مراتب العلم الثلاث

وقد قسم الله العلمَ هنا ثلاث درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ولكي يفهم عامة الناس هذه المراتب العلمية.. أضرب ثلاثة أمثلة: إذا رأى الإنسان دخانا كثيفا عن بُعد، وانتقل ذهنه من الدخان المتصاعد إلى النار المشتعلة، واستيقن وجودها هنالك قِياسا على ما يوجد بين الدخان والنار من ترابط تام غير منفَك، إذ لا بد أن تكون النار حيث يوجد الدخان.. ويسمّى هذا العلم علمَ اليقين. ثم إذا رأى لهبَ النار سُمي هذا العلم بالرؤية عينَ اليقين. وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق اليقين.

فالله تعالى يقول هنا: إنه فيما يتعلق بالجحيم فإن الإنسان يستطيع أن يعلمها علمَ اليقين وهو في هذه الدنيا، ثم إنه سيعلمها عينَ اليقين في عالم البرزخ، ثم يصل نفسُ هذا العلم إلى درجة كاملة هي حق اليقين في عالم حشر الأجساد.

 

العوالم الثلاثة

وليكن واضحا هنا أن القرآن المجيد يخبرنا بوجود ثلاثة عوالم.

العالم الأول هو الدنيا التي تسمى دارَ الكسب والنشأة الأولى، حيث يكتسب الإنسانُ الخير أو الشر. صحيح أن للأبرار في عالم البعث مجالا للرقي، إلا أن ذلك الرقي سيتيسر لهم بمحض فضل الله، ولا دخل فيه لكسب الإنسان أبدا.

 

عالم البرزخ

والعالم الثاني هو البرزخ. وكلمة “البرزخ” في اللغة العربية تعني أصلا الحاجز بين الشيئين، وقد سمي العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين النشأة الأولى وبين عالم البعث. وهذه الكلمة تطلق على العالم الوسط منذ القِدم، بل منذ أن خُلقت الدنيا. لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود العالم المتوسط. وقد أثبتنا في كتابنا “مِنَن الرحمن” أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت من فم الله سبحانه وتعالى، وأن العربية هي لغة الله القدّوس الوحيدة في الدنيا، وأنها أقدم اللغات، ومنبع جميع العلوم، وأُم الألسنة كلها، وأنها العرش الأول والعرش الآخِر للوحي الرباني. أما كونها العرشَ الأول للوحي الرباني فلأنها كانت كلامَ الله الذي لم يزل منذ القديم معه تعالى، ثم نـزل هذا الكلام في الدنيا، واتخذ أهلها منه لغاتهم. وأما كونُها العرشَ الأخير لوحي الله فلأن كتاب الله الأخير.. القرآن المجيد.. نـزل بالعربية.

فالبرزخ كلمة عربية، وهي مركبة من “بر” و “زخ”، ومعناها أنه قد انسد طريق كسب الأعمال وبات في حالة الخفاء.

والحالة البرزخية هي حالة ينحل فيها هذا التركيب الإنساني الفاني، ويتم انفصال بين الروح وهذا الجسد. وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة، كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة.. كما تدل على ذلك كلمة “زخ”.. لأن الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل وقتما كانت متصلة بالجسد. والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن، فبإصابة واحدة في جزء معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة، وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلاشى الوعي والحواس. ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم، أو حصل به انسداد للدم أو أية مادة أخرى انسدادًا تاما أو جزئيا.. أصيبَ المرء فورا بالإغماء أو الصرع. وإنَّ تجاربنا المتكررة منذ القِدم لتدل على أن روحَنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم.

 

لا بد للروح من جسم

إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح – مجرّدةً عن الجسم – ستحظى بالسعادة يوما ما. يمكن أن نقبل هذا الزعم كخرافة.. إلا أنه لا يؤيده برهان معقول. إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقا كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تماما من علاقتها بجسد ما.. مع أنها -على ما نعلم عنها- تضطرب عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد. أفلا توضّح لنا التجارب اليومية أن أن صحة الجسم ضرورية لصحة الروح؟ عندما يصبح الإنسان شيخا فانيا.. تشيخ روحه أيضا وتهرم.. ويختلس سارقُ الشيخوخة منه بضاعةَ علمه.. كما يقول الله تعالى:

لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا (الحج: 6)..

أي عندما يصير الإنسان شيخا هرِمًا يبدو – رغم دراسته وقراءته – كأنه صار جاهلا.

لذلك فمشاهدتنا تشكل دليلا قاطعا على أن الروح لا شيء بدون الجسم. ثم إنَّه لمن الأمور التي تهدي الإنسان إلى الحقيقة أنه إذا كانت الروح تستطيع القيام بذاتها بشكل مستقل عن الجسد فلماذا ربطها الله تعالى بالجسد الفاني عبثا دونما سبب؟

وجدير بالاعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز رقيًّا في هذه الحياة القصيرة بغير معونة الجسم.. فكيف يُتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟

إذن فإن هذه الأدلة كلها تبين – وفقًا للتعليم الإسلامي – أنه لا بد للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء. صحيح أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت.. ولكنها في عالم البرزخ تُعَوضُ عنه بجسم آخر.. لتذوق به جزاءَ أعمالها إلى حد ما. ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام.. وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم. هكذا جاء في كلام الله مرارا وتكرارا حيث اعتبر بعض هذه الأجسام نورانية وبعضها ظلامية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال.

إن هذا السر، وإنْ كان في غاية العمق، إلا أنه ليس مما يرفضه العقل. فيمكن للإنسان الكامل أن ينال في نفس هذه الحياة كيانا نورانيًا غيرَ هذا الكيان الجسماني. وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة من هذا القبيل. إنه من الصعب إيضاح هذا الأمر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن ينظر إلى حقيقةِ تكوُّنِ جسمٍ من الأعمال نظرةَ استبعادٍ وعجبٍ، بل سوف يجد فيه متعة ولذة.

 

تجربة شخصية

وملخص القول: إن ذلك الجسم الذي يتكون بحسب نوعية أعمال الإنسان.. هو الذي يصير في عالم البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر، وإني لصاحب تجربة في هذا الأمر. لقد حصل لي مرارا -في حالة اليقظة أن لقيتُ بعض الموتى كشفًا، ومنهم بعض الفاسقين والضالين.. فرأيت أن أبدانهم كانت مُسوَّدة وكأنها خلقت من الدخان. والخلاصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق. وأقول بكل قوة إنَّ كل واحد يُعطى حتمًا بعد الموت جسمًا، نورانيًا أو ظلاميًا، كما أخبر الله تعالى.

ومن الخطأ أن يحاول الإنسان إثباتَ هذه المعارف الدقيقة جدًّا بالعقل المجرد. فيجب أن نعرف أنه كما لا يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الأشياء الحلوة، ولا يمكن للسان أن يرى الأشياءَ.. كذلك تماما لا يمكن للعقل وحده أن يحل عقدةَ تلك العلوم الأخروية.. التي لا تحصل إلا بالمكاشفات القدسية. إن الله تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول، فالتمِسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تجدوه.

ومما هو جدير بالذكر أيضا أن الله تعالى قد سمى في كلامه الفُجارَ الغواةَ أمواتًا، ووصَف الأبرار بأنهم أحياء. والسر في ذلك هو أن الذين يموتون غافلين عن الله تعالى.. تكون أسبابُ الحياة بالنسبة إليهم من أكلٍ وشرب قد انقطعت عند الموت، ولا يكون لهم نصيب من الغذاء الروحاني، فهم قد ماتوا في الحقيقة، ولا يعودون للحياة إلا ليذوقوا العذاب. وإلى هذا السر أشار الله في قوله:

إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (طه: 75)،

وأما الذين يحبون الله تعالى فهُم لا يموتون بهذا الموت، لأن معهم خبزهم وماءهم.

عالم البعث

ثم بعد البرزخ يأتي زمن يسمى عالم البعث، تتلقى فيه كلُّ روح جسمًا محسوسًا بيّنًا، صالحة كانت تلك الروح أم طالحة. وقد قُدر يوم ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة، التي بفضلها يعرف كل إنسان ربه حق العرفان، ويبلغ كل واحد عندئذ الذروةَ من جزائه.

ويجب ألا يستغرب أحد أنْ كيف يستطيع الله فِعل ذلك! إنه سبحانه صاحب القدرة كلها، ويفعل ما يريد، كما يقول سبحانه:

أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أنّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * …. * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ * إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس:78-84)

.. أي ألم ير الإنسان أننا خلقناه من قطرةِ ماءٍ تُلقى في الرحم، ثم صار شخصًا كثير الخصومة، وبدأ يتحدث عنا بأنواع الحديث، ونسي كيف خُلِق هو، وبدأ يقول: كيف يمكن أن يحيا الإنسان مرة أخرى بعد أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على إحيائه؟ قل لهم: سوف يحييه الذي خلقه في المرة الأولى، فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي…. إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له “كُنْ” فيتكون هذا الشيء. إنه منـزه عن كل عيب.. ذلك الذي له المُلك على كل شيء، وإليه يُرجَع الجميع.

فالله جل شأنه قد صرح في هذه الآيات أن لا شيء مستحيل عنده، فالذي خلق الإنسان من قطرة حقيرة.. هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟

 

إزالة سوء فهم

ربما يقول الذين لا يعلمون بأنه ما دام ثالثُ العوالمِ.. أي عالَم البعثِ.. سوف يأتي بعد زمن طويل.. إذنْ فعالَم البرزخ أصبح بمنـزلة سجنٍ يُعتقل فيه الصالح والفاسق طول تلك المدة.. الأمر الذي يبدو محض عبث.

والجواب أن مثل هذه الفكرة خطأٌ تماما، ومنشؤها الجهل المطلق! ذلك أن كتاب الله يذكر مقامين لجزاء البارّ والفاجر، أحدهما عالَم البرزخ الذي يلاقي فيه كل إنسان جزاءه لقاءً مخفيا.. فالأشرار يدخلون الجحيم بعد الموت فورًا، والأخيار كذلك سينالون الراحة في الجنة بعد الموت مباشرة. وفي القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن كل إنسان يرى بعد الموت مباشرةً جزاءَ أعماله. فمثلا يخبرنا الله عن رجل من أهل الجنة بقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ (يس: 27)، ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب النار بقوله: فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (الصافات: 56).. أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل، فلما ماتا افتقد صاحب الجنة زميله، فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم.

إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ بعد الموت فورًا، ويدخل أصحاب النارِ النارَ.. وأصحاب الجنةِ الجنةَ. ولكن هنالك بعده يومٌ آخر اقتضت حكمةُ الله البالغةُ أن يظهر فيه بتجلٍّ أعظم. إن الله تعالى خلق الناس ليعرِفوه بخالقيته، ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهّاريته، ثم يحييهم حياة كاملة ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه بقدرته الكاملة. هذه هي المعرفة الأولى من المعارف الثلاث المشار إليها سابقا.

 

المعرفة الثانية

وأما المعرفة الثانية.. التي ذكرها القرآن الكريم تبيانًا لعالم المعاد.. فهي أن جميع الأمور الروحانية في الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مجسمة، سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور البعث والنشور. ومما قال الله في هذا الصدد:

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (الإسراء:73)..

والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا.. تتجسم في عالم المعاد محسوسة مشهودة.

كذلك يقول في آية أخرى:

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة:31-33) ..

أي خذوا هذا الجهنمي، وضعوا الغُل في عنقه، ثم أحرقوه في الجحيم، ثم صفدوه في إحدى السلاسل التي طولها سبعون ذراعا.

تبيِّن الآيات أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد. فطوْقُ الشهوات الدنيوية الذي كان قد أخضع رأس الإنسان إلى الأرض سوف يتراءى في صورة غُلٍّ يطوّق العنق؛ وسلاسلُ الشواغل الدنية ستظهر في صورة أصفاد تقيد الأرجل، ولوعات الأماني المادية ستُرى يومئذ نارا ملتهبة ظاهرة.

إن الإنسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيما من الشهوات والأهواء، ويشعر بحرقة هذه الجحيم عند الخيبة والخسران؛ ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدًا عن شهواته الفانية، ويغشاه القنوط الأبدي.. سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار مجَسمة، كما يقول : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ (سبأ:55).. أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم، وهذه الحيلولة هي نفسها أصل عذابهم.

وأما قوله تعالى:

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة: 33)..

فهو إشارة إلى أن الفاسق في أحيان كثيرة يُعمَّرُ سبعين سنة، بل كثيرا ما يُرزَق عمرًا أطول من ذلك للعيش في هذه الدنيا، بحيث يتاح له – باستثناء أيام الصبا والهرم – سبعون عاما من حياة خالصة صافية، يستطيع أن يقضيها في جد وعملٍ بحزم، ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في الانهماك في مشاغل الدنيا.. ولا يريد أن يتحرر من قيودها. لذلك يقول الله تعالى إن السنين السبعين التي قضاها في قيود الشهوات الدنيوية.. سوف تتمثل يوم المعاد في شكل سلسلة طولها سبعون ذراعا، كل ذراع مقابل سَنةً من سِني حياته.

 

ظل ذو ثلاثة فروع

ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى لا يصب من عنده على الإنسان أي مصيبة.. وإنما يعرض عليه ما ارتكب هو نفسُه من السيئات.. وتبيانا لهذه السنة نفسها يقول الله في موضع آخر:

انْطَلِقُوا إلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (المرسلات:31-32)..

أي أيها الفجار الغواة امشوا إلى ظل ذي ثلاثة فروع، لا يهيئ لكم ظلا ولا يحميكم من الحر.

والمقصود بالفروع الثلاثة هنا هو الأقسام الثلاثة من قوى النفس: وهي القوى السبُعية، والقوى البهيمية، والقوى الواهمة. فالذين لا يُعدلون هذه القوى، ولا يصبغونها بالصبغة الأخلاقية.. يبرزها الله لهم يوم القيامة وكأنها ثلاثة فروع قائمة بلا ورق.. لا تحمي من الحر، ومن ثم سوف يحترقون بها.

وكذلك يقول الله في أصحاب الجنة إظهارًا للسنة الإلهية المذكورة:

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ (الحديد: 13)

ويقول في آيةٍ أخرى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (آل عمران: 107)

.. أي يومئذ سوف تصبح بعض الوجوه سوداءَ وبعضها بيضاءَ نورانية.

ويقول في مكان آخر:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى (محمد: 16)..

أي أن مثال الجنة التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيه أنهار من ماءٍ لا يفسد أبدا، ومن لبنٍ لا يتغير طعمه أبدا، ومن خمرٍ تجلب المتعة واللذة بدون أن تصيب شاربها بالسكر، ومن عسلٍ صافٍ للغاية لا كثافة فيه.

 

وصف تمثيلي لنِعَم الجنة

لقد بين الله هنا صراحة أن الجنة يمكن أن تُفهَم -على سبيل التمثيل- بأن فيها أنهارًا من النعم لا حد لها. ففيها أنهارٌ ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شربا روحانيًا؛ وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيا؛ وأنهارٌ من خمر المحبة الإلهية التي كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا.. يراها يومئذ ماثلةً أمامه، وأنهارٌ ظاهرة محسوسة من عسل الحلاوة الإيمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في الدنيا. وسوف يعرف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية من أنهاره وبساتينه. وسوف يَبرز الله تعالى لأهل الجنة أيضا من وراء الحجب.

فالخلاصة أنه لن تبقى الحالات الروحانية عندئذ على ما هي عليه اليوم من الخفاء، وسوف تظهر في أشكال مجسمة.

المعرفة الثالثة

والمعرفة الثالثة هي أن سلسلة الارتقاء في عالم المعاد لا نهاية لها. يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التحريم: 9).

فقوله تعالى عن الذين آمنوا إنهم لن ينفكّوا يدْعون ربهم أن يتمّ لهم نورهم.. إنما هو إشارة إلى ترقيات غير متناهية، بمعنى أنهم كلما استكملوا درجةً من درجات النور.. تراءت لهم درجةٌ أخرى منه، فيرون كمالهم الحاصل نقصًا بالنسبة إلى الكمال التالي.. فيلتمسون من الله إحرازَ تلك الدرجة، فإذا أحرزوها.. تراءت لهم درجة ثالثة منه، فيعتبرون الكمالات الأولى ناقصة، ويطمعون في هذه الأخيرة. إن هذا النـزوع المستمر للرقي يعبر عنه قولهم: “أتمِمْ”.

إذن فهكذا سوف يستمرّون في حلقات من سلسلة غير متناهية من الارتقاء، ولن يصيبهم الانحطاط أبدا، كما أنهم لن يُخرَجوا من جنتهم، بل سيتقدمون يوما بعد يوم ولا يتراجعون.

وعند قولهم “واغفِرْ لنا” ينشأ سؤال: ألم يغفرِ الله لهم وقد دخلوا الجنة؟ وما الحاجة إلى الاستغفار ما داموا قد غُفر لهم؟

والجواب أن المغفرة معناها في الأصل سَتر الحالات الناقصة غير الملائمة.. وتغطيتها. فالمراد أن أصحاب الجنة سيطمعون أن ينالوا الكمال التام، وأن يغرقوا في النور كليةً. فدائمًا ما يجدون حالتهم الأُولى ناقصةً عند رؤيتهم الدرجة التالية من الكمال، فيودون  تغطية حالتهم الأولى. ثم إذا رأوا درجة الكمال الثالثة تمنوا تغطية حالتهم الثانية.. أي أن تُستر حالتهم الناقصة تلك وتُخفى. وهكذا سوف يظل أصحاب الجنة يتمنون المغفرة غير المتناهية بعد كل مرحلة.

إن كلمة الاستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا . ولعلكم – أيها المستمعون الكرام – قد أدركتم مما سلف أن الرغبة في الاستغفار إنما هي مفخرة للإنسان. فمن كان مولودًا من بطن امرأة.. ومع ذلك لا يتخذ الاستغفارَ دَيْدنًا له في كل حال.. فهو دودة وليس إنسانا، وأعمى وليس بصيرا،  ونجسٌ وليس طيبًا.

فخلاصة القول إن الجنة والجحيم، بحسب تعليم القرآن الكريم، ليستا شيئًا ماديا جديدًا يأتي من الخارج.. وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظلالُها. إنه لحق أن كل واحدة منهما ستتمثل عندئذ مجسمة.. ولكنها لا تكون في الحقيقة إلا آثار الحالات الروحانية وأظلالها. إننا لا نؤمن بجنة هي عبارة عن أشجار مغروسة غرسًا ظاهريا، ولا نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي، بل الجنة والجحيم – طبقًا للعقيدة الإسلامية – إنما هما انعكاسات للأعمال التي يعملها الإنسان في الحياة الدنيا. (فلسفة تعاليم الإسلام)

Share via
تابعونا على الفايس بوك