الإسلام وتحقيق الغاية من خلق الإنسان
  • ما تفسير المقطعة كهيعص؟
  • كيف تفيد معانيها في الحوار بين المسلمين والمسيحيين؟

____

إذن فقد نبه الله تعالى المسلمين في مقطع «كهيعص» إلى قاعدة أساسية للحوار السليم مع المسيحيين، وأوصاهم بأن يجادلوهم دائمًا على ضوء صفات البارئ ، فإن هذا الأسلوب سيبطل جميع عقائدهم الفاسدة. ذلك لأن الله تعالى إذا كان هو الكافي فمن الجهالة القول أن بوسع الإنسان أن يختار بنفسه شرعًا لـه، أو أن الشرع لعنة؛ فإن الكافي رحمة، وغير الكافي لعنة. وبالمثل فإن الصادق المستجمع في ذاته كلَّ الحقائق إذا لم يكُ قادرًا على تخليص البشر، فأنى لغير الصادق أن يخلّصهم. إنما ينجي الذي هو صادق، كما قال داود :

«فدَيتَني أيّها الربُّ إِلهَ الحقِّ» (المزامير 31: 5)

فالله ينبه المسلمين هنا أن يكشفوا للمسيحيين لدى الحوار أن التسليم بعقائدكم يعني إلغاء صفات البارئ تعالى، وما دامت المسيحية تتنافى مع صفاته تعالى فلم يعد الإله إلهًا. والظاهر أن الدين الحق هو ذلك الذي يُقنع الناس بوجود الله، ويقوّي إيمانهم بصفاته، أما الدين الذي يلغي وجود الله نفسه، وينافي صفاته ، فلا يمكن أن يكون دينًا حقًّا.

باختصار إن التدبر في صفتي «الكافي والهادي» يكشف لنا مدى تعارض تعليم المسيحية مع تعليم الإسلام، ويبين لنا البون الشاسع بين موقفهم وموقف الإسلام، وكيف يُقدّمون وجود البارئ تعالى، وكيف يقدمه الإسلام.

خلاصة القول إن الله تعالى قد ذكَر في هذا المقطع صفتَه «الكافي» إبطالاً لعقيدة الكفارة المسيحية، وأوردَ صفتَه «الهادي» دحضًا للنظرية المسيحية عن النجاة. والحق أن هاتين هما القضيتان الجوهريتان اللتان تصطدمان مع الإسلام، أما عقيدة الثالوث فهي تابعة لهما. إن المسيحية لا تؤمن بالنجاة إطلاقًا، ولا تسلّم بأي رقي روحاني بدون الإيمان بكفارة المسيح؛ وكلتا العقيدتين تلغيان صفتي الله الكافي والهادي، وإلغاؤهما يعني أن الله ليس بعليم ولا بصادق؛ وبتعبير آخر، إن التسليم بهاتين العقيدتين المسيحيتين يستلزم إنكار وجود البارئ تعالى؛ وإذا أدى تعليم دين إلى إنكار وجوده فلا بد من الاعتراف ببطلان ذلك الدين، لأن الدين إنما أساسه الإيمان بذات البارئ تعالى.

مما لا شك فيه أن الثالوث هو من العقائد المسيحية الأساسية، ولكنها في الواقع وثيقة الصلة بعقيدتَي الكفارة والنجاة بحيث إذا أبطلناهما بطل الثالوث تلقائيًّا، ولو فُصل الثالوث عن الكفارة والنجاة لثبت بطلانهما. ذلك أن المسيحية تزعم أن الله تعالى أرسل المسيحَ ابنَه الوحيد إلى الدنيا ليموت فداءً عن ذنوب الناس لينالوا النجاة، لأن الله تعالى – عند المسيحيين – لا يقدر على أن يغفر للناس ذنوبهم لأن العفو مناف لعدله، ولو أنه عفا عن الناس لم يعد عادلاً، ولكنه تعالى أراد نجاة الناس أيضًا، فأرسل ابنه إلى الدنيا ليموت على الصليب، فالذين يؤمنون بموته على  الصليب ينالون النجاة، وهكذا يصبح موته هذا كفارة عن ذنوبهم.

وهذا يوضح أن لا كفارة بدون الإيمان بعقيدة الثالوث، لأن أساس الكفارة إنما هو أن الله تعالى صلب ابنه الوحيد، ثم أحياه بعد ثلاثة أيام؛ ولكن لا يمكن التسليم بذلك إلا بالاعتراف بوجود أكثر من إله، إذ من المحال أن يُعدم الإله نفسه بنفسه – والعياذ بالله – ثم يُحيي نفسَه بعد ثلاثة أيام!

ولكن الاعتقاد بثلاثة آلهة يثير سؤالا هامًّا هو: هل كل واحد منهم يملك قدرة متساوية أم لا؟ فإذا كان الواحد منهم أقل قدرة من الآخر فثبت أنه ناقص، والناقص لا يمكن أن يكون إلهًا؛ وهذا أمر لا يحتاج إلى نقاش ودليل، لأن من قواعد المنطق أن الناقص لا يمكن أن يكون أزليًّا أبديًّا، والذي لا يتصف بالأزلية والأبدية يستحيل أن يكون إلهًا. هذه قاعدة منطقية قد أجمعت عليها كل الديانات، حتى إن المسيحية أيضًا لا يمكنها إنكار أن الناقص لا يمكن أن يكون أزليًّا أبديًّا، وأنه لا بد للإله من أن يكون أزليًّا أبديًّا.

ذات مرة ذهبت إلى مصايف «دلهوزي» للاستجمام. وكنت آنذاك شابًّا. واتفق أن قسيسا شهيرًا – اسمه «فرجوسن» على ما أذكر – أيضًا كان موجودًا هناك. وكان هذا القسيس قد قام بتنصير آلاف من الناس، وقد جاء إلى تلك الجبال ليقوم بالتبشير المسيحي ويوزع بعض المنشورات. فذهب بعض المسلمين الغيورين إلى المشايخ يلتمسون منهم التصدي لتلك الفتنة، ولكنهم قالوا لهم إنهم لا يقدرون على مقاومة هذا القسيس. ولما يئسوا منهم جاءوني معتذرين نادمين وقالوا: تعال أنت من فضلك، وحاور القسيس. وكنت آنذاك صغير السن، وكانت دراستي الدينية لم تكتمل بعد، ولكني رضيت، وخرجت إلى منـزل القسيس في رفقة بعض الأصدقاء. ولما وصلنا إلى بيته قلت له: أود أن أسأل حضرتك بعض الأسئلة – وكنا وقتها جالسين حول طاولة كان عليها قلم رصاص – فقلت لـه: حضرة القسيس: لو احتجت إلى هذا القلم مثلاً، فناديتني أنا، وأصحابَك، وخادمك، وطباخك، وجيرانك، وحين حضر الجميع قلت لنا جميعًا: ناوِلوني هذا القلم الموضوع على الطاولة، فماذا يكون ظن الناس بك؟ قال: ماذا تقصد بذلك؟ قلت: ستعرف قصدي بعد قليل، ولكني أرجوك الآن أن تخبرني هل مثل هذا السؤال معقول، وماذا سيكون ظن الناس بك بعده؟ قال: حتمًا سيحسبونني مجنونًا. قلت: أخبِرني الآن، هل كان الإلهُ الأبُ قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم. قلت: هل كان الإلهُ الروحُ القدس قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم. قلت: هل كان الإلهُ الابنُ قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم. قلت: إذن، فقضية خلق الكون تشبه قضية حمل هذا القلم، فإن الآلهة الثلاثة يملكون قوة متماثلة، وكل واحد منهم قادر بمفرده على خلق الكون، ولكنهم يهدرون طاقاتهم، ويضيعون وقتهم سدى.

وهذا يوضح أن لا كفارة بدون الإيمان بعقيدة الثالوث، لأن أساس الكفارة إنما هو أن الله تعالى صلب ابنه الوحيد، ثم أحياه بعد ثلاثة أيام؛ ولكن لا يمكن التسليم بذلك إلا بالاعتراف بوجود أكثر من إله، إذ من المحال أن يُعدم الإله نفسه بنفسه – والعياذ بالله – ثم يُحيي نفسَه بعد ثلاثة أيام!

وقلت لـه: أخبِرني حضرة القسيس، هل في الدنيا شيء يقدر الإله الأب على القيام به، ولا يقدر الإله الابن على إنجازه؛ أو أنه بوسع الإله الابن ولكنه ليس بوسع الإله الروح القدس؛ أو أنه باستطاعة الإله الروح القدس، ولكنه ليس باستطاعة الإله الأب؟ قال: لا. فقلت: فلم النـزاع إذن؟ إذا كان إلهان منهم يجلسان عاطلَين رغم قدرتهما على العمل ولا يحركان ساكنًا فهذه معضلة كبيرة. أما إذا كان الثلاثة يقومون بعمل واحد، مع أن كل واحد منهم يقدر بمفرده على القيام به، فهذا هو الجنون بعينه.

فقال القسيس في فزع وذعر: إن أساس المسيحية إنما هو على مسألة الكفارة والفداء، أما مسألة الثالوث فيستوعبها المرء بعد الإيمان. فقلت: لا يمكن للمرء أن يؤمن ما لم يفهم الثالوث، وما لم يؤمن لا يمكن أن يفهم الثالوث، فهذا هو «التسلسل» الذي هو محال لدي جميع أصحاب المنطق. فقال: المعذرة، أرجوك أن تتحدث عن الكفارة.

فثبت بذلك أن الكفارة وثيقة الصلة بالثالوث، فإذا بطلت الكفارة بطل الثالوث تلقائيًّا. ولما كانت هذه العقيدة المسيحية وثنية مشركة تمامًا فقد أشار القرآن هنا إلى صفة الله العليم على وجه الخصوص. ولقد تناول سيدنا المسيح الموعود هذا الأمر بالإسهاب في كتبه، وبين أن الإنسان إذا تيسر لـه العلم الكامل بشيء من الأشياء قدر على صنعه (الكحل لعيون الآرية ص 226). فمثلا إن الإنسان يعرف تمامًا أن البناء يتطلب تركيب اللَّبِن والطوب معًا، ولذلك يقدر على بناء بيته. إنه يعلم أن الطين إذا أُفرغ في القالب صار لبنة، وأن هذه اللبنة إذا وضعت في النار صارت صلبةً كالحجر، فهذا العلم يمكّنه من صنع اللبنة الصلبة. وبالمثل لو أن أحدًا علم كيف يُصنع التراب لصنعه، ومن تيسر لـه العلم الكامل بصناعة الساعة لصنعها، ومن حصلت لـه المعرفة الكاملة بوظائف أعضاء البدن الإنساني لصار طبيبًا. فثبت أن العلم الكامل بشيء يمكّن صاحبَه من خَلقه وصنعه، وأنه إذا حصل لكائن علمٌ كامل حقًّا لقدر على الخلق الكامل والتدبير الكامل، كما لم يبق بعده حاجة إلى مدبر آخر. وهذا هو الدليل الذي قدمته أمام القسيس فرجوسن، فقلت لـه: ما دام كل واحد من الآلهة، أي الأقانيم الثلاثة، كاملاً في حد ذاته فأي حاجة إلى الثاني والثالث، وسواء في ذلك الإله الأب والإله الابن والإله الروح القدس. فما دام الإله الأب قادرًا على القيام بما هو في وسع الإله الابن، وما دام الإله الابن قادرًا على فعل ما هو باستطاعة الإله الروح القدس، فيجب أن يكفينا إله واحد، ولا حاجة إطلاقًا للثاني والثالث. ومن أجل ذلك، قد أشار الله تعالى إلى صفته الكافي، ليبين أنه تعالى وحده لَكافٍ لخلق العباد، ولخلق النظام لـهم، ولتدبير أمورهم كذلك، ولا حاجة لـه في ذلك إلى أي كفارة ولا إلى أي ابن أو روح القدس.

قد يقول هنا قائل: ألا تؤمنون بالملائكة رغم إيمانكم أن الله كاف؟ ثم ألا تعترفون بوجود الريح والبرق والمادة في الكون؟

والجواب أننا نعتبر هذه الأشياء تابعة لله تعالى، غير متساوية معه في المقام والدرجة، وهناك بون شاسع بين التبعية والتساوي، فالشيء التابع كالخادم وليس كالندّ. وقد جعل الله تعالى نظام التابعين والخدم هذا لكي يبقى هو بنفسه خفيًّا وراء الحجاب، ذلك أن إيماننا بالله إذا كان سيأتي بنتيجة، وإذا كان لنا عليه جزاء، فكان لزامًا أن يظل الله وراء الحجاب، إذ لا جزاء على الإيمان بوجود الأمور الظاهرة الجلية للعيان. فإنا نرى الشمس مثلاً، ونعترف بوجودها، ولكن لا جزاء لنا على هذا الاعتراف. وبالِمثل نرى الجبال، ونقر بوجودها، ولكن لا ثواب لنا على هذا الإقرار. إن غاية خلق الإنسان أن يحقق الكمال الروحاني، وتحقيق الكمال الروحاني ذو صلة بالثواب وجلاء البصر الروحاني، ولا بد لجلاء الشيء وارتقائه من امتحان واختبار، والاختبار يتم عمومًا فيما هو كثير العراقيل وصعب المنال؛ فكان لزامًا إذن أن يظل وجود البارئ خفيًّا ليتم اختبار الإنسان، وإلا فشلت تمامًا خطة تطوير البشر روحانيًّا. وبقاء الله تعالى خفيًّا وراء الحجاب استلزم خلق وسائل روحانية ومادية. ومن الوسائل الروحانية الفطرةُ السليمة والملائكة، ومن الأسباب المادية المادة والنواميس التي تحركها.

إذن فلا اعتراض على وجود الملائكة أو المادة، لأن النصارى يقدمون لنا من يعتبرونهم آلهة وأندادًا لله ، أما نحن فنقدم أمامهم من هم خدم تابعون لـه . وقد لزم وجود الخدم والأشياء التابعة ليظل الله تعالى وراء الوراء، وليبقى بين الله وعباده حجاب لا يشقّه كل من هبّ ودبّ، بل المجاهد الذي يكدح بجد ونشاط.

Share via
تابعونا على الفايس بوك