إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

حوانيت الأعراض

مع مرور الزمن وتراكم السنين، نحاول جميعاً التقاط الأنفاس، والنظر إلى الوراء لنستعيد تلك الومضات الساحرة، المنبعثة من تلك الأقلام المخلصة، التي زينت صفحات الأدب والبلاغة، بتراث أدبي ينعش الذاكرة والفؤاد. وتستعيد (التقوى) مع قارئ اليوم بعضاً من تلك الإبداعات الفريدة. وموعدنا اليوم مع مقتبسات من كتابات الأديب الراحل مصطفى لطفي المنفلوطي.

أنا لا أستطيع أن أتصور الفرق بين رجل يمد يده إلى خزانة بيتي فيسرق مالي، وبين آخر يمد لسانه أو قلمه إلى شرفي فيستلبه، كلاهما مجرم فاتك، وكلاهما لص مغتال، وإن كان أولهما في نظر القانون وفي عرف الناس أكبرهما إثماً، وأسوأهما أثراً.

المال خادم من خدام الشرف، وحاجب من حجابه والوقوف على بابه، ولولا مكان الشرف، والكلف بصيانته، والضن به أن يعبث بجوهره عابث. ما كان لامرئٍ في هذا المعدن الصامت أرب أكثر من أن يقيم به صلبه. ويمسك به حوباءه، فإن كان سارق المال مجرماً من حيث كونه هاتكاً لذلك الحجاب المسبل دون الشرف، فجدير بمن يسرق الشرف نفسه أن يكون رأس الجانين وأكبر المجرمين.

يكون للرجل من الصحفيين مثلاً ـ عند الرجل من كرام الناس وسراتهم وذوي السيرة الصالحة فيهم مأرب من المآرب التي لا يعرف لنفسه فيها حقاً ولا يمت إليها بسبب من الأسباب الظاهرة أو الباطنة، فما هو إلا أن يمتنع عليه حتى يرميه بسهم جارح من سهامه النافذات، يصيب به مقتلاً من شرفه وكرامته، ولا ذنب له عنده إلا أنه لم يكن من لحيته يلف عثنونها على يده ثم يقوده بها إلى حيث شاء كما تقاد السائمة إلى مصرعها.

يحب الرجل المجد حباً يملأ ما بين جوانحه، ويكلف به حتى يصبح آثرعنده من نفسه التي بين جنبيه، ويقضي لكلفه به وحرصه عليه سواد ليله يساهر الكوكب حتى ينحدر إلى مغربه، وبياض نهاره يساير الشمس حتى تغرب في حمأتها، ويقيم بينه وبين شهوات نفسه ونزعات قلبه حرباً عواناً يحمل في سبيلها ما لا يستطيع أن يحمله بشر، حتى إذا أمكنه المقدار منه وبدأ ينهل أول نهلة من مورده البارد العذب، رآها ممزوجة بذلك العلقم المر الذي صبه له في إنائه ذلك المجرم الأثيم.

إن بين جدران بعض تلك القاعات التي يسمونها “إدارات” قوماً مفاليك قد دارت عليهم الأيام دورتها، وسلبتهم المواهب التي يعيش بها أمثالهم، ممن ولد مولدهم ونشأ منشأهم. فضاقت بهم سبل العيش التي ما كانت تضيق بهم لو أن الله أبقى لهم بعد أن سلبهم فضيلة الفهم والعلم فضيلة العمل الصالح والسيرة المستقيمة، فلم يجدوا بين أيديهم منفذاً ينفذون منه إلى القوت، فتحوا حوانيت للاتجار بأعراض الناس وكرامتهم سموها صحفاً، وأكثر مشتملاتها أعراض الأشراف والعظماء وأرباب الجد والعمل، الذين سبقوهم إلى فردوس السعادة، وخلفوهم وراءهم يتأكلون غيظاً لحرمانهم مما أفاض الله عليهم. فهم إن فتشت عنهم، وكشفت عن دخائل نفوسهم، علمت ألا فرق بينهم وبين أولئك الفوضويين الذين يدينون بقتل الملوك والأمراء، وأستغفر الله، فللفوضويين رأي في تلك الجرائم يرونه، وفكرة خاصة يعتقدون صحتها، بل هم كقطاع الطريق الذين يهاجمون الغادين والرائحين ولا ذنب لهم عندهم إلا أنهم مزودون وهم مقفرو الأيدي من الزاد.

ولقد يكون خطبهم سهلاً ومصابهم محتملاً، لو أنهم صرحوا عن أنفسهم وأبدوا للناس صفحات وجوههم، وطلبوا قوتهم من طريق الكدية الواضحة البينة، ولكنهم مراءون مخادعون، يشتمون باسم الموعظة ويقرضون الأعراض باسم النصيحة، ويتهمون الأبرياء باسم الغيرة الدينية أو الأدبية، ووالله ما بهم من أدب ولا دين، ولا عظة ولا نصيحة، ولكنهم قوم محددون، قد بلغت الفلاكة منهم مبلغاً، وضاقت بهم الأرض الفضاء على رحبها، فهم يروّحون عن نفوسهم بالنيل من شرف الشرفاء، وتنغيص لذة السعداء.. ويطلبون قوتهم فيما بين هذا وذاك من يد تلك الفئة الساذجة التي لا تستطيع أن تفرق بين الكاتب الذي يكتب ليقوّم معوجاً، أو يصلح مختلاً، أو يرفع بدعة باطلة، أو يكشف عن حقيقة خافية، وبين الآخر الذي يدور مع الدينار دورة الحرباء مع الشمس، لا يفارقه حتى تفارقها، والذي لا يلذه شرب الماء إلا ممزوجاً بدم. ووالله ما أدري ما الذي أقامهم هذا المقام وعهد إليهم هذا العهد، ومن الذي وكّل إليهم النظر في شؤون الناس والفصل في قضاياهم، والقيام على حسناتهم وسيئاتهم وما هم بالبررة الأتقياء الذين يَصلحون أن يكونوا أمثلة حسنة في منازلهم، فيكونوا قدوة صالحة في أمتهم، ولا بالعلماء الفضلاء فنهتدي بهداهم، ونستن بسنتهم، ولا بالصادقين المخلصين فنتعبد بإجلالهم وإعظامهم، بل ليس لواحد منهم فضل الصانع في مصنعه، أو التاجر في حانوته، أو العامل في معمله، فيصلح أن يكون حكماً في قضايا الأشراف والنبلاء، وميزاناً لحسناتهم وسيئاتهم. وعندي أن لو جمعت عيوب الناس جميعها في كفة ميزان، ووضعت في الكفة الأخرى عيوبهم الجامعة للسفاهة والكذب والنميمة والتجسس، وهتك الأعراض، واتهام الأبرياء، واستهواء الضعفاء، لثقلت كفتهم أمام كفة الذين يزعمون أنهم يقوّمون معوجهم ويثقفون من منآدهم، ويصلحون ما فسد من شؤونهم.

(النظرات، الجزء الثاني)

Share via
تابعونا على الفايس بوك