حرية الفكر في الإسلام
  • اتهامات صادرة عن مُتهم!
  • ملخص الاتهامات الموجهة للإسلام حول حرية الفكر
  • وقفة في تفسير الآية “لا تسألوا”
  • المبادئ الواجب مراعاتها من الحكام المسلمين
  • الحكمة من تعليم “لا تسألوا” بعد توضيحه
  • آيات قرآنية حاثة على التفكير
  • مقارنة بين الإسلام والمسيحية من حيث حرية التفكير
__
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْألُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم

لقد نالت حرية الفكر نصيبا لا بأس به، في مسلسل التطاول على الدين الإسلامي من قبل الأعداء، والذي بدأت جذوره من قِدَم، وتجدد في الآونة الأخيرة على يد القسس ورجال الدين المسيحيين، لنشهد من خلاله هجوما مقيدا بنوايا مبيتة خبيثة وبحقد أعمى بغيض، والذي طالما حال دون هؤلاء والنقد العلمي الموضوعي المبني على البحث والتحقق، بهدف الوصول إلى حقائق الأمور ودقائقها.

وفي هذا النهج الرجعي المتخلف، الذي انتهجته شرذمة المتطاولين على الدين الإسلامي الحنيف، لم يسلم أي جانب من جوانب هذا الدين، من التعرض والإساءة والتهجم والانتقاد اللاذع. ولم تكن حرية الفكر بمنأى عن أيدي هؤلاء المتبجحين والمتفيهقين، كيف لا وقد كان أجدادهم من القساوسة المسيحيين، هم الذين لاحقوا وطاردوا هذه الحرية في كل مكان في العصور الوسطى، وأبوا إلا أن يحكموا عليها بالاعدام في كل مكان، إلى أن جُردت منها الكنائس أولا، ثم البيوت والشوارع والطرقات، وحيثما لم يصل هذا الحكم بالإعدام، فقد أتوها على حين غرة ليغتالوا هذه الحرية أيّما اغتيال، وما محاكم التفتيش إلا شاهد واحد من بين الكثير، على قساوة وضراوة هذا الإرهاب الفكري المتزمّت، الذي انتهجته الكنيسة في العصور الوسطى، باسم الدين المسيحي ويسوع المسيح عليه السلام.

خلاصة القول إن هذه الآية تمنع المسلمين من الإكثار في طلب القوانين التفصيلية الدقيقة في الأمور التفصيلية سواء الدينية أو الدنيوية، ليبقى المجال مفتوحا أمامهم، للاجتهاد والتحليق في فضاء التدبر والإبداع الفكري، من أجل حل قضاياهم بأنفسهم، شريطة أن لا تخرج هذه الحلول عن روح الشريعة الإسلامية، ولا تعترض مع قوانينها العامة ومبادئها الثابتة.

على ما يبدو، أن للإيمان المسيحي بتوارث الخطيئة عبر الأجيال أثرا كبيرا في تصرف رجال الدين المسيحي اليوم، فبعد الاعتراف بهذه الآثام التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم عبر التاريخ في حق هذه الحرية الفكرية، كان لا بد من توارث قسري لهذه الآثام والأخطاء، والعمل على إنشاء جيش نظامي لملاحقة ومطاردة هذه الحرية من جديد، فما كان لهم سوى النيل من الدين الإسلامي، حيث وجدوا فيه هذه الحرية تمشي الخيلاء تسرح وتمرح مرفوعة الرأس، فظنوا بها سوءًا أن تكون طعمة سهلة كما كانت لأجدادهم من قبل، ولكن هيهات ثم هيهات.

تتلخص اتهامات الأعداء حول حرية الفكر في الإسلام بما يلي:

  1. الدين الإسلامي لا يتيح ولا يسمح بحرية الفكر في الأمور العقائدية، إذ قد انتشر هذا الدين بالقوة والجبر، كما أنه يأمر بقتل المرتد عنه.
  2. الدين الإسلامي يمنع أتباعه من التفكير والتساؤل وطلب المزيد من المعرفة، لا سيما في الأمور التي تبدو غامضة لهم في أمور دينهم، وذلك انطلاقا من الآية الكريمة التي تقول:
  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا الله عَنْهَا وَالله غَفُورٌ حَلِيمٌ (المائدة: 102)،

وعليه فإن المسلمين ملزمون بالإيمان الأعمى ولا يحق لهم التحري والبحث في الأمور التي لا يفهمونها .

لقد تناولنا الحديث عن الشق الأول من هذه الاتهامات في مقال سابق، أما الشق الثاني فجاءت له هذه السطور من هذا المقال.

وقفة عند تفسير الآية *

لا بد في بادئ الأمر من الوقوف عند تفسير الآية الكريمة من سورة المائدة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا الله عَنْهَا وَالله غَفُورٌ حَلِيمٌ (المائدة: 102)،

التي يتخذها المعترضون ذريعة لاتهام الإسلام بأنه لا يتيح حرية الفكر للمسلمين، إذ لا شك أن هذا الاتهام نابع عن جهل مطبق بمعاني هذه الآية الكريمة وتفسيرها، حيث إن المفهوم الصحيح لها هو على النقيض تماما لما يعرضه هؤلاء المعترضون.

لا يمنع الله عز وجل المسلمين في هذه الآية من التساؤل وعرض السؤال من أجل تحرّي الأمور والبحث عن حقائقها ودقائقها، كما ليس المقصود من هذه الآية، منع المسلمين من التفكير والتدبر في مختلف المسائل والقضايا المبهمة، التي تعترض سبيلهم في أمور دينهم ودنياهم كما يدعي أعداء الإسلام، فالسؤال الوارد في هذه الآية، لا يعني السؤال المطروح بهدف المعرفة، وإنما يعني طلب الأحكام والشرائع التفصيلية والدقيقة في شتى مجالات الحياة المختلفة، خاصة في مسائل الحرام والحلال، وسياق الآيات التي وردت فيه هذه الآية يثبت ذلك.

لقد كان المسلمون في عهد سيدنا محمد ، ولفرط حبهم بالدين الإسلامي، وشدة رغبتهم في الانصياع للقوانين الإلهية، كثيرا ما يسألون النبي ، عن الحكم الإلهي أو القرآني، في شتى المشاكل والقضايا التي تعترضهم في حياتهم اليومية، كبيرة كانت أو صغيرة، حتى في الأمور التفصيلية الدقيقة، والتي قد تبدو أنها تافهة في بعض الأحيان، فيخاطب الله عز وجل المسلمين في هذه الآية، منبها إياهم ومحذرا من الإكثار من طلب مثل هذه القوانين التفصيلية الدقيقة، بقوله إن هذا التشدد في طلب الأحكام الكثيرة لن يكون في صالحهم، وعليه فإن على المسلمين أن يكتفوا بما نزل عليهم من الأحكام والشرائع، وأن يحاولوا حل مشاكلهم بناء على ما قد وصلهم منها، فمن واجبهم هم، أن يجتهدوا بأنفسهم، ويُعملوا ملكة التفكير التي وهبهم الله إياها، من أجل حل معضلاتهم ومشاكلهم الدينية والدنيوية، لذا فإن هذه الآية الكريمة، خلافا لما يعرضه الأعداء، فإنها تفتح للمسلمين باب التفكير والتدبر على مصراعيه، وتحث المسلمين على الخوض في آفاق التفكير الواسعة، لدرجة الإبداع في إيجاد الحلول المناسبة لشتى القضايا في حياتهم اليومية.

إن الشريعة الإسلامية المتمثلة بمصادر التشريع الرئيسية، ألا وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والأحاديث الشريفة، ليست عبارة عن مجموعة من القوانين والأحكام التفصيلية الصارمة، في شتى مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة، إذ لم ترد فيها أحكام تفصيلية لكل ذنب أو كل إثم، ولم تنـزل بها قوانين تنظيمية لكل مرافق الحياة الاجتماعية الدقيقة، فعدا عن أحكام الزنا والسرقة وقوانين الميراث والطلاق وغيرها، لا يمكن أن نرى في الشريعة الإسلامية سوى أنها منظومة من القوانين العامة التي تتسم بشيء من المرونة، والتي تجعل منها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان.

إن القوانين الأساسية في الشريعة الإسلامية ثابتة ولا تتغير، ولكن بما يتعلق بتفاصيل الأمور المتغيرة وفق تغير الزمان والمكان، فقد تركت مفتوحة للمسلمين ليجدوا لها الحلول وفق الظروف القائمة لديهم. فعلى سبيل المثال وعلى مستوى الفرد، لم يقرّ الإسلام ما هو الحكم في عقوق الوالدين، ولم يقر كذلك حكم تارك الصلاة، ولا حكم تارك الصوم، وكذلك الأمر في الأمور السياسية أو الاجتماعية أيضا، لم يتبنّ القرآن الكريم ولا أي من مصادر التشريع الإسلامية الأخرى، أي نظام من أنظمة الحكم السياسية، على أنه النظام الإسلامي الأمثل الواجب تطبيقه في الدول الإسلامية، أهو النظام الديمقراطي أو الملكي أو الإقطاعي، بل ترك المجال مفتوحا في هذا الامر للمسلمين، أن يختاروا ما يناسبهم وفقا لحالاتهم وظروفهم وما يرونه مناسبا لهم، إلا أنه ومع ذلك فقد أقر القرآن الكريم بعض المبادئ العامة الثابتة، والتي على الحكام المسلمين مراعاتها والعمل حسبها، بغض النظر عن طبيعة النظام المأخوذ به في الدولة. ومن هذه المبادئ العامة:

  1. اتخاذ القرارات يكون بناء على المشورة
  2. أن تؤدى الأمانات إلى أهلها أي أن يولـّى على المسؤوليات من هم أهل لها.
  3. على الحكام أن يتسم حكمهم بالعدالة المطلقة.

خلاصة القول إن هذه الآية- 102 من سورة المائدة- تمنع المسلمين من الإكثار في طلب القوانين التفصيلية الدقيقة في الأمور التفصيلية سواء الدينية أو الدنيوية، ليبقى المجال مفتوحا أمامهم، للاجتهاد والتحليق في فضاء التدبر والإبداع الفكري، من أجل حل قضاياهم بأنفسهم، شريطة أن لا تخرج هذه الحلول عن روح الشريعة الإسلامية، ولا تعترض مع قوانينها العامة ومبادئها الثابتة.

الحكمة من وراء هذا التعليم

لا شك أن من وراء هذا التعليم الإلهي، المذكور في الآية السابقة الذكر حكمة بالغة الشأن، والتي من الحري الوقوف عليها والتنبيه لها بما يلي:

  1. إن كثرة القوانين والأحكام التفصيلية، من شأنها أن تثقل كاهل المسلمين، وتشق عليهم حياتهم، لدرجة أنه من الممكن أن يعاف المسلمون كثرة القوانين هذه، لما فيها من مشقة بالغة لدرجة نبذها وراء ظهورهم، ولذا يذكرهم الله في الآية التالية، أن الذين سبقوهم بكثرة الطلبات أصبحوا بها كافرين، والإشارة هنا إلى بني إسرائيل وفق الآية الكريمة
  قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (المائدة: 103).

 فيأتي هذا التعليم الإلهي لكي ينبه المسلمين من عواقب الأمر، وليمنعهم من الوصول إلى نفس هذا الوضع الذي وصل إليه سابقوهم .

  1. كما أنه من شأن كثرة الأحكام والقوانين أن تحد من تفكير المسلمين، وتقف حجر عثرة أمام تقدم الفكر الانساني مع مرور الزمن، فيأتي هذا التعليم لكي يفتح أمام المسلمين آفاق التقدم الفكري والعلمي على أوسع أبوابها، ولا يبقى أمام المسلمين سوى أن يصبوا جل جهودهم، في سبيل الإبداع الفكري والعلمي على مختلف مجالاته ومواضيعه.
  2. يتيح هذا التعليم القرآني للشريعة الإسلامية، أن تتلاءم مع تطور الحياة واختلافها، من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر، كما ويسهل على المسلمين حل المشاكل الدينية والإجتماعية المختلفة، وفقا لاختلاف ظروفهم وعاداتهم وتقاليدهم، ووفقا لتطور الحياة وتقدمها مع مرور الوقت، إذ ليس من المفروض أن تعطى مشكلة معينة، نفس الحلول في أماكن مختلفة وفي أزمنة مختلفة، بل قد تختلف هذه الحلول بعض الشيء، شريطة أن لا تصطدم مع التعاليم العامة وروح الشريعة الإسلامية، وعلى المسلمين أن يجتهدوا لحل هذه الأمور بأنفسهم.

آيات قرآنية أخرى تحث على التفكير

يزخر القرآن الكريم، بالآيات التي تحث وتحض المسلمين، على العلم والمعرفة والتفكر والتدبر وإعمال ملكة الفكر، في الكثير من المجالات الدينية والدنيوية. فبدءًا من مسألة الإيمان بالله عز وجل، فإن الله تعالى عندما يعرض نفسه للمسلمين والكفار في القرآن الكريم، فإنه لا يطلب منهم أن يؤمنوا به إيمانا أعمى، بل يقدم الكثير من الدلائل والبراهين على وجوده، ثم يحض الناس على التدبر بها، لكي يكون إيمانهم مبنيا على المنطق والتفكير، ولتطمئن به نفوسهم وضمائرهم، وهكذا الأمر بالنسبة للامور الأخرى التي يطلب الله من الناس الإيمان بها، فإنه طالما يدعمها بالأدلة والبراهين، ويطلب من المخالفين والمعارضين أن يأتوا ببرهانهم على ما يدعونه، وهنا أكتفي بذكر بعض من هذه الآيات القرآنية التي تبين ما ذُكر :

…..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَاب (الزمر: 10) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4-5 ) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:112) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (الأنبياء: 25) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل: 65)

وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (القصص: 76)

أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا (النساء : 83 )

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمد: 24)

ا لَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران: 192)

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (الأعراف: 177)

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … ( يونس: 25)

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … (الرعد: 4)

يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … (النحل -12)

ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … (النحل: 70)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … (الروم:22)

الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ … ( الزمر: 43)

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ… ( الجاثية- 14)

لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الحشر:22)

وبعد مثل هذا الكم من الآيات، لا بد أن ننوه، إلى أن ما يعادل ثُمن آيات القرآن الكريم هي آيات تتعلق وتتحدث عن العلم والطبيعة. وهكذا تكون الركيزة الأساسية للإيمان الإسلامي، مبنية على التفكير والتدبر والبحث والتحري والمقارعة بالحجة والبرهان، وهذا لا يقتصر على الأمور الدينية فحسب، بل في مجالات الحياة الأخرى أيضا، فكيف يمكن بعد هذا كله، الإدعاء بأن هذا الدين الإسلامي يمنع أتباعه من السؤال والتفكير، ويطلب منهم أن يؤمنوا به إيمانا أعمى.

مقارنة بين الإسلام والمسيحية

خلافا لما ذكر أعلاه عن الديانة الإسلامية، بارتكاز إيمانها على الفكر والمنطق، تقف الديانة المسيحية وباعتراف علمائها، مُجردة من كل ما يتعلق بالفكر والتدبر. إذ طالما أقر بعض من رجالات الدين المسيحي، بأن الإيمان المسيحي لا يمكن أن يتوافق مع العقل والمنطق بأي شكل من الأشكال، وإنما يكون كل اعتماده على العواطف القلبية الجياشة، ومثالا على ذلك ما ذكر عن المفكر المسيحي “كير كغارد” أنه بالنسبة له:

فإن عقيدة اتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح، كانت تعتبر حجر عثرة لليهود، وحماقة لليونانيين، وهي ستكون كذلك على الدوام، فإن هذه العقيدة ليست فوق العقل فحسب، بل إنها تتعارض معه. وهذا هو التناقض المتفوق … حيث لا يمكن إثباتها إلا بالإيمان والرغبة والاستغراق الروحي العميق.واستبدالُ الإيمان بالعقل يعني موت المسيحية.”

وفي هذا السياق، لا بد من ذكر الفيلسوف والفيزيائي الكبير نيوتن، الذي تخلى عن عقيدة الثالوث ونبذها دونما رجعة، ليس لشيء سوى أنها لم تتفق مع طبيعة عقله ومنطقه، عند محاولته دراستها دراسة تحليلية نقدية، ما كلفه هذا أن يُحرم من منصبه في كلية “الثالوث المقدس غير المجزأ”، بعد أن كان قد اختير لها تقديرا لعبقريته الفذة.

وكثيرا ما يتذرع الوعاظ المسيحيون، لمن يطلب منهم الدليل العقلي على الإيمان المسيحي، بأن على الإنسان أن يؤمن أولا بالمسيح حسب الإيمان المسيحي- أي بأنه ابن الله، الذي فدى نفسه لتخليص البشرية من الآثام والذنوب – لكي يفهم العقيدة المسيحية، أي بكلمات أخرى إنهم يشترطون الفهم بالإيمان أولا، أو قل إن شئت: يشترطون الإيمان المبني على الفهم بإيمان مسبق أعمى، إنها في الحقيقة دوامة من اللاعقل واللامنطق، إذ لا بد من طرح سؤال في هذه الحال، أليس هذا الإيمان المسبق، بحاجة لتحققه إلى إيمان آخر يسبقه، وهذا الأخير إلى آخر يسبقه لكي يتحقق؟ يبدو أنه حلم بعيد المنال، كلما ظن الإنسان أنه اقترب منه ليناله، إذ به يجده يفر من أمامه في كل مرة، ويا حسرة على من خاض هذا “الماراتون” الذي لا نهاية له ولا نتيجة من ورائه. ومجمل القول إن أقل ما يمكن أن نصف به الإيمان المسيحي، أنه إيمان أعمى لا يعتمد على التفكير والبحث والتحري قيد أنملة.

وهكذا تكون الركيزة الأساسية للإيمان الإسلامي، مبنية على التفكير والتدبر والبحث والتحري والمقارعة بالحجة والبرهان، وهذا لا يقتصر على الأمور الدينية فحسب، بل في مجالات الحياة الأخرى أيضا، فكيف يمكن بعد هذا كله، الإدعاء بأن هذا الدين الإسلامي يمنع أتباعه من السؤال والتفكير، ويطلب منهم أن يؤمنوا به إيمانا أعمى.

يبدو أن رجالات الدين المسيحي، على وعي تام بهذه الحقيقة المرة، وبمدى خطورتها على مستقبل ديانتهم، خاصة في عصرنا الحاضر، عصر العلوم والتقدم الفكري والتكنلوجي، لذا فإنهم في سبيل نشر المسيحية بين غير المسيحيين، وكذلك في مساعيهم لإبقاء المسيحيين على إيمانهم، فإنك لن تجدهم ولو مرة واحدة يحاولون وضع الإسلام والمسيحية معًا في ميزان العقل والمنطق، لأنهم يعرفون مسبقا أن كفة الإسلام هي الراجحة. لذا فإنهم يوجهون جل جهودهم، للترويج لبعض الشعارات الرنانة، التي من شأنها أن تجذب أنظار الناس الذين أعيتهم مادية الحياة الدنيا، بما فيها من صراعات واقتتالات وحروب، كقولهم إن الله في المسيحية محبة، وأن المسيح قد ضحى من أجل البشرية بنفسه، وأنه جاء ليحمل آثام البشرية، وليريح المتعبين، ولكنهم لا يخوضون في الجدل الأساسي عن منطقية وعقلانية عقيدة الثالوث والكفارة والفداء، التي تُعد بمثابة العمود الفقري للديانة المسيحية. هذا من ناحية، وأما من ناحية أخرى، فإنهم يقومون بضرب الديانة الإسلامية، واتهامها بنفس العيوب الموجودة في ديانتهم، محاولين بذلك تشويه الحقيقة وطمسها عن عيون الناس.

إن حرية الفكر والمعتقد، لهي من الثوابت الأساسية في الديانة الإسلامية، وقد كان لها أثر كبير على تطور المسلمين في القرون الماضية، من الناحية الدينية والعلمية والثقافية، وكذلك في انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب، التي تأثرت تأثرا كبيرا بسحر التعاليم الإسلامية، وما تحفظه من الحقوق الانسانية الأساسية، كحرية الفكر والمعتقد، ونحن على ثقة تامة، بأن نفس هذا السحر الأخّاذ، هو ذاته الذي سوف يلعب دورا كبيرا، في بعث الإسلام ونهوضه من جديد في المستقبل، وكل المحاولات التي يقوم بها أعداء هذا الدين، سوف تبوء بالفشل حتما، ولن تفلح جهود القسس ورجال الدين المسيحي، ولا مفكريهم ولا زعمائهم السياسيين، في طمس الحقائق وتشويه صورة الديانة الإسلامية، بل سوف تبقى هذه الديانة صامدة، تبث رحيقها الى جميع أصقاع الأرض، لتناله الأمم والشعوب من جديد، والله فعّال لما يريد، وما ذلك على الله بعزيز.

Share via
تابعونا على الفايس بوك