في رحاب القرآن
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (107)

ولكن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود جاء وأعلن أن القرآن من أوله إلى آخره.. من (باء) البسملة إلى (سين) (الناس) قابل للعمل، ولن ينفك هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولا أزال أتذكر جيدا قوله: إذا سلم أحد بأنه لا تزال في القرآن آيات منسوخة..فلماذا يكلف نفسه عناء التدبر فيه والعمل به؟ سيقول في نفسه: لماذا أضيع جهدي ووقتي في ذلك؟ من يدري أن الآية التي أُعمل فكري فيها يتبين لي فيما بعد أنها كانت منسوخة؟ ولكن الذي يؤمن أن هذا الكلام بتمامه وكماله منـزه عن النسخ، وأن كل لفظ منه جدير بالعمل به..لا بد أن يتدبر القرآن، وهكذا يزيده القرآن علما ومعرفة.

لقد نبغ من خلق الله تعالى أناس كثيرون في العلم والمعرفة، ولكن من المستحيل أن يدعي أحد أنه قد أحاط بكل ما في القرآن من علوم ومعارف، لقد فتح الله علي –جل شأنه –بكثير من معارف القرآن..ولكني لا أستطيع أيضًا الادعاء بهذه الدعوى. والحق أن استيعاب أحد لجميع معارف القرآن لا يعني إلا قيام القيامة..ذلك أن القرآن ساري الحكم إلى ذلك اليوم، ولا ينـزل بعده أي كتاب آخر، فعندما يتوقف ينبوع المعارف القرآنية المتجددة عن الجريان قامت القيامة. لذلك فلا آخر لمعارفه، وإنما لن يزال هذا الينبوع يتدفق بماء المعارف المتجددة للدين.

كان الأجدر بالمفسرين –على الأقل-إن كانوا لا يقدرون على فهم القرآن ألا يعزوا إليه ما لا يقبله العقل السليم. إنني عندما أتصفح وأقرأ ما ورد في كتب التفسير في شأن النسخ لا أجد آيه واحدة منسوخة. ولكن الأدهى والأمر من هذا أيضًا أن التسليم بوجود النسخ يبطل جدوى القرآن. لذلك أرى أن معنى النسخ الذي أراده المفسرون في هذه الآية معنى خاطئ تماما لا يقبله القرآن الكريم.. لأن الله قال في موضع آخر: (سنقرئك فلا تنسى)(سورة الأعلى)..أي أننا نقرئك القرآن بحيث لا تنساه. فإذا كان الله تعالى قد قال (ننسها) في موضع فإنه قال (فلا تنسى) في موضع ثان. وعلى ضوء تفسير هؤلاء لا بد من التسليم بنسخ إحدى هاتين الآيتين. وإذا سلمنا بنسخ (سنقرئك فلا تنسى) فهذا يعني أن القرآن لا بد أن ينسى دائما ولا تذكره أبدا. وهذا ما لا يقبله أحد. ومن عجيب قدرة الله أنه لم يفكر أحد بنسخ قوله (فلا تنسى)، مع أنه كان على أصحاب النسخ أن يقولوا بنسخه أولا وقبل كل شيء. ثم يعلن في موضع آخر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: 10)..فقد ألزم الله نفسه بحفظ القرآن الكريم على مر العصور. وما دام الله بنفسه قد تكفل بحفظ القرآن فمن المحال نسيان أو نسخ آية من آياته.

الواقع أنه لم ينسخ من القرآن شيء، بل كل كلمة من كلماته جديرة بالعمل. إنه شرع دائم باق إلى يوم القيامة. لقد رأيتني مرة في الرؤيا أقول لأحد الناس: ليس كل لفظ فقط.. بل كل حركة وسكون في القرآن لا يخلو من معنى، وأن القرآن بتغير طفيف يغير معانيه، وأنه مليء بالحكم؛ فلا نجد أبدا له مثيلا في فحواه من الحكم والحقائق.

ولكن ليس من الضروري أن يطلع كل شخص على كل تلك الحكم والمعارف. نعم، يفتح الله من معارفه الجديدة في كل زمان، ومع ذلك لا تزال فيه معارف مكنونة لتنكشف على أجيال قادمة، وتمضي هذه العملية إلى أن تقوم القيامة.

وليس لدى القائلين بالنسخ في القرآن أي برهان في السنة النبوية بحيث يقال إن النبي قال بنفسه: إن آية كذا قد نسخت، أو روى عنه أناس حضروا مجلسه فقال لهم: لقد أخبرني الله البارحة أن آية كذا قد نُسخت، وإنما دليلهم على النسخ أن مفهوم آية كذا يتنافى مع مفهوم آية كيت..ويبدو أن إحداهما ناسخة للأخرى. وكأن كل آية لم يتمكنوا من فهمها صارت منسوخة في رأيهم. وليس في هذا دليل إلا على عدم العلم فقط.

ولكن العجب كل العجب أنهم من ناحية يقولون إن حديث الآحاد لا ينسخ القرآن، وهذا صحيح تماما..فنحن أيضًا نقول إنه لا يمكن أن ينسخ واحد ولا مليون حديث آحاد شيئا من القرآن الكريم.. ولكنهم من ناحية أخرى يقولون بنسخ آيات القرآن بناء على ظنونهم وقياساتهم. إنا لله وإنا إليه راجعون!

ثم إنهم لا يقدمون أي مثال لآية نسخت حكما ولفظا، وإنما يذكرون حادث تحويل القبلة ويقولون إن الله تعالى كان قد أمر بالتوجه نحو القبلة الأولى..ولا يذكرون على أي كلمات لهذا الأمر المنسوخ لفظا وحكما. إذًا فلا اعتبار لدعواهم هذه.

وهم يزعمون أيضًا أن هناك آيات نسيها الصحابة، مع أن نسيانها في حد ذاته يشكل معجزة عظيمة، وكان لا بد أن تكون لهذا الحادث ضجة كبرى بين الصحابة كلهم..لأن عدد الذين كان النبي يعلمهم ويحفظهم القرآن يبلغ المئات. فالثابت تاريخيا أنه في موقعة واحدة استشهد سبعون قارئا (البخاري، كتاب المغازي)..ومن هذا نستطيع تقدير العدد الهائل من الحفاظ المسلمين. هؤلاء المئات من الحفاظ هم غير أولئك الخمسة الذين كان النبي يعلمهم ويحفظهم ما ينـزل عليه من الوحي فور النـزول (البخاري، كتاب العلم)..فهؤلاء الخمسة حفاظ خصوصيون. ثم كان لهم مئات التلاميذ الذين يحفظون القرآن عن ظهر قلب. فلو كانت بعض الآيات قد أنسيت لحدثت ضجة كبرى بين المسلمين، ولا بد من وجود عشرات الرواة لهذا الحادث، ولزم أن يروي كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي –رضي الله عنهم –أننا كنا نحفظ سورة كذا ولكننا أنسيناها فجأة. كما لا بد أن يأتي الآخرون إلى أبي بكر مثلا ويذكروا له ما حدث.. فيقول لهم: وأنا أيضًا قد نسيتها؛ ويأتوا عمر فيقول لهم ما قال أبو بكر..ثم يأتوا عثمان وعليا..ويذهب الجميع إلى النبي ويذكروا له الحديث العجيب.. فيقول: نعم قد رفعتها الملائكة وأصبحت أنا أيضًا لا أتذكر منها شيئا.

رجلان فقط، لم يُذكر أبواهما نسيا سورة! والأغرب من ذلك أن كليهما باتا معا، واستيقظا للصلاة معا، ونسيا السورة معا، وفي الصباح أخبرا النبي بالخبر معا. ثم امتدت سلسلة النسيان حتى أن الرواة لم يضبطوا اسمي هذين الرجلين!!(فتح البيان والقرطبي)

الحق أنه لا يمكن أن يصدق أسطورة النسيان هذه إلا غبي من الأغبياء..ولا يمكن أن يصدقها أبدا رجل سليم العقل.

وأما فيما يتعلق بالآيات التي يزعمون أنها منسوخة لفظا وباقية حكما..كالآية المزعومة: الشيخ والشيخة إذا زنيا الخ..فنسأل: مادام حكمها قائما.. فما الحكمة في نسخ ألفاظها؟ أيضًا مما لا يقبله العقل والمنطق السليم. ثم إن كلمات الآيات المنسوخة في زعمهم أيضًا عجيبة. فمثلا قولهم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا..الخ). فالشيخ يعني: العالم الكبير أو سيد القوم؛ الرجل المتزوج..من قولهم: شيخ المرأة أي زوجها؛ الرجل العجوز المسن (الأقرب).

وفي ضوء هذه المعاني يكون معنى عبارة: (الشيخ والشيخة الخ):

1-إذا زنى عالم كبير أو رجل ذو شرف وسؤدد فارجموه، أما إذا ارتكب الفاحشة رجل من العامة فلا ترجموه.

أو 2-إذا زنى الزوج بزوجته فارجموهما –فالشيخ والشيخة بمعنى الزوج والزوجة..وكأن الزوج يرتكب الزنا مع زوجته!.

أو 3-إذا زنى رجل عجوز بامرأة عجوز –مع أنهم لا يقدران على الجماع أصلا –فارجموهما. وكل هذه الصور الثلاث من المحال، ولا يستطيع أحد قبول هذه العبارة على أنها آية قرآنية.

وما يدعو للعجب أكثر أنهم يزعمون نسخ آية أخرى تقول بكون الإنسان حريصا للمال، مع أن هذا خبر وليس بحكم، ومن المتفق عليه أن الخبر لا ينسخ حيث ورد: “أما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ”(تفسير ابن كثير).

فنسخ الحكم أمر مفهوم، ولكن لا يعني نسخ الخبر إلا أن الله أخطأ في بيانه –وحاشا لله. فكل هذه الأقوال في حد ذاتها مدعاة للضحك والسخرية، ولا يقبلها إنسان عاقل.

وعلاوة على ذلك فأي داع لذكر النسخ في القرآن هنا؟ إن الله تعالى يتناول هنا ذكر كتب اليهود، ويبين أنهم يقولون لا نصدق إلا بما أنزل علينا من الكتاب. فإذا لم يكن بد من التسليم بأن الآية تتحدث عن النسخ فمعنى ذلك أنها تتحدث عن النسخ في الصحف السابقة أي التوراة..وليس في القرآن كما يقول المفسرون، لأن ذلك لا يمت بصلة إلى الموضوع المذكور سالفا. وكأن المفسرين يقولون إنه لما قال اليهود: نحن ورثة أفضال إلهية خاصة، فلا نصدق إلا ما ينـزل على أنبيائنا؛ رد الله عليهم: حسنا، آمنوا بالقرآن فهو كلامي، وإنه أيضًا يُنْسَخ ويُنسى!!

الحق أن قول الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)لا يذكر إطلاقا نسخ أي آية من القرآن، لأن السياق أيضًا لا يُسوِّغ هذا المعنى، ولا يجوز لنا قبول ما لا يقبله السياق أيضًا. إن ما يتبين من السياق هو أن اليهود لا يودّون أن ينـزل على المسلمين أي فضل من الله تعالى، ولكن الله يمن على من يشاء، فمَنَّ على المسلمين بأكبر أفضاله..وهو الوحي الإلهي، وأعطاهم القرآن. ولما كان من الممكن أن يتساءل متسائل: ما الحاجة إلى كتاب جديد مع وجود شرائع سماوية سابقة.. رد الله على هذا التساؤل وقال: كان في هذه الشرائع أحكام جديرة بالنسخ فنسخت. وكانت هناك أمور نسيها الناس بمرور الزمن وانمحى أثرها من الكتب السماوية شيئا فشيئا، فمست الحاجة لإعادتها إلى ذاكرة الناس. وهكذا نسخنا جزءا من هذه الكتب واستبدلناه بأفضل منه في هذا الكتاب، وأوردنا ما نسيه الناس كما هو في الكتاب مرة أخرى.

ولا يحق لأهل الكتاب أن يعترضوا على ذلك..لأن كتبهم نفسها تخبرهم بمجيء شريعة جديدة، فقد قيل (ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم. (أرمياء 31:31 و32) وقيل: (لأنه يقول لهم دائما: هو ذا أيام تأتي يقول الرب حين أكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا. لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر. لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم. يقول الرب) (الرسالة إلى العبرانيين 8:8و9).

فهذا هو المعنى المتلائم مع السياق، والمتناسب مع مضمون القرآن. وأما ما ذكرناه من رأي المفسرين فلا صحة ولا وزن فيه مطلقا.. فلا القرآن الكريم يصدقه، ولا السياق يسانده، ولا المنطق يقبله، وليس هناك في حديث النبي ما يؤيده. وإنما الحق أن القرآن كله جدير أن يعمل به؛ فقد عمل به النبي إلى حين وفاته، وكان يأمر بالعمل بالقرآن كله، كما أن القرآن نفسه يشهد بصراحة على كونه محفوظا، حيث قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: 10)

فمع كل هذه الشواهد لا يمكن أن يتصور المرء وجود النسخ في القرآن. وليس في القرآن الذي بين أيدينا أية آية منسوخة، كما لا يوجد فيه إطلاقا أي اختلاف حتى نلجأ إلى نسخه بالقياس. إنه في وضعه الحالي كامل لا عيب فيه. ولئن اجتمع أعداء الإسلام كلهم ليثبتوا وجود أي اختلاف فيه ما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ها نحن نتحدى بفضل الله تعالى ونعلن أن أهل العلم جميعا، فردا أو جماعة، لن يقدروا على إثبات النسخ في القرآن، ولو حاولوا لَدَحضْنا موقفهم من القرآن نفسه.

أما قوله تعالى (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير).. فيعني أننا نقوم بكل ذلك لإحداث انقلاب عظيم، وإيجاد سماء جديدة وأرض جديدة.

الحق أن الكفار لم يكونوا حاقدين على رسول الله لأنه يعارضهم في آرائهم فحسب، وإنما لأنه أعلن أنه سوف يقيم حكومة القرآن. فالله تعالى ينبه المعارضين في الآية التالية أيضًا: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض).. فما دام قد أراد إقامة ملكه على نحو خاص فمن ذا الذي يقدر على منعه من تنفيذ إرادته؟

وخلاصة القول: أن الله تعالى يبين في هذه الآية أن كل ما نزل في سالف الزمان وما سينـزل في المستقبل من رسالة وكلام فهو خاضع لقانون سماوي، وهو أنه إذا صارت رسالة ما عديمة الجدوى واقتضت نزول رسالة سماوية جديدة.. نسخناها واستبدلناها بأحسن منها. وأما إذا كانت لا تزال رسالة عظيمة الجدوى ولكن أهملها الناس ونسوها.. أقمناها كما هي من جديد. ونحن قادرون على هذين الأمرين.

وتصير الرسالة عديمة الجدوى بطريقتين، فإما أنها تفسد بتحريف الناس فيها، أو أنها لا تعود تصلح لتلبية متطلبات الزمان المتطور. ومثال ذلك كمثل لباس الصبي، فإما أنه يُبليه ويشقه ويفسده فيحتاج إلى لباس جديد، أو أنه يكبر فلا يعود اللباس صالحا له بجسمه النامي.. فيحتاج أيضًا إلى لباس جديد. وهذه هي الحال بالنسبة للرسالة السماوية.. فإنها تستبدل أما لحدوث الفساد بأيدي الناس، أو لحدوث التطور في الحياة البشرية. والواقع أن الفساد لا يتطرق للرسالة السماوية إلا إذا صارت غير صالحة للعمل، وإلا فإن الله تعالى يحفظها ما دامت صالحة مفيدة. نعم، عندما لا تعود صالحة للعمل يسحب الله يده من حفظها، ويسمح للناس بالعبث بها وإفسادها، ويظن الناس أنهم يفسدون دين الله، في حين أن الله بنفسه يكون قد ترك حفظ ذلك التعليم، مثلما لا نبالي شيئا إذا عبث الأولاد بلباس بال فيمزقونه ويفسدونه.

وقد استخدم الله هنا كلمة (نأت بخير منها) ليشير إلى أنه يأتي بتعليم جديد حينما يصير التعليم القديم عديم الجدوى وجديرا بالنسخ، ذلك لأنه إذا كان التعليم القديم صالحا كافيا لما مست الحاجة إلى تعليم جديد خير منه أي أحسن منه.

والصورة الأخرى أن يكون التعليم صالحا لهم، إلا أن الناس أصبحوا لا يعملون به، ويبتدعون من عندهم ما يخالف تعاليمه. وفي هذه الصورة لا يكون هناك داع لإنزال تعليم جديد.. وإنما يكفي تقرير التعليم القديم نفسه، ولذلك قال الله تعالى (أو مثلها). وبهذا القول أشار إلى أن التعليم القديم يكون كالميت بسبب غفلة الناس عنه، ولكن تنفخ فيه الروح من جديد.. وهكذا يصبح مماثلا للقديم.

ثم إن قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)يبطل نظرية النسخ في القرآن.. إذ لا علاقة بين القدرة الإلهية وبين النسخ في القرآن. أما المعنى الذي ذكرته آنفا فهو وثيق الصلة بالقدرة الإلهية.

ثم إن الآية التالية (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) تؤيد موقفي، ففيها إشارة إلى أن نزول تعليم إلهي جديد أو إحياء الكلام الإلهي القديم يتطلب انقلابا يكون مستحيلا في نظر الناس، ولكن الله قادر على إحداثه، إما بنـزول كلام جديد أو بإحياء كلام قديم.

هذا المعنى الذي قدمته.. وإن كان جديدا -إلا أنه وحده يساعد على فهم كل كلمة من الآية. أما ما ذهب إليه المفسرون الآخرون من وجود النسخ في القرآن نفسه فما هو إلا دعوة للازدراء والاستهزاء بالقرآن.. حيث قال: لِمَ ينسخ الله حكما بعد نزوله في القرآن؟ ألم يعلم –سبحانه – قبل نزوله أنه غير صالح للناس؟ وما معنى قوله تعالى: إن الله على كل شيء قدير.. إذا أخذنا برأي المفسرين الذي ينسب إلى الله – سبحانه –الضعف لا القوة؟ ولكن المعنى الذي ذكرته ففيه إظهار أيّما إظهار للقدرة الإلهية العظيمة..حيث إنه ليس من السهل إقامة نظام مكان نظام قديم قد صار في قلوب الناس كالنقش في الحجر، لا يقبلون تركه بصورة من الصور؛ كما ليس من السهل أن يُبعث في قوم قد ماتوا معنويا، ونسوا نظامهم تماما، واتخذوا تعليمهم ظهريا..أفرادٌ ليشيدوا ذلك النظام، ويحيوا ذلك التعليم من جديد. إنه بالتأكيد عملية صعبة جدا، تدل على القدرة الإلهية العظيمة، ولأجل ذلك قال بعد هذه الآية: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)..أي أنه قادر على إحداث مثل هذا الانقلاب بمنتهى السهولة.

ولو نظرنا إلى التاريخ وجدنا أن الجزء الثاني من الآية (أو مثلها)ينطبق على سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه لم يأت بشريعة جديدة، وإنما جاء ليقدم بعض تعاليم التوراة من جديد وبصورة واضحة. كما في زمننا هذا عُهد إلى سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)إحداث مثل هذا الانقلاب..حيث بُعث لتجديد دين الإسلام وإحياء تعاليم القرآن نفسه من جديد. وإلى ذلك يشير قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)(الجمعة)..فقوله (وآخرين منهم) يعني أنه سبحانه وتعالى سوف يبعث النبي محمدًا في الآخرين مرة أخرى، ويقيم بواسطته جماعة تكون كالصحابة..طاهرة القلوب، عليمة بأسرار القرآن وحكمه. فكأن مهمة المهدي والمسيح الموعود هي القيام من جديد بما قام به النبي من قبل.

ولا بد من الرد على تساؤل وارد: ما دامت سنة الله تعالى أنه عندما يحقق كتاب سماوي هدفه المنشود فإنه ينسخه ويأتي بخير منه، فهل ينسخ القرآن الكريم أيضًا في يوم من الأيام بكلام أفضل منه ؟

والجواب: لا، لأن الله تعالى قد صرح في القرآن الكريم نفسه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإناله لحافظون)(الحجر: 10).. أي نحن الذين أنزلنا هذا الكتاب، ونحن الذين سوف نتولى حفظه. والواضح أن حفظ الله لكلام إنما يعني كونه أفضل من أي تعليم آخر في المستقبل..فقوله تعالى (ما ننسخ من آية ..نأت بخير منها)يعني أيضًا أنه ما لم ينسخ كلام ما فمعنى ذلك أنه لا يكون هناك كلام آخر أفضل منه. فتبين أن القرآن ليس بأفضل من الكتب السماوية فحسب، بل سوف يبقى الأفضل إلى الأبد، ولا مجال لنسخه أبدا.

وقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)..أي ألا تعلمون أن الله قادر تماما على أن يأتي بكلام أفضل، ويقيم ما اندرس من أحكامه من جديد. فمنذا الذي قدر على المجيء بما اندرس من تعاليم التوراة التي يعترف أصحابها اليهود أن سائر الصحف القديمة دمرت أثناء هجوم نبوخذنصّر على القدس؟ (دائرة معارف التوراة ودائرة المعارف اليهودية تحت نبوخذنصر). ثم منذا الذي قدر على إحياء ما صار نسيا منسيا من تعاليم كونفوشيوس؟ ومنذا الذي استطاع إحياء ما اندرس من تعاليم الفيدا؟ ومنذا الذي قدر على إقامة تعاليم الزندافستا من جديد؟ إنما هو الله الذي قدر على كل ذلك بلا شك بإنزالها في القرآن..وإلا فلم يكن اليهود ليستعيدوا ما انعدم من كتبهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.كما أن اتباع كونفوشيوس وغيرهم ما كانوا قادرين على إحياء تعاليمه من جديد.

فمعنى قوله تعالى (إن الله على كل شيء قدير) إشارة أن الناس سوف يعترضون قائلين: منذا الذي يقدر على أن يأتي بكل هذه التعاليم من جديد، فرد – سبحانه: أننا نحن الذين نحيي هذه التعاليم من جديد.

فهذه حجة أخرى أقامها القرآن على اليهود قائلا: إن كتبكم كانت قد اندرست وانمحت، ولكن محمدا جاءكم بها من جديد، ورفضكم لتعليمه يعني رفضكم لكتبكم. وما دام قد جاءكم بما هو أفضل مما عندكم، وفي كتابه ما يلبي حاجاتكم تماما في مجالات الحياة من مشاعر وعواطف وحضارة وسياسة وغيرها.. فكان عليكم أن تسرعوا إلى ما جاءكم به. وإذا لم تؤمنوا به وتقبلوه..فاعلموا أن ما عندكم من أحكام ناقصة لم تُلبِّ متطلبات الحياة.

الواقع أن اليهود غضبوا وقالوا: لماذا حول الله النبوة منهم إلى بني إسماعيل، وأنزل شريعة القرآن بدل التوراة؟ فرد الله عليهم قائلا: إننا قادرون على أن ننسخ التوراة ونأتي بكتاب أفضل في صورة القرآن، كما أننا قادرون على بعث نبي أفضل من موسى عليه..وهو محمد – عليهما السلام.

وكما سبق أن اليهود أنفسهم يعترفون بأن التوراة قد دمرت تماما أثناء هجوم نبوخذنصر على القدس، بل لم تكن بأيديهم حتى زمن النبي عزرا المبعوث قبل المسيح بحوالي أربعة قرون –أي نسخة من التوراة ولا من صحف الأنبياء الآخرين. فدعا النبي عزرا ربه قائلا: ربي، الدنيا مظلمة، والناس يعيشون فيها بدون نور، لأن ناموسك قد أحرق، فلا يعلم أحد ما يفعل ولا ما سوف يحدث. فلو تكرمت أنزلت علي روح القدس لأكتب شيئا مما حدث في الدنيا من الأزل وما كان مسطورا في ناموسك، لكي يهتدي الناس إلى صراطك. فأوحى الله إليه أن اعتزل الناس أربعين يوما، وخذ معك خمسة كُتّاب، فسوف أشعل في قلبك شمعة العقل التي لا تنطفئ إلا أن يتم ما تبدأ كتابته. فأخذ النبي عزرا خمسة كُتاب، واعتزل الناس أربعين يوما، وأتم كتابة تلك الكتب بالوحي الإلهي.

(The APOCRYPHA, The American Translation 2nd Book of ASDRAS 14: 19-45)

ففي الآية توبيخ لليهود أنكم كنتم نسيتم تعاليمكم، ولكن الله منّ عليكم بأحيائها، ولكنكم بدل أن تشكروا نعمة الله هذه..تنكرون الجميل، ولا ترتدعون مطلقا عن الاعتراض على كتبكم أيضًا.

 

 

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك