بشائر النصر المبين تتولد بعد صلح الحديبية
  • اعتداءات متفرقة من الكافرين بعد يوم الخندق
  • خروج رسول الله إلى مكة في 1500 من الصحابة
  • نص صلح الحديبية والأحداث حوله
  • رسائل رسول الله إلى مختلف الملوك وقت فترة الصلح

__

إن حياة نبي الإسلام كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

أما يهود خيبر، وهم المحرّض الأساسي على معركة الخندق، فقد عقدوا العزم على الانتقام للهزيمة الساحقة التي لحقت بهم في هذه الموقعة، فجاسوا خلال مضارب القبائل العربية يثيرونهم على الإسلام، وراحوا إلى قواد الجيوش الرومانية يحرّضونهم على محاربة المسلمين.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة

من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

هجوم واعتداءات متفرّقة للكافرين

عاد الأحزاب من معركة الخندق منكسرين محبطين، ولكن لم يكونوا قد فقدوا قدرتهم بعد على مضايقة المسلمين والتحرّش بهم، فمع أنهم كانوا منكسرين إلا أنهم كانوا يدركون أنهم لا زالوا أغلبية مُسَيطرة. وقد كانوا يستطيعون بسهولة اضطهاد الأفراد المسلمين، فكانوا يضربونهم ويقتلونهم. ولقد أرادوا التنفيس عن إحساسهم بالعجز أمام المسلمين بهذه الإساءات والاضطهادات التي صبّوها على الأفراد هنا وهناك. وبعد مرور وقت قصير على معركة الخندق، راحوا يعتدون على المسلمين حول المدينة، فأغار رجال من فزارة يركبون الإبل على مسلم قرب المدينة، وساقوا الإبل التي وجدوها ترعَى في المكان، وصحبوا معهم امرأة أسيرة وانطلقوا بالغنيمة. واحتالت المرأة لنفسها وتمكنت من الهروب، ولكن رجال فزارة نجحوا في الفرار بعدد من الإبل. وبعد ذلك بشهر قام رجال من قبيلة غطفان بالهجوم من جهة الشمال في محاولة لسلب قطعان إبل المسلمين. وأرسل الرسول محمد بن مسلمة مع عشرة راكبين من أصحابه للاستطلاع ولحماية قطعان الماشية، ولكن العدوّ كمن لهم على الطريق وهاجمهم هجومًا قاتلاً وتركهم جميعًا صرعى إلا محمد بن مسلمة الذي سقط مغمى عليه، ثم أفاق واستجمع نفسه وقواه وعاد إلى رسول الله  ليخبره بما حدث.

وبعد هذه الحادثة بأيام قلائل، هوجم مبعوث من رسول الله  إلى عاصمة الروم وسرقوه، وكان الفاعلون رجال من قبيلة جذام. وبعد ذلك بشهر هاجم بنو فزارة قافلة للمسلمين وفرّوا بغنائم جمة، ومن المحتمل ألا يكون الدافع إلى هذا الهجوم هو العداء الديني، فبنو فزارة كانوا قبيلة من قطاع الطرق المتمرّسين بأعمال القتل والسلب.

أما يهود خيبر، وهم المحرّض الأساسي على معركة الخندق، فقد عقدوا العزم على الانتقام للهزيمة الساحقة التي لحقت بهم في هذه الموقعة، فجاسوا خلال مضارب القبائل العربية يثيرونهم على الإسلام، وراحوا إلى قواد الجيوش الرومانية يحرّضونهم على محاربة المسلمين. وهكذا بعد أن فشل المشركون العرب وقادتهم في إحراز نجاح حاسم بالهجوم المباشر على المسلمين، راحوا يتآمرون مع اليهود ليجعلوا حياة المسلمين جحيمًا لا يطاق.

كان الرسول حتى هذه اللحظة يجهز ويدبر أمره من أجل الإعداد لمعركة حاسمة، فقد يؤدي ذلك بالعرب إلى طلب السلام، وينتهي بذلك الصراع في الجزيرة العربية.

خروج رسول الله  إلى مكة في ألف وخمسمائة من أصحابه

رأى الرسول خلال تلك الأيام رؤيا ذكرها القرآن المجيد كما يلي:

لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: 28)

ويعني هذا أن الله  عز وجل قضى أن يدخل المسلمون المسجد الحرام بسلام، فيكون البعض منهم حليقًا والبعض مقصّرًا شعره (العلامة الخارجية للحجيج والمعتمرين) ولا ينتابهم الخوف. غير أن المسلمين لم يعلموا على وجه التحديد كيف يتم هذا. وبالإضافة إلى ذلك، فقبل أن يؤدّي المسلمون شعائر الحج في سلام، قضى سبحانه أن يجعل لهم نصرًا قريبًا.

كانت الآية الكريمة تنبئ بالنصر المبين للمسلمين، وهو مسيرهم الآمن إلى مكة، وفتح البلد الحرام بدون استخدام السلاح. ولكن الرسول فهم الرؤيا على أنها أمر من الله  تعالى أن يقوم من فوره مع المسلمين ليطوف بالكعبة. وقد صار هذا الخطأ في تفسير الرؤيا هو الفرصة التي بها سيمنح الله  المسلمين النصر القريب الموعود في الرؤيا.

وهكذا خطط الرسول للمسير إلى الكعبة، فأعلن الرؤيا وتفسيره لها للمسلمين، وطلب منهم الاستعداد؛ وأخبرهم أنهم سيذهبون من أجل الطواف حول الكعبة فقط، وليس من أجل أية اشتباكات مع العدو. وأخيرًا خرجوا في شهر فبراير /شباط (1) ‑ عام 628 ميلادية، فكانوا ألفًا وخمسمائة (2) حاج يقودهم الرسول ، واتخذوا سبيلهم في رحلة إلى مكة، يتقدمهم على مسافة منهم حرس راكب للاستطلاع، يتكوّن من عشرين رجلاً لينذرهم إذا تربّص بهم العدوّ ليباغتهم بالهجوم.

ولم يلبث أهل مكة أن علموا بأخبار هذه القافلة. كان الطواف بالكعبة حقًّا عامًّا للعرب حسبما أرسته التقاليد، ولن يكون من اللائق على الإطلاق أن ينكر العرب هذا الحق على المسلمين، خاصة وقد أعلنوا بشكل واضح أن غايتهم من مسيرتهم هذه أن يطوفوا بالكعبة ليس إلا، ومنَع الرسول كل مظهر من مظاهر استعراض القوة، فلا تنازع ولا جدال ولا أية مطالبات. وعلى الرغم من ذلك فإن أهل مكة بدأوا يستعدون كما لو كان الأمر نزاعًا مسلحًا، ونصبوا الدفاعات على كل جوانب مكة، واستصـرخوا القـبائل المحيطة للعون، وبدوا مصممين على القتال.

وعندما بلغ الرسول مكانًا قريبًا من مكة، علم أن قريشًا قد أعدت للقتال، وارتدوا جلود النمور، وصحبوا معهم النساء والأطفال، وأقسموا بالله  في عزم أكيد ألا يدعوا المسلمين يمرّون إلى مكة. وكان ارتداء جلود النمور رمزًا للعزم المستميت على القتال. ولم تلبث أن التقت فرقة من الفرق الاستطلاعية لأهل مكة مع المسلمين، وعند ذلك توقف المسلمون، فلم يكن لهم أن يتقدموا خطوة بعد هذا إلا إذا امتشقوا سيوفهم. غير أن الرسول كان قد عقد العزم ألا يفعل شيئًا من هذا القبيل، واستخدم دليلاً ماهرًا ليدل قافلة المسلمين على طريق بديل خلال الصحراء. وبقيادة هذا الدليل، بلغ الرسول وصحبه ماء الحديبية، وهي بقعة شديدة القرب من مكة، وعندها بركت ناقة الرسول السريعة، ورفضت التحرك. وظن أحد الصحابة أن الناقة قد تعبت من طول المسير، فقال للرسول : “لقد خلأت القصواء يارسول الله “. فقال : “ماخلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله  إلا أعطيتهم إياها”. (السيرة الحلبية ج 2 ص 13)

كان جيش مكة في هذا الوقت قد خرج من مكة، وكان قد ابتعد على مسافة منها على الطريق الرئيسي المؤدّي للمدينة، كي يتصدّى للمسلمين. ولو كان الرسول يريد أن يحتل مكة، لترك أصحابه الألف والخمـسمائة يدخلونها ويستولون عليها دون مقاومة، ولكنه كان يريد أن يطوف بالبيت فقط، إذا رضيت مكة بذلك. فهو لن يخوض حربًا مع مكة إلا إذا بدأها أهل مكة، وهكذا ترك الطريق الرئيسي وعسكر عند الحديبية.

وسريعًا ما وصـلت الأخبار إلى قادة مكة، الذين أمروا رجـالهم بالانسحاب والمرابطة قريبًا من البلدة، وأرسلوا سيدًا من سادتهم، وهو بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، للتفاوض مع الرسول . وأوضح رسول الله  لبُديْل أنه والمسلمين لا يريدون إلا الطواف بالبيت، ولكن إذا أرادت مكة القتال، فإن المسلمين على استعداد لذلك. وبعده أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي – الذي كان زوجًا لابنة لأبي سفيان – بالشيء نفسه. كان عروة رجلاً فظًّا، سلك على نحوٍ غاية في الجلافة، وقال إنه لا يرى في المسلمين أحدًا من كرام الناس، بل يرى أوْباشًا خليقًا بهم أن يفروا ويتركوا الرسول . وقال إن أهل مكة لن يدعوهم يدخلون مكة. ثم جاء بعده العديد من أهل مكة، وتفاوضوا أكثر وأكثر، وكان آخر ما عرضوه على المسلمين أن عليهم على الأقل أن يعودوا أدراجهم هذا العام، فلن يدعوهم يطوفون هذه المرة، لأن أهل مكة سيشعرون بالعار والمهانة إذا سمحوا للمسلمين بدخول مكة والطواف بالكعبة هذا العام، ولكنهم قد يسمحوا لهم بذلك إذا عادوا في العام التالي.

وقد احتجت بعض القبائل المتحالفة مع أهل مكة عليهم، وطلبوا من القادة السماح للمسلمين بالطواف، لأن كل ما أرادوه هو حق الطواف، فلماذا يحرمون حتى من هذا؟ ولكن أهل مكة ظلوا على عنادهم وصلابتهم، وعند ذلك هدّد قادة القبائل بالانفصال عن جيش مكة، ما دام أهل مكة لا يريدون السلام. وخشي أهل مكة أن يُنفّذ قادة القبائل تهديداتهم، فسعوا إلى الوصول إلى تسوية مع المسلمين. وما أن علم الرسول بذلك حتى أرسل عثمان بن عفان رضي الله  عنه، الذي أصبح الخليفة الراشد الثالث في الإسلام، إلى أهل مكة، وكان له أقرباء عديدون فيهم، فجاءوا وأحاطوا به وعرضوا عليه أن يطوف هو بالبيت إن أراد، ولكنهم لن يدعوا الرسول يفعل ذلك حتى العام القادم. ورفض عثمان أن يطوف هو إلا أن يكون في صحبة حبيبه وقائده . وطال التفاوض بين عثمان وبينهم، وانتشرت إشاعة مغرضة أنه قُتل، وبلغت الإشاعة آذان الرسول . وعند ذلك جمع رسول الله  أصحابه وأخبرهم أن احترام الرسل أمر معمول به في كل الأمم، وأنه سمع بأن أهل مكة قتلوا عثمان، فلو كان هذا صحيحًا فعليهم أن يدخلوا مكة مهما ترتب على ذلك. وهكذا كان لا بد أن تتغير نيّة الرسول في دخول مكة بسلام بعد أن تغيرت الظروف. وتابع الرسول حديثه فقال لهم إن أولئك الذين عاهدوا الله  تعالى إذا لقوا الذين كفروا زحفًا ألا يولوهم الأدبار، عليهم أن يتقدموا ليبايعوه على ألا يفروا. وما أن أنهى الرسول حديثه، حتى نهض الألف والخمسمائة صحابي وقفزوا مسرعين إلى يد الرسول يصافحونها ويبايعونه على ألا يفروا، فإما النصر أو الشهادة. وكان لهذه البيْعة أهمية خاصة في تاريخ الإسلام الباكر، وهي تسمى بيْعة الشجرة ، لأن الرسول كان يجلس تحت شجرة عندما بايعه المسلمون وكذلك تُسمى أيضًا بيْعة الرضوان، وكل من اشترك في هذه البيْعة ظل فخورًا بها إلى آخر أيام حياته. ولم يحدث أن تردّد واحد من الألف والخمسمائة في المبايعة، ولا تراجع أحد. لقد وعدوا جميعًا أنه إن لم يعد مبعوث الرسول ، وإن كان قد قتل، فسوف يتقدّمون، فإمّا فتحوا مكة ونالوها قبل الغسق أو قتلوا جميعا دون هدفهم. ولم تكن البيْعة قد انتهت عندما عاد عثمان رضي الله  عنه وأبلغ الرسول أن أهل مكة لن يتركوا المسلمين يطوفون بالكعبة حتى العام القادم، وأنهم قد عينوا وفدًا لتوقيع عهد مع المسلمين.

ولم يلبث أن جاء إلى الرسول بعد ذلك سُهَيْل بن عمرو، على رأس وفد مكة، ووصلوا إلى اتفاق على شروط المعاهدة وتم تسجيلها.

صلح الحديبيـة

وفيما يلي نص هذا الصلح:

بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ الله ِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ الله ِ مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ الله ِ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ. وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَإِنَّهُ لا إِسْلالَ وَلا إِغْلالَ. وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ. فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ الله ِ وَعَهْدِهِ وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ. وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا فَلا تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْكَ فَتَدْخُلُهَا بِأَصْحَابِكَ وَأَقَمْتَ فِيهِمْ ثَلاثًا مَعَكَ سِلاحُ الرَّاكِبِ، لا تَدْخُلْهَا بِغَيْرِ السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ. (مسند أحمد)

وحدث أثناء التوقيع أمران هامّان، ففي بداية الأمر وبعد تحديد الشروط، بدأ الرسول في إملاء الكتاب، وقال: بسم الله  الرحمن الرحيم. فاعترض سُهيل وقال إنهم يعرفون الله ، ولكنهم لا يعرفون ما الرحمن وما الرحيم، وإن هذا اتفاق بين طرفين فيجب إذن احترام عقائد الطرفين. ووافق الرسول على الفور وقال لكاتبه: “اكتب باسمك الله م”. واستمر الرسول في إملاء شروط الاتفاق. كانت جملة الافتتاح هي: “هذا ما صالح عليه محمد رسول الله  أهل مكة”، فاعترض سُهيل ثانية وقال: “لو نعرف أنك رسول الله  ما قاتلناك”. ووافق الرسول على الاعتراض أيضًا، وبدلاً من “محمد رسول الله “، أمر بأن يُكتب: “محمد بن عبد الله “. وأحس الصحابة بالاضطراب وهم يرون رسول الله  يوافق على كل مقترحات وشروط أهل مكة المجحفة، وبدأت دماؤهم تغلي في العروق، وكان عمر رضي  الله  عنه  أكثر المنفعلين جميعًا، فذهب إلى الرسول وسأله: “يا رسول الله  ألسنا على الحق”؟ فأجاب : “بلى، إنّا على الحق”. فقال عمر: “ألم يخبرنا الله  أننا سنطوف بالكعبة”؟ فأجاب رسول الله  بالإيجاب، فسأل عمر: “فلم نعطي الدنية في ديننا؟ وما هذا الاتفاق”؟

وأجاب الرسول موافقًا أن الله  تعالى وعدهم بطواف الكعبة في أمن وسلام، ولكنه سبحانه لم يقل إن هذا سوف يتم هذا العام، وأنه قد أوّل الرؤيا بما يفيد أن الطواف ربما يتم هذا العام، ولكنه يمكن أن يخطئ في تأويل الرؤيا. وسكت عمر رضي  الله  عنه. ولكن الصحابة الآخرين قدموا اعتراضات جديدة، وسأل بعضهم لماذا وافق على رد كل شاب يتحوّل للإسلام إلى وليّه في مكة، بينما لم يحصل على نفس الشرط للمسلم الذي يرجع إلى الكافرين؟

فشرح الرسول لهم أنه لا خطورة عليهم من ذلك، فكل من يصبح مسلمًا يكون كذلك لأنه يقبل الإسلام عقيدة وشرعة، وليس لأنه سينضم لحزب ويتبنى عاداته وتقاليده، ورجل مثل هذا سيشع منه نور الإسلام ورسالته حيثما حل، وسيعمل كأداة لانتشار هذا الدين.

ولكن رجلاً يطرح عنه ثوب الإسلام، هو شخص لا قيمة له ولا فائدة للإسلام منه، فإذا لم يتمسك بكل ما عليه المسلمون بقوّة فهو ليس منهم، ومن الأفضل أن يذهب عنهم حيث يشاء. ولقد أقنع هذا الرد أولئك الذي تشككوا في حكمة النهج الذي اتبعه الرسول . وهو اليوم كفيل بإقناع أولئك الذين يظنون أن عقوبة المرتد هي الموت، فلو كان الأمر في عقوبة الردّة عن الإسلام كذلك، لأصرّ الرسول على إعادة المرتد إليه كي يقيم عليه حد الإسلام الذي يدّعونه.

عندما تمت كتابة الاتفاق وتم التوقيع عليه، حدثت حادثة كان من شأنها اختبار نيّات الأطراف الموقعة على الاتفاق، فإن أبا جندل، ابن سُهيل بن عمرو، أي أنه ابن السفير المكّي المفوّض الذي وقع معه العهد، مثُل أمام الرسول يرسف في قيوده، جريحًا منهكًا، قد جاء زاحفًا من محبسه هاربًا، وسقط عند أقدام الرسول قائلاً:

“يا نبيّ الله  إنني مسلم من صميم قلبي، ولقد عانيت العذاب على يد أبي بسبب إيماني. إن أبي معك هنا، ولذلك هربت وتدبّرت أمري حتى جئت إليك”. فقال سُهيل: “هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده”. فقال الرسول : “إنا لم نقض الكتاب بعد”. فقال سُهيل: “فوا الله  إذن لا أقاضيك على شيء أبدًا”. فقال الرسول : “فأجزه لي”. فقال سُهيل: “ما أنا بمجيزه لك”. قال: ’’بلى فافعل‘‘. قال: “ما أنا بفاعل”. وضرب سُهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجرّه ليرده إلى المشركين. وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: “يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني”؟ فقال رسول الله : “يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله  جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله  فلا نغدر بهم”.

بعد توقيع الميثاق، رجع الرسول إلى المدينة. وبعد العودة بقليل، جاء شاب مسلم من مكة هو أبو بصير، ولكن الرسول ردّه إلى مكة حسب شروط المعاهدة، وفي طريق عودته قاتل حارسيْه فقتل أحدهما وفر الآخر. وذهب أهل مكة إلى الرسول واشتكوا إليه طالبين أن يردّه إليهم. فقال الرسول إنه سلمه إليهم، ولكنه فرّ منهم، وليس من واجب المسلمين أن يبحثوا عنه ويقبضوا عليه ويعيدوا تسليمه إليهم. وبعد عدة أيام فرّت امرأة مسلمة إلى المدينة، فجاء أقرباؤها وطالبوا بعودتها، فقال لهم الرسول إن الميثاق يشمل الرجال لا النساء، ولذلك رفض إعادة المرأة.

رسائل رسول الله  إلى مختلف الملوك

عندما استقر الرسول في المدينة بعد عودته من الحديبية، وضع خطة أخرى لنشر رسالته، وهي أن يرسل إلى ملوك العالم. وعندما ذكر ذلك لأصحابه قال لـه الذين يعرفون عادات ومراسيم القصور الملكية إن هؤلاء الناس لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، وبناء عليه اتخذ الرسول خاتمًا منقوشًا عليه: محمد رسول الله .

واحترامًا للفظ الجلالة، كانت كلمة “الله ” في القمة، وتحتها كلمة “رسول” وأخيرًا “محمد”. وفي المحرم من عام 628 ميلادية، أي العام السابع من الهجرة، أرسل الرسول رسله إلى عواصم مختلفة، كل منهم يحمل كتابًا منه يدعو الحكام إلى قبول الإسلام.

ذهب الرسل إلى هرقل، عظيم الروم وإلى ملوك الفُرس والحبشة ومصر (كان ملك مصر حينئذ واليًا لقيصر على مصر)، وذهبوا إلى ملوك آخرين كذلك. وحمل دحْيَة الكلبى الرسالة المرسلة إلى قيصر، وكان الرسول قد أمره أن يدفع الكتاب إلى حاكم بُصرَى ليدفعه إلى قيصر. وعندما قابل دحية الحاكم المذكور، تصادف أن كان قيصر بالشام في جولة بالإمبراطورية. فقدّم حاكم بُصرى دحية نفسه فورا إلى هرقل. وعندما دخل دحية إلى بلاط الملك قيل له إن كل من يتم استقباله أمام الجمهور ينبغي عليه أن يسجد لقيصر. فرفض دحية قائلاً إن المسلمين لا ينحنون أمام أيّ إنسان. وهكذا جلس دحية أمام القيصر دون أن يؤدي لـه طقوس الخضوع المفروضة. وتناول قيصر الرسالة وقرأها بواسطة مترجمه، وسأل إن كانت هناك قافلة عربية، وقال إنه يرغب في سؤال رجل من العرب حول هذا الرسول العربي الذي أرسل إليه دعوة لقبول الإسلام.

وحدث أن أبا سفيان كان في المدينة مع قافلة للتجارة بالشام، فأخذه بعض العاملين في بلاط قيصر مع نفر من أصحابه إلى هرقل. وأمره هرقل أن يقف أمام أصحابه من العرب، وأمرهم أن يصححوا مقالته إن كذب أو خالف الحقيقة. ثم أخذ هرقل يسأل أبا سفيان، وجرت المحاورة بينهما كما سجلته صحائف التاريخ على النحو التالي:

هرقل: هل تعرف هذا الشخص الذي يدعي أنه رسول الله  والذي قد بعث إلي رسالة؟ وكيف نسبه فيكم؟

فأجاب أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، وهو من أقاربي

هرقل:  فهل قال هذا القول أحد من العرب قبله قط؟

أبو سفيان: لا

هرقل:  فهل تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

أبو سفيان: لا

هرقل:  فهل كان من آبائه مِن مَلِكٍ؟

أبو سفيان: لا

هرقل: كيف ترون مقدرته على الحكم؟

أبو سفيان: لم نجد أي غبار على مقدرته على الحكم

هرقل: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟

أبو سفيان: بل معظمهم من الضعفاء والمتواضعين والشباب

هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟

أبو سفيان: بل يزيدون

هرقل:  فهل يرتدّ أحد منهم سخْطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

أبو سفيان: لا

هرقل: فهل يغدر؟

أبو سفيان: لا، ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها

هرقل:  فهل قاتلتموه؟

أبو سفيان: نعم

هرقل:  فكيف كان قتالكم إياه؟

أبو سفيان:  الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. ففي معركة بدر – التي لم أحضرها أنا – استطاع أن يتغلب علينا. أما في أُحُد – التي كنت أنا قائد جيشنا فيها – فنلنا منه، إذ بقرنا بطونهم وقطعنا آذانهم وأنوفهم.

هرقل:  ماذا يأمركم؟

أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله  وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يعبده آباؤكم من الأصنام. ويأمرنا أن نعبد الله  وحده، وأن نقول الصدق، ونتجنب السيئات. ويحثنا على الإحسان والوفاء بالوعد وأداء الأمانة.

فلما انتهت هذه المكالمة الممتعة قال هرقل للترجمان قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأْتَسي بقولٍ قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه مِن ملِك فذكرت أن لا قلت: فلو كان من آبائه مِن ملِك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخْطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله  ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين. (انظر البخاري، كتاب بدء الوحي)

ولقد أقنع هذا الرد أولئك الذي تشككوا في حكمة النهج الذي اتبعه الرسول . وهو اليوم كفيل بإقناع أولئك الذين يظنون أن عقوبة المرتد هي الموت، فلو كان الأمر في عقوبة الردّة عن الإسلام كذلك، لأصرّ الرسول على إعادة المرتد إليه كي يقيم عليه حد الإسلام الذي يدّعونه.

وأزعج هذا الحديث حاشية الملك، وبدأوا يلومونه لإطرائه إمام طائفة أخرى غيرهم، وارتفعت الأصوات المعترضة واللغط، فأمر هرقل الضباط بإخراج أبي سفيان وأصحابه.

كان نص كتاب الرسول كما جاء في التاريخ المدوّن كما يلي:

“بسم الله  الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله  ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله  أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله  ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله  فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون”. (البخاري، كتاب بدء الوحي)

كانت الدعوة إلى الإسلام المدوّنة في كتاب الرسول إلى قيصر، دعوة إلى الإيمان أن الله  واحد وأن محمدًا هو رسوله، وعندما قال الخطاب إن هرقل سينال أجره مرتين لو آمن وأصبح مسلمًا، فإنما يرجع ذلك إلى حقيقة أن تعليم الإسلام يحتوي على الإيمان بعيسى ومحمد كليهما.

ويُروَى أن بعض الحاشية اقترحوا على الملك تمزيق الخطاب ورميه بعيدًا حالمًا قدم الكتاب بين يديه، فقد كان الخطاب إهانة للإمبراطور حسبما قالوا، فلم يوصف الإمبراطور بصفته كإمبراطور، ولكن على أنه مجرد “صاحب الروم” أي عظيم الروم. وردّ الإمبراطور بأنه مهما يكن، فليس من الحكمة تمزيق الكتاب بدون قراءته. وأضاف أيضًا أن مخاطبته باعتباره عظيم الروم ليست خطأ، فإن عظيم الكون كله هو الله ، وأيّ إمبراطور فليس إلا مجرد كبير القوم.

وعندما علم الرسول بالطريقة التي استقبل بها هرقل كتابه بدا راضيًا وسعيدًا، وقال إن مُلكه سوف يستمر بسبب الاستقبال الذي تلقّى به كتابه، وأن نسله سيستمر طويلاً في حكم الإمبراطورية. وهو ما حدث فعلاً، ففي الحروب التي تلت ذلك، خرج من يد الروم جزء كبير من إمبراطورية الروم تحقيقًا لنبوءة أخرى من نبوءات الرسول . وبعد ستمائة سنة من هذا الحادث كانت أسرة هرقل لا تزال باقية تحكم في القسطنطينية، وكان خطاب الرسول محفوظًا لا يزال في أرشيف الدولة لوقت طويل. وحدث أن قام سفير أحد الملوك المسلمين وهو الناصر قلاوون، بزيارة إلى البلاط الروماني، وهناك أرُوه الخطاب مودعًا في حافظة. وقال لـه الإمبراطور الرومي الذي أراه الخطاب، إن جدّه الأول قد تلقاه من نبيّهم، وأنه قد تم الاحتفاظ به بكل عناية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك