التقليد الأعمى... دروس وعبر

التقليد الأعمى… دروس وعبر

التحرير

  • مخاطر التقليد الأعمى
  • منهج الأنبياء وخطابهم الروحي
  • الإسلام وموقفه من ظاهرة التقليد الأعمى

__

لقد أشار القرآن المجيد للتقليد الأعمى كأبرز الظواهر التي تجلت في أمم ومجتمعات قديمة تعاقبت على التقليد والتسليم بمعتقدات وشعائر وأعراف اجتماعية أو دينية أو ثقافية.. وجاء هذا التنبيه القرآني  للتذكير بمخاطر ومهالك هذه الظاهرة بما تحمله من آثار مدمرة للكيان البشري حيث كانت في كل عصر عائقا أمام الناس في التمييز بين الخطأ والصواب وبين السليم والسقيم وعدم قبول رسالات السماء، إذ حجب هذا النـزوع الأعمى عقول الناس عن تبيـُّن الدلالات والمعاني وإعمال الفكر حتى صار التقليد جمودا وتغييبا للعقل والمنطق وغشاوة تعمي البصائر عن التدبر..

لقد وصف القرآن المجيد في مواضع عدة حال الأمم التي نزعت إلى ظاهرة التقليد الأعمى فسقطت في هاوية الشرك والوثنية وانحرفت عن جذور التوحيد الحق واعتنقت اعتقادات باطلة تنافي العقل والمنطق والفطرة السليمة. فقد سفه التقليد عقول الناس لقرون عدة فهوى بهم إلى أصنام  تُعبد وقرابين  تُوهب للآلهة والكهنة وما إلى ذلك من مظاهر الشرك والضلال.. وكلما بعث الله منذرا يدعو الناس إلى الحق تصدت له جموع القوم معارضة لدعوته مستنكرة لما يدعوهم إليه لا لشيء إلا لأن المبعوث أتى بما يخالف منهج آبائهم وأجدادهم وأعرافهم العقائدية والاجتماعية..

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين (الأعراف 71 )

ويتبين لنا من خلال دراسة القرآن الكريم أن  منهج الأنبياء وخطابهم الروحي في البلاغ والتوجيه يخاطب الجانب العقلي الذي يرسخ معرفة الحقيقة كسبيل للهداية نحو صراط مستقيم لا اعوجاج فيه للوصول إلى الله. وهذا السبيل لا يمكن بلوغه إلا بعد كسر كل الأوثان والقيود النفسية والفكرية والعقدية والعرفية التي توارثها الناس تقليدا حتى تتحرر الإرادة للبحث وتتدبر بإمعان وحكمة في رسالة النبي ودعوته.  وقد سجل القرآن المجيد هذه الظاهرة التي تتكرر مشاهدها في زمن كل مصلح سماوي ليلفت الأنظار إلى مآسي التقليد الأعمى الذي يعطل  مدارك الإنسان لتدبر الحق:

قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (البقرة: 171) قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة: 105) قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (الزخرف: 23) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين   (الأعراف:  71)

لقد وهب الله بني البشر الحواس وقدرة الإدراك والتفكير لاستخدامها لمعرفة الحق وكأدوات لتلقي المعلومة وتمييز الحق من الباطل. وأشار سبحانه إلى هذا في قوله:

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (الأحقاف :27).

إن التقليد السلبي في الموروثات العقائدية الذي لا ينبني على براهين وأسس عقلية ونقلية صحيحة غير الاتباع الأعمى يشكل عائقا أمام المعرفة. ويعتبر هذا العائق قيدا استعباديا للعقول وطالما ضلل كثيرا من الناس وانحرف بهم نحو مهاوي الشر والفساد..كما يطبع ذلك في العقول السطحية الحكم على الظاهر فقط دون النفاذ إلى الجوهر. كما يؤدي إلى الميل نحو كل ما هو خرافي واعتبار موروثاته وقصصه وأساطيره أنها معصومة عن الخطأ ومُحْكَمَة المعنى!

لقد أدان الإسلام ظاهرة التقليد العقائدي الأعمى  الذي لا يقوم على منطق أو دليل ولا يشكل أسسًا لعقيدة قوية دعائمها الدليل والبينة. وأنعم الله على الإنسانية بالوحي القرآني بما يتوافق والسنن والفطرة الإنسانية والعقل السليم، كما حث المؤمنين أن يكونوا على بصيرة من أمر العقيدة..  وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون المؤمن نافذ البصيرة بالعقل وحده وإنما بالوحي الذي يساعد العقل لتدبر وتفهم كل الأمور الغيبية والروحية والإيمان بها إيمانا إجماليا أو على أساس إيمان تفصيلي حينما تتبين حقيقتها ويتجلي ذلك على يد من ارتضى من رسول..

إن الأنبياء كانوا أول من تصدى للمفاهيم العقائدية الباطلة بسلاح البرهان المستنير بالوحي الإلهي وهذا البيان يتوافق والعقل بل ويدعو كل المقلدين المضللين على إعمال عقولهم في ما توارثوه من معتقدات لا تقوم على قاعدة سليمة.. لقد ناظر إبراهيم عليه السلام  قومه في اتخاذهم الأجرام والكواكب إلها من دون الله فحاجهم، وأفحم المسيح عيسى عليه السلام كهنة اليهود وأحبارهم فيما وضعوه من أغلال روحية، وجاء بشير العالمين سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم بشريعة كاملة محاجا أهل مكة في وثنيتهم الباطلة التي غطت كخيوط العنكبوت جدران بيت الله الحرام رمز التوحيد فأبكتهم على فسادهم الروحي وتقليدهم الأعمى لمسلك الآباء والأجداد الضال…

إن الباحث المنصف يُقر بأن القرآن الكريم يزخر  بآيات تحث المسلمين وتحضهم على طلب العلم والمعرفة والتفكر والتدبر وإعمال ملكة الفكر في الكثير من المجالات ولا سيما الدينية. فبدءًا بمسألة الإيمان بالله عز وجل، فإن الله تعالى عندما يعرض نفسه للمسلمين والكفار في القرآن الكريم، فإنه لا يطلب منهم أن يؤمنوا به إيمانا أعمى، بل يقدم الكثير من الدلائل والبراهين على وجوده، ثم يحض الناس على التدبر بها، لكي يكون إيمانهم مبنيا على المنطق والتفكير، ولتطمئن به نفوسهم وضمائرهم.

لا شك أن التقليد الأعمى والتسليم بكل ما هو موروث سيعطل فعالية حرية الفكر والمعتقد التي هي من الثوابت الأساسية في الدين الحنيف، وقد كان لها أثرا كبيرا على تطور المسلمين في القرون الماضية، من الناحية الدينية والعلمية والثقافية، وكذلك في انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب، التي تأثرت تأثرا كبيرا بسحر التعاليم الإسلامية، ونحن على ثقة تامة، بأن نفس هذا السحر الأخّاذ، هو ذاته الذي سوف يلعب دورا كبيرا، في بعث الإسلام ونهوضه من جديد في المستقبل بشرط أن نُرجع للإسلام أهم مميزاته وهي التفكر والاجتهاد التي من شأنها أن تنسف التقليد الأعمى نسفًا فتذره قاعًا صَفْصَفًا!!

Share via
تابعونا على الفايس بوك