حرروا رمضان من العادة واجعلوه عبادة

حرروا رمضان من العادة واجعلوه عبادة

التحرير

  • تحول رمضان من عبادة إلى عادة
  • أهمية العبادات وثمارها

__

يتردد عبر الساحة الإسلامية خلال الشهر الفضيل عدة أسئلة أهمها.. كيف سيكون حالنا بعد رمضان؟ وقد فرض هذا التساؤل نفسه على أرض الواقع لما نراه من انقلاب حال كثير من المسلمين خلال الشهر الفضيل من صيام وقيام وتلاوة القرآن إلى هجر ذلك كله بعد انقضاء الشهر الفضيل، والعودة إلى الغفلة واللهو والمرح والترح، حتى أصبح هذا الأمر ظاهرة بارزة بل من التقاليد المتعارف عليها. ففي رمضان ترى المساجد مكتظة بالمصلين والمعتكفين والقارئين للقرآن والذاكرين، وإذا بها بعد رمضان تُهجر ولا يرتادها إلى نفر قليل. إنها ظاهرة تبدأ كل سنة بمطلع عيد الفطر الذي أُهمل مغزاه وهُمِشت حكمه.

إن أول ما يتبادر إلى الذهن عن الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الظاهرة هو تحول مفهوم رمضان لدى الكثير من المسلمين من إطار العبادة إلى إطار العادة. فكثير منهم يرون أن رمضان شهر تمارس فيه عادات معينة فتجد البعض يصوم رمضان في حين أنه لا يصلي، والبعض الآخر ينام طوال النهار ويستيقظ بعد صلاة العصر ويقضي الليل في المرح والترح وهلما جرا مما تشهده الساحة الإسلامية من عادات منحرفة. الأمر الذي يؤكد أن هؤلاء لم يتعبدوا في رمضان إلا بمنطق العادة لا العبادة، وبالتالي لم يُحدث هذا الشهر التغيير المنشود في حياتهم، ولذا فما أن ينتهي الشهر الفضيل حتى يعود كل واحد إلى ما كان عليه.

لا شك أن ما آلت إليه الأمة من حالة متردية في هذا المضمار هو نتاج فهم ديني متدنّ يُعرَض من على المنابر الفخمة. إنه فهم لا يخاطب العقل ولا يشفي غليل القلب، عموده الفقري خطب مفرغة من الروحانية  تَعوَّد على سماعها العامة في كل سنة في رمضان. إنه فهم ديني عقيم لا يُوضح الخطوط الأساسية من ذروة العبادة بالإضافة إلى أنه متسلط يقود العوام إلى المساجد بتخويفهم من عذاب القبر بآليات خرافية ساذجة. فعلا إنه فهم تمسك بالقشر وأضاع لب غاية خلق الإنسان كما وضحته آية

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ

وليس المقصود من العبادة في هذه الآية الصلوات الخمس فحسب، بل إنها تتعدى ذلك وتشمل جميع أعمال الإنسان الخيرية وأدائه للواجبات الدينية. إن الغرض الأساسي من العبادة هو أن يتحلى المرء بأخلاق الله تعالى ويصطبغ بصبغته حتى يتمكن من عكس أنوار صفاته عز وجل على خلقه وهكذا يصبح ربانيا بتعليمه كتاب الله إياهم. ولا يتم هذا الانعكاس بمجرد ترديد أسماء الله الحسنى عشرات المرات بل حسب ما نصّته الآية

  وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

أي أن ذروة العبادة هي الحصول على اليقين، أي الوصال برب العزة وتلقي إشارات منه عز وجل في صورة إلهامات وكشوف. ولقد وضع لنا الله عز وجل برنامجا روحيا منقطع النظير كي نصل إلى هذه الغاية المنشودة التي ليست بالأمر الهين على الذين أخلدوا إلى الأرض. ففي شهر رمضان المبارك خططت حكمة الله أن يقلل المرء من الطعام المادي ويُكثر من الطعام الروحي. وكما بيّن صلحاء الصوفية أنه كلما كان الإنسان قليل الأكل أصبح كثير العبادة حيث تُثقَّف لديه قوى تزكية النفس وبالتالي تقوى لديه قوى الكشف. فبالصلاة تتم تزكية النفس وبالصوم يتم تنوير القلب ويكتسب قوى التجلي وبالتالي – لدى مواظبة المرء على الصيام والقيام بنية صادقة وبكل جد – يجد نفسه في ذروة عبادته على عتبة ليلة القدر التي بيـَّن القرآن الكريم أنها خير من ألف شهر، أي يحصل فيها ما لا يحصل خلال ثلاث وثمانين سنة من العبادة، أي خلال هذه الليلة المباركة تـتنـزل ملائكة الرحمن على العابد المتلهف مُطمْئنة إياه أن لا يخاف ولا يحزن ومبشرة إياه بالجنة في الدنيا والآخرة. وهكذا يتحول المرء من كائن أرضي إلى كائن سماوي وتتجلى عليه أنوار قدسية يعكسها على خلق الله.

فحينما يدعو الإنسان بكل لوعة وحرقة فلا بد أن يُحدث جيشانًا في مملكة السماء وذلك من جراء لهيب وحرارة الدعاء الذي يستوجب نزول ملائكة الرحمان لإخمادها

ولا شك أن مفتاح الحصول على هذه الكرامات كامن في قوة الدعاء فهو كنـز عظيم لا يفنى يكمن فيها قوى تحرك عرش الرحمن وتستوجب نزول ملائكته، ونضرب على ذلك مثالا تبيانيا.. إذا شب حريق في الحي وأطفأه الناس بكوب من الماء فهل يعتبر حريقا أساسا؟ وفي مقابل ذلك يشب حريق تأتي شاحنات المطافئ لإخماده، فلا شك أنه حريق فتاك.. فحينما يدعو الإنسان بكل لوعة وحرقة فلا بد أن يُحدث جيشانًا في مملكة السماء وذلك من جراء لهيب وحرارة الدعاء الذي يستوجب نزول ملائكة الرحمان لإخمادها. فحينما يتم الدعاء بهذا الأسلوب فإن الله عز وجل يقبله ويجيب السائل المضطر ويخبره عن طريق الإلهام والكشف.

ولا شك أن من استفاد من رمضان استفادة حقيقية لا بد وأن يكون حاله بعده خيراً وينعم بفرحة العيد التي وصفها أحد الحكماء قائلا: أن كل يوم يمر من حياتي لم أعص فيه الله وأعبده حق عبادته فهو عيد. هذا هو حال من استفاد من رمضان وَقَدَر الله حَقَّ قَدْرِه.

وفي الأخير ونحن نودع هذا الشهر الفضيل لا يسعنا إلا أن نرفع هذا النداء المبارك ونقول: حرروا رمضان من العادة واجعلوه عبادة.

هدانا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى اللهم على خاتم النبيين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك