في عالم التفسير
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (البقرة: 49)

 شرح الكلمات:

اتّقُوا: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (هُدًى للمتقين).

يومًا: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (مالِكِ يومِ الدين).

لا تجزي: الجزاء: المكافأةُ على الشيء. جزى الشيءُ: كفى (المحيط).

جزيتُ فلانا حقَّه: قضيتُه… وتأتي جَزَى بمعنى أَغْنَى (اللسان).

فمعنى “لا تجزي نفس”: 1- لا تقوم نفس مقام أخرى؛ 2- لا يستطيع أحد تأديةَ واجبات غيره.

شفاعة: مصدرُ شفَع. ويقال شفَع شَفْعًا. والشفعُ ضمُّ الشيء إلى مِثله. والشفاعة الانضمامُ إلى آخر ناصرًا له أو سائلاً عنه، وأكثرُ ما يُستعمل في انضمامِ مَن هو أعلى حُرمةً ومرتبةً إلى مَن هو أدنى (المفردات).

وشفع الصلاةَ أو العددَ: صيّره شفعًا، أي زوجا، أي أضاف إلى الواحد ثانيًا وإلى الركعة أخرى. يقال: كان وِترًا فشفعه بآخر، أي قرَنه به. وشُفِعَ لي الأشخاصُ، أي أرى الشخصَ شخصين لِضُعف بصري. وشفَع له أو فيه إلى فلان شفاعةً: طلَب أن يعاونه. وشفَع لفلان في المطلب: سعى. وشفَع لي بالعداوة: أعان عليَّ… والشفاعة: السؤالُ في التجاوز عن الذنوب من الذي وقعت الجناية في حقه. قيل: ولا تُستعمل إلا بضمّ الناجي إلى نفسه مَن هو خائف مِن سطوة الغير (الأقرب).

عدلٌ: العدل: ضدُّ الجَوْر؛ المِثلُ؛ النظيرُ؛ الجزاء؛ الفداء؛ النافلة (الأقرب).

التفسير:

في الآية دَحْضٌ لمعتقدات عند بني إسرائيل كانت تشجّعهم على المعاصي، وتحرمهم من الحسنات. كانت طوائف مختلفة من بني إسرائيل تظن ما يلي: (1) أن أحدًا ممن سواهم سوف يتحمل عبء ذنوبهم، (2) وأن الأبرار منهم سوف ينقذونهم بشفاعتهم لهم، (3) أن فيهم بعض الحسنات هي أكثر من سيئاتهم، وستكون فديةً لذنوبهم ويستحقون بها الجنة. وتدحض الآية أفكارهم هذه ليعرفوا المفهوم الحقيقي للحسنات، فلا يهلكوا بإنكار الحقائق.

ولفهم هذه الآية يجب أن نعرف أن الفطرة الإنسانية مجبولة على حبّ نيل المراتب الروحانية العليا. وهذا الإحساس تجاه الكمال موجود، بشكل أو بآخر، حتى في القبائل البدائية غير المتحضرة، سواء كانوا من الزنوج الأفارقة أو الهنود الحمر المكسيك أو سكان أستراليا الأصليين. ويوجد هذا الإحساس في بعضهم بصورة واضحة وفي بعضهم بصورة مبهمة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الإحساس الفطري بأسلوب لطيف جدًّا في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف:173-174).

تتضمن هذه الآية استعارة لطيفة بأن كل إنسان يخرج من ظهر آبائه، أي يولد، حاملاً أثرَ التوحيد، ثم بعد ذلك يصبّغه أبواه بصبغة الشرك. فلو لم يجعل الله تعالى في فطرة الإنسان أثر التوحيد هذا لكان له عذر في الوقوع في الشرك، ولكن الله تعالى أقام الحجة على كل إنسان بأن غرس في فطرته الاعتراف بالتوحيد قبل مولده، فلا يستطيع الاعتذار بالجهل، أو بتأثير آبائه فيه. وهذا الأثر الفطري نجده في كل قوم وفي كل قبيلة، فالإنسان منذ الأزل يسعى للفوز بالقرب من خالقه، مما يدل على أن هذه الرغبة توجد في فطرته، ولم تأت من خارجه.

ولكننا مع ذلك نرى أن الإنسان يلتمس طرقًا سهلة لنيل هذا المرام، كسلاً منه أو غفلة. أما المتأثرون بالفلسفة فيحاولون تحقيق هذه الرغبة الفطرية بالمنطق التالي: بما أن الله تعالى قد خلقنا في خضم هذه الظروف الدنيوية، فلا يتوقع منا إلا أن نعيش مواطنين طيبين؛ ولو حققنا هذا الغرض فقط فقد أدينا كل ما ألقى الله علينا من واجبات ومسؤوليات.

أما غيرهم فيحاولون في زعمهم إجابة هذا النداء الرباني بتقديم تضحيات مؤقتة شتى، وقد تبدو للناس تضحياتهم جسيمة، ولكنها في الحقيقة لا تمثّل إلا القليل التافه بالقياس إلى التضحية الواجبة الحقيقية. فمثلاً يلجأ بعض الناس -تهربًا من الجهد والكفاح- إلى قطع أعضاء أجسادهم، بدلاً من اتباع سبل الخير الدائم، وإصلاحِ النفس ليل نهار، وسلوكِ الطريق الوعر بقمع الأهواء، ويحسبون أن هذا يغنيهم عن التضحية الكاملة غير المنقطعة التي فرضها الله على الناس لنيل الطهارة الحقيقية. فمنهم من يقطعون العضوَ المثير لهذه الرغبات، عجًزا منهم عن كبح ميولهم الشهوانية، وبعضهم يقطعون ألسنتهم بسبب ضعف عزيمتهم عن الامتناع عن الغيبة والنميمة والكذب وفحش القول، وبعضهم يفرون إلى الغابات والجبال لعدم قدرتهم على ذكر الله تعالى في مشاغل محيطهم، وبعضهم يعيشون عراةً ظانين أنهم يضحّون هكذا براحتهم في سبيل الله تعالى، وبعضهم يعلّقون أنفسهم في وضع مقلوب أداءً لحق الله عليهم، وهذا مما نراه عند الهندوس!

إن هذه الطرق كلها ليست إلا فرارًا من الواجبات الحقيقية المجدية. فلو أن الله تعالى جعل تكميل الإنسان متوقفًا على هذه الأعمال، فلماذا خلّقه بفطرة تحب التمدّن؟ إذا كانت الرهبانية، أي الامتناع عن الزواج، من سُبُل الخير حقًا، فهذا يعني أن سبيل كمال الإنسانية هو في إفناء الناس. وهذا باطل بالبداهة. إذا كانت الرهبانية ذريعة لكمال الحياة الإنسانية، لوجب أن يكون كل الناس متبتلين مترهبين ليصبحوا من الكاملين. ولو تبتلوا جميعًا لقُضِي على البشر في جيل واحد.

يقول البعض: ليست الرهبانية وسيلة للكمال، وإنما الكُمَّل هم الذين يترهبون. والحق أن هذه فكرة باطلة بالبداهة، لأن ذلك يعني انقطاع نسل الكُمَّل واستمرار نسل الناقصين. إن الناس ينتخبون الحيوانَ الكامل الأصيل من بين الخيل والماشية والجمال وغيرها لإنتاج نسلها وتكاثرها، وهذا ما يفعلونه من أجل الحصول على الإنتاج الجيد للنباتات والفاكهة والزهور والمحاصيل والخضراوات وغيرها. السؤال هنا: لماذا نتّبع هذا الأسلوب في إنتاج النبات الجيد والحيوان الجيد، بينما نسمح للسلالات الناقصة من البشر بإنتاج الذراري الضعيفة، تاركين السلالة الجيدة متبتلةً وبدون إنتاج؟ لن يقبل هذه الفكرة إنسان عاقل.

لا شك أن بعض الشعوب كانوا يقدّمون أولادهم قرابينَ لله تعالى استرضاءً له أو تجنبًا لغضبه، وتوجد أمثلة لذلك في كل البلاد تقريبا، ومن أجل القضاء على هذه العادة أمَر الله تعالى سيدنا إبراهيم في الرؤيا بالتضحية بابنه، لتعرف الدنيا قوةَ إيمانه، وكذلك ليمحو الله بذلك هذه العادة محوًا أبديًّا. وفي بعض الأمم كانوا يقبضون على المجرمين أو الأجانب ويقدّمونهم قرابين لله تعالى. وكل هذه الأفكار غير طبيعية ولا معقولة، وقد تولدت نتيجة عدم إدراك الناس صفاتِ الله من جهة، وبسبب عدم فهمهم نقاء الفطرة الإنسانية من جهة أخرى. ولو أنهم أعملوا عقولهم لعرفوا أن هذه ليست الطريقة السليمة لتكميل الروحانية، وإنما سبيل ذلك هو الحذر الدائم من الأهواء السيئة، وجهاد النفس بدون انقطاع، والتوجه المستمر إلى الله تعالى للاستعانة به في ذلك.

وإذا كانت هذه الأفكار الخاطئة منتشرة في أقوام لم يكن لديهم علمٌ مفصل عن الدين، فإن أتباع الديانات اخترعوا هذه الطرق الثلاث الواردة في الآية المذكورة آنفًا، تسكينًا لضمائرهم، وفرارًا من الكفاح الحقيقي من أجل الكمال الروحاني. ولا أعني بذلك أن هذه الأفكار لا توجد لدى الأمم التي ليست عندها شريعة كاملة، كلا بل إنها أيضًا تغطي أهواء نفوسها في ستار هذه الأفكار؛ ولكن أتباع الديانات التفصيلية يهتمون بها أكثر من الكفاح الحقيقي ضد أهواء النفس.

والخطاب في الآية مُوَجّه أصلاً إلى بني إسرائيل الذين كانوا منقسمين إلى طائفتين: اليهود والنصارى. وقد رسخت هذه الأفكار بينهم في زمن الانحطاط عندما اندرس فيهم مفهوم الخير الحقيقي. فبدلاً من الحذر والتنبه الدائم إلى دسائس الشيطان والسعي الدءوب للتقرب إلى الله تعالى مدفوعين بحبه ليل نهار، ظنوا أنهم لو صرفوا النظر عن الشرع والمنهج السماوي فلا ضرر في ذلك، فهم سينالون النجاة على أي حال، إما بكفّارة قدّمها أسلافهم حسب زعمهم، أو بفضل شفاعتهم لهم، أو بسبب نسبهم العريق، أو بسبب التضحيات المالية التي يقدّمونها في الدنيا.

والآن، أقدِّم تعاليمَ اليهود والنصارى حول كل واحد من هذه الأمور الثلاثة، لأبيّن كيف أخطأت هذه الأمم وانحرفت عن جادة الصواب.

فأوّلُ فكرةٍ خاطئةٍ نشأتْ بين اليهود والنصارى -ولا تزال باقيةً فيهم وقد دحَضها القرآن الكريم في هذه الآية- هي أنّ أحدًا آخَر سيكون كفّارةً لخطاياهم، فينجون مِن تبعاتها. وقد نَمَتْ هذه الفكرة بينهم نتيجة القرابين، أعني أنهم لما ضعفت فيهم روح التقوى بدأوا يظنون أن القرابين التي فرَضها عليهم دينُهم للفت أنظارهم إلى ضرورة التوبة من الذنوب، هي الكفّارة الحقيقية لذنوبهم؛ فقد قال موسى :

 {وَيَضَعُ هَارُونُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ الْحَيِّ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلِّ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ، وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ، وَيُرْسِلُهُ بِيَدِ مَنْ يُلاَقِيهِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، لِيَحْمِلَ التَّيْسُ عَلَيْهِ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ إِلَى أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ، فَيُطْلِقُ التَّيْسَ فِي الْبَرِّيَّةِ.} (اللاويين 16: 21-22)

 وقال أيضًا: {وتيسًا واحدًا ذبيحةُ خطيّةٍ للتكفيرِ عنكم.} (العدد 28: 22)، أي بالإضافة إلى أضاحي أخرى، قدِّموا تيسًا واحدا كفّارةً لذنوبكم، فيمحو كل خطاياكم.

لا شك أن هذه كانت أوامر من موسى ، ولكن لا يصح القول، بالنظر إلى تعاليمه الأخرى لبني إسرائيل، أن تضحية التيس أو العجل كفّارةٌ تمحو خطايا الإنسان؛ إذ يقول موسى في موضع آخر:

{«وَهذِهِ هِيَ الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضُ وَالأَحْكَامُ الَّتِي أَمَرَ الرَّبُّ إِلهُكُمْ أَنْ أُعَلِّمَكُمْ لِتَعْمَلُوهَا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا، لِكَيْ تَتَّقِيَ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَحْفَظَ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ وَوَصَايَاهُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا، أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنُ ابْنِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ، وَلِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ.} (التثنية 6:‏1 -2‏)

ويضيف قائلا:

{«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ. وَلْتَكُنْ هذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلاَدِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ، وَحِينَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ، وَارْبُطْهَا عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ، وَاكْتُبْهَا عَلَى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلَى أَبْوَابِكَ.} (التثنية 6:‏4 -9‏)

ويقول أيضًا:

{وَاعْمَلِ الصَّالِحَ وَالْحَسَنَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ لِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ}. (التثنية 6: 18‏)

لقد تبين من هنا أن موسى كان يؤكد بشدة على تطهير القلب وفعل الخيرات والتمسك بالتوحيد والعمل بأحكام الشرع، حتى إنه كان يوصي بنشرها باللسان والكتابة وتلقينها للآخرين، حيث يقول: احتفظوا بها بالكتابة على الجدران والأبواب. هل بعد كل هذه التعاليم يمكن أن يتصور أحد للحظة واحدة أن موسى كان يرى أن التضحية بتيس واحد تمحو كل خطايا قومه جميعا؟! إذا كان محو الذنوب بهذه السهولة فما الحاجة للحث على العمل بأحكام الشريعة بهذه القوة والحماس، بل ما كانت هناك الحاجة لإنزال الشريعة على الناس أصلاً؟

يدحض القرآن الكريم هنا هذه الفكرة الباطلة محذرًا اليهود أنهم سيقفون أمام الله تعالى يومًا لا تجزي فيه أيُّ أضحيةٍ بتيْسٍ عن نفس، أي عن أيِّ يهودي، بل لا تنفعه يومئذ إلا طهارة نفسه. فلم يكن الغرض من تعليم موسى لليهود التضحية بتيسٍ أو غيره على ارتكاب خطأ إلا أن يكون رمزًا للتضحية بأهواء النفس وشهواتها، ولكن اليهود مالوا إلى التكاسل معرضين عن التعاليم الحقة، واعتبروا هذا التمثيل أصلاً، تاركين الأصل الذي هو طهارة النفس، ومكتفين بقربان التيس. وقد تركزت فكرة الكفارة هذه في طباع بني إسرائيل بحيث إن الملك البابلي بختنصر لما هدم الهيكل في أورشليم حيث كانوا يقدمون قرابينهم أصابَهم الهلع وظنوا أنه لم تعُدْ لديهم وسيلة لغفران الذنوب. ووصلت شدة الصدمة بكثير منهم حتى تهرّبوا من الدنيا وترهّبوا (الموسوعة اليهودية: ج 1). وصرخ يومئذ عالمهم الكبير يوشع بن حنانيا قائلا: “واحسرتاه! كيف تتم الآن كفارة سيئاتنا!” (المرجع السابق).

لقد بينت آنفًا أن موسى ما كان يعني أن قربان تيس يصبح كفارة للذنوب، إنما كان هدفه أن يوجه أنظارهم بذبح التيس إلى ذبح أهواء النفس. ولما كان القوم في ذلك العصر مولعين بالرسوم واللغة التمثيلية، جعل الله فيهم تقليد قربان تيس لبيان موضوع ذبح النفس الأمارة، لكي يهتم القوم كلهم إلى ضرروة التطهر من ذنوبهم في يوم معين، ولكنهم نسوا المغزى وتمسكوا بالظاهر. والصدمة التي أصابت اليهود بهدم الهيكل جعلت أنبياءهم يشرعون في معارضة أفكارهم الخاطئة هذه، ويبيّنون لهم أن ذنوب الإنسان لا يحملها ثور ولا تيس. فقال النبي هوشع:

{اِرْجِعْ يَا إِسْرَائِيلُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ، لأَنَّكَ قَدْ تَعَثَّرْتَ بِإِثْمِكَ. خُذُوا مَعَكُمْ كَلاَمًا وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ. قُولُوا لَهُ: «ارْفَعْ كُلَّ إِثْمٍ وَاقْبَلْ حَسَنًا، فَنُقَدِّمَ عُجُولَ شِفَاهِنَا.} (هوشع 14: 1-2).

 هنا يوضح هوشع لليهود أن العجل أو التيس لا يكون كفارة للذنوب، وإنما هو التوبة والتسبيح والتحميد التي تنجي الإنسان من تأثير الإثم. ليس العجل ولدُ البقرة، وإنما العجلُ المتولد من لسان التائب، هو الذي يمثّل كفارة حقيقية.

وقبل هوشع بسنين نبَّهَ النبيُ عاموس إلى خطر الاعتماد على هذه القرابين الظاهرية، فقال:

{إِنِّي إِذَا قَدَّمْتُمْ لِي مُحْرَقَاتِكُمْ وَتَقْدِمَاتِكُمْ لاَ أَرْتَضِي، وَذَبَائِحَ السَّلاَمَةِ مِنْ مُسَمَّنَاتِكُمْ لاَ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. أَبْعِدْ عَنِّي ضَجَّةَ أَغَانِيكَ، وَنَغْمَةَ رَبَابِكَ لا أَسْمَعُ. وَلْيَجْرِ الْحَقُّ كَالْمِيَاهِ، وَالْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ.} (عاموس 5: 22 – 24).

وقال النبي إشعياء:

{لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. الْبَخُورُ هُوَ مَكْرَهَةٌ لِي. رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّبْتُ وَنِدَاءُ الْمَحْفَلِ. لَسْتُ أُطِيقُ الإِثْمَ وَالاعْتِكَافَ. رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حَمْلَهَ مْلَها}.

 وأضاف أيضًا:

{اِغْتَسِلُوا. تَنَقَّوْا. اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ. هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ.} (إِشَعْيَاءَ 1 : 13-18)

ويقول النبي ميخا:

{بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلهِ الْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُول أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ، بِرِبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟ قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ.} (ميخا 6: 6 إلى 8).

تبين هذه الفقرات أنه كان لدى اليهود اعتقاد راسخ بأن القرابين تكفّر ذنوبهم، وأن عديدًا من أنبيائهم حاولوا صدّهم عن هذه العقيدة، وبيّنوا لهم أن الله تعالى لا يرضى بالأضاحي من التيوس والعجول والبكر من الأبناء، بل هناك طريقة واحدة للوقاية من مغبّة سيئات الإنسان، هي أن يتوب باللسان والقلب، ويعود إلى فعل الخير والصلاح ثانية، فيغفر الله له ما تقدم من ذنبه.

ولكن أثر هذا التعليم لم يبق فيهم طويلا، حيث خفَّ تعظيم قرابين الحيوانات من قلوبهم، ولكنهم اخترعوا كفارة أخرى، فقالوا بأن ما تحمَّله كبار صلحائهم من أذى، سيكون كفارة لذنوبهم، وإذا خلا زمن ما من هؤلاء الأبرار فإن الله تعالى يكفّر عنهم ذنوبهم بإهلاك مواليدهم الأبرار. فقد ورد في كتب اليهود: “الجيل الذي لا يوجد فيه الأبرار والصالحون يذهب الرب منهم بأطفالهم الأبرار” (الموسوعة اليهودية، ج 1).

وينبه القرآن الكريم هنا اليهود أنهم لم تُغْنِهم نفسٌ؛ سواء أكانت نفسَ تيس من أنعامهم، أو نفسَ رجل من صلحائهم، أو نفسَ طفل من أبنائهم. وهذا ما أكد عليه أنبياؤهم من قبل.

وأما الفرع الثاني من بني إسرائيل، وهم النصارى، فتأثروا بنفس الفكرة اليهودية، وبنوا عليها عقيدة الكفارة. فهم يؤمنون أن المسيح صار كفّارة لخطاياهم بموته على الصليب، ويظنون أن تعاليم موسى بذبح تيس قربانًا عن ذنوبهم تتضمن في الواقع نبأً بمجيء المسيح، بمعنى أن هذه القرابين توجّه أنظارهم نحو كبش للرب -أي المسيح – سيأتي ويموت كفّارة لذنوب بني آدم. ودليلهم أن الكبش لا يقدر على حمل ذنوب كل الدنيا، ولكن ابن الله تعالى قادر على حملها! وينفون زعم اليهود القائل بأن ما تحمَّله صلحاؤهم من أذى سيكفّر عن ذنوبهم قائلين: إن أسلافهم أنفسهم كانوا ملوثين بالخطيئة؛ والخاطئ لا يستطيع حمل خطيئة غيره، أما المسيح فكان بلا خطيئة، وبالتالي فهو قادر وحده على حمل خطايا البشر. يقولون لقد صُلب المسيح لا لذنب جناه، وإنما لأجل ذنوب الآخرين. لقد ورث البشر الخطيئة من أبيهم آدم، وكان المسيح بلا أب، فلم يرث شيئا عن آدم وكان بلا خطيئة، فصار أهلاً ليكون كفارة لذنوب البشر.

ولقد أيد بعض المسلمين -بسبب جهلهم- المسيحيين في عقيدتهم هذه؛ إذ قالوا: ليس هناك أحد لم يمسّه الشيطان إلا المسيح وأمه، وهكذا خطوا خطوة أبعدَ من النصارى. فهؤلاء يعتبرون المسيح وحده منزهًا عن الخطيئة، ولكن المسلمين ضمُّوا إليه أمَّه أيضًا. وكأنه لم يوجد نبي سواه لم يمسّه الشيطان، نعوذ بالله من هذا القول!

إن النصارى لم ولن يقدّموا قولاً واحدا للمسيح قال فيه إنه معصوم من الإثم، أو أن موته على الصليب كفّارة لخطايا الآخرين، لأن هذا الاعتقاد ينافي تعاليم المسيح تماما. وحتى لو كان في أناجيلهم قول للمسيح بهذا المعنى فلا اعتبار له، لأن أناجيلهم الحالية مصابة بتحريف شديد.

إنهم يقدّمون أقوالاً للحوارين في هذا الصدد منها:

  1. قول بولس: }إن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب{ (الرسالة الأولى لأهل كورنثوس 3:15).
  2. وقوله أيضًا: }يسوع نراه مكلّلاً بالمجد والكرامة مِن أجل ألم الموتِ لكي يذوقَ بنعمةِ الله الموتَ لأجلِ كلِّ واحد{ (رسالته إلى العبرانيين 2: 9).
  3. وأيضًا: }لكي يكون رحيمًا ورئيسَ كهنةٍ أمينًا في ما لله حتى يُكفِّر خطايا الشعبِ{ (المرجع السابق: 17).
  4. وأيضًا: }المسيح افتدانا مِن لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لأجلنا، لأنه مكتوبٌ: ملعونٌ كلُّ مَن عُلِّق على خشبةٍ{ (رسالته إلى غلاطية 3: 13).

بهذه الأقوال وغيرها يستنتج المسيحيون أن المسيح كان بلا خطية، ولكنه مات ميتةَ اللعنة إذ علق على الخشبة ومات، فثبت أن موته لم يكن لنفسه، بل مات للآخرين ليكون كفارة لخطاياهم.

وكما سبق أن ذكرت، إن هذه العقيدة المسيحية تولدت عن نظرية كانت فاشية في اليهود زمن انحطاطهم الروحي حين ظنوا أن ما يتحمله صلحاؤهم من مشاق ومصائب يكفّر ذنوبَ سائر بني إسرائيل، ولكن عقيدة المسيحيين هذه مخالفة لما ورد في الإنجيل نفسه حيث يقول المسيح : {ومَن لا يأخُذ صليبَه ويتْبَعُني، فلا يستحقّني} (متى 10: 38). والمعنى نفسه موجود في الأناجيل الأخرى بكلمات أخرى. فتبيّنَ مِن هنا أن المسيح لا يعتبر صلْبه سببًا لنجاة البشر، بل يجب على كل إنسان أن يُصلب على صليب نفسه، لينال النجاة.

وتدحض عقيدةَ الكفارة أيضًا أحوالُ موسى الذي أسّس السلسلة الموسوية، وقد أعلن المسيحُ بأنه جاء لتجديد وإقامة تعاليم موسى. فقد جاء في التوراة أنه عندما ذهب موسى إلى الجبل أربعين ليلة، واتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجل إلهًا لهم، ثار عليهم غضب الرب وأراد أن يهلكهم قائلا:

{«رَأَيْتُ هذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ، فَأُصَيِّرَكَ شَعْبًا عَظِيمًا»} (الخروج 32: 9-10).

ورجع موسى إلى قومه وغضب عليهم لعملهم الوثني وقال لهم:

{«أَنْتُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ خَطِيَّةً عَظِيمَةً، فَأَصْعَدُ الآنَ إِلَى الرَّبِّ لَعَلِّي أُكَفِّرُ خَطِيَّتَكُمْ».} (اَلْخُرُوجُ 32: 30)

وتحكي التوراة:

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ، وَقَالَ: «آهِ، قَدْ أَخْطَأَ هذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ، وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ». فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَنْ أَخْطَأَ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي} (المرجع السابق: 30 إلى 33).

فهنا لم يقل الله تعالى لموسى : أنت مخطئ لكونك من بني آدم، وأنّى لمخطئ أن يصير كفّارة للمخطئين الآخرين، بل قال الله له: }مَن أخطأَ إليَّ أمحوه من كتابي{. وهذا الجواب يدل على أن الله تعالى لا يعاقب أحدًا بذنب غيره، وإنما سنّته تعالى ألا يعاقب إلا المذنب. فمع وجود هذا التعليم يقول النصارى أن المسيح صُلب كفارةً لذنوب قومه، معارضين بذلك تعاليم الكتاب المقدس.

ورب قائل يقول إن هذا التعليم التوراتي نُسخ زمن المسيح .

والرد على ذلك أن هذه السنّة الإلهية حقيقة أزلية، والحقائق الأزلية لا تُنسَخ. قد تتبدل الأحكام المتعلقة بالناس، ولكن سنن الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل.

أما الأدلة التي يبني عليها المسيحيون الكفّارة والفداء فهي أيضًا باطلة عقلاً ونقلاً. فمثلا يقولون إن الإنسان ورثَ الخطيئة من آدم، فلا يستطيع أن يتخلص منها، أو بعبارة أخرى: إن فطرة الإنسان ملوثة بالخطيئة. وهذا الزعم يفنّده القرآن الكريم حين يعلن: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (التين:5)، أي لا شك أننا قد خلقنا الإنسان مزودا بقوى لا عوج فيها البتة. ويقول النبي : “كلُّ مولد يولد على الفطرة” (البخاري، كتاب الجنائز). فكل إنسان يولد بروح طاعة كاملة.

والعجيب أن النصارى يدَّعون من جهة أن الإنسان لا يستطيع التغلب على الخطيئة الموروثة مِن جدّه الأكبر آدم، ولذلك دعت الحاجة إلى كائن مولود بلا أبٍ للكفارة عنها، ومن جهة أخرى يدّعون أن الشخصين الوحيدينِ اللذَين لم يرثا الخطيئة من أحد -أي آدم وحواء- كلاهما مخطئ! إذا كانا مخطئين فكيف نجزم إذن أن مَن لم يرث الخطيئة يكون بارًّا وبدون خطيئة؟ هذا القول لا يثبت إلا إذا وُجدت أمثلة عديدة لأشخاص لم يرثوا الخطيئة ومع ذلك كانوا أبرارا، ولكن يرى النصارى أنه كان هناك شخصان اثنان لم يرثا الخطيئة من أحد ومع ذلك كان كلاهما مذنبًا، أي آدم وحواء، أما الشخص الثالث فهو المسيح . فادعاؤهم بأنه لم يرث الخطيئة لأنه مولود بغير أب تحكُّمٌ ومكابرةٌ ليس إلا، لأن المولود لا يرث من قوى أبيه فقط، بل أيضًا من قوى أمه. لا ندري من هذا الأحمق الذي وسوس إلى قلب مخترعِ هذه النظرية أن المولود يرث من قوى أبيه فقط. إن المولود يكون حينًا على صورة أبيه وحينًا على صورة أمه، وتارةً يرث من قوى أبيه أكثرَ من قوى أمه، ويحدث العكس أيضًا، وأحيانًا يرث قدرًا متقاربًا من الوالدين. فكيف يصحّ القول أن المسيح لم يرث الخطيئة لأنه بدون أب؟ لقد وُلد من بطن السيدة مريم، وورث منها خصائصها، والمرأة وارثة للخطيئة مثل الرجل في عُرف النصارى، بل تقول التوراة إن الشيطان قد أغوى آدم بواسطة حواء (التكوين 3 :1 إلى 7)، وهذا يعني أنه وجد المرأة أكثرَ ميلا نحو الخطيئة من الرجل، ولذلك اتخذها ذريعة لإغواء آدم. فالمولود الذي وُلد وارثًا ضَعْفَ حواء وحدَها كان أقربَ إلى الخطيئة من الذي يولد من أبوين.

أما المسيح فيرى في نفسه غيرَ ما يقول النصارى عنه. فقد ورد في الإنجيل أن شخصًا جاءه وناداه:

{«أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ:«لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ} (متى 19: 16-17).

ويتضح من هنا أن المسيح لا يعتبر نفسه صالحا. فكيف يسوغ إذن اعتباره الصالحَ الوحيد، ثم تأسيسُ عقيدة الكفارة على ذلك؟

وأقول هنا بكل أسف: عندما اعترض مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية على عقيدة الكفّارة والفداء مستشهدًا بقول المسيح هذا، سارعَ المسيحيون إلى تحريف هذا النصّ في بعض الطبعات الجديدة كالأردية مثلا، مع أنه كان بحسب اعتقادهم جزءًا من الإنجيل منذ تسعة عشر قرنا. وكانت حجتهم بعد هذا التحريف أن الترجمة السابقة كانت خطأً، وقالوا لم يقل المسيح: لماذا تدعوني صالحا، وإنما قال: لماذا تسألني عن الصلاح؟ وللعاقل أن يسأل: كيف لم ينتبهوا لهذا الخطأ طيلة تسعة عشر قرنا، وبمجرد أن أشار إليه سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عرفوه وصححوه؟

إنه لتحريف جريء ارتكبوه في زمن قد مضت فيه على اختراع المطبعة مئات السنين، وصدرت من الأناجيل مئات الطبعات وملايين النسخ بكل اللغات، فالأمة التي تتجاسر على هذا التحريف الخطير بعد اختراع المطابع وانتشارها، يمكنك أن تتصوّر حجم التحريف الذي أدخلته في كتابها قبل ذلك؟

بَيْد أن ما قلتُه إنما قلتُه استنادًا إلى بيان الكتاب المقدس، وإلا فإن الإسلام يعلّمنا أن كلّ مولود يولد بفطرة طيبة نقية، لا سيّما رسل الله تعالى كالمسيح أو موسى أو غيرهما عليهم السلام، فكل واحد منهم كان في عصمة الله تعالى، ولم يكن للمسيح بهذا الصدد أي خصوصية.

والجدير بالذكر أيضًا أنهم يؤسّسون كفّارة المسيح على اعتقادهم بأنه اختار الموت على الصليب عن طيب خاطر لحمل خطايا الناس. وقضية موته على الصليب سوف أفصلها في موضعها من القرآن الكريم، إن شاء الله، وأكتفي هنا بالقول إنه لا يثبت من الإنجيل أبدًا أن المسيح كان قد وُضع على الصليب عن رضًا وطيب خاطر منه، ولا يثبت أيضا أنه مات على الصليب. فقد جاء في الإنجيل:

{ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ».} (متى 26: 39).

فهل يقبل العقل السليم أن الذي أتى من السماء برغبته لحمل خطايا البشر، يبكي هكذا ويخرّ على وجهه ساجدًا لكي يجد الخلاص من هذه المحنة؟‍‍

يردّ المسيحيون على هذا بقولهم إن المسيح قال أيضًا: }ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت{. فنقول لهم: إن قول المسيح هذا يدل على أنه فيما يتعلق بإرادته فلم يكن يريد هو ليصبح كفارة لذنوب الناس. فكيف والحال هذه، صار كفارةً لها؟ هل وضع الله تعالى أعباء الناس ظلمًا على كتفي شخص يأبى ذلك؟ نلحظ شدة كراهية المسيح لعملية الصلب هذه لدرجة أنه عندما عُلِّق على الصليب قال، كما ورد في الإنجيل:

{«إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟} (إِنْجِيلُ مَتَّى 27 : 46).

إن هذه العبارة تكشف بجلاء أن التأويل الذي يقدمه النصارى لقول المسيح “ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” تأويل خاطئ وباطل، لأن الإنجيل يخبر أنه لما تحققت إرادة الله تعالى وعُلّق المسيح على الصليب، فإنه بدلاً من الاستسلام لرضا الله تعالى بدأ يشتكي إلى الله تعالى صارخًا: لماذا تركتني؟

الخلاصة أن المسيح ما كان يريد أن يُصلب بحال من الأحوال. فالقول بأنه جاء إلى الدنيا لحمل خطايا الآثمين باطل تماما. لو كان المسيح جاء إلى الدنيا لهذا الغرض حقًّا، لما حاول التخلص مما يحسبه النصارى الوسيلة الوحيدة لتخليص الناس من الخطايا.

أما المسألة الثانية وهي موت المسيح على الصليب، فهناك شهادة للمسيح بهذا الصدد أوردها هنا بإيجاز. جاءه وفد من فقهاء اليهود والفريسيين وطلبوا منه أن يُريهم آية فقال:

{«جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْب الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَال.} (متى 12: 39 و40).

ودخل النبي يونس “يونان” في بطن الحوت حيًّا، ومكث في بطنه حيًّا، وخرج من بطنه حيًّا. فثبت أن المسيح أيضًا دخل القبر حيًّا، ومكث فيه حيًّا. فزعْم النصارى أنه مات على الصليب باطل، وما دام لم يمت على الصليب فقد بطلت العقيدة القائلة بأنه قَبِل الموت ليحمل خطايا الآخرين. فإما أن يكون المسيح -والعياذ بالله- كاذبًا فيما قاله عن هذه الآية، أو نكذّب هؤلاء الذين زعموا أنه مات على الصليب، ودخل القبر ميّتًا، ومكث فيه ميّتًا.

هناك أمر لطيف جدير بالذكر، فمع أن عادة التضحية بالإنسان -أي عادة قتل الناس أحدًا منهم كفارةً لذنوبهم- كانت قد أُلغيت منذ زمن إبراهيم ، إلا أن اليهود لم يكونوا قد تحرروا من تأثيرها تماما. فقد ورد في التوراة أن “يَفْتاح الجلعادي” وهو أحد رؤساء بني إسرائيل، لما خرج لقتال بني عمون، نَذَرَ للرب أنه إذا كتب له النصر فسوف يقدّم قربانًا له أولَ شخص يخرج من أبواب بيته للقائه عند رجوعه سالمـًا من المعركة. وحدث أن ابنته الوحيدة كانت أول من خرج للقائه، فقتلها وفاءً بنذره (سِفر القضاة 11: 30-39). ومثل هذه النذور تكون نوعًا من الكفارة، إذ يريدون بها محو خطاياهم التي تحول دون فلاحهم في مهمة ما.

إذًا فإعلان القرآن الكريم في الآية قيد التفسير بأنه لا يمكن لنفسٍ أن تمثُل أمام الله تعالى للحساب نيابةً عن نفس أخرى، لهو إعلانٌ حقٌّ ومنطقيٌّ، وتؤيده كتبُ اليهود والنصارى، وأقوالُ موسى وعيسى عليهما السلام. وأما ما يوجد خلافه من نظريات خاطئة لدى هؤلاء القوم فقد نشأت عندهم بسبب أهواء ورغبات باطلة. وقد ارتكبوا إهانة كبيرة في حق أسلافهم الصالحين باعتبارهم كفّارة لذنوبهم، كما فتحوا بذلك باب الإثم على مصراعيه.

الشفاعة:

والأمر الثاني المذكور في الآية قيد التفسير أنه لا تُقبَل شفاعةُ أحدٍ لأحد. وهذا أيضا تفنيد لأفكار اليهود والنصارى حول هذا الموضوع. كان اليهود يعتقدون بشفاعة النسب. لقد ظنّوا أنهم من ذرية إبراهيم فلا بد أن يشفع لهم، ولن يعاقبهم الله تعالى، وإنْ عاقبهم فيكون عقابا محدودا. وقد ذكر القرآن الكريم زعمهم هذا في قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً (البقرة: 81).

ويقول المستشرق “سيل” في ترجمته للقرآن الكريم عند تعليقه على هذه الآية: إن من مسلمات اليهود في عصرنا هذا أنه لن يدخل أحد منهم الجحيمَ، إلا “داثان وأبيرام” والملحدون، أكثرَ من أحد عشر شهرًا أو سنة على الأكثر (ترجمة سيل للقرآن).

إنني لم أستطع العثور على نص بهذا المعنى في الكتابات القديمة بسبب اندراس الكثير منها، وأما الكتَّاب المعاصرون فقد ظنوا خطأً أن اليهود كأمةٍ ينكرون البعث بعد الموت، ولذلك لم يبذلوا جهدًا لمعرفة عقائد اليهود عن الحياة بعد الموت. ولكننا نعرف من التراث الإسلامي أن اليهود كانوا يؤمنون بالبعث بعد الموت إلى زمن الرسول على الأقل. فقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وغيرها من آيات القرآن تؤيد هذا الأمر. كما توجد في الكتب الإسلامية روايات بهذا المعنى، حيث ذكر ابن إسحاق وابن جرير برواية ابن عباس أن اليهود يعتقدون بأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وبأنهم سيعاقَبون يومًا مقابل كل ألف سنة، ثم ينتهي عقابهم. وروى ابن جرير عن ابن عباس أن بعض اليهود يظنون أنهم يدخلون جهنم لأربعين يوما فقط، لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما، ما عدا داثان وأبيرام اللذين تمرّدا على موسى وهلكا، وكذلك الملحدين. (سِفر العدد 26: 9-10)

هذا الاختلاف الوارد في رواية ابن عباس عن مدة عقاب اليهود بأنها سبعة أو أربعون يومًا راجعٌ إلى اختلاف فِرق اليهود في هذا الأمر. على أية حال، تؤكد هذه الروايات أن اليهود حتى زمن نزول القرآن الكريم كانوا يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولكنهم كانوا يحسبون أنهم لن يعاقَبوا طويلا لانتسابهم إلى أبيهم إبراهيم . وقد حملوا هذا الظن قبل القرآن بقرون عديدة، لأن اليهود الذين استوطنوا الجزيرة العربية جاءوها قبل الإسلام ببضعة قرون، وهذا يجعلنا نسلّم بأن أفكار اليهود هذه التي كانت موجودة عندهم في البلاد الأخرى أيضا ترجع إلى بضعة قرون قبل الإسلام.

ولو أمعنا النظر في أسفار العهد القديم وجدنا فيها إشاراتٍ إلى الحياة بعد الموت. والحق أن أيّ دين لا يُعَدّ دينًا كاملا ما لم يقدّم التعاليم حول قضية الحياة بعد الموت، لأنها الوسيلة لتحقيق الغرض من خلق الإنسان، وإن حرمان الناس مِن تلك التعاليم يُعَدّ حرمانًا من غاية الدين. فكلُّ دين يقصِّر في بيان تعاليمه بهذا الشأن يحكم على نفسه بالبطلان.

لقد جاء في التوراة: {وقال الرب لموسى: ها أنت ترقُدُ مع آبائك} (التثنية: 31: 16). هذه العبارة واضحة في دلالتها على أن روح موسى ستكون بعد الموت مع أرواح آبائه، لأنه لم يدفن في مقابر آبائه، بل مات في البرية ولم يبق لقبره علامة يعرف بها. فقد ورد في التوراة: {ولم يعرفْ إنسانٌ قبرَه إلى هذا اليومِ} (التثنية 34: 6). فالمراد مِن رقود موسى مع آبائه هو لقاء روحه بأرواحهم بعد الموت.

وكذلك ورد في التوراة أن الله تعالى قال لموسى :

{وَمُتْ فِي الْجَبَلِ الَّذِي تَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِكَ، كَمَا مَاتَ هَارُونُ أَخُوكَ فِي جَبَلِ هُورٍ وَضُمَّ إِلَى قَوْمِهِ.} (التثنية 32: 50).

 إن هذه العبارة تدلل على الحياة بعد الموت، وتشير إلى أن الأرواح البارة تقيم معًا في مكان خاص، وإلا فما معنى الانضمام إلى الآباء بعد الموت؟

ويقول أيوب :

{فَلَمْ أَكُنْ، كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرَوْا نُورًا.} (أَيُّوبَ 3 : 16)، أي لم يُعَمَّروا.

 ثم يصفُ حالهم:

{هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغْبِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا، لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ.} (أيوب 3: 17-19)

ويقول داود مخاطبا ربَّه:

{لن تَترُكَ نفسي في الهاوية. لن تَدَعَ تَقِيَّك يرى فسادًا. تُعرِّفُني سبيلَ الحياة} (المزامير 16: 10 و11).

ويقول أيضًا:

{نَجِّ نَفْسِي مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.} (اَلْمَزَامِيرُ 17 : 13-15)

تبين كلمات داود هذه أن بعض الناس يكتفون بالحياة الدنيا، ولكن المؤمن يضع الحياة بعد الموت نُصبَ عينيه، لأنه سيحظى هناك بلقاء الله تعالى على أتمِّ وجهٍ، وتكون روحه في الحياة الآخرة على شبه الله تعالى، أي كاملةَ الصفات.

ويضيف داود مخاطبًا ربَّه: }حياةً سألك فأعطيتَه طولَ الأيام إلى الدهرِ والأبدِ{ (المزامير 21: 4).

يتبين من هذه الفقرات أنه يوجد في تعاليم موسى ومن بعده من الأنبياء عليهم السلام دليلٌ قطعي على الحياة بعد الموت. وإذا قرأنا هذه الشهادة مع الشهادة القرآنية التي هي شهادة تاريخية موثقة حتى عند المعارضين فيما يتعلق بأحوال اليهود المعاصرين للنبي على الأقل، فلا بد من التسليم بأن الباحثين من عصرنا هذا قد أخطأوا في قولهم بأن تعاليم أنبياء بني إسرائيل ليس فيها ذكر للحياة بعد الموت. الحق أن رأيهم ناتج عن قلة التدبر، ولا يستند إلى دليل. والواقع أن هذا التعليم كان موجودا في الديانة اليهودية منذ البداية، وكانوا يتعللون بأفكار وأماني يختلقونها من عند أنفسهم فرارًا من خوفهم من عقاب سيئاتهم في الآخرة. ومن هذه الأماني أنهم أولاد الأنبياء، وأنهم بشفاعتهم سينجون من عذاب الآخرة كلية أو يخفَّف عنهم العذاب، فيعذَّبون أيامًا معدودة. واللهُ تعالى ينفي هنا فكرتهم هذه ويبين أن الشفاعة ليس هدفها أن يتمادى الإنسان في الآثام، وأنكم لن تنالوا مثل هذه الرخصة أبدا، فأصلِحوا أعمالكم، ولا تفسدوا عاقبتكم، مغترين بأمانيكم التي ما أنزلنا بها من سلطان.

وربما اغترّ اليهود في مسألة الشفاعة أيضًا لأنهم أُنذروا مرارًا بعقاب سماوي، ولكن الله تعالى رفَعه عنهم بدعاء أنبيائهم، فظنوا أنه هكذا سيُفعَل بهم في الآخرة أيضا. ولكن الحياة الآخرة لا تقاس بالحياة الدنيا، لأن كشف العذاب في هذه يهيئ للإنسان فرصة للتوبة وفعلِ الخير، أما الآخرة فهي دار الحساب والحكمِ النهائي. أما لو كانت النجاة في الآخرة ستُنال كما يظنون لصارت الحياة الدنيا عبثًا محضًا.

وفكرة الشفاعة موجودة لدى النصارى أيضًا. جاء في الإنجيل:

{يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا.} (رسالة يوحنا الأولى 2: 1-2).

وهنا ينشأ سؤال: هل الكفّارة والشفاعة شيء واحد؟ وإذا كانا شيئًا واحدا، فلماذا ذُكر كل منهما على حدة؟

الكتب المسيحية صامتة عن ذلك حسب معلوماتي. الحق أن هناك فرقًا بين الكلمتين نظرًا إلى معناهما. فالكفارة تعني محوَ أثر فعلٍ بفعل آخر، أما الشفاعة فلا تدل على الفعل العوض، وإنما تعني أن يتوسط أحد لصالح مخطئ، بدون أن يقدّم الوسيط عوضًا عن خطأ المخطئ، وإنما يطلب له الغفران بناءً على علاقته بصاحب الأمر. وأرى أن النصارى لم يدركوا هذا الفرق بين الشفاعة والكفارة وخلطوا بينهما.

وموجز القول إن اليهود والنصارى كانوا ولا يزالون يظنون خطأً أن الله تعالى لن يعذّبهم، أو يعذّبهم أقلَّ العذاب بسبب أسلافهم الصالحين المقربين. وهذا مما شجّعهم على ارتكاب المعاصي، وجعلهم لا يتّجهون إلى التدبر في الحقائق الإلهية. وبكشف خطئهم هذا يسعى القرآن الكريم لإيقاذ فطرتهم النائمة ويحيي فيهم ملَكةَ التفكر في الحقائق الدينية.

لا بد هنا من إزالة سوء فهمٍ يروج له الكتّاب النصارى ضد الإسلام ومؤسسه . يقولون -استنادًا إلى هذه الآية ومثيلاتها- أن الإسلام لا يقول بمبدأ الشفاعة، وأن المسيح وحده الذي ادعى بشفاعته للناس، وأن نبي الإسلام ليس شفيعًا لأحد بحسب ما ورد في القرآن (ترجمة ويري للقرآن)، وأن اعتقاد المسلمين بكونه شفيعًا لهم اعتقاد باطل ومن بنات أفكارهم، ولا يستند إلى نصوص القرآن، وإنما إلى أحاديث ضعيفة.

والحق أن زعمهم هذا ناشئ عن سوء فهم. ولسوف أتناول موضوع الشفاعة في مكانها في القرآن الكريم، إن شاء الله تعالى، ولكني أود هنا بيان أن القرآن الكريم لا ينكر الشفاعة، وإنما يعلن بطلان الشفاعة التي يؤمن بها اليهود والنصارى. ففي هذه السورة قال القرآن الكريم:  مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (الآية 256)، وقال في آية أخرى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (الزخرف 87)،

أي هؤلاء الذين يشركونهم بالله تعالى لا يملكون حق الشفاعة لأحد، إنما يملكه عبدُنا هذا الذي يشهد بالحق، وهم يعرفون أنه ( ) الشاهد بالحق.

فثبت من هنا أن القرآن الكريم يقول بالشفاعة، وينفي فقط تلك الشفاعة غير المنطقية التي تشجّع الناس على الذنوب وتصرِفهم عن إعمال الفكر في الحقائق.

ثم إن كلمات الآية قيد التفسير نفسها تكفي لتأكيد ما نقول، إذ لم يقل الله هنا بأنه لن تكون هناك شفاعةٌ مطلقًا، بل قال: لا تُقبَل مِن أحد شفاعة، أي: لن تُقبَل الشفاعة من مجرم، وليس أنه لن تكون الشفاعة مطلقًا يوم القيامة.

أما قوله تعالى: وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فهو ردٌّ لخطأ ثالث كان يشجع اليهود والنصارى على الذنوب، إذ ظنوا أن الآثمين سوف ينجون من العقاب بتقديم عوضٍ عن أخطائهم. وهذه العقيدة موجودة عند اليهود والنصارى كليهما. وطائفة الرومان الكاثوليك من بين النصارى أشدُّ تمسكًا بهذا الاعتقاد من اليهود، فعندما يرتكب أحدهم إثمًا يذهب إلى القسيس، فيُقدِّر له عقوبة ما، فإذا أوقعها على نفسه ظنَّ بأن ذنبه قد غُفر له. وكان اليهود ولا يزالون معتادين على تقديم عوض عن ذنوبهم بالقرابين.

ولكن الإسلام لا يقبل بمثل هذا العوض عن الذنوب، وإنما مفهوم الاستغفار في الإسلام أن يكره الإنسان الإثم ويتجنّبه في المستقبل، وليس للاستغفار معنى غير هذا في الواقع. فلو قتل المرء غيره ثم أخرج صدقةً، فكيف يُغفَر له ذنبه ذلك؟ أو لو اعتكف في الكنيسة صائمًا فكيف يحصل له الغفران؟ لا شك أن الإسلام أيضًا جعل بعض الأعمال كفارةً لبعض الأخطاء، ولكنها أخطاء ذات صلة بأشكال ظاهرية للعبادة، وليس هناك أي تعليمٍ يُهضَم به حقٌّ من حقوق العباد أو حقوق الله تعالى. فمثلاً لو ترك المرء ركنًا من أركان الحج اضطرارًا أو نسيانًا، أُمِرَ بتعويضه بعمل من أعمال الخير مِن صدقة أو صيام أو نُسك. أو لو قتل المرء غيره خطأً أُمِرَ بفعلِ خيرٍ عوضًا عنه، ولا يعني ذلك أن فعل الخير هذا أزال عنه الإثم، وإنما الهدف من ذلك أن يتحقق الغرض الظاهري للعبادة بطريق آخر، أو أن يصبح الإنسان حذِرًا في المستقبل، فلا يرتكب خطأً يتضرر به الآخرون.

قوله تعالى: وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ، أي لا ينجيهم من عذاب الله تعالى أيٌّ من هذه الطرق غير المنطقية. هناك سبيل واحد للنجاة من العذاب، ذلك أن يبذل الإنسان غاية جهده لفهم الحق وقبوله، ويتبع أحكام الله تعالى بكل ما في وسعه ويلبي دعوته. فعلى اليهود والنصارى ألا يعتمدوا على طرق اختلقوها بأنفسهم، بل عليهم أن يقبلوا الحق الجديد من الله تعالى، وإلاَّ فلن تنفعهم حيلة أخرى.

وعلاقة هذه الآية بما قبلها أن الآية السابقة تقول إن الله تعالى فضَّلكم على أهل زمانكم، فكان الواجب عليكم أن تكونوا عبادًا شاكرين مطيعين له، ولكنكم على عكس ذلك تتحايلون للتخلص من طاعته، وتحاولون استغلال هذه الفضيلة لخداع من لا يعرفون.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك