مراد رجال أولي التقوى

فالنور.. الذي هو الأمر الفارق بين خواص عباد الله وبين عباد آخرين.. هو الإلهام والكشف والتحديث، وعلوم غامضة دقيقة تنـزل على قلوب الخواص من عند الله. وكذلك قال :

وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ˜.

وأنت تعلم أن الذين يصِلون مقاماتِ الكمال من الاتقاء وخوفِ هجر الرب، لا يبقى لهم همٌّ واهتمام في فكر الرزق الذي هو حظّ الجسم.. أعني الخبز واللحم وأنواع الطعام والشراب والألبسة، بل ينهضون لاكتساب الأموال الروحانية، ويُجذَب قلبهم وروحهم وشوقهم إلى المولى، وإلى رزقٍ يزيد لهم يقينا ومعرفة ويُدخلهم في الواصلين. ولا يريدون الدنيا وشهواتها ولذّاتها، وما كان أعظم مراداتهم الدنيا ولا أن يأكلوا ويشربوا ويُتلفوا أعمارهم في الخَضْم والقَضْم، ويعيشوا كالمترَفين. فالرزق الذي هو مُرادُ رجالٍ أُولي التقوى إنما هو فيوض الغيب من الكشف والإلهام والمخاطبات، ليبلغوا مراتب اليقين كلها، ويدخلوا في عباد الله العارفين. فقد وعد الله لهم وقال:

وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ،

وأما الذين يظنون أن الرزق منحصر في التنعمات الجسمانية، فقد أخطأوا خطأ كبيرا، وما تدبّروا في القرآن حق التدبر، وكانوا من الغافلين.

وكذلك قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا *، أي هاتوا قلوبَهم وألقُوا فيها كلماتِ التثبيت، يعني قولوا: لا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وكمثله مِن كلمات تطمئن بها قلوبهم. فهذه الآيات كلها تدل على أن الله قد يكلّم أولياءه ويخاطبهم ليزداد يقينهم وبصيرتهم وليكونوا من المطمئنين.

وكذلك علّم الله عباده دعاء:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ،

ومعلوم أن من أنواع الهداية كشفٌ وإلهام ورؤيا صالحة ومكالمات ومخاطبات وتحديث لينكشف بها غوامض القرآن ويزداد اليقين، بل لا معنى للإنعام من غير هذه الفيوض السماوية، فإنها أصل المقاصد للسالكين الذين يريدون أن تنكشف عليهم دقائق المعرفة، ويعرفوا ربهم في هذه الدنيا، ويزدادوا حُبًّا وإيمانا، ويصِلوا محبوبهم متبتّلين. فلأجل ذلك.. حثَّ الله عبادَه على أن يطلبوا هذا الإنعام من حضرته، فإنه كان عليما بما في قلوبهم من عطش الوصال واليقين والمعرفة، فرحِمهم وأمدّ كلَّ معرفة للطالبين، ثم أمرهم ليطلبوها في الصباح والمساء والليل والنهار، وما أمرهم إلا بعدما رضي بإعطاء هذه النعماء، بل بعدما قدّر لهم أن يُرزَقوا منها، وبعدما جعلهم ورثاء الأنبياء الذين أُوتوا مِن قبلهم كلَّ نعمة الهداية على طريق الأصالة. فانظر كيف منَّ الله علينا.. وأمَرنا في أمّ الكتاب لنطلب فيه هدايات الأنبياء كلها، ليكشف علينا كل ما كشف عليهم، ولكن بالاتّباع والظلّية، وعلى قدرِ ظروف الاستعدادات والهمم. فكيف نردّ نعمة الله التي أُعِدّت لنا إن كنّا طُلباء الهداية؟ وكيف نُنكرها بعدما أُخبرنا عن أصدق الصادقين؟

(حمامة البشرى)

 

وما أدراك ما القرآن فيضاً

هـلمّ إلى كتـاب الله صدقًا

وإيمـانًا بتصـديق الجـنانِ

.

ومـا القـرآن إلا مثـلَ دُرَرٍ

فرائـدَ[1] زانَها حسـنُ البـيانِ

.

ومـا مسّتْ أكفُّ الكاشحينا

معـارفَه التي مـثل الحَـصانِ

.

به ما شئتَ مِن عـلم وعقـل

وأسـرارٍ وأبـكار المعـاني

.

يسكِّت كلَّ مَن يعـدو بضغنٍ

يبكّت كلَّ كـذّاب وجـاني

.

رأيـنا دَرَّ مُـزْنتِـه  كثـيرًا

فـدَينـا ربَّنـا ذا الامتـنانِ

.

ومـا أدراك ما القرآن فيضًا

خفـيرٌ جـالبٌ نحو الجِـنانِ

.

لـه  نورانِ نورٌ من علـوم

ونورٌ مـن بيـان كالجُـمانِ

.

كلامٌ فائق ما راقَ طرفي

جـمـالٌ بعـده والنَّـيِّرانِ

.

أَياةُ  الشمس عند سَناه  دَخْنٌ

وما  لِلَّعْـلِ والسِبْت اليمـاني

.

وأين يكون للقـرآن مِثـلٌو

ليس لـه بهذا الفـضل ثاني

.

ورِثنْا الصُّحْفَ فاقتْ كلَّ كُتْبٍ

وسبقتْ كلَّ أسفـار بشانِ

.

وكل النـور في القـرآن لكنْ

يمـيل الهـالكون إلى الدخانِ

.

بـه نلنـا تُراثَ الـكاملـينا

به سِرْنا إلى أقصـى المعاني

.

فقُـمْ واطلُبْ معـارفه بجهدٍ

وخَفْ شرَّ العواقب والهوانِ

.

وآخـر كلمـنا حمدٌ وشكرٌ

لرب محسـن ذي الامتـنانِ

(نور الحق الجزء الأول)

*  الأنفال: 13

[1] – الفرائد: الجواهر النفيسة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك