الحضارة الحقة

الحضارة الحقة

التحرير

ما من ضمير يقظ وعقل سليم وقلب رحيم في هذا العالم إلا ويُعرب عن قلقه من طغيان المادية على المبادئ والقيم في سلوك الإنسان الحديث وطرق تفكيره ومواقفه. وقد لا يحتاج هذا الأمر إلى أدلة حيث إن ما يحدث على الساحة وعلى مختلف الأصعدة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية أيضا خير شاهد على ما نقول.

إن أول ما استهدفته العقلية المادية القيمَ الروحية والمبادئ حيث جعلت المصلحة المادية على هرم اهتماماتها حتى ولو كانت على حساب المعاني المجليلة والفضائل المثلى. فالعدل والحق والإنصاف والرحمة والمساواة الخ.. في الميزان المادي قد لا تساوي الكثير إذا ما قيس ذلك بمنظار الربح والخسارة. وإذا كانت القيمة الروحية هي الرسالة المشتركة بين جميع الشرائع السماوية تُعتبر الأخلاقيات والمبادئ أمرا مقدسا من الثوابت، ولكن العقلية المادية ترى على خلاف هذا إذ تعتبرها من المتغيرات!!

صحيح أن الحضارة الغربية قد بلغت ذروتها في الميادين والإختصاصات العلمية المتعددة ووصلت بها إلى مستويات غير معهودة من قبل من حيث كمها ونوعها إلا أن المفارقة العجيبة بهذا الخصوص هي أنه بقدر ما تزداد الحضارة المعاصرة اهتمامًا بالماديات بقدر ما تنحدر تلقائيا على المستوى الأخلاقي والروحاني نحو الحضيض في هوة سحيقة باطنها الفساد والإنحلال!!

وأحسن دليل على ذلك ما يسود المجتمعات الغربية الإستهلاكية من متناقضات أخلاقية على الصعيد الإجتماعي.. تفكك أسري ونسبة مرتفعة جدا للولالدات غير الشرعية وارتفاع في معدلات الجريمة.. أما على المستوى الثقافي والفكري فقد سادت ثقافات جديدة همَّشت دور الفضيلة وأحلت محلها الرذيلة، وبناء على هذه المعطيات التشخيصية لا يليق بنا من الناحية الإصطلاحية أن نسميها “حضارة” بما في هذا المعنى من دلالة لغوية ذات معنى لا يستقيم دون أن تتوفر له شروطه، لأن الحضارة تشمل في مكنونها التعريفي المبادئ والأهداف والغايات والمنجزات السامية التي تبني الإنسان ماديا وفكريا لتصل به نحو سبل الرقي والسعادة والسلام. فهل تتمتع الحضارة الراهنة بتلك المواصفات السالفة الذكر؟

إن كثيرًا من المعجبين بالمدينة المادية الغربية لا يفرقون بين الحضارة الحقة ومظاهر الحضارة، لذلك نجد البعض يُقيم لنا الحضارة برفاهية العيش وماديته وشعارات إشباع الحاجة دون أدنى اعتبار للقيم والمواقف الأخلاقية التي يجب أن ترافق أي تطور مادي. فالحضارة الإسلامية التي أشرقت الدنيا بشمس منجزاتها وعطاءاتها والتي علّمت البشريةَ معنى التحضر والمدينة لم تكن لتصل إلى ذلك المقام الرفيع لو لا ترسيخ مقاصد الدين الحنيف في فكر المسلمين الأوائل وترسيخ المبادئ الأخلاقية التي جعلتهم يحدثون في كل المجالات والإهتمامات والإختصاصات أعظم نقلاب فكري وعلمي على الصعيد العالمي. إذ بلغت تأثيره الإيجادي، الذي جمع بين المادي والروحي، من الحيوية والسمو والطهر والموافقة لروح الإنسانية، والنظريات الإجتماعية والمذاهب الفكرية شأنا شهد به الفلاسفة ولمفكرون والإجتماعيون والمشرعون في كل جيل وزمن. فإذا كان خصوم الإسلام المعجبون بالحضارة الراهنة يفتخرون بما لديهم من تقنيات راقية ووسائل تكنولوجية جية متطورة كدليل على نجاح نهجهم المادي الفكري كنموذج يستدعي فصل القيم والإيمان عن الفكر والسلوك، فإن المعجبين بالإسلام حينما يستذكرون تاريخ الحضارة الإسلامية يَعزُون منجزات هذه الحضارة إلى الإسلام وليس إلى الفكر البشري. ومما لا شك فيه أن نجاح المنهج الرباني في إشباع كل النزاعات الفكرية المادية والروحية بشكل متوازن يحقق المصلحة الحيقيقية للإنسان كفرد وكمجتمع. إن عالمنا اليوم يهاني من مادية لا أخلاقية ضربت القيم بعرض الحائط وشوهت المفاهيم الإنسانية النبيلة حتى صار التنادي بصحوة الضمير والفضيلة غوغاء وبنصرة المظلومين والمستضعفين فوضى وبالتمسك بالشرائع رجعية؟

أين عالمنا من شعاراته الرنانة، أين قوى الخير والسلام والعدالة عند الحكم على الشعوب المنكوبة والأمم المظلومة؟ إنها حضارة مزعومة أو بالأحرى حضارة الدجال الذي أنبأت به نبوءات المصطفى في أبيَن وصف وأفصَح كلم عن مادية هذه القوة وجورها وسطوتها في الدجل واستنزافها للثروات والخيرات حيثما كانت، وحكذا هي هذه القوة في عصرنا وقد بان جدلها ومعدنها، إذ فرضت على الشعوب الضعيفة المستنزفة رقًّا اقتصاديا وسياسيا بعدما استعمرتها وأنهكت مقومات نهوضها. فأين عدالة الحضارة المعاصرة من عدالة الإسلام التي حرمت الإستعباد والطغيان والإسغلال في شتى صوره؟ ومتى سوّغت حضارة الإسلام ومدنيته إزهاق الأرواح، وانتهاك الحرمات مثلما تفعل الحضارة الراهنة، كلما تعارضت مصاحلها المادية مع مصالح ومواقف الشعوب. كما أنه لم يرد في التاريخ أن حضارة المسلمين مع مجدها وقوتها دمرت المدن أو حاصرت البلدان لتفتك بحياة الأطفال والمرضى والكهول، أو لإزهاق أرواح المدنيين بلا حساب في حروب تقودها حضارة دول الدجال الراهنة بما يعجز العقل عن تصور هولها وفظاعتها. فالإنسانية اليوم ما زالت على ما يبدو من ناحية تفكيرها وسلوكها أقرب إلى عصور الماضي الذي يفتك القوي فيه بالضعيف، بالرغم من مظاهر التقدم والمعاصرة التي تتحدث عنها. وهذا لأن العقلية المادية وسلوكيتها هي حالة أخلاقية لا ترتبط بزمان أو مكان، وقد نجد آثارها في حضارات قديمة عند البحث في أسباب سقوطها أو انهيارها.

لقد رسم الإسلام الجليل للإنسانية جمعاء المنهج السليم في التفكير والسلوك عقيدة ومسلكا، وهذب النفس وجعل الأخلاق ولقيم لبنة لأي تقدم حضاري سليم وعادل، وقد مرّت على وجه الأرض حضارات عديدة لكنها لم تكن نموذجية في جوهرها، غير أن الحضارة التي ولدها الإسلام كانت نموذجا تعريفيا للحضارة ولامدنية الؤسسة على التقوى لا على المامدية المجردة من القيم، ولا من شعار: الغاية تبرر الوسيلة. فعلى أمتنا الإسلامية إن أرادت أن تسترجع عزتها وجدها أن تتمسك بخير زاد وهو التقوى عسى أن تتحقق لها العزة الحضارية من جديد وتعطى للدنيا نموذجا من الحضارة الحقة ذات القيم والأخلاق. هذا الوازع الذي طالما افتقده عالمنا الذي يعاني أزمة قيم ومبادئ. وعلى قول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

Share via
تابعونا على الفايس بوك