أين الخفاء؟ فافتحوا العين أيها العقلاء

من كلام الإمام المهدي

الحمد لله الذي أنطقَ الإنسانَ، وعلّمه البيانَ، وجعل كلامَ البشر مَظهَرَ حسنِه المستتر، ولطَّف أسرارَ العارفين بإلهامه، وكمّل أرواح الروحانيين بإنعامه، وكفَل أمرهم بعنايته، واستودعهم ظِلَّ حمايته، وعادى مَن عادى أولياءه وما غادرهم عند الأهوال، وسمع دعاءهم إذا أقبلوا عليه كل الإقبال، وأرى لهم غيرتَه وصار لهم كقَسْوَرةٍ للأشبال، ولوَى إليهم كزافرةٍ في مواطن الجدال، وما زايَلَهم في موقف وما نسِيهم عند الابتهال، وألزمهم كلمة التقوى، وثبّتهم على سُبل الهدى، وجذَبهم إلى حضرته العُليا، ووهب لهم أعينًا يبصرون بها، وقلوبًا يفقهون بها، وجوارحَ يعملون بها، وجعَلهم حِرْزَ المخلوقين وروحَ العالمين. والسلام والصلاة على رسولٍ جاء في زمن كان كدَسْتٍ غاب صدره، أو كلَيْلٍ أفَل بدره، وظهر في عصر كان الناس فيه يحتاجون إلى العُصْرة، وكانت الأرض أمحلتْ وخلَتْ راحتُها مِن بخل المُزْنة، فأروى الأرضَ التي احترقت لإخلاف العِهاد، وأحيا القلوب كإحياء الوابل للسَنةِ الجَمادِ، فتهلّلَ الوجوه وعاد حِبْرُها وسِبْرُها، وتراءتْ معادنُ الطبائع وظهرت فضّتُها وتِبْرُها، وطُهّر المؤمنون من كل نوعِ الجُناح، وأُعطوا جَناحًا يطير إلى السماء بعد قصّ هذا الجَناح، وأُسِّسَ كلّ أمرهم على التقوى، فما بقي ذرّةٌ من غير الله ولا الهوى، وطُهّرتْ أرض مكّة بعد ما طِيفَ فيها بالأوثان، فما سُجد على وجهها لغير الرحمن، إلى هذا الأوان. فصلّوا على هذا النبي المحسن الذي هو مظهر صفات الرحمن المنّان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. والقلب الذي لا يدري إحسانه، فلا إيمان له أو يضيع إيمانه. اللهم صلّ على هذا الرسول النبي الأُمّي الذي سقى الآخرين كما سقى الأوّلين، وصبّغهم بصِبغ نفسه وأدخلهم في المطهّرين. فنوّرهم الله بإشراق أشعّة المحبّة، وسقاهم من أصفى المُدامة، وألحقَهم بالسابقين من الفانين، وقرّبهم وقبل قربانَهم، ودقّق مشاعرهم وجلّى جنانهم، ووهب لهم من عنده فَهْمَ المقرّبين، وزكّى نفوسهم وصفّى ألواحهم، وحلّى أرواحهم، ونجّى نفوسهم من سلاسل المحبوسين، وكفَل أمورهم كما هي عادته بأصفيائه، وشرح صدورهم كما هي سيرته في أوليائه، ودعاهم إلى حضرته، ثم تبادرَ إلى فتح الباب برحمته، وأدخلهم في زمرته، وألحقَهم بسكّان جنّته، وقيل: دارَكم أتيتم، وأهلَكم وافيتم، وجُعلوا من المحبوبين. وهذا كله من بركات محمدٍ خيرِ الرسل وخاتم النبيين، عليه صلوات الله وملائكته وأنبيائه وجميع عباده الصالحين.

أما بعد.. فاعلموا أيها الطالبون المنصفون، والعاقلون المتدبّرون، أني عبد من عباد الرحمن، الذين يجيئون من الحضرة، وينـزلون بأمر ربّ العزّة، عند اشتداد الحاجة، وعند شيوع الجهلات والبدعات وقلّة التقوى والمعرفة، ليجدِّدوا ما أخْلَقَ، ويجمعوا ما تَفرّقَ، ويتفقّدوا ما افتُقِدَ، ويُنجِزوا ويُوفوا ما وُعِدَ من رب العالمين، وكذلك جئتُ وأنا أوّل المؤمنين.

وإني بُعثت على رأس هذه المائة المباركة الربّانية، لأجمع شَمْلَ المِلّة الإسلامية، وأدفع ما صِيلَ على كتاب الله وخيرِ البريّة، وأكسر عصا مَن عصى وأقيم جدران الشريعة. وقد بيّنتُ مرارًا وأظهرتُ للناس إظهارًا، أني أنا المسيح الموعود والمهدي المعهود، وكذلك أُمرتُ وما كان لي أن أعصي أمر ربي وألحَقَ بالمجرمين. فلا تعجَلوا عليّ وتَدبّروا أمري حق التدبّر إن كنتم متّقين، وعسى أن تكذّبوا امرَأً وهو من عند الله، وعسى أن تفسّقوا رجلاً وهو من الصالحين. وإن الله أرسلني لأصلح مفاسد هذا الزمن، وأفرّق بين روض القدس وخَضْراءِ الدِّمَن، وأُرِيَ سبيل الحق قومًا ضالين. وما كان دعواي في غير زمانه، بل جئتُ كالربيع الذي يمطر في إبّانه، وعندي شهادات من ربي لقوم مستَقْرين، وآياتٌ بيّنات للمبصرين، ووجهٌ كوجه الصادقين للمتفرّسين. وقد جاءت أيام الله وفُتحتْ أبواب الرحمة للطالبين، فلا تكونوا أوّل كافرٍ بها وقد كنتم منتظرين.

أين الخفاء؟ فافتحوا العين أيها العقلاء، شهدتْ لي الأرض والسماء، وأتاني العلماء الأمناء، وعرَفني قلوب العارفين، وجرى اليقين في عروق قلوبهم كأقْرِيةٍ تجري في البساتين. بيد أن بعض علماء هذه الديار ما قبلوني من البخل والاستكبار، فما ظلمونا ولكن ظلموا أنفسهم حسدًا واستعلاءً، ورضُوا بظلمات الجهل وتركوا علمًا وضياءً. فتراكمَ الظلام في قولهم وفعلهم وأعيانهم، حتى اتخذ الخفافيش وَكْرًا لجنانهم، وما قعد قارِيةٌ على أغصانهم. وكانوا من قبل يتوقعون المسيح على رأس هذه المائة، ويترقّبونه كترقُّب أهلّةِ الأعياد أو أطايبِ المأدبة، فلما حُمَّ ما تَوقَّعوه، وأُعطيَ ما طلبوه، حسبوا كلام الله افتراء الإنسان، وقالوا: مفتري يُضلّ الناسَ كالشيطان، وطفِقوا يشكّون في شأنه بل في إيمانه، وكذّبوه وفسّقوه وكفّروه مع مُريديه وأعوانه. وأنزل الله كثيرا من الآيِ فما قبلوا، وأرى التأييدَ في المَبادئ والغايِ فما توجّهوا، وقالوا كاذب وما تَفكّروا في مآل الكاذبين، وقالوا مختلِق وما تَذكّروا مَن دَرَجَ من المختلقين.

والأسف كل الأسف أنهم يقولون ولا يسمعون، ويعترضون ولا يُصغُون، ويلمِزون ولا يحقّقون، وحصحص الحق فلا يبصرون، وإذا رموا البريءَ بأَفِيكةٍ فضحكوا وما يبكون. ما لهم لا يخافون، أم لهم براءة في الزُبُر فهم لا يُسألون؟ وما أرى خوفَ الله في قلوبهم بل هم يؤذون الصادقين ولا يبالون. ما أرى فِناءَ صدورهم رَحْبًا، وكمثلهم اختاروا صَحْبًا، ويهمِزون ويغتابون وهم يعلمون. ولا يتكلمون إلا كطائر يخذُق، أو كمسلول يبصُق، لا يبطُنون أمرنا، ولا يعرفون سرَّنا، ثم يكفرون ويسبّون ويهذِرون مِن غير فهم الكتاب، ولا كهريرِ الكلاب. وما بقي فيهم فهمٌ يهديهم إلى صراطٍ مستقيم، ولا خوف يجذبهم إلى سُبل مرضاة الله الرحيم. ومنهم مقتصدون، يكذّبون ولا يعلمون، وبعضهم يكفّون الألسنة ولا يسبّون، وتجد أكثرهم مفحِشين علينا ومكفّرين سابّين غيرَ خائفين.

فليَبْكِ الباكون على مصيبة الإسلام، وعلى فتن هذه الأيام. وأيّ فتنة أكبر من فتن هذه العلماء، فإنهم تركوا الدين غريبا كشهداء الكربلاء. وإنها نار أذابت قلوبنا، وجنّبتْ جنوبَنا، وثقّلتْ علينا خطوبنا، ورمتْ كتاب الله بأحجار من جهلات الجاهلين. وترى كثيرا منهم يُخفون الحق ولا يجتنبون الزُور كالصلحاء، وتكذب ألسنتهم عند الإفتاء. غشّوا طبائعهم بغواشي الظلمات، وقدّموا حَبَّ الصِلات على حُبّ الصَلاة. نبذوا القرآن وراء ظهورهم للدنيا الدنيّة، وأمالوا طبائعهم إلى المقنيّات الماديّة. واشتدّ حرصُهم ونهمتُهم وشغفُهم باللذّات الفانية، وجاوز الحدَّ شحُّهم في الأماني النفسانية. ما بقي فيهم علمُ كتاب الله الفرقان، ولا تقوى القلوب وحلاوة الإيمان. وتَباعدوا من أعمال البر وأفعال الرشد والصلاح، وانتقلوا من سُبل الفلاح إلى طرق الطلاح. وعاد جَمْرُهم رمادًا، وصلاحهم فسادًا. بعُدوا من الخير والخيرُ بعُد منهم كالأضداد، وصاروا لإبليس كالمقرَّنين في الأصفاد، وانجذبوا إلى الباطل كأنهم يُقادون في الأقياد. يخونون في فتاواهم ولا يتقون، ويكذّبون ولا يبالون، ويقرُبون حرماتِ الله ولا يبعُدون، ولا يسمعون قول الحق بل يريدون أن يسفكوا قائله ويغتالون. ولما جاءهم إمام بما لا تهوى أنفسهم أرادوا أن يقتلوه وهم يعلمون. وما كان لبشر أن يموت إلا بإذن الله فكيف المرسَلون؟ إنه يعصم عباده من عنده ولو مكر الماكرون. يقولون نحن خدام الإسلام وقد صاروا أعوانًا للنصارى في أكثر عقائدهم، وجعلوا أنفسهم كحِبالةٍ لصائدهم. يقولون سمعنا الأحاديث بالأسانيد، ولا يعلمون شيئا من معنى التوحيد. ويقولون نحن أعلمُ بالأحكام الشرعية، وما وطئتْ أقدامهم سِكَكَ الأدلّة الدينية. يطيرون في الهوى كالحَمام، ولا يفكّرون في ساعة الحِمام. يسعون لحطامٍ بأنواعِ قلقٍ، ويُخرِجون كأهل النفاق رؤوسَهم مِن كلّ نفقٍ. يقعون من الشحّ على كل غضارة، ولو كان فيه لحم فأرة. إلا الذين عصمهم الله بأيدي الفضل والكرامة، فأولئك مبرَّأون مما قيل وليس عليهم شيء من الغرامة، وإنهم من المغفورين.

(إعجاز المسيح)

Share via
تابعونا على الفايس بوك