي تحقيقا لما كان رسول الله قد قاله منذ ثلاثة عشر قرنا. فحين اكتمل القمر بدرا.. في الليلة الثالثة عشرة من رمضان عام 1311هـ، تحقق نبأ رسول الله تأييدا للإمام المهدي ، وانخسف القمر كما جاء في الحديث الشريف. وكما نصر الله رسوله في بدر مكانا، كذلك نصر الله الإمام المهدي في بدر زمانا. ثم في يوم 28 من نفس الشهر المبارك انكسفت الشمس، وهكذا وقعت المعجزة الفلكية التي ذكرها رسول الله ، وأشار إليها القرآن الحكيم في سورة القيامة، واجتمع كسوف الشمس وخسوف القمر في شهر رمضان، وسجلت المراصد الفلكية هذا الحدث، حتى يظل دائما وأبدا مذكورا في السجلات.

Share via
تابعونا على الفايس بوك