مجتمع صغير.. ومشاكل كبيرة!!

مجتمع صغير.. ومشاكل كبيرة!!

التحرير

بعض المجتمعات الصغيرة في العالم العربي والإسلامي. التي تتكون من دوائر محدودة من الأفراد والأهل والأصدقاء.. لا يكاد يوجد بها شخص لا يعرف الآخر، ولا يخلو فيها من لا يسمع بفلان أو علان، حتى أنه ما أن يمرض شخص أو يتزوج أو يقع له حادث ما، إلا ويسمع به الجميع أو يزوره الأصدقاء والزملاء، وأحيانا يزوره أشخاص لا يعرفهم كما يحدث كثيرا في مناسبات الزواج والولائم والعزاء، فما أن يقع أمر في الصباح حتى ترى ردود أفعاله في المساء. هذه المجتمعات الصغيرة وتفاعلات أفرادها ترسم في الأذهان صورة جميلة من المودة والتراحم والصلات الطيبة بين الناس.

أما إذا انتقلنا إلى المجتمعات الكبيرة في الدول العربية والإسلامية، فإننا نرى أن الواقع المر يختلف تماما عن هذه الصورة المشرقة، بل إنه يرسم صورة مخيفة لحجم المشكلات والمعاناة والممارسات التي تغلغلت في هذه المجتمعات، وبدأت تنسف المبادئ السامية التي تقوم عليها المجتمعات الصغيرة السابقة، وتُشوّه الصورة الجميلة التي كانت ترسمها تلك المجتمعات. لقد تضاربت المصالح، وظهرت على الساحة عادات وممارسات ذات طابع نفاقي ووصولي، حيث لم تعد العلاقات تتم بتلك العفوية البريئة، وأصبحت مظاهر الزيارات في المناسبات مرتبطة بحجم النتائج والغنائم المرتقبة، ونسي الكثيرون صنع المعروف ابتغاء مرضاة الله، وزادت محاولات الصعود على حساب الآخرين، حتى ولو اقتضى الأمر أن يدوس الإنسان على رقاب غيره من الناس، مما جعل الحروب الصغيرة تدور بين الفئات المختلفة في المؤسسات على جميع أنواعها، فتشوّهت المعاملات بين الناس، ودمغها طابع الأنانية البغيضة، وتفشّت فيها روح النجاح  بأي ثمن، ومعظم من وضع لنفسه غاية يصبو إليها قرر أن يصل إلى هدفه على حساب أي شخص وبأي ثمن، ودون أي مبالاة بمكارم الأخلاق، وبغير اعتبار للمبادئ الإنسانية السامية، وبلا تقدير للقيم التي تقوم على الصدق والشرف.

والكارثة في كل هذا أن جميع هذه الأمراض والأوبئة قد بدأت تغزو المجتمعات الصغيرة، حتى أننا قلما ما نرى بيتا يخلو من هذه الأدران. فنرى في داخل البيت الواحد حربا بين الزوج والزوجة، تنعكس بآثار سلبية على الأبناء وقد يحدث أن تعيش الزوجة في عالم ويعيش الزوج في عالم آخر، وقد يصل الأمر إلى الخيانات وإلى عواصف، وكأننا نعيش في مجتمع غربي، مما يتناقض مع صورة ذلك المجتمع الصغير الجميل، الذي كدنا أن نفقده ونفقد ما كان يحمله لنا بين طياته من لطف وأنس ومحبة.

أما في مجال العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسات ومواقع العمل، فإن روح الصداقة بدأت تضطرب وتتمزق، وأصيب صلب نظام الإدارة بخلل وانعدام التوازن، وشُلت عملية انتقاء المسئولين فلم تعد تقوم على أسس الكفاءة والخبرة والمهارة.. وهذا ما أثر في روح الأداء وعلى طبيعة العلاقات بين الزملاء، ووَلّد غيرة لم نعرف مثيلا لها في مجالات مختلفة.. وأوجد جدرانا وخطوطا تسببت في حروب وصراعات داخل المؤسسات، وانعكست هذه السلبيات على حالة الإنتاج والعمل.

ها نحن أمام مشكلات وعواصف وأمواج عاتية، المشاكل تجتاح محيطنا على صعيد المعلومات والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، وبدأت تظهر آثارها على علاقات الأجيال وتؤثر في لغتنا وهويتنا، فظهرت جمعيات إسلامية وعلمانية، متطرفة ومسالمة. وعلى صعيد آخر نرى ارتفاعا ملحوظا في نسبة الطلاق والجرائم على جميع أنوعها، وغزوًا من الأمراض المستوردة مثل الإيدز وغيرها، وارتفعت نسبة الانتحار حتى لدى المتعلمين من خريجي الجامعات وأثرياء القوم.. فهذه جمعيها صور ومشاهد تليق بمجتمع في “نيويورك” أو “مونت كارلو”، ولكنها لا تليق بمجتمعاتنا الصغيرة التي كانت تتميز بوجود الترابط بين أفرادها، وحسن التعامل بينهم.. مما يجعل الإنسان يتساءل بمرارة: من أين حلت هذه المشاكل الكبيرة على مجتمعاتنا الصغيرة؟

بطبيعة الحال.. لقد تأثرنا بسلبيات المجتمع الغربي أكثر من إيجابياته.. فانفتحنا عليه ودخلنا في صراع مع مشاكل لم تضعها أيدينا، ولكننا استوردناها بغباء وقلة دراية من أولئك الذين لهم السيطرة على زمام الأمور في كثير من دولنا. ومع ذلك فما زال هناك بارقة أمل يمكن أن تقودنا للدخول في عالم النتائج الإيجابية، إذا ما استوعبنا مفهوم الوعي.

لماذا لا نتعامل مع مشكلات العصر بالحكمة والموعظة الحسنة؟ يقول أحكم الحاكمين:

وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (البقرة: 270)،

وأخبرنا سيد الحكماء والمرسلين أن “الحكمة ضالة المؤمن أخذها حيث وجدها فهو أحق بها” (الحديث).. لماذا لا ينطبق على الأقل هذا الحديث النبوي الشريف على جميع معاملاتنا مع الحضارة الغربية، ونجعله نصب أعيننا وشعار دخولنا القرن المقبل؟ لماذا لا نأخذ من الحضارة الغربية إلا إيجابياتها، ونرفض رفضا باتا مساوئها وبوائقها؟ لماذا لا نستخلص منها إلا الطيب الحلال، فنستغله لصالح رقينا وتقدمنا؟ إننا نعيش في عصر السرعة.. والاتصالات تطورت لدرجة لم يحلم بها المرء قط.. فطالب العلم أو الأستاذ الجامعي بإمكانه أن يتصفح أعمال كبار الدكاترة والمتخصصين عن طريق الحاسوب الآلي.. أو يفتش عن مراجع في كتب المكتبات العالمية دون أن يغادر مقعده، ويستطيع أن يطبع ما طاب له من مراجع على آلة طباعته.. ولا يكلفه هذا مشاق السفر إلى دول أجنبية، ولا دفع ضرائب جمركية، ولا تعطيلات وتعقيدات الروتين في دول العالم الثالث، بل كل ما يحتاجه هو بعض الأجهزة الإلكترونية.. نعم كل هذا ممكن اليوم عن طريق الشبكة العالمية المعروفة باسم الانترنت. ولكن لسوء الحظ.. قد أفتى الكثير من علماء الأمة أن استعمالها حرام لما يوجد فيها أيضا من بعض الأمور المنافية للأخلاق. ولكن أليس لكل شيء جانب مفيد وآخر ضار؟ إن الإنسان يستعمل السيارة في الانتقال، ولكنه إذا أساء استعمالها فقد تتسبب في قتله أو قتل غيره من الناس، والنار تحرق وتدمر ولكن حسن استعمالها يخدم الصناعة والإنتاج، ولذلك نقول لعلمائنا الأفاضل: إنه بدلا من الفتوى بحرمة استعمال الانترنت، والتخلف عن ركب الحضارة الذي يفيد الإنسان، عليهم أن ينصحوا الناس أن لا يأخذوا منها إلا ما ينفعهم وينمي زادهم العلمي والثقافي، وليتركوا الباقي لأرباب السوء ودعاة الانحلال. ثم.. ألا يعلم مشائخنا الكرام أنه بإمكان طالبي الحكمة والمعرفة شراء برامج خاصة للحاسوب الآلي تمنع أي مستعمل من التجول “Surfing” في صفحات الرذيلة؟.. ألم يكن الأولى بهؤلاء المتخصصين في إصدار الفتاوى الرخيصة أن يتريثوا قليلا قبل أن يحكموا على الأمة بحرمانها من وسيلة فعالة لاكتساب المعلومات، حتى إن رئيس أكبر دولة متقدمة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، يعلن في برامج التعليم عن عزمه إتاحة الفرصة لكل تلميذ في المدارس الأمريكية أن تكون له إمكانية استعمال شبكة الإنترنت مع حلول القرن القادم.

قد أختلف مع الذين يرون في الماضي منقذا أو في العودة للوراء مخرجا.. فكل ما نشهده ونسمعه ونقرأه اليوم يؤكد أن المتغيرات ورياح المعلومات الكونية تجتاح الدنيا بسرعة.. ولا يمكن لنا وليس في مصلحتنا الانعزال أو الدخول في حرب وصراع مع هذه الرياح.. ولكن أمامنا خيار واحد وهو التكيف والوعي والتفاعل معها، مع المحافظة على مكوناتنا وأخلاقنا وثقافتنا وشخصيتنا، وفوق كل شيء.. المحافظة على ديننا والتمسك بقيمه ومبادئه وأخلاقه. إن هذا سيكفل لنا مكانة واحتراما لدى الأمم والشعوب، وسيسمح لنا بمساحة وحرية قد تفوق حجمنا، وتنتشلنا من الوهدة العميقة التي انحدرنا إليها. فإن فعلنا وأخذنا هذا القرار سيكون هذا قرارًا عقلانيًا مبنيًا على الحكمة واليقين والإيمان، وإن لم نفعل.. فقل على المؤمنين السلام!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك