خطبة الجمعة لسيدنا مرزا طاهر أحمد رحمه الله تعالى
التاريخ: 1995-05-05

خطبة الجمعة لسيدنا مرزا طاهر أحمد رحمه الله تعالى

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة

لسيدنا مرزا طاهر أحمد – أيَّده الله بنصره العزيز –

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام)

ألقاها بمسجد الفضل. يوم 5/5/1995

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل الدخول في موضوع الخطبة أودُّ أن أُشير إلى بعض الاجتماعات التي تعقدها الجماعة في مختلف البلاد لتذكروهم في دعائكم.

أولاً مجلس خُدَّام الأحمدية في باكستان، وتبدأ من اليوم الدورة التربويّة رقم 39 للشباب وتضم أكثر من 500 شاب. ثم جماعتنا في اليابان تعقد اجتماعها السنوي، وجماعة الدنمارك تبدأ اجتماعها من الغد. نسأل الله تعالى أن يُبارك هذه الاجتماعات، ويوفقهم ويخلص نياتهم ويثمر اجتماعاتهم بثمار حلوة دائمة.

يقول القرآن الكريم:

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ .

  من عجيب تصرُّفات الله تعالى أنّ سيدنا المهدي كتب عبارات عن أسماء الله تعالى كنت أريد إلقاء بعض الضوء عليها.. ولكن جاءتني رسالة من ربوة تقول: عثرت على رسالةٍ قديمةٍ لك، وعَدتَ فيها أن تُلقي الضوء على الصفة الإلهيّة (عالِمُ الغيبِ والشهادة).. لأنّ هذا الموضوع له علاقةٌ وثيقة بأعمال الإنسان اليوميّة، وكان الموضوع في رأسي، وعندما ذكَّرني هذا الأخ عرفتُ أنّ الله تعالى هو الذي جعلني أخطبُ في هذا الموضوع. هذه الأمور تحدث كي نتيقن أن الله تعالى هو الذي يُصرِّف الأمور كما يشاء. لقد تناولت موضوع (عالِم الغيبِ والشهادة) من قبل، وسوف أتناوله اليوم ما استطعت. وفي البداية أقرأ عليكم عبارة لسيدنا المهدي وأشرحها لنعرف المراد منها.. لأنّ الإنسان أحيانا لا يستطيع فهم هذه العبارات بنظرةٍ سطحية. هناك مفهوم سطحي يفهمه كل واحد. ولكن يجب أن يتعمَّق الإنسان ليعرف المفهوم الحقيقي.

يقول سيدنا المهدي: إنّ الله هو الذي لا إله إلا هو.. لا يستحق الطاعة والعبادة أحدٌ سواه. إذ لو كان له شريك، أو كان هناك أكثر من إله.. لتعرَّضت للخطر أُلوهيّة كلِّ إلهٍ منهم. وهذا ما عبَّر عنه القرآن في موضعٍ آخر بقول:

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا .

لا بدَّ أن يتخاصم الآلهة، ولا بدَّ أن تفسد السماوات والأرض. إذا كان هناك آلهةٌ أخرى ما عرفنا مصير كل واحدٍ منهم في الغد، ولن يطمئِنَّ الإنسان إلى أيِّ إلهٍ منهم. فيوضِّح الله لنا كي نطمئِن.. فيقول: لا إله سواي ولا معبود لكم غيري، ولن يحدث أي تغيَّر في هذا الموضوع.

ولو تفهَّمنا هذا الموضوع على ضوء تعاملاتنا اليوميّة لفهمناه أكثر. ففي البلاد التي تغيَّرت فيها الحكومات كثيرا  تكون أجهزة العمل والمؤسَّسات فيها غير مستقرة، لأنّهم يعبدون اليوم حاكمًا ويعبدون في الغد حاكمًا آخر. وإذا خالفوا أحدا وجاء إلى الحكم فلا بدَّ أن ينتقم منهم. إذا كانت هناك فوضى في الحكَّام كانت الفوضى أيضا في الرعيّة.. وتتغلغل إلى الأعماق ويختلُّ المجتمع كلّه نظامه وأمنه.

وهذا ما ذكره سيدنا المهدي في موضوع التوحيد وقال: إنَّ كون الإله واحد يُطمئِن المؤمن. إذا أيقنَ أنّ الله تعالى هو المعبود الوحيد.. فإنّه يكون وفيًّا لهذا الإله، ولا يحتاج المؤمن لإخفاء حبّه لله. وإنّما يحبّه بلا حدود، لأنّه بالحبِّ يقترب من الله، وكلّما اقترب منه زادت قوّته. إنَّ الذين يفخرون بصحبة الملوك.. إذا فكَّروا أنّ قُرب الله تعالى شيءٌ عظيم فكيف يكون افتخارهم بذلك! إنَّ الشِرك يَحُولُ دون هذه الطمأنينة. إذا عبدَ الإنسان إلهًا زائفًا فلا بدَّ أن يبتعد عن الإله الحقّ. ويُحرَم من الطمأنينة، لأنه يخاف أن ينتقم منه إلهٌ آخر.

فالتوحيد يولِّدُ في الإنسان الحبَّ لله، ويُكسبه القوّة.. لأنّ قُرب الإنسان من صاحب القوّة يجعله مُهابًا في أعين الناس.. فقد اكتسب قوةً من القويّ. وهذا الذي يكسبهُ ليس شِركًا، وإنّما هو تفانٍ في ذات الله وانمحاء فيه. لا يستطيع الإنسان أن يكون شريكًا في قوّة الله وقُدرته.. لأنّ الله ينفي الشِركَ من أيِّ نوع. ولكن يمكن للإنسان أن يكون شريكا في قوّة الله وقدرته بمعنى أن يكسبها منه. يقول الله: يمكن لكم أن تتَّقوا قوّتي إذا اتخذتموني إلهًا واحدًا واقتربتم مني، وعندئذٍ تنالون نصيبًا من قوّتي وقدرتي بحسب قربكم مني.

لذلك قال سيدنا المهدي إنّ سيدنا محمد المصطفى هو المظهر الكامل لصفة المالكيّة. المالك الحقيقي هو الله جلّ علاه، ولكن المصطفى نال نصيبًا من المالكيّة الإلهيّة بسبب عبوديّته الكاملة لله تعالى. فكل درجةٍ ينالها الإنسان بسبب الاتِّباع ليست من الشرك والوثنيّة في شيء. وهذا الموضوع نفسه يُفحم الأعداء الذين يعترضون على سيدنا المهدي لكونه نبيًّا تابعًا لسيدنا محمد.. كيف يمكن أن يكون شريكا للمصطفى ؟ فما دام قد تفانى في سيده المصطفى، واعتبر نفسه خادما وعبدًا له فليس شريكا في بالمعنى الذي يظنون. إذا كان المصطفى قد تقرَّب إلى الله تعالى واكتسب نصيبًا من مالكيّته وقدرته.. فهل صار شريكا لله تعالى؟ فإذا كان سيدنا المصطفى قد تشرَّف باكتساب نصيب من صفات الله جلّ علاه.. فلماذا لا يكتسب أحدٌ من فيوض المصطفى؟ إنّ الاعتراض على هذه الحقيقة وقاحةٌ في حقِّ المصطفى . إنّهم بفهمهم هذا يرونه رسولاً عجيبا.. يكتسب من الله كلّ شيء ولكنه لا يستطيع أن يُجري هذه الفيوض إلى أحد!! إذا كان أحدٌ يحب النبي كما يحبُّ النبيُّ ربه.. فلماذا لا ينال هذا المحبّ شيئا من فيوض النبيّ كما نال النبيّ فيوضا من الله تعالى؟

إنّهم مهما تكلّموا في سيدنا المهدي فما هو إلا خادمٌ صادق ومحبٌّ للمصطفى . إنّ الله تعالى يهب عباده من قوته وقدرته بدون أن يشاركوه في صفاته حقًّا. لابدَّ أن يعرف الإنسان أنّ كل شيء من الله تعالى، وأنّ كل ما يناله الإنسان هو فيضٌ منه. وكل ما تكسبه فهو بفضل اتِّباع النبيّ. هو كلُّ شيء. هذا هو قرارنا. وهذا ما قاله سيدنا المهدي عن درجته بالنسبة لسيدنا ومولانا محمد المصطفى . إننا نعرف خُدَّام المصطفى ومقامهم بمعرفة مقامه عند الله جلّ علاه.

ثم يقول سيدنا المهدي: .. لا شريك له.. أي أنه إلهٌ كامل، صفاته وكمالاته أعلى وأرفع. وإذا أرادت المخلوقات اتِّخاذ إله واحد، وفكَّروا في صفاتٍ عُليا.. فسيجدون الله تعالى هو الأعظم حُسنًا وكمالاً. من المحال أن يتصوَّر الإنسان الكمال الإلهيّ. لقد فكَّر بعض الفلاسفة في صفات الله تعالى، ويقول سيدنا المهدي أن الله تعالى أعلى وأرفع مما يظنُّون ويفكِّرون. كان ديكارت أعظم فلاسفة الغرب.. الذي أقام الدليل على وجود الله تعالى على أساس أنَّ الناقص لا يمكنه تصوُّر الذات الكاملة، لذلك لا يستطيع الإنسان تصوُّر إلهٍ كامل. ويظنُّ  أنّه يقدِّم تصوُّرًا لإلهٍ كامل كذلك الذي يقدِّمه المسيحيون، ولكنه في الحقيقة تصوُّرٌ ناقص. ووضع ديكارت أدلّته بناءً على هذا التصوُّر المسيحي للإله، ويقول أنَّ الناقص لا يمكن أن يتصوَّر الكامل.. لأنّ الإنسان لم يشهد الكمال، فلا بدَّ أن يكون هذا التصوُّر قد ألقاه الوجود الكامل في قلب الإنسان.

يقول سيدنا المهدي أن الله تعالى أسمى وأعظم صفات وكمالاً مما يمكن ان يتصوَّره الإنسان عن الله. ومن هذه الناحية نفهم معنىً آخر لصفة عالِم الغيب والشهادة. فيقول سيدنا المهدي: قول الله تعالى عَالِمُ الغيبِ فيه معرفةٌ عظيمة لم يذكرها أحدٌ من قبل في صفات الله.. والله تعالى هو الذي يُعرِّف ذاته لا غيره. ومعنى ذلك أن كمال الله تعالى أسمى من أن يُدركه تصوُّر الإنسان. مهما تصوَّرتَ الكمال فلا بدَّ أن تقف عند حد، لأنَّ فكرة الإنسان ناقصة.. والله تعالى أعلى من تصوُّر الإنسان. عُلُّوه مُختفٍ عن نظر الإنسان. وقد ذكر سيدنا المهدي هذا الموضوع في مفهوم التوحيد فقال: إنَّ الله يعرف ذاته التي هي غيب، ولا يعرفها أحدٌ سواه، ولا يُحيطُ بها غيره، وهذه نتيجةٌ طبيعيّة. يمكن لنا أن نرى القمر والشمس وغيرهما، ولكننا لا نستطيع أن نرى وجود الله تعالى.

ثم قال: إنّ عالِم الغيب والشهادة.. أي لا يخفى عنه أيُّ شيء. لا يمكن أن يكون للوجود إلها ثم يكون غافلاً عن علم الأشياء. لابدَّ أن تُحيط نظرته بكلّ ذرّةٍ من الكون. ولكن الإنسان لا يستطيع ذلك. إنّ الله تعالى سوف يُقيم القيامة ويعلم متى يحدث هذا.

ثم قال هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ وهذا الموضوع ذكره سيدنا المهدي وأُريد شرحه ببيان بعض الأمور. قلتُ من قبل أنّ الله وحده يعرف ذاته، وبالنظر من خلال عين الإنسان فالله تعالى هو الغيب الأول. وحتى ما يعتبره الإنسان مشهودًا هو في الواقع غيب عنه. وبما أننا بصدد موضوع التوحيد.. فهذا يعني أنّكم قد تُدركون أنَّ الله عالِم الغيب ولكن لا تدركون أنّه وحده هو عالم الشهادة. فقد تحسبون أنّكم تعلمون الشهادة، أي تعلمون ما هو مشهودٌ لكم. الحق أنَّ عالِم الغيب هو الذي يمكن أن يكون عالِم الشهادة. الشهادة تعني ما يتعلَّق بالظاهر وما يتراءى للعين. ولكن وراء كل ظاهر ومشهود غيب. وإذا اعتمد الإنسان على النظرة السطحيّة فلا يمكن أن يدرك الشيء بكل صفاته.. فربما وراء المشهود ما يُناقضه من الغيب. فالنتيجة السطحيّة التي تصل إليها قد يكون وراءها أشياء ترفض هذه النتيجة الظاهريّة. فلكي يكون الإنسان عالِمًا للشهادة بطريقةٍ صحيحة.. لابدَّ أن يكون عالِمًا للغيب وراءها. ولكن هذا ليس في استطاعة الإنسان. ولذلك بدأ الله تعالى ذكر صفته هذه بأنّه “عالِمُ الغيب” ثم “عَالِمُ الشهادة”، مع أنّ الترتيب العادي هو عالِم الشهادة والغيب.

وإذا تدبَّرتم وجدتم أنّ هذا الترتيب القرآني هو الترتيب الصحيح. فما لم ترَ العين الغيبَ لا يمكن أن ترى المشهود حقًا. وقد اكتسب الإنسان هذه القوّة -أي رؤية الغيب- بقدْرٍ نسبيٍّ فقط. فذو الفراسة يستنتج من حركات الإنسان الظاهرة ما لا يتوصّل إليه الإنسان البسيط. الأول يصل إلى ما يختفي وراء الظاهر. يقول الله تعالى عن النبي إنّه يعرف المنافقين بِسيمَاهُم ومن لحنِ قولهم، ذلك لأنّه كان على صلةٍ وثيقة بعالِم الغيب والشهادة جلَّ عُلاه. فالقرب من الله أكسبه عِلْمَ الغيب إلى حدٍّ ما. ولكن هذا ليس ذلك الغيب الخاص بالله تعالى. وإنّما هو الغيب الذي يطَّلِع عليه الإنسان إذا أنارَ الله فراسته. ففي معاملاتكم اليوميّة تجدون أنّ الذي لا يصل إلى كُنْهِ الأشياء لا يُعتبر خبيرا وإنّما هو مخدوع. قد ينخدع المرء مثلاً بصلاة أحد.. ثم يتبيّن له إذا دخل معه في معاملةٍ ماليّة أنّه كان على خطأ. هذه أمورٌ تتعلّق بالشهادة ومع ذلك ننخدع منها. فما لم يَهَبْ الله للمرء علم الغيب لا يمكن أن يعرف الإنسان هذه الأمور.

والغيب لا يُدرك بالتخمين وإنّما له طريقٌ واحد.. هو أن يكون الإنسان على صلةٍ بعالِم الغيب سبحانه. ولتكون مثل هذه الصلة لا بدَّ أن يكون الإنسان صادقا، ذا قلبٍ تقيّ. وبدون ذلك لا تقوم صلةٌ بينه وبين عالِم الغيب. إنّ الإنسان إذا أراد فَهمَ شيءٍ ما سافر في رحلةٍ فكريّة، وفيها يحتاج إلى نور التقوى وإلا غابت عنه الأمور. التقوى هي التي تزوِّده بالنور الذي يرى به الأشياء. ومثال ذلك أن يسافر المرء في ظلام الليل ومعه مصباحٌ كشَّاف يُضيءُ له الطريق إلى حدٍّ ما، ويُنير ما خَفِيَ من الأشياء فيحوِّله إلى مشهود. أمّا الذي يمضي بلا مصباح فإنّه يتعثَّر ولا يرى شيئا.

لقد وصف الله القرآن بأنّه لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .. كلُّ ما فيه حقٌّ وصدق؛ ولكنه يهدي فقط من لهم نورُ التقوى. ثم عندما فسَّر التقوى ربطها بالغيب فقال:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ .

أول صفةٍ للتقوى هي الإيمانُ بالغيب.. والحقيقة أنّه بدون التقوى لا يؤمن الإنسان بالغيب.. كما أنه بدون نور المصباح لا يمكن أن يؤمن الإنسان بوجود الأشياء المختفية في الظلام. إنّها في الظلام موجودة، ولكن الكشَّاف يُضيئها ويُظهرها للعين. وكلّما كان نور الكشَّاف قويا كلما رأى الإنسان وعرف الأشياء الغائبة في الخفاء. وكذلك إذا كان الإنسان مُتَّقِيًا عرف القرآن.. وإلا فلن يعرف حقائق القرآن، بل يراها كأمورٍ مشكوكٍ فيها، ويبقى القرآن غيبا عنده. ذلك بمثل أنّ الأشياء موجودةٌ في سفرنا في الظلام ولا نراها.. ولكن النور يُخرجها من الغيب، وإذا كان النور قويا خرجت من الغيب أكثر وضوحا، وإذا كان النور ضعيفا رأينا الأشياء ولكنها تظل في نوعٍ من الغيب، وتبقى عليها ظلال الغيب.

يحضرني الآن حادثٌ رويته لكم من قبل.. فقبل تقسيم الهند كنا في قاديان. وخرج أحد إخواننا -داود مظفّر شاه- إلى حيّ الأنوار مع بعض أصدقائه، وقد نزل مطرٌ غزير أحال الأرض بركًا. وكان الظلام دامسا والقمر غير مشرق.. ففكَّروا في أن يسيروا في الماء بدلاً من اليابسة. فقال أحد الأصدقاء، وكان معروفا بذكائه ومهارته، أخبركم كيف نتخلَّص من هذه المشكلة.. في الظلام ما تظنُّه طريقا يكون ماء وما تظنه ماء هو الطريق. ثم بادر ودخل الماء. فهذا عالَمُ غيبٍ موجود ويُرى ولكن لا يُدرك كُنْهُه. فهؤلاء الذين يقرأون القرآن ويشكُّون فيه ليس عندهم شيءٌ من التقوى.. فيظنُّون أنّ هذا ماء مع أنّه طريق، وأنّ هذا طريق ويجدونه ماء.

لقد ربط الله تعالى علم الغيب بالتقوى وقال: إذا أردتم أن تكونوا على صلةٍ بعالم الغيب فلا بدَّ أن تكونوا متَّقين. إذا آمنتم بالغيب فسوف يُطلعكم الله على حقائق الأشياء. وسوف تحصلون على علم الشهادة أيضا. وفي هذا المعنى كان النبي شهيدا على كل الأنبياء يوم القيامة. انظروا كيف أنّ مواضيع القرآن مترابطة ولها علاقة بصفات الله تعالى. لماذا جعل الله نبيَّ كلِّ قوم شهيدا عليهم، ثم جعل محمدا شهيدا على الأنبياء جميعا؟ ذلك لأنّ المصطفى كان على علاقةٍ بالله تعالى أقوى من أيِّ واحدٍ من الأنبياء. فكان يعرف الأمور ويُدركها أكثر من سواه. لقد كانت التقوى فيه قويّةً للغاية.. وهي التي توطّد الصِلة بعالِم الغيب. وهي الصِلة التي تَهَبُ الإنسان من الله تعالى عِلمَ الأشياء بالوحي.

وموضوع الوحي في الحقيقة يتعلَّق بتحويل الأمور الغيبيّة لتكون مشهودةً لأحد. قال الله تعالى:

لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..

فلا يَهَبُ الله الغلبة لأحدٍ على الغيب إلا إذا كان قد اصطفاه. فكل إنسان مزوَّدٌ باستعداد أن يعرف الغيب إلى حدٍّ ما.. رسولاً كان أو غير رسول، ويستطيع تقدير الأشياء. مثلاً نجد المعلِّقين السياسيين يُعلِّقون على الأحداث، ويقدِّمون آراءهم وما يتوقَّعونه من أمور عن المستقبل القريب أو البعيد. وإذا كان المعلِّق ذكيا وخبيرا فإنّ حدْسَه يصدُق، ولكن لا يحدث أن تكون توقُّعاتهم صحيحة دائما. فالحال عندهم هو حالُ الريب. ولكن الله تعالى يقول

لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..

فلا يُعطي الله الغلبة على الغيب إلا إذا اختار رسولاً.. فيُطلعه على الغيب بكثرة، وتكون أنباؤه كلها صحيحة.

نعم، الغيب له علاقةٌ بالرسالة والنبوّة. فهناك كثيرٌ من الأمور الغيبيّة تخرج من حيّز الغيب إلى الشهادة عن طريق الإلهام والوحي، وبناءً على ذلك تزدهر الدنيا علميًّا. ومع أنّ الإنسان لا يستطيع أن يزيد في كون الله شيئا.. لكنه يطَّلع على كونه أكثر بسبب علمه وتقدُّمه. إنَّ العلوم الماديّة تُنير طريق الإنسان ولكن فيها احتمال الخطأ أيضا. وقد كتب سيدنا المهدي في هذا الموضوع أشياء تُلقي الضوء الكثير على ذلك. قال: إنّ ما فعله الإنسان يبقى مُعرَّضا للشكِّ.. لأنّ البحوث الجديدة تكشف كلّ يوم عن خطأٍ كان في علوم الماضي. فالعلم الكامل والشهادة يأتي من عند الله تعالى، ولا يمكن أن يتمّ علم الشهادة إلا بالغيب.

وغير الأنبياء أيضا يعرفون الغيب إلى حدٍّ ما، أما الأنبياء فيعرفون الغيب بوحيٍ من الله تعالى بصورةٍ كاملة. وإذا كان مُتَّقيًا وعالِما استطاع أن يعرف الأمور الغيبية بفراسته إلى حدٍّ ما. وكل هذا التقدُّم العلميّ الذي حقَّقه الإنسان هو سفرٌ من الغيب إلى الشهادة. وهذا في الحقيقة إلهامٌ خفيّ. قد يقول البعض أنّ الإنسان حقَّق التقدُّم الكبير.. مع أنّ الله تعالى يقول

لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ

ولكن انظروا إلى أهل الغرب.. وفيهم المشرِكون والنصارى واليهود وأعداء الله تعالى.. ومع ذلك فإنّهم في دائرتهم قد حقَّقوا الغلبّة على الغيب. لقد ردَّ سيدنا المهدي على ذلك وقال: إنّ الدنيا لا تعرف. ولكن الحقيقة أنَّ العلم المادي أيضا يظهر بتجلِّياتٍ لله تعالى. وهذه التجلِّيات تتعلَّق بزمن النبيّ. فعندما يتجلّى الله على نبيّه بوحيه، ويكشف له أمور الغيب.. فإنّ الوحي ينتشر على العالَم كله.. وببركة هذا الوحي تستنير العقول، ويُحقِّق الإنسان التقدُّم الماديّ أيضا. فكل هذه العلوم الجديدة تنكشف بالإلهام الخفيّ. وإذا أراد الله أن يَهَبَ العلم لأهل عصرٍ فإنّهم ينالونه. إذا قرأنا سورة الزلزلة

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا

تُخبر أنّ كل هذا التقدُّم العلمي والكشوف هي ببركة ربِّ محمد. تقول السورة أنَّ الأرض سوف تُخرِجُ أسرارها الثقيلة.. حتى يتحيَّر الإنسان مما حدث وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا؟ ويتساءل عن هذا الذي يجري؟ يقول الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا إنّ الأرض نفسها تُخبر عن أسرارها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا لأنَّ ربّك -يا محمد- قد أمرها أن تُخرج هذه الأسرار.

يمكن أن يقول أحد: هذه مجرّد دعوى من القرآن الكريم، أما الاختراعات والاكتشافات فهي من جهود هؤلاء العلماء. وردَّ الله تعالى على ذلك أنّ هذا حدث بتخطيطٍ من الله. والدليل على ذلك أنّه -تبارك وتعالى- أخبر نبيّه المصطفى بأمورٍ كثيرة تتعلَّق بهذا العصر. وإذا قرأنا هذه الأمور نتحيَّر.. كيف كان من الممكن أن يُطلع الله أميًّا من العرب على علومٍ يصل إليها الإنسان بعد ثلاثة أو أربعة عشر قرنا؟ إنّها ليست دعوى وهمية، وإنّما هي حقائق أذكرها على ضوء القرآن الكريم. فالإلهام يحيل الغيب إلى مشهود، ومالم يُتَّخذ القرار في السماء بهذا الصدد لا يعرف أهل الأرض الغيب.

أما بالنسبة لنعمة الغلبة على الغيب.. فإنّ الأنبياء وحدهم هم الذين ينالونها. وهناك فرقٌ بين الغيب الذي يناله الأنبياء.. والغيب الذي يحصل عليه غيرهم. اليوم اكتشف العلماء كثيرا من الأسرار كانت خفيّة منذ آلاف السنين.. بعد جهودٍ مستمرة وصلوا إليها.. ولا يزالون يشتغلون في هذا الصدد. ويسافرون في هذه الرحلة على ضوء ما كسبوا من قبل. عندما يمشي الإنسان في الظلام.. وإن لم يكن يحمل مصباحا.. فإنّه يعرف أن عينه قادرة على الرؤية بقدرٍ ما. ثم إنّه يهتدي على ضوء ما اكتسبه من خبرةٍ سابقة، فتكون خطواته نحو الصواب أكثر. لأن تجارب الرحلات السابقة وما وقع فيها من عثرات هَدَته إلى الصواب. وهكذا لا يمكن أن تُسمَّى رحلته هذه من الغيب إلى المشهود “ظهورا على الغيب”.. لأنّه يرى طريقه في هذه الرحلة بجهدٍ كبير وبطءٍ شديد. وعندما تجتمع كل هذه الخبرات والعلوم.. يحدث اكتشاف ويقولون أنّهم وجدوا شيئا عظيما ولكن الله تعالى يقول أنّه عندما يختار رسولاً فإنّه يطلعه على الغيب. ومثال ذلك الآيات التي تتعلّق بهذا العصر، والتي لم يجتهد الرسول للحصول عليها، ولم يكن له أي خبرة بها، بل ولم يفكر في هذه الأشياء، ولم يدر بخلده كيف تكون السفن والمركبات في آخر الزمن، ولم يتصور كيف تكون السماء ذات الحُبك.. تطير في طرقاتها المرسلات التي تنطلق إلى أهدافها. ولم يتخيَّل كيف تُنشر الصُحف بوسائل سريعة. وكيف تكون الحكومة للقانون.

مواضيع كثيرة.. لم يكن للرسول تجربة سابقة بها. فالغيب الذي تحوَّل له إلى شهادة.. إنّما كسبه بوحيٍ من الله تعالى، ولا يمكن أن يكون أحد شريكا في هذا السفر إلى الغيب.. بل أعطاه الله لرسوله دفعةً واحدة. أما العلماء الآخرون فيجتهدون بعناءٍ وبطء، ويستعينون بخبراتهم وخبرات السابقين. فهو سفرٌ يشترك فيه الكثيرون ويستعينون بعضهم ببعض. ولكن عالِم الغيب يعطي فجأةً علمًا كاملاً.

والله تعالى يصقل عقول الناس في زمنٍ يأتي فيه نبيٌّ كي يستفيدوا من الكنوز الإلهيّة. إنَّ الأنباء التي تحدَّث بها النبي قبل أربعة عشر قرنا لا تتعلَّق بأي جهدٍ علميّ من جانبه. وكان الناس كلهم في زمن الرسول محرومين من ذلك. وعندما تصدر منه هذه الأنباء بوحيِ من الله تعالى.. يعرف بعضها أهل ذلك الزمن، ولكن معظمها لم يفهموه. فمثلاً نبأ محاولة الأقوياء الخروج من أقطار السماء.. من الذي يمكن أن يفكِّر في زمن النبي في هذه الفكرة؟ من الذي يمكن أن يتصوَّر آنئذٍ قول

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ .

لم يكن يستطيع الإنسان أن يقفز أكثر من قدمين أو ثلاثة.. فكيف يمكن أن يتصوَّر أنّ الإنسان في وقتٍ ما يحاول الخروج من أقطار السماوات والأرض؟.. ولكن الله أخبر النبي أنّ هذا سوف يحدث في ذلك الوقت.

ولم يشترك أحدٌ في علم الغيب مع النبي . ولكن الزمن الذي نحن فيه وتحدَّث عنه النبي اطَّلع الإنسان فيه على الغيب إلى حدٍّ ما. يقول الله تعالى أنّ هذه الاكتشافات لم يَنَلها الإنسان بجهوده.. ولكن الله تعالى خطَّط وقدَّر له ذلك. وأمر كنوز الأرض وأسرارها أن تخرج بنفسها. وبسبب هذا القَدَر السماوي خرجت هذه الأسرار بجهود الإنسان.

ثم هناك بعض الاكتشافات التي كانت بإلهامٍ يتلقّاه عالِم. وهو ليس كإلهام الأنبياء ووحيهم. فمثلاً ماكينة الحياكة سنجر.. فكَّر مخترعها كثيرا في أن يكون هناك خيطان.. أحدهما من أعلى والثاني من أسفل القماش. لقد قتل نفسه تفكيرا في هذه النقطة. وجالَ بخاطره أن تكون الإبرة ذات ثقب من طرفها. هذا الذي تلقَّاه العالِم هو نوعٌ من الإلهام.. ومثل هذه التجارب كثيرة عند العلماء. أحيانا لا يعمل عقل الإنسان فيُلهمه الله، أو يُريه الكشوف والرؤى لأنّ ربّ الكون قد قدَّر أن تزدهر الاكتشافات في هذا العصر وتخرج الأسرار من الأرض. وهكذا تحقَّق أنّ الله أوحى لها. وعندما يدرس الإنسان مثل هذه التجارب والأحداث يتحيَّر.. كيف أنَّ الله تعالى هدى هؤلاء العلماء الدهريين بالكشوف والإلهامات. وهذا يُبيّن أنَّ النبي قد نال الغيب من الله تعالى، وأنّ كل هؤلاء العلماء والأمم سوف يخدمون رسالة النبي باكتشافاتهم.

فالنقطة المركزيّة في صفة “عالِم الغيب والشهادة” هي أن الشاهد يخرج من الغيب. كل شيء كان وسوف يبقى في علم الله تعالى. ولما خُلِق الإنسان عرف هذه الأشياء مع أنها كانت موجودة من قبل. فالمشهود يخرج من بطن الغيب. ما نراه في الحقيقة نابعٌ من المستور. وإذا فكَّرنا وتدبَّرنا في المشهود وجدنا وراءه غيبا آخر. والتقوى هي العين التي يمكن بها أن نرى هذه الأشياء. وسواء في بحثنا عن العلوم الماديّة أو الروحيّة فالنبراس هو التقوى، وهو الذي يهديكم إلى الغاية.

يقول الله تعالى

ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ

هذا الكتاب يهدي فقط المتقين الذين يؤمنون بالغيب. فهم لا يستطيعون الاستفادة من الغيب ما لم يؤمنوا به، لأنّ الإيمان هو الذي يُكسب القوة واللذَّة للعبادة، لذلك قال

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ .

هناك غيبٌ للماضي وللحال وللمستقبل. يُلقي الفلاح البذر تحت التراب.. ولا يفعل ذلك إلا إيمانا منه بالغيب. إنّه لا يكون موقنا.. ولكنه يكون مؤمنا. إنّه يؤمن أنّ كثيرا من هذه البذور والحبوب سوف ينبت. وبسبب هذا الإيمان ينال المحصول. والذين يؤمنون بالله تعالى لا بدَّ أن يُنفقوا في سبيله.. لأنّهم بخبرتهم يعرفون أنّ من يُنفق في سبيل الله لا يُخسِّره الله شيئا، بل يُعطيه الكثير.

تفضَّل الله علينا وسهَّل لنا الاتصال به! آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك