مولد الأمل

السيرة الطاهرة(4)

كان مرزا غلام أحمد في تلك الآونة من حياته.. كثيرا ما يرى الرؤى الصادقة التي كان يحكيها لبعض السكان في قاديان.. من الهندوس ومن المسلمين.. الذين كانوا يزورونه ويحبّون أن يقضوا بعض الوقت في صحبته. وكانت دائما تتحقق تلك الرؤى.. ويشهد على ذلك كل أولئك الذين سمعوها منه.. وكان من بينهم اثنان من كبار رجال الهندوس أحدهما يُدعى “لاله شرمبت” وهو سكرتير جماعة الآريا سماج الهندوسية في قاديان، والآخر يُدعى “لاله مالاوامَل”. وحدث أن مرض الأخير واشتكى من أعراض مرض السل، فطلب من مرزا غلام أحمد أن يدعو الله له ليمنّ عليه بالشفاء. وبعد فترة.. أخبره حضرته أنه قد دعا الله له بالشفاء وأنه قد تلقى من الله ما يدل على أن دعاءه قد استجيب. وفعلا شُفي ’لاله مالاوامل‘ من السل ومات عام 1951 عن عمر يناهز 95 عاما.

ومنذ حوالي عام 1872 بدأ مرزا غلام أحمد يُعرف بين الناس بأنه البطل الذي يدافع عن الإسلام ضد هجوم المبشرين المسيحيين وفئات الهندوس من آرياسماج وبراهموسماج وغيرهم. فكان يبيِّن عظمة الإسلام وتعاليمه السامية في كل مجال بكتابة المقالات في بعض الجرائد والمجلات. وكانت إحدى أوائل مقالاته قد نشرت في مجلة “منشور محمدي” التي كانت تطبع كل عشرة أيام من بنجلور في “ميسور” بجنوب الهند. وبالإضافة إلى ذلك، كان يشترك بانتظام في مجلة “الوكيل” و “سفير الهند” و “فيديا باركاش” و “رياض الهند” وكلها تُنشر في أمرتسر، ومجلة “أخو الهند” و “آفتاب الهند” وكلتاهما تطبع في لاهور، ومجلة “وزير الهند” التي تصدر في سيالكوت، ومجلة “نور أفشان” وتصدر من لدهيانه، ومجلة “إشاعة السُّنَّة” التي كان يحررها زميل دراسته المولوي محمد حسين البطالوي من مدينة بطالا، وفي فترة متأخرة اشترك أيضا في مجلة “أخبار عام” التي تصدر من لاهور.

وقد ذكر في أول مقالة نُشرت له في مجلة “منشور محمدي” في 25 أغسطس (آب) عام 1872 أن تجاربه وخبرته في الحياة التي مر بها خلال عشرين عاما اقنعته تمامًا بأن الأساس المتين لكل خير في حياة الناس وعلاقاتهم هو التمسك الدائم بالحق.. وعلى ذلك فإن أسهل طريق لمعرفة صدق دين من الأديان، هو أن نبحث إلى أي مدى يحتوي ذلك الدين على التعاليم الفعالة والمؤثرة التي تساعد أتباعها وتعينهم على التمسك الكامل بالحق. وتحدَّى أتباعَ الأديان الأخرى جميعها أن يقدموا من واقع كتبهم المقدسة.. تعاليم أديانهم في هذا الشأن. وجعل جائزة قدرها خمسمائة روبية لأي شخص من غير المسلمين يستطيع أن يبين من خلال كتابه المقدس نصف أو حتى ثلث التعاليم التي تحض على التمسك بالحق، والتي سوف يقدمها هو من الكتب الإسلامية المعروفة. ولكن أحدا لم يتقدم ليقبل التحدي.

بعد ذلك كان مرزا غلام أحمد يتصدى لكل جملة تُنشر في مقالة أو في كتاب للنيْل من الإسلام أو تنتقد تعاليمه، فكان يبين سقمها وخطأها.. ويتناولها بالتحليل والتعليق.. ويُفنّدها وينقدها بشكل حاسم.. حتى إن كل من له حظ من العقل والإدراك كان يتبين صدق آرائه، ويرى رجاحتها وصحتها.

ويمكن أن نذكر كمثال على ذلك ما نُشر في مجلة “الوكيل” من أمرتسر في عددها الصادر بتاريخ 7 ديسمبر (كانون الأول) 1877 والناطقة بلسان الآرياسماج.. الطائفة الهندوسية.. وهو ما ذكره “سوامي ديانند”.. زعيم الطائقة.. من أن عدد الأرواح الإنسانية عدد لا نهائي، ولا يعرف أحد هذا العدد ولا حتى الله، وعلى ذلك فإنه مهما نجت أعداد كبيرة من الأرواح.. فإن هناك أعدادًا أخرى لا حصر لها تحتاج إلى الهداية والنجاة.

وكتب مرزا غلام أحمد ردا على ذلك في سلسلة من المقالات التي نشرتها مجلة “سفير الهند” التي تصدر أيضا في أمرتسر، وتم نشرها في الفترة من 9 فبراير (شباط) إلى 9 مارس (آذار) 1878. وكان “سوامي ديانند” يقوم بجولة في البنجاب في ذلك الوقت، فتحداه مرزا غلام أحمد.. هو وغيره من الآرياسماج.. أن يثبتوا صدق ادعائهم، وأعلن عن جائزة قدرها خمسمائة روبية لمن يقدم الدليل على صدق ذلك الادعاء. وقد فنّد ادعاءاتهم في مقالاته، وهدم كل أدلتهم بشكل حاسم ومقنع.. حتى إن “لاله جيواداس”.. الذي كان سكرتيرا للجنة المركزية للآرياسماج في البنجاب.. نشر مقالا ذكر فيه أن العقيدة التي دحضها مرزا غـلام أحمد لا تشكل ركنا أساسيا من أركان عقيـدة الآرياسماج (!)، وأضاف أن أفراد طائفة الآرياسماج لا يتبعون “سوامي ديانند” اتباعا أعمى (!!)، وأنهم لا يقبلون كل ما يقول به “سوامي” إلا إذا ثبتت صحته.

أما “سوامي ديانند” نفسه فلم ينشر أية مقالة يدافع بها عن رأيه أو يرد بها على آراء مرزا غلام أحمد.. بل كتب مقالا ذكر فيه أن عدد الأرواح ليس في الحقيقة عددا لا نهائيا، وإنما خلال عملية تناسخ الأرواح وعودتها إلى الدنيا مرة أخرى في أجساد مختلفة، فإن عددها لا ينتهي. وأرسل إلى مرزا غلام أحمد خطابا مفتوحا يدعوه فيه إلى مناظرة في ذلك الموضوع. وقد نُشر الخطاب المفتوح في مجلة “أخو الهند” التي كانت تصدر من لاهور في عدد يونيو (حزيران) 1878 وكان يحررها بانديت “ناراين أجني هوتري” الذي علق على الخطاب بما يلي:

“إن فرقة الآرياسماج كانت تعتقد بقوة حتى الآن حسب تعاليم “ديانند” التي نسبها إلى الفيدا (كتاب الهندوس المقدس) أن عدد الأرواح لا نهاية له. ولكن.. يبدو الآن.. بعد أن دحض مرزا غلام أحمد تلك النظرية وفنّد أدلتها.. أن “ديانند” اضطر إلى أن يعترف بأن عدد الأرواح ليس عددا لا نهائيا.. وعزا ذلك إلى تناسخ الأرواح. وما نريد أن نُبيِّنه هنا هو أن ديانند كان قد أعلن لأتباعه تلك الآراء مستندا على الفيدا، بزعم أن ذلك الكتاب يؤيد فكرة أن عدد الأرواح عددا لا نهائيا، وأن وجودها قائم بذاتها. ولكن الآن بعد أن تم دحض هذه الفكرة.. وبعد اعترافه بأن عدد الأرواح محدود، وليس غير متناه كما كان يدَّعي من قبل، فإنه بذلك يكون قد خالف الفيدا، وهو الكتاب المقدس الذي استند عليه في إعلان رأيه الأول. فإذا كان الفيدا يؤيد ما يعلنه ديانند الآن، فإن هذا يُعد أمرا خطيرا في حق ديانند، بصفته زعيما لهذه الفرقة.. إذ إنه بذلك يُعَلم أتباعه تعاليم متناقضة، وإذا كان الفيدا لم يذكر هذا الموضوع فإن هذا ينال من قيمة الفيدا.”

وليس هناك ما يدل على صدور أي جواب من سوامي ديانند.. ولكن بانديت “خرك سنج”.. وهو عضو في طائفة الآرياسماج في أمرتسر.. حضر إلى قاديان وعرض أن يقوم بمناظرة مرزا غلام أحمد. واتفق الطرفان على أن يكون موضوع المناظرة هو تناسخ الأرواح، ومقارنة بين تعاليم الفيدا وتعاليم القرآن في هذا الشأن.

فكتب مرزا غلام أحمد مقالة قُرئت في اجتماع عام دُعِي إليه لهذا الغرض. وحاول البانديت أن يرد على الأدلة التي ساقها مرزا غلام أحمد، ولكنه شعر بأنه لا يستطيع ذلك.. فغضب وفقد أعصابه وترك المكان وذهب إلى داره. ثم كتب فيما بعد إلى مرزا غلام أحمد يطلب استمرار المناظرة على صفحات إحدى الجرائد. فأجابه مرزا غلام أحمد بأنه على أتم الاستعداد لذلك، واقترح صحيفة “سفير الهند” التي كانت تصدر من أمرتسر أو صحيفة “أخو الهند” التي كانت تصدر من لاهور أو صحيفة “آريا دربان” التي كانت تصدر من “شاه جهانبور”. ووعد أن يعطي البانديت “خرك سنج” جائزة قدرها خمسمائة روبية إذا حكم القضاة الذين سوف يُعيَّنون لهذا الغرض باستحقاقه للجائزة إذا نجح في إثبات آرائه. واقترح تعيين القس رجب علي.. وهو مبشر مسيحي رغم اسمه الإسلامي.. والبانديت شيف ناراين.. وهو من فرقة البراهموسماج الهندوسية، ليكونا قاضيين في ذلك الأمر.

وكتب مرزا غلام أحمد مقالة يؤكد فيها على وجهة نظره بأن الله تعالى هو خالق الكون، وأنه هو وحده قائم الوجود بذاته، وأن الأرواح جميعها من خلقه وليس لها وجود ذاتي. ولكن البانديت “خرك سنج” لم يقدم جوابا لآراء مرزا غلام أحمد. وفيما بعد ارتدَّ البانديت عن الآرياسماج ودخل في المسيحية، وكتب عدة مقالات يدين فيها تعاليم الآرياسماج!!.

وفي عام 1879 تبادل مرزا غلام أحمد وجهات النظر مع البانديت “شيف ناراين أجني هوتري” على موضوع الوحي السماوي، وذلك من خلال المراسلات التي نُشرت فيما بعد. وكان البانديت مُدرسا في المدرسة العليا التابعة للحكومة في لاهور، وكان أيضا محررا ومالكا لصحيفة “أخو الهند”، ويُعتبر زعيما لفرقة البراهموسماج التي تقول باستحالة الوحي الإلهي عن طريق المخاطبة بين الله وعباده. واستمرت تلك المباحثة من 21 مايو (آيار) إلى 17 يونيو (حزيران) عام 1879، وتكرر ما حدث من قبل مع البانديت خرك سنج.. إذ أن البانديت شيف ناراين انشق على طائفة البراهموسماج فيما بعد، وكوّن فرقة خاصة سماها “ديف سماج”، وادعى أنه يتلقى الوحي من السماء!!.

وفي عام 1878.. وقعت حادثة يتبين منها مدى تمسكه بقول الصدق مهما كلفه ذلك من ثمن، وتجنبه الكذب حتى ولو أدّى ذلك إلى تعرضه للسجن والمهانة. إن الإنسان العادي في هذا الزمن.. حتى ولو كان على شيء من تقوى وصلاح.. قد لا يجد غضاضة في كذبة صغيرة لا يضر بها أحدا، ولكنه ينقذ بها نفسه من خطر عظيم. وأما أولئك الذين يختارهم الله تعالى ويبعثهم لإصلاح خلقه، فإنهم يتمسكون بالحق في كل الظروف، ولا تنطق ألسنتهم إلا الصدق مهما كانت النتائج، وتعاف نفوسهم الكذب حتى ولو تعرضوا لأشد البلاء. هكذا كان سيد الخلق أجمعين .. الذي كان معروفا في قومه بأنه الصادق الأمين.. وهكذا كان المسيح عيسى بن مريم الذي قال لقومه “من منكم يُبَكِّتني على خطية”، وهكذا كان جميع رسل الله الكرام.. ناطقين بالحق متمسكين به في جميع الأحوال.. لا يحيدون عنه قيد أنملة.. ولذلك اختارهم الحق تبارك وتعالى وهو القائل:

اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (الأنعام:125).

حدث أن أرسل مرزا غلام أحمد مسودات مقالة لكي تُطبع في مطبعة “الوكيل” في أمرتسر، وذلك في مظروف خاص وضع عليه طوابع البريد المطلوبة لهذا النوع من البريد. ووضع بداخل المظروف رسالة إلى مدير المطبعة، يشرح له فيها تعليماته وكيفية طبع المقالة. وكان وضعُ رسالة داخل المظروف يتعارض مع قوانين البريد في ذلك الوقت، حيث يستلزم الأمر وضع طوابع بريدية خاصة في حالة الرسائل. وكان القانون ينص على عقوبة يُقدِّرها القاضي بالسجن أو الغرامة المالية في حالة المخالفة. وكان صاحب المطبعة “رليارام” مسيحيا شديد التعصب. وما أن تسلم الرسالة حتى ذهب إلى السُلطات، وقدم شكوى ضد مرزا غلام أحمد متهما إياه بمخالفة القانون. وسرعان ما أقامت إدارة البريد قضية ضد مرزا غـلام أحمد ، واستُـدعي للحضـور إلى المحكمة بمدينة غورداسبور لسؤاله في الأمر واختيار محام للدفاع عنه.

كان المحامي الذي تم اختياره.. صديقا له، فنصحه بأن يُنكر تماما أنه وضع الخطاب في المظروف، ولكن مرزا غلام أحمد رفض رفضا باتا نصيحة المحامي، وأخبره أنه لن يجتنب طريق الحق ولو بقيد أنملة. وحاول المحامي أن يثنيه عن عزمه موضحا له خطورة الاتهام، وأنه قد يُحكم عليه بالسجن في هذه القضية، ولكنه أصر على تمسكه بقول الحق مهما كانت النتائج. ولما يئس المحامي من إقناعه بأن كذبة صغيرة مثل هذه لن تؤثر عليه في شيء، ولكنها سوف تنقذه من السجن أو الغرامة.. وإزاء الإصرار على قول الحق من جانب مرزا غلام أحمد.. أخبره المحامي أنه في تلك الحالة سوف يصدر الحكم بالإدانة، وعلى ذلك فلا جدوى من الترافع للدفاع عنه، وانسحب المحامي فعلا من القضية. وعبَّر مرزا غلام أحمد عن أسفه لقرار المحامي وتخليه عنه، ولكنه كان حاسما في توضيح موقفه، وأنه لن يتخلى عن قول الحق مهما كانت النتائج. وحينما نودي على القضية مَثلَ أمام القاضي دون أن يصحبه محامٍ.

وبدأت إجراءات القضية.. فاستمع القاضي إلى الادعاء الذي قدمه مدير إدارة البريد وكان رجلا أوربيا، وكان القاضي أيضا رجلا أوربيا. وحين سُئل مرزا غلام أحمد عن الأمر.. أقر بأنه هو الذي وضع الخطاب في المظروف، وأنه هو الذي أرسل المظروف.. ولكنه لم يكن يقصد بوضع الخطاب أية خسارة لمصلحة البريد، أو أنه كان يطمع في استغلال سعر البريد المخفض للمظروف الذي لا يحتوي على رسائل. ولكن لما كان موضوع الخطاب يتعلق بمحتويات المظروف.. ويحمل تعليمات للمطبعة عن كيفية أداء الطباعة.. فإنه بحسن نية كان يعتقد أن الخطاب يُشَكل جزءا من محتويات المظروف، وأن الخطاب.. على هذا الأساس.. لا يُعد رسالة خاصة يقتضي أن يدفع عنها أجرا مختلفا.

ودفع الادعاء بأن هذه حالة واضحة لمخالفة قانون البريد، وأن دفاع المتهم ليس في واقع الأمر سوى اعتراف منه بأنه مذنب، وعلى ذلك.. طلب من المحكمة أن تدين المتهم وتقضي عليه بالسجن حسب القانون وتحمّله نفقات القضية. ولكن القاضي لم يأخذ بوجهة نظر الادعاء.. بل استطاع بثاقب بصره أن يرى حُسن النية في تصرف مرزا غلام أحمد.. فأعلن حكمه برفض الدعوى.

والجدير بالذكر أن مسؤولية إثبات الجرم كانت تقع على عاتق الادعاء، كما شرح المحامي ذلك لمرزا غلام أحمد، وأنه لو أنكر وضع الخطاب في المظروف، فإنه لا سبيل أمام الادعاء لإثبات خلاف ذلك. ولكن مرزا غلام أحمد لم يكن ليقبل أن يحتال بمثل تلك الحيل لإثبات براءته، وصمم على أن لا يتخذ طريقا إلا الصدق وقول الحق مهما كلفه ذلك من ثمن.

في عام 1874.. رأى مرزا غلام أحمد في الرؤيا صبيا صبوح الوجه.. وكان الصبي يتميز بقوة من الجلال حتى إنه ظن في الرؤيا أنه ملاك.. وكان الصبي يجلس على منصة عالية، وأعطاه الصبي رغيفا كبيرا لذيذ الطعم من خبز يشع منه النور، وقال له: “هذه الأرغفة لك وللدراويش الذين معك.”

كانت تلك الرؤيا على جانب كبير من الأهمية، حيث إن الخبز يرمز للحياة.. والخبز الذي يشع منه النور يرمز إلى انتشار النور بين الأحياء، كعلامة على إرساء مملكة الله تعالى في الأرض ونشر دينه بين الآفاق. وكان مرزا غلام أحمد قد عوّد نفسه على أن يُشرك الآخرين في طعامه.. وبعد عدة سنوات أسس في قاديان بيتا للضيافة ومطبخا لإطعام كل أولئك الذين كانوا يأتون لزيارته.

وعلى وجه العموم.. لم يكن مرزا غلام أحمد يميل كثيرا للاختلاط بعامة الناس، ولكنه مع ذلك كان حريصا على زيارة الصالحين حتى يطلب منهم الدعاء لنصرة الإسلام. وكان الشيخ عبد الله الغزنوي الأفغاني.. وهو أحد رجالات العلم الصالحين المعروفين بالتقوى والرشاد في ذلك الوقت، قد لاقى الاضطهاد في بلده أفغانستان على يد بعض الجهّال المتعصبين، الذين أفتوا بكفره وطردوه من بلدته غزني.. فجاء إلى البنجاب واستقر به الأمر في ضواحي أمرتسر. وقد زاره مرزا غلام أحمد في مناسبتين، وطلب منه أن يدعو الله تعالى لخير الإسلام. واستجاب الشيخ الصالح لطلبه، وأخبره فيما بعد أنه قد تلقى وحيا مُبَشّرا من الله يقول فيه: “أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين”.. وهذه العبارة جزء من الآية الأخيرة من سورة البقرة. وفي مناسبة تالية.. ذكر الشيخ الصالح أنه رأى في الرؤيا نورا ساطعا من السماء قد نزل في قاديان، ولكن أولاده حُرموا منه. وبالفعل فإن أبناء هذا الشيخ وأحفاده لم يفطنوا إلى أهمية ذلك النور ومعناه.. فلم يستفيدوا منه، بل عارضوا سيدنا أحمد بعد إعلانه عن دعواه.

وعندما قارب عام 1875 على الانتهاء.. رأى مرزا غلام أحمد ملاكا في الرؤيا أخبره فيها أن عليه أن يتبتل إلى الله تعالى بالصيام لفترة معينة، كما هي سُنّة الكثير من الأنبياء. وبناء على ذلك.. عزم على أن يبدأ هذا الصيام خفية دون أن يعلم أحد عنه شيئا. فكان يُوَزّع طعامه على بعض الصبية الفقراء الذين طلب إليهم أن يحضروا لديه في أوقات معينة حددها لهم. وكان يتناول وجبة واحدة فقط بعد المغرب.. ولكن بعد أسبوعين أو ثلاثة من بدء الصيام.. أخذ يقلل كمية الطعام في الوجبة الوحيدة التي كان يتناولها، حتى صار في نهاية الأمر يتناول بعض كسرات من الخبز فقط خلال الأربع والعشرين ساعة من اليوم. وفي وصف تلك الفترة كتب حضرته يقول:

“لقد استمر بي الحال على هذا المنوال لمدة ثمانية أو تسعة شهور، ورغم ضآلة الطعام الذي كنت أتناوله والذي لم يكن ليصبر عليه ابن الشهرين أو الثلاثة أيضا.. فإن الله تعالى قد حفظني من كل سوء ومكروه. ومن العجائب التي حظيت بها من خلال هذا النوع من الصيام هي تلك المكاشفات اللطيفة التي كُشفت علي.. فقد قابلت العديد من الأنبياء الكرام.. وكذلك بعض كبار الأولياء والصلحاء المسلمين الذين خلوا من قبل. وقد شاهدت رسول الله بحالة اليقظة التامة وهو في رفقة الحسنين وعلي وفاطمة رضي الله. ولم يكن ما رأيته في رؤيا وإنما كانت في حالة من اليقظة….

وعلاوة على ذلك.. رأيت الأنوار الروحانية على وجه التمثيل كأعمدة لها ألوان مختلفة كالأخضر والأحمر، وكانت تتراءى من الجمال وقوة التأثير ما يعجز الإنسان عن وصفه. وكانت تلك الأعمدة النورانية المتصاعدة نحو السماء التي كانت بعضها ناصعة البياض وبعضها خضراء وأخرى حمراء كلها كانت تتصل بقلبي اتصالا خاصا، بحيث كانت تبعث السرور إلى القلب، حتى إني عند مشاهدتها كنت أشعر بقلبي ينتشي بنشوة خاصة لا سبيل لمقارنة لذتها مع أي شيء آخر. وكنت أتصور أن تلك الأعمدة الروحانية هي تعبير عن الحب المتبادل بين الله والإنسان.. ويعني ذلك أن نورا قد تصاعد من القلب ونورا آخر قد نـزل من الفوق.. وحينما التقيا أخذا شكل عمود من نور. إن هذه الأمور الروحانية مما لا يمكن لأهل الدنيا أن يدركوها، لأنها بعيدة عن عيونهم، ولكن هناك مَن مَنَّ الله عليه في الدنيا بإدراك هذه الأمور.

ومن العجائب التي ظهرت علي في فترة الصيام تلك كانت عبارة عن ضروب من المكاشفات. واستفدت من خلال هذه التجربة أيضا أنني تبينت أني أستطيع.. إذا اقتضى الحال.. أن أتحمل الجوع لفترة طويلة من الزمن. وخطر ببالي أكثر من مرة بأنه إذا أُجبر شخصٌ بَدينٌ يكون بالإضافة إلى ذلك أحد المصارعين الأقوياء أيضا ليتحمل الجوع معي، فإنه سوف يموت قبل أن أشعر أنا بحاجة إلى الطعام…. وإنني على يقين أن الذي يخلد إلى حياة التنعم والراحة فلا يسمو إلى المراتب الروحانية. ولكني لا أسدي هذا النصح إلى كل واحد أن يقوم بمثل هذا الصيام.. كما لم أقم به أنا أيضا بناء على اختياري… اعلموا أنني تحملت هذه المشقة الجسدية بأمر من الله الذي تلقيته بواسطة الكشف الصريح إلى فترة ثمانية أو تسعة شهور حيث ذقت الجوع والعطش، ولم أعد إلى تكرارها إلا نادرا.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج 13 ص 198-200 الحاشية)

وفي عام 1876.. حدث أن كان مرزا غلام أحمد في لاهور حين رأى رؤيا أدرك منها أن والده على وشك الانتقال إلى دار البقاء. وفي هذا يقول حضرته:

“أسرعت عائدا إلى قاديان. حيث وجدت والدي يعاني من مرض الدوسنتاريا.. ولكني لم أكن أتوقع أنه سوف يموت في اليوم التالي، وذلك لأنه قد خفت وطأة المرض وطرأ بعض التحسن على حالته، فكان يقوى على الجلوس لفترة من الزمن. وفي ظهيرة اليوم التالي كنا وجميع الأقارب معه حينما قال لي بدافع الشفقة أن أذهب لأنال قسطا من الراحة. كنا في شهر يونيو، وكان الجو شديد الحرارة، فذهبت إلى غرفة علوية للاستراحة وأخذ أحد الخدم في تدليك قدميّ.. فأخذتني غفوة خفيفة، وتلقيت وحيا من الله تعالى باللغة العربية يقول: “والسماء والطارق”.. أي أحلف بالسماء التي هي مصدر القضاء والقدر وأقسم بتلك الحادثة التي تقع بعد غروب الشمس. وفهمت من هذا الوحي أنه بمثابة تعزية لي من الله تعالى. والحادثة هي أن والدي سوف يتوفى اليوم بعد غروب الشمس. سبحان الله.. ما أعظمه من إله ذلك الذي يُعزيني في شخص يموت حزنا على حياته التي أضاعها هباءً منثورا! وقد يستغرب بعض الناس فيتساءلون ما معنى عزاء الله؟ وليكن معلوما أن الله تبارك وتعالى.. حينما يريد أن يتوجه إلى أحد برحمته فإنه يتعامل معه كما يعامل الصديق صديقه….

حين تلقيت ذلك الوحي الذي أبلغني بوفاة والدي.. مرّ بخاطري لكوني بشرا.. أن بعض موارد الدخل كانت مرتبطة بحياة والدي سوف تنقطع.. ولا ندري لأي نوع من الابتلاءات سوف نتعرض بعده. وفي الحال تلقيت وحيا آخر: “أليس الله بكاف عبده.” وقد أعطتني تلك الكلمات السلوى والراحة، وترسخ في قلبي كالوتد من الحديد. والذي نفسي بيده، إنه قد حقق وحيه المبشر هذا بشكل لم أكن أتصوره.. وإنه تعالى قد كفلني وأمدني بما لا يستطيع أي والد أن يقوم به تجاه أولاده.. وتتالت علي أفضاله ومننه بحيث يستحيل أن أحصيها.

لقد توفي والدي في نفس اليوم بعد غروب الشمس.. وكان ذلك اليوم هو اليوم الأول في حياتي الذي رأيت فيه آية رحمة الله تعالى بواسطة وحي إلهي.. التي لا أخال أنها ستنقطع يوما في حياتي. وقد طلبت في تلك الأيام أن تُحفر كلمات هذا الوحي على فص خاتم أحتفظ به إلى الآن. لقد قضيت ما يقارب من أربعين عاما من حياتي تحت رعاية والدي.. فبعد انتقاله من هذه الدار.. بدأت أتلقى الوحي الإلهي باستمرار.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج 13 ص 194-195 الحاشية)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك