هل لعنة الناس للشر والسوء سنة من سنن الله؟
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(162) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (163)

التفسير:

هنا يقول الله تعالى إن هؤلاء الذين يموتون كافرين عليهم لعنة الناس أجمعين. وفي الآية السابقة ذكر أن عليهم لعنة الخواص من عباده الذين أُذن لهم. ذلك لأنه في الآية السابقة كان اللعن يعني الإخبار بهلاكهم ودمارهم، وهذا العمل من اختصاص أنبياء الله وحدهم. أما في هذه الآية فليس المقصود الإخبار عن هلاك أحد. ولذلك ذكر لعنة الناس جميعا.. لأن جميع الناس لا يُخبِرون عن هلاك غيرهم. فالمراد من اللعنة هنا.. هو صوت الفطرة الإنسانية الذي ينبع من القلب. مثلا: إذا ذكرتَ السرقة أمام سارق فإنه على الفور يحكم بأن اللصوص قوم أشرار، مع أنه نفسه يقع في جريمة السرقة، ذلك أن فطرته تلومه وتخطِّئه. وكذلك المراد من اللعنة هنا أن كل إنسان –صالحا كان أو طالحا –فإنه بفطرته يلعن الكفار على أفعالهم. حتى المجرم، وإن كان لا يلوم نفسه، إلا أنه يلوم الجريمة ويعتبرها شرا.. وهذه هي اللعنة. إن الله وعبادَه أصحابَ الصفات الملائكية يلعنون الكفار لعنة علنية، أما الناس الآخرون فيلعنونهم من حيث الفطرة والمبدأ. فليس هناك قوم يعتبرون الكذب عملا حسنا، أو الغيبة أمرا طيبًا أو السرقة فعلا صالحا أو الاغتيال أمرًا محمودًا. أما على صعيد الفرد فكلما ارتكب أحد شيئا منها فإن نفسه تلومه عندئذ وتقول: لقد ارتكبت عملا شريرا. فسواء اعتبروا عملهم شرا أم لا.. لو رأوا أحدا يرتكب هذا الفعل فلا بد أن يعتبروه سيئا. هذه هي اللعنة المرادة هنا، وهي لا تنمحي أبدا، لأن الفطرة الإنسانية تؤيدها.

وقوله تعالى (خالدين فيها).. أي هذا مبدأ أبدي لن يتغير. لقد جاءت الفلسفات واحدة بعد الأخرى، وتوالت الحضارات.. ولكن أوروبا اليوم أيضا تقول أن الكذب سيئ، والظلم شر، والسرقة مشينة، والغيبة مكروه.. فاللعنة على هذه الشرور هي كما هي ولن تتغير. هذا ما تؤكده أيضا فلسفة اليونان والفرس وغيرهما. فهو مبدأ غير قابل للتغير. فإذا جاءت حضارة جديدة غدًا فلسوف تقرر نفس المبدأ ولن تخالفه.

وقوله تعالى (لا يخفّف عنهم العذاب ولاهُم يُنْظَرون) يبين أن أعمال منكري الأنبياء عندما تتجاوز الحدود.. فمن سنة الله محاصرتهم بالعذاب السماوي. وهذا العذاب لا يُخفف عنهم ولا يُمْهَلون. نعم، يُعطون فرصة للتوبة قبل نزول العذاب، ولكن إذا لم ينتفعوا من رحمة الله، وأصروا على الرفض، واستمروا في استهزائهم بالآيات السماوية، فيُصب عليهم سوط العذاب الإلهي، وعندئذ لا يُجديهم صراخهم وعويلهم نفعا.

انظروا إلى كل من عارض رسلَ الله تعالى.. فلا تزال اللعنة تنصب عليهم رغم مرور آلاف السنين. لقد مضى على هلاك النمرود آلاف السنين، ومر على غرق فرعون في البحر قرون طويلة.. وكذلك انقضى على هلاك الكتبة والفريسيين الذين علّقوا المسيح على الصليب عشرون قرنا، ومرّ على هلاك أبي جهل في وقعة بدر أربعة عشر قرنا.. ولكن كل إنسان شريف كلما ذكر النمرود فإنه يلعنه، وإذا ذكر فرعون فإنه يلعنه، وإذا تطرق الحديث إلى الكتبة والفريسيين اليهود فيلعنهم، ويلعن أبا جهل إذا ذُكر اسمه.. ويلعن من قتلوا سيدنا عثمان رضي الله عنه. ثم إن العذاب الذي سوف ينزل بهم في الحياة الآخرة يفوق التصور. فالعذاب مستمر إذن لأنهم عارضوا رسل الله تعالى.

   

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (164)

التفسير:

يقول الله تعالى: ما الداعي لِلخوف من الأعداء مع أن إلهكم ذو صفات كاملة.. وهو الرحمان الرحيم. فتوكلوا عليه واستعينوا به، فهو موجود لحمايتكم.. ولن يستطيع أعداؤكم التغلب عليكم، مهما كانت سفينتكم في مهب رياح المصاعب، ومهما اصطدمت بدوامات المتاعب، فإنه سوف ينقذكم ويوصلكم إلى بر الأمان والفلاح.

رأيت مرة في الرؤيا أنني قادم في سفينة من ناحية “بَهِشْتي مقبرة”[1] ومعي أناس آخرون. ويبدو أن في الطريق فيضانا وطوفانا.. وعندما وصلنا إلى مكان الجسر حيث كانوا يضعون من قبل لوحين من الخشب ليعبر عليهما الناس.. رأيت أن سفينتنا قد وقعت في دوامة وأخذت تدور.. فخاف كل الركاب، وعندما وصلوا إلى حد اليأس خرجَتْ من الماء فجأة يدّ تحمل كتابة تقول إن هناك قبرا لأحد أولياء الله، فالتمسوا منه العون تخرج السفينة من الورطة. فقلتُ: كلا، هذا إشراك بالله تعالى.. ولن أعمل بهذا الرأي ولو هلكتُ. وكلما كنت أصرّ على الرفض يشتد دوران السفينة. فقال بعض زملائي: ما الحرج في ذلك؟ وكتبوا رسالة على ورقة باسم هذا الولي وألقوها في الماء بدون عِلمي. وعندما بلغني ذلك تحمست وقلت: هذا شرك بالله تعالى، وقفزت في الماء وأخذت الورقة وخرجت بها، وما أن أتممت ذلك حتى خرجت السفينة من الدوامة.

فمهما كانت المشاكل والشدائد التي وقع فيها المؤمن فعليه أن يكون متوكلا على الله تعالى، وأن لا يسمح أن يتولد في قلبه خوف من أحد سواه سبحانه تعالى.

انظروا إلى كل من عارض رسلَ الله تعالى.. فلا تزال اللعنة تنصب عليهم رغم مرور آلاف السنين. لقد مضى على هلاك النمرود آلاف السنين، ومر على غرق فرعون في البحر قرون طويلة.. وكذلك انقضى على هلاك الكتبة والفريسيين الذين علّقوا المسيح على الصليب عشرون قرنا، ومرّ على هلاك أبي جهل في وقعة بدر أربعة عشر قرنا..

ويمكن أن يسأل أحد: إذا كان الله معبودنا، فكيف نعرف بماذا سوف يعاملنا؟ فردّ الله على ذلك بقوله تعالى (هو الرحمان الرحيم). إنه دائما يعامل بحب كامل، ولا يخذل عبده إلا إذا خذل العبد نفسه. إنه رحمان.. أي منذ البداية، وبدون أي عمل من الإنسان إنه تعالى قد تفضل عليه بأفضال كثيرة، وعندما يستعين العبد ويستغل ما يَسَّره الله له من أسباب.. فإنه ينعم عليه ويحسن إليه أكثر وباستمرار.. لأنه رحيم.

إن مَثل “الرحمان الرحيم” كمثل الفلاح العجوز الذي كان يزرع النخل، وأخذ من الملك جوائز مرات ومرات. ولكن كنوز الملك كانت محدودة فكف عن مكافأة الفلاح العجوز في آخر الأمر. ولكن خزائن ربّنا غير محدودة، بل إن مَلِكنا بنفسه يقول: اسألوني أُعطكم، واستمروا في السؤال أُعطِكم باستمرار. فالله تعالى يتفضل بالإنعام مرة بعد أخرى ولا تنفذ خزائنه.. ويقول: اعملوا أُنعمْ عليكم، ثم اعملوا أُنعمْ عليكم مرة أخرى، وهكذا كلما عملتم وأحسنتم أنعمت عليكم، وأستمر في إنعامي على الدوام.

إن كلمة (إلهكم) قد تشكك في أن هناك إلها آخر للغير، أو ربما تكون هناك آلهة أخرى للأقوام الآخرين.. فأزال هذه الشبهة بقوله تعالى (لا إله إلا هو). ثم ذكر من صفاته الكاملة (الرحمان الرحيم) ليبطل بذلك منطقيا ضرورة وجود أي إله آخر.

الرتيب والربط:

في الآيات السابقة بيّن الله أننا وجهناكم إلى بيت الله الحرام طبقا للدعاء الإبراهيمي، ثم ركَّز على فتح مكة قائلا: إن الناس ينتظرون فتحها لأنه سوف يُدخل الناسَ في الإسلام أفواجا. ولما كانت الحروب تؤدي إلى كثير من المشاكل والشدائد.. أوصى الله بالصبر والاستعانة بالدعاء. وأَتبعَ ذلك بمثال من حياة إسماعيل وهاجَر، وبين أن الذين يضحون في سبيل الله تعالى لا يضيعهم الله. ثم ذَكر الحج والعمرة والسعي بين الصفا والمروة، ليشير إلى أن أمْره بالحج والعمرة يعني أنه سوف يأتي بيوم يتيسر لكم فيه أداؤهما، ويتم السعي بين الصفا والمروة في راحة وسهولة.

فهذه الآيات تتضمن نبأ بأن مكة سوف تُفتح للمسلمين لا محالة في يوم من الأيام.. ذلك لأنه عند نزولها ما كان كفار مكة يسمحون للمسلمين بالاقتراب من المسجد الحرام، بل لم يسمحوا للنبي بالطواف حتى بعد نزول هذه الآيات بسنوات. ولكن الله تعالى يقول إنه سوف يأتي يوم تستولون فيه على مكة ولن تعانوا من أي مشكلة في الحج والعمرة.

وأخيرا يقول إن إلهكم إله واحد لا معبود سواه.. هو الرحمان الرحيم.. فأنشِئوا صلتكم به ولا تخافوا كثرة الأعداء، فإن الله يريد أن يوطد توحيده في العالم، ويريكم تجليات من رحمانيته ورحيميته.

[1] معناها مقبرة أهل الجنة.. جعلها سيدنا المهدي بقاديان كمدفن للصلحاء من أتباعه فقط، الذين يضحون على الأقل بعُشر أموالهم لنصرة الدين، مع اتصافهم بالصلاح والتقوى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك