التقوى سبيل العلم
واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (البقرة: 283)

 كيف تكون التقوى هي الوسيلة للنهل من كافة العلوم التي مفاتحها بيد الله وأسرارها ما هي إلا من صنعه؟ وما الذي تصنعه التقوى في الإنسان لكي يبدأ بالإبحار في علم الله الزاخر الذي لا ينضب؟ إن هذا القانون الذي وضعه الله تعالى للعلم قد قدمه للمؤمنين في كلمات موجزة تتدفق منها معان غاية في الروعة فلنحاول الاطلاع على بعض من هذه المعاني.

التقوى في اللغة هي من الحذر والحرص، وقد أصبحت مصطلحاً إسلامياً خير ما قيل فيه ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث قال “التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل”، وهذه الكلمات الرائعة إنما تضع الخطوط الرئيسة لما يجب أن يستشعره الإنسان أو أن يفعله لكي يصبح من المتقين وفقاً لما فهمه باب مدينة العلم من مدينة العلم المصطفى كما وصفه المصطفى بنفسه.

والتقوى لا تعني مجرد الخوف من الله ومن عقابه وإنما تتضمن معنى الحرص على رضاه والاستعداد دوماً لملاقاته وكشف الحساب أمامه، والخوف هنا إنما هو من ارتكاب ما قد يغضبه ويحجب رضاه ومن أن يلقاه الإنسان وهو في حالة غير ملائمة، فبذلك يبقى الإنسان حريصاً على أن يفعل أي شيء يزعزع علاقته بالله.

وكذلك فإن الإنسان إن كان حريصاً على عدم فعل ما يوتر علاقته بالله فهو كذلك سيكون حريصاً على فعل كل ما يرضيه لتدوم هذه العلاقة وتزدهر، وبذلك فإن التقوى إنما هي منظومة من الأفكار والأحاسيس والسلوكيات التي يتوجب على المؤمن أن يستشعرها ويفكر بها ويسلكها كي يحصل على رضى الله الذي فيه سعادته وطمأنينته، ويكون في ذلك حذراً من كل ما يغضب الله وحريصاً على فعل كل ما يرضيه، وهذه الحالة تشابه إلى حد بعيد حالة المحبة بين الناس، فنجد أن المحبين يحرصون دوماً على تجنب ما يغضب أحباءهم وعلى فعل ما يرضيهم وهم يكونون دوماً خائفين من أن يبدر منهم ما قد يؤذي هذه العلاقة أو يدمرها، والخوف هنا هو نوع من الخوف يطلق عليه لفظ “الخشية” وهو خوف إرادي يتولد في داخل الإنسان بإرادته، أما الخوف الحقيقي فهو إحساس لا إرادي يتولد في الإنسان عندما يواجه ما يرعبه من الظواهر الطبيعية أو المخلوقات أو الحوادث وقد أوجده الله في الإنسان ليتجنب الأذى وليحافظ على بقاءه قدر الإمكان، وقد استخدم النص القرآني لفظ “الخوف” فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه مع أن الخوف أصلاً هو أمر لا إرادي أوجده الله لكي يحافظ الإنسان على كيانه المادي كما قلنا وكأنه أراد بذلك أن يقول للناس أنه عليكم أن تستشعروا الخوف من الله إن كانت لكم حياة روحية، لأن الخوف إحساس يحض على المحافظة على الحياة فإن كانت لكم حياة روحية فإنكم ستستشعرون عظمة الله وستخافون من غضبه لذلك فستحرصون على ألا تقعوا في مهالك روحانية، وإن كنتم أمواتاً روحانياً فإنكم لن تشعروا بهذا الشعور، فعليكم إذاً أن تولدوا هذا الشعور في داخلكم إن كنتم تريدون نصيباً في الحياة الروحانية.

أما فيما يتعلق بالتقوى فهي لا تعني الخوف فقط والرهبة من الله ومن عقابه وإنما تعني الرغبة في القرب من الله وفي إرضاءه، وما الخوف والخشية إلا جانب منها، وإن كان الخوف هو الإحساس الذي يدفع إلى المحافظة على الحياة الروحانية فإنه غير قادر على تطوير هذه الحياة والارتقاء بها بينما هذا ما تفعله الرغبة التي تدفع الإنسان إلى مواصلة هذه الطريق والصبر عليها.

ولقد بين القرآن الكريم أن لباس التقوى إنما هي خير لباس أنزله الله للناس حيث تقول الآية الكريمة:

يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (الأعراف: 27)

حيث تبين أن لباس التقوى إنما هو لباس يواري العيوب ويظهر الإنسان في أحسن حلة، فكيف يمكن أن يكتسي الإنسان بهذه الكسوة وكيف له أن يرتدي هذه الحلة؟

إن الخوف من الله وبالتالي اتباع الأوامر واجتناب النواهي إنما هو أول الطريق لارتداء هذا اللباس ويكون ذلك بمثابة ستر العورة ومواراتها ولا يرتقي ذلك إلى مرتبة الريش الذي هو من مظاهر الفخامة في اللباس والمبالغة في التزين، فباتباع الأوامر واجتناب النواهي يبدأ المشوار، وعندما تحدث الله عن لباس التقوى وعن العورات التي من الواضح أنها عورات معنوية وليست مادية إنما أراد أن يفهمنا الحياة الروحية بمماثلتها ومشابهتها بالحياة المادية، فإن الإنسان الذي لا يلبس أي قطعة من اللباس يكون في إحدى الحالات التالية إما وليد جديد، أو من يتطهر ويغتسل، أو الميت المسجى، وإذا قارنا هذه الحالات بالحالات الروحية فإن الوليد الجديد لا بد له من لباس يواري عورته لكي يبدأ الحياة وبعد ذلك عندما يكبر بالتدريج سيتم إحسان اللباس وإتمامه له، كذلك فالذي يريد أن يغسل ذنوبه عليه أن يواري عورته أولاً بلبس ما يستر العورة ثم يكمل لباسه، أما الميت روحانياً فهو لا يستطيع أن يرتدي شيئاً ويبقى عورة ليس له من التقوى من نصيب، لذلك فمن بدأ هذه الطريق عليه أولاً أن يستر عورته ثم يأتي إكمال اللباس فيما بعد.

أما المرحلة الثانية والتي ترتقي من مرحلة ستر العورات والعيوب إلى مرحلة ارتداء الريش أي إتمام اللباس وإحسان التزين فتتوجب على العبد المؤمن أن يستشعر حب الله وأن يرغب في أن يكون أكثر قرباً منه وأن يبدأ بالتفكير والابتكار في  فعل ما يرضي الله وفي ترك ما قد يؤثر سلباً على صلته به وكذلك أن يحاول ابتكار الوسائل التي قد تؤدي إلى توطيد علاقته به، وعندئذ يصبح الإحسان سجيته ويصبح كأنه يرى الله وينظر في وجهه بحيث أنه يستشعر أن هذا الفعل يرضيه وهذا الفعل لا يرضيه وهذا يزيده قرباً وهذا قد يدفع علاقته بالله إلى التراجع وهكذا.

كذلك بين القرآن الكريم في موضع آخر مفهوماً أشمل للتقوى حيث بين بأنها خير زاد للإنسان حيث تقول الآية الكريمة:

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (البقرة: 198)

وحيث أن الزاد يعني الطعام وعدة السفر والإقامة ولوازم الحياة في حلها وترحالها إذن فالتقوى هي الغذاء والكساء والمؤونة للحياة الروحية، أي أنها ببساطة كل ما يلزم للبقاء في هذه الحياة، وكما نعلم فإن الزاد هو شيء يتم استهلاكه فلا بد من التزود منه باستمرار لكي تستمر الحياة لذلك سمي زاداً فلا بد من صنع طعام يومياً ولا بد من شراء لباس جديد وتغيير وسيلة النقل وتجديد دهان البيت مثلاً كلما اقتضت الحاجة، لذلك فإن التقوى ليست لباساً فقط يرتديه الإنسان ويقف عند هذا الحد وإنما طعام ومؤونة لاستمرار الحياة الروحانية، لذلك فقد ذكرت الآية السابقة بأن التقوى هي زاد بل هي خير زاد يتزود به الإنسان بينما تحدثت الآية التي سبقتها عن لباس التقوى ولم تقل أن التقوى ما هي إلا لباس وإنما قالت أن لباس التقوى هو خير لباس روحي يبدأ الإنسان بعده حياته الروحية مما يبين أن هذا اللباس من ضمن هذا الزاد.

إن الإنسان إذا وصل إلى هذه المرحلة وإذا ارتدى لباس التقوى وتغذى منها وتزود منها فإنه سيبدأ عند ذلك بالسير بخطوات ثابتة على طريق العلم مصدقاً للآية الكريمة ووفقاً لما فطر الله الإنسان عليه، ولكن كيف ذلك؟

إن الله تعالى هو مصدر العلم وهو خالق كل شيء وهو المهيمن القادر الذي لا ينازعه أحد في حكمة، وهو الذي أبدع كل شيء خلقه وما أسرار الكون إلا قوانينه التي وضعها وما خفاياه إلا ما صنع وأبدع، فمن آمن بذلك فقد وضع أول قدم على هذه الطريق الطويلة التي تنقسم إلى شقين الشق الأول هو طريق العلوم الروحية والشق الثاني هو طريق العلوم المادية، وسنتحدث أولاً عن طريق العلوم الروحية التي هي أساس العلوم ومن سلكها فإن طريقه نحو العلوم المادية تكون سالكة مذللة، بينما نجد أن العكس ليس صحيحاً، إذ أن العلوم المادية قد يسلك المرء طريقها بنجاح وإن لم يكن له حظ في العلوم الروحية ولكن طريقه هذه تكون شاقة طويلة وتتخللها عقبات قد تعيقه إلى الأبد في الوصول إلى غايته لأنه قد يكون غير مؤهل للسير في هذه الطريق، أو أنه في كثير من الأحيان سيكون كالأعمى الذي يتلمس طريقه على غير هدى ودون مساعدة، وهذا ما سنتطرق إليه في الحديث عن باب العلوم المادية.

ولنعد الآن إلى الشطر الأخير من الآية الكريمة التي هي أطول آيات القرآن الكريم والتي تدعى بآية “الدين” والتي تتحدث عن الدين والتجارة وحقوق الناس وكيف يمكن ضمان وصول الحقوق إلى أصحابها، ونلاحظ أن هذا الشطر إنما هو خاتمة هذه الآية والذي يؤكد في ذلك السياق أنه بالتقوى سيعلمكم الله كيف تصونون حقوق غيركم وحقوقكم في الأمور التي لم ينص عليها صراحة في الآية مما قد يستجد من ظروف وطرق معاملات، وتؤكد الآية أن الله بكل شيء عليم أي عليكم بالتقوى وعندئذ سترون كيف سيفتح الله عليكم أبواب العلم، وعلينا هنا أن نحاول فهم ماذا تفعل التقوى بالإنسان بحيث يصبح قادراً على الحكم بالعدل فيما يواجهه وكيف يصبح قادراً على أن يعطي الحق لأصحابه ولو كان الحق عليه وهو المكلف بأدائه، فماذا تصنع التقوى في الإنسان؟

إن المصطفى الذي لم ينل حظاً من العلوم الدنيوية ولم يعلمه معلم من دون الله قد نال ما نال نتيجة وصوله إلى أعلى مراتب التقوى، فقد عرف الله وقدّره حق قدره فكان ما يقوله إنما هو كلام الله وما يفعله إنما هو ما يأمر به الله، ولقد صقل قلبه وطهره فأصبح عرشاً لله فأنزل الله على قلبه القرآن الكريم الذي هو أكمل وحي لله على أكمل المتقين

إن التقوى كما أوضحنا سابقاً إنما هي عماد الحياة الروحانية وزادها وبوجودها يصلح حال الإنسان وتستوي أموره ويحافظ على حياته، فبها يستطيع أن يتجنب الخبيث وأن يخاف منه وأن يرغب في الطيب ويتزود منه، وبها يكتسب حواس جديدة تجعله مؤهلاً للإبحار في محيط العلم الذي هو جزء من الغيب، إن الغيب لا يعني فقط الأنباء المتعلقة بالمستقبل وإنما يتضمن كل ما كان موجوداً وغاب عن إدراك الناس ولم يعرفوه، والعلم إنما هو رحلة في عالم الغيب هذا الذي يحتاج إلى أدوات ومواصفات لا بد من توافرها لإدراك كل ما غيب عن الناس، وفي العلوم الروحية فإن وجود التقوى والتي تتضمن الإيمان والاستقامة والنزاهة وهذه الأمور تورث الشفافية فيستطيع أن يحكم على الطيب والخبيث والحسن والرديء والمحبذ والمكروه بما تقبله نفسه وما ترفضه، فبذلك لا يعود بحاجة إلى الفتاوى لكي يعلم بأن هذا الأمر طيب أو أن هذا الأمر خبيث أو أنه عليه أن يقوم بهذا العمل أو لا يقوم لأن ميزان التقوى في داخله يجعله يحسم الأمور باتجاه الطيب وما هو أقرب للتقوى، وحول ذلك ورد في الحديث الشريف قول المصطفى :

“استفتِ قلبك واستفت نفسك، ثلاث مرات. البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك” (مسند الإمام أحمد/ مسند الشاميين)

فكل إنسان يعلم في قرارة نفسه أن ما يسأل عنه أو ما يطلبه هو من حقه أو هو أقرب للحق والعدل أم لا، إن هذا الميزان الذي تضبطه التقوى وتصونه وتحافظ عليه إنما قد أوجده الله في فطرة الإنسان حيث يقول الله تعالى:

بل الإنسان على نفسه بصيرة *ولو ألقى معاذيره (القيامة: 15-16)

والتزود من التقوى إنما هو الإمعان في صيانته وضبطه كي يبقى على درجة عالية من الحساسية والشفافية.

ومن الملفت للنظر أن الإفتاء قد شاع في أيامنا هذه، ونشأت دور الإفتاء في البلاد الإسلامية ونشأت مناصب ووظائف منها “مفتي الديار” و”مفتي القوات المسلحة” وما إلى ذلك بينما لم تكن هذه المناصب معروفة سابقاً، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على نقص التقوى، حيث يلجأ الناس إلى من يستفتونهم ليس للعلم وإنما لكي تطمئن قلوبهم بما فعلوا من أمور مشتبهة أو لكي يحصلوا على مؤازرة الدين ورجالاته وتأييدهم لأفعالهم وأقوالهم ولكي يتخذوا ذلك ذريعة وحجة في إقناع من يلونهم.

وعلى الإنسان أن يتقي الله ما استطاع وأن يبذل جهده في التخلص من “اللمم” وهي صغائر الأمور التي تشوبها الشكوك ولا يطمئن لها القلب وهذا أمر يتم بالتدريج ويكون الله تعالى مع العبد في هذه الطريق ليهديه إذا أراد العبد ذلك. وإذا قطع الإنسان شوطاً في طريق التقوى فعندئذ سيصادف مكافئات من الله تعالى على تقواه فبماذا يكافئه الله؟

قال تعالى:

إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (يوسف: 91)

ومن يتق الله يجعل له مخرجا* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً (الطلاق: 3-4)

ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (الطلاق: 5)

ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا (الطلاق: 6)

والله ولي المتقين (الجاثية: 20)

واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (البقرة: 195)

إن المؤمن عندما يُكافأ وهو في هذه الطريق بتيسير الأمور بالرزق من حيث لا يحتسب وبالفرج من كل ضيق وبالمخرج من كل أزمة حتى وإن ظن أن لا مخرج فالله يفتحه ويهديه إليه إنما يكون في هذه الطريق يتلقى بركات وفيوض من الله لا تكون لسواه، فالله تعالى عندما يرزقه إنما يرفع سويته أولاً ويؤهله لهذا الرزق، والرزق الروحاني هو ما ذكره القرآن الكريم وما كان يجده زكريا عند مريم عليها السلام وهي في غرفتها دون أن يعلمها أحد من الناس شيئاً منه وإنما كان نتيجة لتقواها وإحسانها وإحصانها، وهذا الرزق إنما يناله الإنسان من الله مباشرة حيث أن الله تعالى ينشئ عند الإنسان حواس جديدة تستشعر الخير والعدل والعلم منه تبارك وتعالى الذي هو مصدرها، وإن التقوى إنما غايتها أن تنقي القلب لكي يصبح مستعداً لاستقبال كلمات الله وعلمه، وعندما يرتقي الإنسان أكثر فأكثر في هذه الطريق يصبح ما يرضي الله يرضيه وما يريده الله هو يريده وما يأمر به الله إنما هو ما يتبادر إلى ذهنه فالله هو الحق المطلق والله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى فلا يمكن أن يأمر الله بفحشاء أو إثم أو بغي، فالإنسان هنا ليس بحاجة إلى فتوى من أحد لكي يعرف الحق فلقد أصبح قلبه عرشاً للحق جل وعلا.

إن المصطفى الذي لم ينل حظاً من العلوم الدنيوية ولم يعلمه معلم من دون الله قد نال ما نال نتيجة وصوله إلى أعلى مراتب التقوى، فقد عرف الله وقدّره حق قدره فكان ما يقوله إنما هو كلام الله وما يفعله إنما هو ما يأمر به الله، ولقد صقل قلبه وطهره فأصبح عرشاً لله فأنزل الله على قلبه القرآن الكريم الذي هو أكمل وحي لله على أكمل المتقين، وعلمه من منابع علمه التي لا تشوبها شوائب ولا تختلط بها أهواء أو شعوذات من بني البشر، فكان المصطفى معلماً للبشرية، حيث تجد الدنيا بأسرها تجمع على أنه قد سبق عصره فيما قد جاء فيه، ويصفونه بأنه عبقرية فذة وعقلية متميزة ظهرت في العصور الوسطى وقدمت للبشرية مبادئ المساواة والحق والعدل في زمن كان يغرق العالم فيه في الظلمات، وكذلك فإن النجاح الباهر الذي حققه في جمع العرب وتوحيدهم في سنوات محدودة وجعلهم أكبر قوة على وجه الأرض في ذلك الزمان وكذلك نشوء مناخ من السلام في ظل دولة الإسلام في رقعة كبيرة من العالم القديم ومن ثم ازدهار العلوم وارتقاء نمط الحياة والنمو الاقتصادي الذي حققه العالم في تلك الفترة ما زال كل ذلك مثار بحث وإعجاب، ويعزون ذلك كله إلى فكره وعقليته وعبقريته الفذة وإن كانوا ينكرون نبوته عليه الصلاة والسلام، إن نموذج المصطفى في العلم بطريق التقوى لهو نموذج حي ما زال يتدفق ليعطي البشرية من بركات الفيض الإلهي.

ولقد كان سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود والذي لم يكن له معلم سوى المصطفى نموذجاً حياً آخر في النهل من العلم الإلهي، لقد تميز حضرته بالتقوى ولم يماثله أحد في ذلك من أمة الإسلام وذلك باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء ففتح الله عليه أبواب علمه وأرشده إلى اقتفاء أثر المصطفى وإلى حسن اتباعه لينال بعضاً مما ناله، فكان أن بين للناس كثيراً من الأمور المختلطة عليهم وهو لم يكن فقيهاً في اللغة العربية ولم يتخرج من جامعة إسلامية، وبدأ الله تعالى يهديه إلى ينابيع علمه ويسقيه حتى فجّر ثورة في المفاهيم الإسلامية ألقت بكل عوالق الأزمنة الغابرة من الجهل والضعف والفساد التي عاشها المسلمون جميعاً من علوم لم يستطع السابقون أن يأتوا بمثلها ومع أن كثيراً من المسلمين لم يؤمنوا به حتى الآن إلا أن العقلاء منهم لا يملكون إلا أن يحنوا رؤوسهم إعجاباً بما قد جاء به من فكر وفلسفة أغنت الدين الإسلامي وفتحت له آفاقاً جديدة، ولقد تفجرت منه عيون من لطائف لغة القرآن بعد أن علمه الله إياها فأصبح  يكتب ويتحدث ويخطب بالعربية بما لا يستطيع جهابذة اللغة من العرب أن يأتوا بمثله، وما زال التحدي قائماً حتى الآن، كل ذلك كان نتيجة اتباع طريق التقوى، فانظروا إلى أي مدى يمكن أن يصل الإنسان على هذه الطريق.

أما فيما يخص العلوم الدنيوية فإن التقوى تعتبر أفضل وسيلة يمكن أن تصقل العالم والمتعلم لكي يصل في بحوثه إلى النتائج الصحيحة في أقل وقت ممكن، إن اللباس الذي أنزله الله لكي يستر الإنسان عورته ثم يحسن زينته يجعل الإنسان في مكانة يستطيع أن يفهم الأمور على حقيقتها وأن يستنتج منها الاستنتاجات الصحيحة وأن يسخرها فيما ينفع الناس، إن العلم الدنيوي إنما هو جزء يسير وجانب صغير من العلم الإلهي مهما عظم ومهما ازدهر، وإن التقوى التي تجعل الإنسان قادراً على تلقي العلوم الروحية من مصدرها العظيم إنما تجعل باب تلقي العلوم الدنيوية شيئاً يناله الإنسان تلقائياً فيما لو اجتهد قليلاً في ذلك لأنه مؤهل لما هو أعظم منه من أسرار العلم والغيب، ولتتبع أثر التقوى في العلم للنظر إلى بعض مراحل البحث العلمي ومتطلباته، إن أول مراحل البحث العلمي هو:

الملاحظة:

إن ملاحظة الظواهر والمظاهر الطبيعية إنما هو الخطوة الأولى على طريق البحث العلمي، وإذا كان الباحث تقياً فإنه سيكون مؤمناً بالله مدركاً بأن الله هو من أوجد هذا الكون وهو علة كل شيء وكل ظاهرة في الكون إنما تكون مرتبطة بسبب ولا بد أن يكون لها منافع كما أن لها مضار فلا يوجد ضرر مطلق لأن الله إنما سخر هذا الكون لكي يستمر، ولا بد أن يكون هنالك سبب وغاية جيدة وراء كل شيء.

كذلك فإن الباحث بإيمانه بالإله الواحد الأحد فإنه لن يزوغ ذهنه إلى أفكار وخرافات وشعوذات حول الظواهر ليعزوها إلى شيء أسطوري مثلاً، فلقد شاع في القديم مثلاً اعتقاد بعض الأقوام بأن خسوف القمر إنما هو نتيجة ابتلاعه من حوت عظيم، وكذلك اعتقد البعض بأن الأرض محمولة على قرن ثور وعندما يريد أن يضعها على القرن الآخر تحدث الهزات الأرضية، إن المؤمن المتقي المقدر الله حق قدره يكون متجرداً من هذه المعتقدات منكراً لها متحرراً منها لذلك فإنه سيبدأ بالسير في الاتجاه الصحيح في البحث عن العلة، دون أن تُقيده الاعتقادات السخيفة أو تمنعه الأهواء السقيمة. أما ثاني مراحل البحث العلمي فهي:

التجربة والاختبار:

لقد حث القرآن الكريم على البحث والتجريب وبين أن بعض الأمور الصغيرة قد تكون مفتاحاً لكشف أمور عظيمة ومن ذلك قوله تعالى:

قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق (العنكبوت: 21)

كذلك فقد بين القرآن أن طريق البحث مفتوحة ولا بد أن يصل الإنسان إلى النتيجة المرجوة لأن الله قد ذلل الدنيا ويسر مسالكها ليتحصل الإنسان على الرزق ومن أهم وأعظم الرزق هو العلم، يقول تعالى:

هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (الملك: 16)

إن كل من يدرك ذلك يكون مقبلاً نحو البحث والتجريب والسعي نحو كشف أسرار العلم في نشاط منبعه ذلك اليقين، أما ثالث مراحل البحث العلمي فهو:

الاستنتاج:

إن التقوى التي تصلح كيان الإنسان كما أوضحنا سابقاً وتضبط ميزان الحق والعدل فيه تجعله قادراً على الاستنتاج القريب من الحقيقة والمنطق والصحة والبعيد عن السخف والترهات التي تعيق الفكر والعلم، فهو نتيجة تقواه وإيمانه الراسخ بإله هو الحق المطلق تجده يندفع في استنتاجه إلى ما يراه حقاً ولا يمنعه في ذلك مانع، بعكس من تحكمهم الأفكار السخيفة حيث تجدهم يجعلون لفكرهم سلطة على العقل والمنطق فماذا سيفعل العقل إن توقف عند حدود.

إن المؤمن الحق يجعل المقدر الله حق قدره  لا يخشى من العلم على ربوبية الله كما اندفع الكثير من السخفاء ليعلنوا عند بروز قضية الاستنساخ التي صادفت صدى واسعاً في العالم حيث جهر بعض من يدعون بعلماء الدين بالقول أن الاستنساخ إنما هو تدخل في قدرة الله وعبث بها، وكأن قدرة البشر أصبحت تطال الله تعالى ونحن علينا أن ندافع عن الله والعياذ بالله ممن قد بدأوا يخلقون ما يخالف مشيئته والعياذ بالله، إن هذه الأقوال التي تنطلق من جهل هؤلاء الناس بالذات الإلهية ومن عدم تقديرها حق قدرها إنما تسيء إلى الدين وتوقف مسيرة العلم الذي يجب أن ينظر إليه كأي شيء آخر يمكن أن يؤخذ منه ما ينفع الناس وما يضرهم والتقوى هنا تكون في أخذ النافع وترك الضار وليس في الدفاع عن الله في مواجهة من هم ليسوا أنداداً لله وإنما هم ممن يسعون لاكتشاف أسرار العلم التي أتاحها الله وإنهم إن أخذوا بما يضر فهم سيجنون على أنفسهم وسيخربون بيوتهم بأيديهم، إن الله تبارك وتعالى إله قادر لا يمكن أن تطاله أيدي البشر ولا يمكن لهم أن يتدخلوا في قدرته ومن اعتقد بغير ذلك فقد مال ميلاً عظيماً.

وهنا وفي هذا المعرض لا بد لنا أن نتناول بعض المتطلبات التي يجب أن يتحلى بها العالم والتي تندرج في روحها تحت باب التقوى ومنها أولاً:

الأمانة العلمية:

إن الأمانة العلمية بمفهومها المجرد الشامل هي صفة يجب أن تتوفر في المؤمن المتقي ولا يمكن أن يستقيم إيمانه وتقوم تقواه إلا على هذه الركيزة فلذلك فإن الأمانة العلمية هي شرط لا بد من توافره عند المؤمن المتقي.

إن الغربيين عندما أرادوا أن يضعوا قواعد للعلم جعلوا الأمانة العلمية شرطاً يجب توفره في الباحث وهو من الأخلاقيات التي تعاقب عليها القوانين أيضاً، فيجب على الباحث أن يكون أميناً صادقاً في بحثه لا ينسب ما هو لغيره له ولا يدفعه إلى إخفاء بعض الأمور أو تضليل الناس أي دافع وإنما يكون مخلصاً للعلم صادقاً أميناً وهذه السمة هي من أهم سمات المتقين، فالمتقي كما نعلم صادق أمين. ومن هذه المتطلبات أيضاً:

التجرد والموضوعية:

يجب على الباحث أن يكون متجرداً موضوعياً في بحثه بحيث أنه لا يدع الأفكار والمعتقدات السخيفة تؤثر على هذا البحث أو تحرفه أو توقفه، إن الكثير من المعتقدات تعيق العلم وتكون بمثابة عقبات في وجهه نتيجة قصور هذه المعتقدات وسخافتها، ولقد كان دور الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا دوراً عظيماً في إغراقها في السبات وفي إعاقة مسيرة العلم والقصص المشهورة عن “جاليليو” و”كوبرنيكوس” وغيرهما خير دليل على ذلك، ولم تبدأ أوروبا في التقدم إلا بعد أن ألقت بهذه المعتقدات جانباً وأمنت ووضعت قداسة للعلم لا تستطيع أن تطالها المعتقدات.

وفي البلاد الإسلامية إنما يغرق المسلمون في الجهل والتخلف نتيجة انحرافهم عن الإسلام الصحيح وابتعادهم عن التقوى واعتقادهم بمعتقدات يظنون أنها من الإسلام، وما هي إلا وليدة الأفهام المغلوطة التي تقف في وجه العلم والتقدم ولا يزال لها سطوتها في كثير من البلاد الإسلامية.

إن الإسلام الحقيقي الذي يجرد الإنسان من العبودية لغير الله والذي يقوّم شخصية الإنسان ويجعله موضوعياً فعالاً والذي يحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات لهو المناخ الأمثل للعلم وهذا ما أثبته تاريخ الإسلام وما سيظهر في المستقبل الذي نأمل أن يكون قريباً إن شاء الله.

ومن متطلبات العلم أيضاً:

أخلاقيات العلم والتسخير للخير والمنفعة:

إن العلم الذي هو هبة من الله تعالى لا بد أن يتحلى بأخلاقيات تجعله مسخراً للمنفعة ولدفع الضرر وليس للضرر وإيذاء البشر واستغلالهم أو استعبادهم والسيطرة عليهم، وهذه النقطة هي النقطة التي ما تزال ناقصة لدى الأمم الغربية حالياً والتي لو توافرت لشهد العالم بأجمعه ازدهاراً عظيماً، حيث أنهم يسخّرون العلم في حالات عديدة للقتل والتدمير والضرر وإن كانوا في بعض الحالات يسخرونه للنفع ولكنهم ينطلقون في المنفعة من منطلق تحقيق النفع لهم ولمن والاهم، إن المؤمن المتقي لا يمكن أن يسعى إلى إيذاء الناس وضررهم بما آتاه الله من العلم وإنما يسعى إلى نفعهم تقرباً إلى الله الذي هو بكل شيء عليم والذي يقدر أن يزده علماً، إن المتقي لا يمكنه أن يضر البشرية لأنه يخشى الله ويرى الخلق كلهم على أنهم عيال الله لا يمكن أن يتفضل هو عليهم أو أن يسلبهم حقوقهم وأموالهم وخيراتهم لكي يهنأ هو ويهلكون هم، إن المتقي لا يمكن أن يرى في تعاسة الناس وذلهم سعادة له وعزة، فهو لا يرضى إلا بما يرضي الله ولا يسعى إلى الظلم وهو عبد الله العادل المقسط.

وفي البلاد الإسلامية إنما يغرق المسلمون في الجهل والتخلف نتيجة انحرافهم عن الإسلام الصحيح وابتعادهم عن التقوى واعتقادهم بمعتقدات يظنون أنها من الإسلام، وما هي إلا وليدة الأفهام المغلوطة التي تقف في وجه العلم والتقدم ولا يزال لها سطوتها في كثير من البلاد الإسلامية.

ومما يجدر ذكره أن الأمم الغربية إنما حققت تقدماً علمياً رائعاً لأنهم اتبعوا الأسس الصحيحة في البحث العلمي وتحلوا بكثير من المتطلبات اللازمة لذلك، ولكنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه بعد مشوار طويل شاق بدأ منذ القرن الخامس عشر واستمر وإن كان قد حقق قفزات هائلة حديثاً إلا أن هذه الفترة كانت طويلة نسبياً مقارنة بالفترة التي تقدم فيها المسلمون وخدموا العلم وأوصلوه إلى أعلى الدرجات في العصور الوسطى مما جعل الطريق ممهدة أمام الأوروبيين، وكل ذلك بسبب أنهم كانوا يتحلون بالتقوى فكانت السبل التي يسلكونها قصيرة منارة بنور الله، إن التقوى بالإضافة إلى أنها تجعل الإنسان معداً ليبدأ مشواره في طريق العلوم المادية حيث أن كل المواصفات والمتطلبات تكون موجودة عنده تلقائياً، فإنها أيضاً تضيف شيئاً هاماً جداً ألا وهو الصلة بالله الذي يستطيع أن يهديه في طريق البحث هذه وأن يدله على المسالك الصحيحة وأن يجعله يستنتج الاستنتاجات الصحيحة التي لم تخطر بباله والتي لم يعرفها سابقاً، وهذا وفقاً لما وعد الله به المتقين في الآيات السابقة بأن ييسر أمورهم وأن يهديهم وأن يكون معهم وأن يجعل لهم مخرجاً وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، إن العلم الذي هو جانب من الغيب كما أوضحنا سابقاً لا بد أن تكون هنالك أدوات غيبية للنهل منه بالإضافة إلى الأدوات المادية وإلا لاستطاع كل الناس أن يصلوا إلى كل العلوم بكل بساطة إذا كانوا في نفس المستوى من التعليم والثقافة، وهذا ما لم يحدث مطلقاً، وبذلك فإن الباحث في العلوم الدنيوية دون معونة الله المباشرة يفوته الكثير، فالله هو مصدر العلم وهو من يطلع من يشاء على علمه وهو من هو بكل شيء عليم وكل شيء عنده خزائنه، فشتان بين من سلك الطريق وحيداً يتخبط في الظلمات وشتان بين من سار على العلم وهدى وكتاب منير.

إن معجزة الإسلام في الوصول إلى أقصى درجات الازدهار في العصور الوسطى في سنوات معدودة لهو دليل على أن المسلمين كانوا يسلكون طرقاً مختصرة جداً في الوصول إلى الحقائق العلمية في كل مجالات العلوم، وهذا الأمر لا يتحقق إلا بهدي إلهي توفر لهم باتباعهم طريق التقوى فهي خير زاد للبشرية وهي بوابة الخير العميم التي أرشد الله البشرية إليها فطوبى لمن اتقى والله مع المتقين، وقل: رب زدني علماً.

Share via
تابعونا على الفايس بوك