كيف نعرف المبعوث الرباني؟

كيف نعرف المبعوث الرباني؟

مصطفى ثابت

حضرات الضيوف والأخوة الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حين يُطرح موضوع صدق الإمام المهدي للبحث والمناقشة.. نسمع كثيرًا من الآراء التي تذكر أعمالا معينة سوف يقوم بها الإمام المهدي، حسبما جاء في العديد من الأحاديث النبوية. وهناك صورة عامة مرسومة في أذهان الناس، مستخلصة من مجموعة الأحاديث التي وردت في هذا الشأن عن الإمام المهدي والمسيح الموعود في آخر الزمان. ورغم وجود كثير من التناقضات والإختلافات في هذه الأحاديث.. إلا أن الصورة المتوقعة للإمام المهدي بصفة المتواقعة للإمام المهدي لصفة عامة تكاد تكون واحدة، وهي أنه سوف يقود المسلمين ويحكم الدنيا، يحارب الكفر وينتصر عليه، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد، وأنه سوف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. وعلى ذلك.. إذا جاء من يدّعي أنه الإمام المهدي، ولم ير الناس وقوع هذه الأمور منه.. فإنه يوصم بالكذب والدجل والإفتراء، ولا يهتم أحد بالنظر في دعوته أو الإستماع إلى قوله وبرهانه.

هذا المسلك الذي يسلكه أكثر الناس في هذا الشأن لهو يجانب الصواب، وهو حتما لا يقود الإنسان إلى معرفة الحق بل يقود إلى الضلال، وذلك لأن صاحب هذا المسلك يعتمد على معيار واحد فقط، ويتناسى معايير أخرى أكثر أهمية.

إن الأمم السابقة التي ضلت طريقها، ورفضت الإيمان بالأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى إليها، كان بسبب نفس هذا المسلك الذي اتبعته تلك الأمم فيما مضى، والذي يتبعه عامة المسلمين اليوم في موضوع الإمام المهدي. إن الأمم السابقة اعتمدت على تحقق بعض النبوءات بصورة معينة، رسموها في أذهانهم، وتخيلوا تحققها حسب تصورهم، فلما لم تتحقق توقعاتهم بالصورة التي تخيلوها.. رفضوا الإيمان برسلهم فضلّوا الطريق.

وأفضل مثالا لهذا ما حدث عند بعثة المسيح عيسى ابن مريم إلى اليهود.. إذ كان الناس في ذلك الوقت يعيشون في ظروف مشابهة تماما للظروف التي يعيشها المسلمون عندما جاءهم الإمام المهدي. وكان في كتبهم المهدي. وكان في كتبهم الكثير من النبوءات التي تتحدث عن مجيء المسيح الموعود به لهم، والمخلِّص الذي كانوا في انتظاره. وكان اليهود يعيشون تحت احتلال الرومان كما كان المسلمون يعيشون تحت احتلال الدول الغربية. وكانت النبوءات تتحدث عن مخلِّص يأتي ليقيم مملكة عظيمة لليهود، كما تتحدث النبوءات عن إمام مهدي يأتي ليقيم مملكة عظيمة للمسلمين تشمل العالم بأجمعه. كانت النبوءات عند اليهود تتحدث عن إمام يقود اليهود وينتصر على أعدائهم، وبالمثل هناك نبوءات عن إمام مهدي يقود المسلمين وينتصر بهم على أعدائهم. كانت النبوءات عند اليهود تتحدث عن إمام يأتي بالمال والثروة لليهود، وبالمثل هناك نبوءات تتحدث عن إمام مهدي يفيض المال في زمنه حتى لا يقبله أحد.

إذا كانت جميع النبوءات التي تتعلق بمجيء المبعوث الرباني، سوف تتحقق بنفس حرفيتها الظاهرة الواضحة.. لفقدت على الفور خاصيتها الإيمانية، ولصارت حقائق يصدقها الجميع.. الصالح منهم والطالح.. المؤمن منهم ولكافر.. وبهذا فإنها لا تكون غيبا. فالغيب كما ذكرنا جزء من الإيمان، والإيمان يتطلب الفكر والتدبر.

فماذا حدث في زمن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؟

لقد جاء المسيح الموعود المنتظر لليهود.. ولكنهم لم يؤمنوا به وحاولوا أن يقتلوه ويصلبوه!!

لماذا حدث هذا؟ كانت النبوءات موجودة، وكانوا يعرفونها، فماذا حصل إذن؟ لم يحقق المسيح لليهود الصورة التي رسموها في أذهانهم عنه.. فرفضوا أن يؤمنوا به وكذبوه.

كان اليهود ينتظرون مخلصا يقيم لهم مملكة عظيمة فجاءهم عيسى ابن مريم عليه السلام يقول لهم: مملكتي ليست من هذا العالم. لقد تصوروا من النبوءات التي كانت بين أيديهم أن المسيح سيقيم لهم مملكة عظيمة في هذا العالم لأنهم فسروا تلك النبوءات تفسيرًا حرفيا، وفهموها على أنها تعني مملكة مادية في هذه الدنيا، فجاء هو ليقول إن المملكة الموعودة هي مملكة الآخرة، التي يبنيها الإنسان في هذه الدنيا بأعماله الصالحة.

كان اليهود ينتظرون مَلِكا يقودهم في الحرب لقتال أعدائهم الرومان.. فجاءهم عيسى ابن مريم يدعو إلى السلام ويقول أحبوا أعداءكم، وصلوا من أجل المسيئين إليكم.

كان اليهود ينتظرون قائدا ينتقم من أعدائهم ويقضي عليهم، فجاءهم عيسى عليه السلام يقول من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.

كان اليهود ينتظرون نبيا يحررهم من ذل العبودية للحكم الروماني، فجاءهم عيسى عليه السلام ليحررهم من ذل العبودية للإثم والمعصية.

كان اليهود ينتظرون مخلِّصا يخلصهم من دفع الضرائب، التي كان يفرضها عليهم قيصر وكانت تثقل كاهلهم، فجاء المسيح يقول لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

كذلك كان اليهود ينتظرون نزول نبي من السماء قبل أن يأتي المسيح المنتظر، فجاء المسيح يقول لهم إن يوحنا (أي يحيى عليه السلام) الذي وُلد على الأرض، هو إيليا المزمع أن ينْزل من السماء. وهكذا كان عيسى ابن مريم عليه السلام مخيبا لآمال اليهود.. لأنهم لم يجدوا فيه ما توقعوه، ولم يحقق هو لهم ما كانوا ينتظرونه، مما تصوروا أنه سوف يتحقق حسب مفهومهم وتفسيرهم لكل النبوءات التي كانت بين أيديهم.

ولم يكن الخطأ من جانب عيسى عليه السلام، وإنما كان الخطأ من جانب اليهود، لأن النبوءات تحتمل تفسيرا حرفيا كما أنها تحتمل تفسيرا مجازيا، وهم أخذوا بالحرفية وتمسكوا بها، فرفضوا الإيمان بالمخَلِّص الذي أرسله الله إليهم.. ولا يزالون حتى الآن في انتظار مسيحهم الموعود! ويذكر لنا القرآن في هذا الشأن نبوءة على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام تختص برسول الله .. إذ يقول تعالى في سورة الصف: “ومبشرًا بِرَسولٍ يأْتي مِن بعدي اسمُهُ أحمدُ” (الصف: 7).

ولا شك أن “أحمد” هو اسم من الأسماء الصفاتية لرسول الله ولكنه ليس اسمه الذي كان يناديه الناس به، وليس اسمه الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وليس اسمه الذي جاء في كلمة الشهادة، وليس اسمه الذي يُذكر في الأذان وفي الإقامة.. إن ذلك الإسم هو محمد وليس أحمد. فلماذا ذكر عيسى ابن مريم اسم صفة لرسول الله ولم يذكر اسمه الحقيقي: محمد؟ إن النبوءات لا تتحقق أبدا بحرفيتها الواضحة الظاهرة، لأنها تتعلق بالغيب، والإيمان بالغيب جزء من متطلبات الإيمان.. والإيمان الحقيقي ينبني على الفكر والتدبر، ولذلك فقد جعل الله تعالى الإيمان بالغيب هو أول علامات المتقين، فقال في أول سورة البقرة:

“الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ” (البقرة 2-4).

أما قبول الحقائق الواضحة التي لا تتطلب الفكر والتأمل فلا يُسمَّى إيمانا، فلا يقول أحد إنه يؤمن بأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب.. فهذه حقيقة واضحة يعرفها كل الناس، ولا تتطلب الفكر أو التدبر، وإذا أنكر إنسان هذه الحقيقة فإنه لا يكفر بقضية إيمانية، ولا يسميه الناس كافرت، وإنما قد يقولون عنه إنه ناقص العقل. فالحقائق الواضحة لا يُثاب المرء عليها إذا قبلها، ولا يُعاقب عليها إذا رفضها. وأما القضايا الإيمانية التي تتطلب الفكر وتقوم على التدبر، فهي التي يُثاب المرء على قبولها ويُعاقَب على إنكارها. ولنأخذ قضية وجود الله مثلا.. إن وجود الله أعظم الحقائق، ومع ذلك فهو يتطلب إعمال الفكر وينبني على التدبر، ولذلك فهو قضية إيمانية يُثاب المرء على الإيمان بها أو يُعاقب إذا أنكر وجود الله. ولكن لا يثاب المرء ولا يعاقب إذا صدق أو كذب مواعيد قيام القطارات أو مواعيد قيام القطارات أو مواعيد وصولها.. أو النشرات الجوية عن حالة الطقس مثلًا.. حتى ولو كانت بظهر الغيب.. فهذه ليست قضايا إيمانية تتطلب الفكر والتدبر. وعلى هذا. إذا كانت جميع النبوءات التي تتعلق بمجيء المبعوث الرباني، سوف تتحقق بنفس حرفيتها الظاهرة الواضحة.. لفقدت على الفور خاصيتها الإيمانية، ولصارت حقائق يصدقها الجميع.. الصالح منهم والطالح.. المؤمن منهم ولكافر.. وبهذا فإنها لا تكون غيبا. فالغيب كما ذكرنا جزء من الإيمان، والإيمان يتطلب الفكر والتدبر. وحيث إن الأنبياء والنبوءات التي تتعلق بمجيء مبعوث من عند الله هي فعلا جزء من الغيب.. فإنه من المحتم ألا تتحقق بحرفيتها الظاهرة الواضحة. وهذا ما حدث لليهود مع عيسى ابن مريم عليه السلام، وهو نفس ما حدث عند بعث رسول الله ، وهو ما يحدث الآن عند بعث الإمام المهدي عيه السلام.

إن الخطأ في تفسير النبوءات التي تتعلق بالمستقبل أمر وارد، وقد وقع فيه الأنبياء أيضا.. الذين يتلقون تلك الأنباء الغيبية. ولنأخذ سيدنا نوح عليه السلام مثالا على ذلك.. لقد فهم من وعد الله بنجاة أهله من الغرق أن جميع أهله سوف ينجون، فلما غرق ابنه قال لربه: “إن ابني من أهلي” (هود: 46) فأخبره الله تعالى أن وعد النبوءة ينطبق على أهله المؤمنين فقط، وأما غير المؤمنين فلا يُعَدّون من أهله ولا يشملهم الوعد. كما أنّ رسول الله .. رأى في رؤيا أنه يدخل مع المؤمنين المسجد الحرام، ورؤيا الأنبياء وحي، وذهب رسول الله في كوكبة من أصحابه ليدخل مكة حسب الوعد المذكور، فمنعه أهل مكة. معتمدين على حتمية تحقق النبوءة بالشكل الذي فهموه، ولكنه عارض الحرب، وعقد معاهدة مع أهل مكة على العودة دون دخول مكة، وقال إن الله لم يحدد موعدا لتحقق النبوءة.

وهكذا نرى أن الإعتماد على تحقق الأنباء الغيبية بشكلها الظاهر، وبحرفيتها الواضحة، قد يؤدي إلى الخطأ. والمسلك الأمثل في هذا الشأن هو أن نترك كيفية تحقق تلك الأنباء ومواعيد تحققها إلى الله سبحانه وتعالى، فإنها في مجملها سوف تتحقق، ولكننا لا ندري كيفية تحققها، ولا نعرف زمن تحققها، ولا نعلم بأي شكل من الأشكال يمكن تحققها. ومن هنا كان خطأ المسلك الذي يقوم برسم صورة معينة لكيفية تحقق تلك الأنباء الغيبية، وتطبيق هذه الصورة المتخيَّلة على كل من يدّعي أنه المبعوث المنتظر.. هكذا كفر السابقون بالرسل فضلّوا.. وهكذا يفعل عامة المسلمين اليوم.

كيف السبيل إذن لمعرفة مبعوث الله تعالى؟ وهل نقبل كل من يدّعي أنه الإمام المهدي؟ وهل نستجيب لكل من يقول إنه مبعوث من عند الله؟

كلا بالطبع. فهناك دلائل ومعايير ثابتة وعامة.. لا تتعلق بشخص معين، ولا توقف على تحقق نبأ ما بشكل أو بآخر، وهذه الدلائل والمعايير في عموميتها يمكن تطبيقها على جميع الأنبياء والرسل.. وخاصة على سيد الخلق أجمعين . ومن هنا جاءت قوة هذه الدلائل، وأهمية تلك المعايير. فإن الدليل الذي يُثبت صدق رسول الله لا بد وأنه يُثبت صدق كل نبي آخر، والمعيار الذي يحقق نبوة رسول الله لا شك أنه يحقق كذلك نبوة أي مبعوث آخر.

وبطبيعة الحال لن نستطيع هنا أن نخوض في تفاصيل تلك المعايير، بل نكتفي بالإشارة العابرة إليها، تاركين لمن يريد المزيد من المعرفة أن يرجع إلى كتب ومطبوعات الجماعة الإسلامية التي تبحث في هذه النقاط الهامة. هناك أكثر من عشرة معايير يمكن بواسطتها التعرف على المبعوث الرباني، والحكم بواسطتها على صدق أو كذب من يدّعي أنه صاحب رسالة من السماء.

أولا: النبوءات السابقة

غير أنه لا بد من الحرص في فهم هذه النبوءات فلا نحملها على معناها المادي الظاهري فنضل كما ضل السابقون.

ثانيًا: احتياج العصر

وذلك حين انتشار الفساد والفُرقة الخلافات وظهور الباطل وانحسار الحق.

ثالثا: الصفات الربانية لصاحب الدعوة

قبل أن يعلن صاحب الدعوة عن دعوته لا بد أن يكون معروفا في قومه بالصدق والأمانة والتقوى والورع، ويشهد له الجميع بذلك، حتى أولئك الذين ينقلبون عليه ويصمونه بكل السيئات بعد أن يعلن عن دعوته.

رابعا: الإضطهاد والمعاناة

إن كل مبعوث من عند الله يتعرض هو وأتباعه للإضطهاد الشديد والمعاناة الرهيبة، فإن معادن الرجال لا تُظهرها إلا الشدائد، والأخلاق الكريمة لا تبدو إلا عند المكاره.

خامسا: هلاك المدّعي الكاذب

إن مبعوث السماء يجعل الله تعالى شهيدا عليه بينه وبين قومه، ولذلك فإن الله تعالى يؤيد مبعوثه بينما يُنْزل عقابه على من يفتري عليه الكذب. ولا يستطيع أحد من الناس أن نمنع عنه العقاب الرباني الذي يأخذه أخذ عزيز منتقم، فيهلكه ويقطع دابره ما لم يتب إلى الله ويعود إليه ويتوقف عن كذبه وافترائه عليه.

سادسا: الحفاظة الربانية

إن صاحب الدعوة الصادق ينال تأييد السماء فتحفظه العناية الإلهية رغم أن جميع الأعداء والمعارضين يحاولون قتله والقضاء عليه، ولكنهم لا ينجحون في مسعاهم أبدًا، ولا يحققون أهدافهم.

سابعا: إظهار الغيب

إن الله تعالى هو عالم الغيب، تعالى هو عالم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا هو، ولكنه يُظهر على غيبه من ارتضى من رسول، فيخبر المبعوثُ الرباني قومَه بأمور تتحقق في حياته، وأمور أخرى تتحقق بعد وفاته، لتكون تلك الأمور دليلا على أنه قد تلقى العلم الغيبي من الله تعالى.

ثامنا: الآيات والمعجزات

إن الله تعالى يُحدث على يد مبعوثه أمورًا يعجز الناس عن الإتيان بمثلها، لكي يعلموا أن الله معه وهو الذي يؤيده.

تاسعا: القول الثابت

يُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيعطيهم الدلائل العقلية والبراهين المنطقية حتى يتغلبوا بالحق والعقل والمنطق على كل من يعارضهم.

عاشرا: استمرار الدعوة

بعد وفاة مبعوث السماء لا تنتهي دعوته ولا يندثر أثره، وإنما تستمر الدعوة وتزداد انتشارا وتكسب المزيد من المؤمنين والأتباع.

حادي عشر: استمرار التأييد الإلهي

بعد انتقال صاحب الدعوة إلى جوار ربه لا ينقطع التأييد الإلهي لجماعته، وإنما يستمر ذلك التأييد ويتنَزل عليهم كما يتنزَل الغيث على الأرض فيكسبها حياة وثمرا يانعا.

ثاني عشر: تحقق النصر الموعود

إن الله تعالى لا يبعث مبعوثا من لدنه ثم يكتب له الفشل في مسعاه، بل يكتب له النصر والفوز على أعدائه ومعارضيه.

هذه بعض المعايير والدلائل التي يُستدل بها على صدق مدّعي النبوة أو على كذبه، وهي لا تتوقف على تحقق نبوءة معينة بشكل خاص أو عام، وإنما تتعلق بحقائق منطقية وضوابط عقلية. وكما نرى.. إنها جميعا تنطبق صدق نبوته. فإذا انطبقت نفس هذه المعايير على أحد من الناس.. كانت بلا شك دليلا على صدقه كما كانت دليلا على صدق رسول الله. وإذا لم تنطبق.. كانت حتما دليلا على كذبه وافترائه على الله.

وهنا لا بد أن نجيب على سؤال هام.. لعله ما زال يفرض نفسه على أذهان البعض:

إذا كانت الجماعة الإسلامية المباركة التي أُنشئت بأمر من الله تعالى، وإذا كان مؤسسها هو فعلا المبعوث الرباني الذي ينتظره الناس، فهو الإمام المهدي الذي ينتظره المسلمون، وهو المسيح الموعود الذي وعدنا رسول الله بنُزوله في آخر الزمان، فلماذا لم تتحقق تلك النبوءات التي تتحدث عن انتصار الإسلام وظهوره على الدين كله؟

نعم.. لقد وعد رسول الله بأن الإمام المهدي سوف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما مُلئت ظلما وجورا، كذلك وعد بأن الله تعالى سوف يُهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. ولكن يجب أن نفهم تلك الوعود في ضوء الوعود التي يعد الله تعالى بها أنبياءه الصادقين. لم يحدث في تاريخ البشرية بأكمله أن بعث الله تعالى نبيا ليهب الناس الملك السياسي، والزعامة القومية، والغلبة المادية، يملأ جيوبهم بالأموال والخيرات، وهم على ما هم عليه من البعد عن الله تعالى.. تمزقهم الخلافات الدينية، وتفرقهم المشاحنات السياسية، وتوقع بينهم عداوات الأطماع الدنيوية. إن هذه ليست مهمة الأنبياء.. وإن كان يقوم بها بين الحين والحين بعض القادة والثوار الذين يقودون الإنقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية.

إن وعود الله تعالى بالنصر النهائي للإسلام لا بد وأن تتحقق حتما، ولكنها لا تتحقق بين عشية وضحاها. نعم.. إنها تتحقق في زمن المبعوث، ولكن هذا لا يعني أنها لا بد وأن تتحقق في حياته. وهذا هو الفرق الكبير الذي يغفله معظم الناس، فيتصورون أن كل هذه النبوءات عن الإمام المهدي لا بد أن تتحقق في حياته.. بينما لم يذكر رسول الله أبدا أنها سوف تتحقق في حياته.. وإنما في زمنه.

إن مهمة الأنبياء.. في المقام الأول.. هي إقرار عبادة الله تعالى في الأرض. ولإقرار هذه العبادة أرسل سبحانه جميع الأنبياء والرسل، كما يقول عز وجل:

“وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولً” (النحل: 37)

وعبادة الله التي من أجلها أرسل الله تعالى كافة أنبيائه ورسله.. كما أرسل في زماننا هذا الإمام المهدي عليه السلام.. ليست هي فقط صلوات تُركع وآيات تُتلى وشعائر تُؤدي وحج يُشَد إليه الرحال ومسابح يُذكر عليها اسم الله بالتسبيح والتهليل. نعم.. إن كل هذه الأمور هي وسائل تعين الإنسان على عبادة الله تعالى، ولكن ليست هي في ذاتها العبادة، وإن أطلق عليها مجازا لفظ العبادة. فما هي العبادة إذن؟

العبادة هي معرفة الله تعالى ومحبته، والتقرب إليه، والتخلق بأخلاقه، والإتصاف بصفاته، والإصطباغ بصبغته.. فيكون الإنسان رحيما كما أن الله رحيم، ويكون غفورا كما أن الله غفور، ويكون عفوا كما أن الله ودود، وهكذا.. تتجلى في الإنسان كل الصفات الربانية فيكون إنسانا ربانيا، وهذا معنى قوله : “تخلقوا بأخلاق الله”، وهذا هو الملخص الكامل لبعثته ورسالته الذي عبّر عنه حين قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

إن عبادة الله معناها أن يكون الإنسا إنسانا ربانيا، وهذا هو الغرض من بعثة الأنبياء وإرسال الرسل كما يقول تعالى:

“مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ” (آل عمران: 80)

وتحويل النفوس البشرية التي كانت تعيش في دنيا قد امتلأت ظلما وجورا.. إلى نفوس ربانية تملأ الأرض قسطا وعدلا.. ليس من الأمور التي تحدث في أيام أو في سنوات. إن الذين يتصوَّرون أن الإمام المهدي سوف لملأ الأرض قسطا وعدلا.. وأن الله سوف يُهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام.. بينما المسلمون على ما هم عليه من فُرقة، واختلاف الرأي، والبعد عن الله تعالى، وعدم قبول المبعوث الرباني الذي أرسله الله تعالى، وعدم الإتحاد خلف القيادة الربانية التي أقامها الله تعالى.. إنما هم واهمون. إن هذا يتعارض تماما مع سُنّة الله تعالى، ويتناقض مع ما قرره سبحانه في كتابه الحكيم حيث يقول:

“إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” الرعد: 12)

إن وعود الله تعالى بالنصر النهائي للإسلام لا بد وأن تتحقق حتما، ولكنها لا تتحقق بين عشية وضحاها. نعم.. إنها تتحقق في زمن المبعوث، ولكن هذا لا يعني أنها لا بد وأن تتحقق في حياته. وهذا هو الفرق الكبير الذي يغفله معظم الناس، فيتصورون أن كل هذه النبوءات عن الإمام المهدي لا بد أن تتحقق في حياته.. بينما لم يذكر رسول الله أبدا أنها سوف تتحقق في حياته.. وإنما في زمنه. إن حياة النبي هي تلك الفترة التي يعيشها في هذه الدنيا، وأما زمنه فهي تلك الفترة التي تبدأ منذ اختياره للمهمة التي أقامه الله تعالى من أجلها، إلى أن يأتي بعده نبي آخر بشريعة أخرى، فينتهي زمنه ويبدأ زمن النبي الجديد. وقد انتهى زمن الأنبياء جميعا عند بعث رسول الله وبدأ زمانه الذي لا نهاية له والذي سوف يظهر فيه الإسلام على الأديان كلها.

وتعالوا نر الآن كيف كانت تتحقق وعود الغلبة والإنتصار للأنبياء..

لقد جاء موسى عليه السلام إلى قومه.. يعدهم بأن الله سيجعلهم ملوكا، ويمكنهم من إنشاء مملكة عظيمة في الأرض المقدسة. فمتى تحقق هذا النبأ؟ لم يتحقق في حياة موسى عليه السلام، بل إن موسى نفسه مات من قبل أن يضع قدمه في الأرض المقدسة. ولكنه أنشأ جماعة من المؤمنين.. مرت عليهم أعوام وأعوام.. حتى إذا انقضت ثلاثة قرون من بعد موسى عليه السلام، تحقق الوعد، وأسس بنو إسرائيل مملكة قوية في الأرض المقدسة، وصلت إلى أوج مجدها في عهد داود وسليمان عليهما السلام. وهكذا تحقق الوعد الإلهي.. في زمن موسى عليه السلام وليس في حياته، لأن زمنه يمتد إلى زمن بعثة رسول الله .

ولا يجرؤ أي عاقل أن يتخذ من عدم تحقق تلك النبوءات والوعود في حياة الرسول، دليلا على عدم صدقه مثلها يحاول بعض الناس اليوم أن يتخذوا من عدم تحقق امتلاء الأرض بالقسط والعدل، دليلا على عدم صدق الإمام المهدي.

كذلك كان الأمر بالنسبة لعيسى عليه السلام.. فقد وعده الله تعالى بأنه سيجعل الذين اتبعوه فوق الذين  كفروا إلى يوم القيامة، فمتى تم تحقيق هذا الوعد الإلهي؟ لقد أنشأ عيسى عليه السلام جماعة من المؤمنين كانت قلة من المستضعفين في الأرض، عانوا من اضطهاد اليهود والرومان العناء الشديد. كانوا يُقَتَّلون ويُصَلَّبون، ويُحْرقون بالنيران ويُلقي بهم إلى الوحوش المفترسة. واستمر ذلك الإضطهاد مدة ثلاثة قرون، حتى إذا جاء القرن الرابع ودخل الإمبراطور قسطنطين في المسيحية، توقف اضطهاد أتباع المسيح وتحقق الوعد الإلهي.. في زمن المسيح وليس في حياته.. حيث يمتد زمنه أيضا إلى زمن بعثة رسول الله .

ولا يختلف الأمر مع سيد البشر وخاتم النبيين ، فإن الله قد بعثه ليكون رحمة للعالمين، وأمره ان يبلغ رسالته للناس أجمعين، ووعده بأنه سبحانه سيجعل لدينه الغلبة والإنتصار على الأديان كلها، وأكد له على أن الحق سوف يعلو ويظهر، وأن الباطل سوف يزول ويزهق. فهم تحققت تلك الوعود والأنباء في العالم أجمع وبالنسبة للناس كافة؟ هل تم انتصار الإسلام على اليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها من أديان الأرض؟ هل ظهر الحق وعلا وزهق الباطل واندثر من الدنيا؟ لقد مات رسول الله ولم يخرج دين الإسلام من نطاق شبه الجزيرة العربية. نعم.. إن رسول الله حقق انتصارا عظيما على أعدائه في مكة والطائف، وفي خلال قرون ثلاثة كان الإسلام قد انتشر من الأندلس في أوربا إلى حدود الصين في آسيا. ولكن رسول الله لم يكن رسولا إلى مكة والطائف فحسب أو إلى أوربا وآسيا فقط، بل كان رسولا إلى الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية، وإلى الهند، والصين، واليابان، وإلى الهنود الحمر من سكان أمريكا الشمالية، وأمريكا الجنوبية، وإلى سكان أستراليا، وهذه القارات الثلاثة لم يكن قد تم اكتشافها في ذلك الوقت. ولا يجرؤ أي عاقل أن يتخذ من عدم تحقق تلك النبوءات والوعود في حياة الرسول، دليلا على عدم صدقه مثلها يحاول بعض الناس اليوم أن يتخذوا من عدم تحقق امتلاء الأرض بالقسط والعدل، دليلا على عدم صدق الإمام المهدي. ولد أعلن الإمام المهدي عليه السلام قوله للعالم أجمع فقال ما تعريبه:

“اسمعوا أيها الناس جميعا! إن هذا نبأ من الله الذي خلق السماوات والأرض، إنه سوف ينشر هذه الجماعة في أقطار العالم كله ويعطيها الغلبة على الجميع بالحجة والبرهان. إن الأيام لآتية.. بل إنها لقريبة.. حين لا يُذكر بالعزة في الدنيا إلا هذا الدين. إن الله تعالى سوف يبارك هذا الدين وهذه الجماعة بشكل خارق للعادة ولأقصى غاية، وكل من يسعى لاستئصالها سوف يخيبه الله، وستدوم الغلبة إلى يوم القيامة… ولن ينقضي القرن الثالث بدءا من هذا اليوم.. حين لا يكون في العالم سوى دين واحد وإمام واحد. لقد جئت لأبذر البذر، وقد زرعت ذلك البذر، وقد زرعت ذلك البذر بيدي، ولسوف ينمو ويزدهر، ولن يستطيع أحد أن يعرقل نموه”. (معرب من كتاب تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية ج 20 ص 66 و67)

والآن..

السؤال إليك أيها المستمع الكريم..

أين تقف اليوم؟ وأين ستقف غدا.. أمام رب العالمين.. في يوم الموقف العظيم؟

عسى أن يجمعنا سبحانه على طريق الحق القويم، ويهدينا صراطه المستقيم. آمين ثم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك