التقوى هي الضمان لحياة جماعتنا
التاريخ: 1995-04-28

التقوى هي الضمان لحياة جماعتنا

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

نظام الشورى الإسلامي نظام كامل ليس به خلل

خطبة الجمعة لسيدنا مرزا طاهر أحمد – أيَّده الله بنصره العزيز –

الخليفة الرابع لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود

ألقاها بمسجد الفضل. يوم 28/4/1995

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد الفاتحة والمقدمة أخبر أمير المؤمنين، إمام الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة -أيدَّه الله بنصره العزيز- عن اجتماعات لفروع الجماعة في مختلف البلاد.. منها جماعة سيريلانكا التي تعقد اجتماعها السنوي. وأيضًا لجنة إماء الله في سيريلانكا. والجماعة هناك صغيرة وتعرَّضت لمضايقاتٍ كثيرة، وأحرقوا مركزنا هناك مؤخّرًا، واعتدوا على إخواننا، ولذلك فالجماعة بحاجة للدعاء كي يوفِّقهم الله إلى الثبات والشجاعة، والاستمرار في حُسن العمل.

وكذلك جماعة ألمانيا تعقد مجلس الشورى اليوم. وقد توطَّد نظام مجلس الشورى في كثيرٍ من البلاد في جماعتنا واستحكم. وكانوا يخطئون أحيانًا. وكان الألمان أكثر نجاحًا في هذه المجالس من القادمين من باكستان. ولكنهم الآن قد نضجوا واكتسبوا خبرة في الشورى، ويقدِّمونها بتقوى وإخلاص. ولا يميلون إلى أحد عند التصويت.

والتقوى هي الضمان لحياة جماعتنا وبقائها. إذا جرى نظام الشورى باحتياطٍ وحذر، وتخلَّصنا في هذا النظام من كل ما يخالف التقوى وسدّدنا طُرقه.. فلسوف تزدهر جماعتنا بسرعةٍ كبيرة. وعندما أقول أنّ مثل هذه الميول موجودة.. فهي موجودةٌ في بعض الأفراد. وما لم يكن الإنسان تقيًّا فلا يمكن أن تصدر منه التقوى في مجلس الشورى. إذا كان هناك اختلاف وبحثٌ عن المناصب والنفقات.. دخل الشيطان وأفسد الأمور، وتلعب النفس الأمارة دورها. لذلك ينبغي أن يكون الإنسان رقيبًا على نفسه بنفسه. أما بالنسبة لنظام الجماعة فقد وفَّينا بكل هذه المتطلَّبات، وسوف نستمر في ذلك. وقلتُ إنَّ النظام قد نضج وبلغ سن الرشد من هذه الناحية.

وجماعة ساحل العاج تعقد اجتماعها السنوي، ثم بعدها الانتخابات للهيئة الإدرايّة، ويعقدون مجلس الشورى. وأُقدِّم لهم بعض النصح بصدد مجلس الشورى.

ولقد نضج النظام في جماعة ألمانيا، وعرف الناس حدودهم وحقوقهم في الشورى على أساس الشرع، وهي الآن معروفة أمام الإخوة، وهي في أيدينا في هذه الناحية. وليس هناك أحدٌ يجرؤ على مخالفة النظام في ألمانيا. المخالفات لن تحدث أبدًا بإذن الله تعالى، أدعو لذلك وأرجو ذلك.

أما بالنسبة للأفراد فأقول إنَّ هناك شيطانا متمرِّدًا في كل إنسان. هناك الأنانية. وما لم يصل الإنسان إلى مقامٍ يحفظه الله فيه.. فلا بدَّ أن يكون في خطرٍ من هذا الشيطان المختفي داخل الإنسان. قبل سنوات جاءتني التقارير عن مجلس الشورى في باكستان، وكانت مسجَّلة حسب طلبي. واندهشت من أنَّ هؤلاء -رغم تربيتهم الطويلة- قد أعوجّت أفكار بعضهم، وطالبوا بما لا يحقُّ لهم طلبه.

لا يمكن أن نطمئنَّ بالنظام فقط، بل لابدَّ أن نطمئِنَّ من ناحية الأفراد أيضًا. الحقيقة أنّ هوية الشورى تنعكس بانعكاس هوية الأفراد. إذا لم تكن مراقبة الأفراد جيدة فيمكن أن يُفسِدوا مزاج هذه الشورى. لذلك لا بدَّ أن نتفقَّد أحوال أعضاء هذه الشورى. ويجب أن نعرف ما هو النظام الذي ينتخب هؤلاء الأعضاء للمجلس. ونظرًا لهذا فإنّ الخيار الأخير في يد المركز، وله أن يقبل نتائج الانتخاب أو يرفضها.

والحمد لله أنّ الإخوة عندما عرفوا أنّ المركز رفض البعض لم يسخطوا. الحمد لله أنَّ التقوى الاجتماعيّة مرتفعة جدًا. ولكن من حيث الأفراد لا بدَّ من مراعاة التقوى.. لأنّ الانتخاب يتدخَّل فيه بعض الأحيان عوامل القرابات والانحياز إلى أحد الجوانب. وهذا يحدث خاصةً في تلك الجماعات التي تحزَّبت فيها بعض الأفراد. ووقعت خصومات بين العائلات. وفي هذه الحالة لو لم يكن رئيس الجماعة المحليّة قادرًا على أداء واجبه فإنّ الجماعة تتفرَّق.. لأنّ توحيد الجماعة يتطلَّب من الرئيس بعض المؤهلات، وقد لا يكون مؤهلاً بها لجميع الأخوة في أُسرةٍ واحدة. وبسبب ذلك يبتعد عنهم بعض الأفراد. ولا يكون هؤلاء الأفراد على حقٍّ دائمًا، فهناك أفرادٌ يُثيرون الفتن ويُفرِّقون الشمل؛ فتُصاب أحيانًا مثل هذه الجماعة بالضعف بسبب الجهل أو النوايا.. وتشتدُّ الظُلمات.

هذه هي الخلفيّة. والخلاصة أنّه عند الانتخابات تلعب التحزُّبات والقرابات دورها ويظهر أثرها. وفي هذه الصورة قد يكون الشخص المنتخب لم يُنتخب على أساسٍ من التقوى.. وإنّما بسبب عوامل الحزبيّة والقرابات. كل هذه الاحتمالات موجودة. ولو جعلناها محلاً للنزاع لحدثت فتنة أشدّ. فمثلاً إذا قال أحد أنّ هذه الأمور تحدث في جماعة كذا.. وقال لن نتعاون مع المنتخبين لأنّهم ليسوا من أهل التقوى.. فهذا يؤدِّي إلى الفتنة والشيطانيّة. هذا الذي نريد القضاء عليه يتولَّد من هذه الأعمال التي يقوم بها بعض الناس باسم الخير ويبثُّون الشرّ. يجدر ملاحظة هذه الأمور عند الانتخابات ومجالس الشورى. يجب أولاً على من يصوِّت أن يتذكَّر قول الله تعالى:

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ،

والصوت أمانة. وليس هناك أي شرطٍ آخر وضعه الإسلام بصدد نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. فقط أعطوا صوتكم أهل التقوى وأحقّ بهذا الصوت. والقرآن يُلقي الضوء على هذا الموضوع من عدة جوانب، ويُبيّن أنّ المؤمن هو الذي لا يُبالي بالقرابات والعلاقات الشخصيّة، ويقوم بكل عمله لوجه الله تعالى،  ويُدلي بالشهادة حتى ولو على أقاربه بحسب تعليم القرآن. هذا هو مستوى التقوى الذي يجب أن يكون فينا، وهذا ما يتوقعه القرآن من المؤمن. ولو رأى الابن أنّ أباه ليس أهلاً لحمل هذه الأمانة فلا يُعطيه صوته؛ ولا يحقُّ لأحدٍ أن يلومه على ذلك. لقد جاءني تقرير بأن أحد الأخوة لم يفز في الانتخابات، وعرف أنّ أحد اقاربه لم يُصوِّت له، فَلَامه على ذلك. فالحمد لله أنّهم كانوا أهل تقوى ولم يتأثَّروا بالقرابة. إنّ تدخُّل القرابات والتكتُّلات في الانتخابات والشورى يعتبر في الواقع هجومًا على حياة الجماعة نفسها. وبقدر تدخُّلها بقدر ما يمرض نظام الجماعة. إذا اهتمتم بالصحة عند الدرجات الدنيا فإنّ الجماعة تزداد قوة وصحة وسلامة. وهذا هو الحق 100%. فكل قطرة من الأحمديين التي يتكوَّن منها هذا البحر.. يجب أن تكون صالحة ليكون البحر كلّه مباركًا طاهرًا. ووجود قطرة ملوَّثة سوف يُلوِّث البحر على نحوٍ ما. فتجب مراعاة ذلك عند الانتخابات.. فلا تلعب القرابة والصداقة أي دورٍ فيها.

يقول تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ . إنّ اعزَّ الناس وأشرفهم عندكم يجب أن يكون الأتقى فيكم. عليكم أن تدفعوا بأتقاكم إلى الأمام وإلى الأعلى.. ولا تنظروا إلى الذكاء الدنيوي. يظنُّ بعض الناس أنّ التقيّ إذا لم يكن شديد الذكاء لا يصلح.. وهذا غير صحيح. فإنّ الله تعالى يُبارك في أعمال التقي. إنّ الذكاء الخالي من التقوى لا خير في ذكائه.. ولن تكون مبادئ الجماعة ولا أموالها في يد أمينة معه، بل سيكون سببًا للفتن والفساد. أما البسيط، التقي، الخائف من الله.. إذا سلمتم إليه شيئا بقي محفوظا سليمًا. إنّ تاريخ الجماعة شاهد على أنّ أهل التقوى -وإن كانوا أقلَّ ذكاءً وعلمًا- قد بارك الله فيما استؤمنوا عليه، وتقدَّمت الأعمال في أيديهم. أما الأذكياء الشُّطَّار فقد سبَّبوا الفتن والخسائر. فاطردوا من أذهانكم فكرة أنّ الذكي الشاطر ينفعكم.. بل كلّما كان الإنسان شاطرًا كلما كان أكثر خطورةً على النظام.

ثم تذكَّروا أنّ من الخطأ الربط بين التقوى والغباء.. فالحقّ أنّ التقوى والغباء لا يتَّحدان في إنسان. الخالي من التقوى هو الغبي. لو كان ذكيًّا شاطرًا حقا لكان تقيًّا. إنَّ هذه المرحلة تبدأ بأولي الألباب.. الذين يُدركون مقام الله تعالى، ويخشونه. ولولا إدراكهم هذا وخشيتهم ما كانوا من أُولي الألباب. ولو لم يكونوا من أولي الألباب ما كانوا متقين. التقوى تَهَبُ نورًا وفراسة وعمقًا في تفكير الإنسان. إنّ معرفة التقوى أمرٌ صعب، ولكن المعاملات اليوميّة تكشف لكم من هو المتقي. الذي تتعاملون معه وتجدونه صادقا في أقواله دائما.. لا يمكن أن تقولوا عنه بأنه ليس تقيا. والذي تأتمنونه فلا يخون أبدا فهو متَّقٍ. والذي ترونه متواضعا لا يطلب مركزا أو عزًّا شخصيًّا ولا تبدر منه الأثرة والأنانية. والذي يُطيع النظام دائما، ولا يدخل في تكتُّلاتٍ أو أحزاب.. فهو من أهل التقوى. هذه هي علامات التقوى. ويعرف الإنسان تقوى غيره بهذه العلامات الظاهريّة. أما التقوى الحقيقية فعلمها عند الله تعالى.. هو عالِم الغيب والشهادة. وقد اخترتُ هذه الآية لخُطبة اليوم لبيان معنى عالِم الغيب والشهادة.. وسأتناولها بعد هذا الموضوع الذي بدأته.

تظنُّون أنَّ فُلانًا بارًّا ولكنه عند الله ليس بارًّا. وقد تحسبون أحدًا فاسقا وهو عند الله بار. الله تعالى يعلم الغيب ويعلم حقيقة ما تشاهدونه. أنتم لا تعرفون الشاهِد ولا الغيب. وهنا قد يسأل أحد: كيف نعرف الناس إذا كنا لا نعرف حتى المشهود من أحوالهم؟ لا بدَّ لنا أن نقيس الناس بظاهر أفعالهم، فكيف نعرف؟ تذكَّروا أنَّ قرارات المؤمنين تكون موافقة لقرارات الله تعالى؛ وقرارات المتقين توافق قرار الله. ربما تُخطئ قراراتهم الفرديّة. ولكن إذا اجتمع المؤمنون وأهل التقوى فإنَّ قراراتهم تكون صحيحة.. لانّ النبي يقول: «اتَّقُوا فَرَاسَةَ المـُؤمِنْ فإنَّهُ يَرَى بِنُورِ الله». فما معنى أن يرى بنور الله؟ الحقيقة أنّه لا يرى بعينه فقط، وإنّما يرى الناس والأمور على ضوء حبِّه الله تعالى، وبالفراسة التي يَهبُها الله له. فليس له نورٌ ذاتيّ.. ولكن النور الذي يرى به هو نور الله جلَّ عُلاه. لقد تبرَّأ من قواه الذاتيّة وأعطى نفسه لله تعالى فآتاه نورا من عنده. إذا اعتاد الإنسان أن يرى بنور الله تعالى فلا بدَّ أن يكون قراره صائِبا.

هذا حكمٌ عام، ولكن الله هو عالِمُ الغيبِ والشهادة. لا يقول المتَّقي أنّي أرى بنور الله فاقبلوا قولي. فَمَنْ قال ذلك أثبت أنّه لا يرى بنور الله. لأنّه لو كان حقًّا ما يقول لما ادَّعى لنفسه هذه الدعوى. فالقرآن الكريم يقول:

لا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ..

لا تمدحوا أنفسكم لأنّ الله وحده الأعلم بالمتَّقي الحقيقي. إنّه موضوعٌ دقيق. وقد يبدو معقّدا.. والحقُّ أنّه ليس كذلك.. وعندما أبيِّنه لكم سيبدو سهلاً واضحا.

تذكَّروا.. إنّكم لو تحرَّيتم التقوى فإنّ قراركم سيكون صحيحا. وإذا أخطأتم القرار فلسوف يُصحِّحه الله. المهم أن يكون القرار أصلاً نابعا عن التقوى وصادرا بإخلاص. ليس هناك ضمان أن يكون قراراكم دائما صائبا. نعم قد يُخطئ أهل التقوى في قرارهم بسبب قلة الخبرة مثلاً. وقد تفوَّق النبي على الأنبياء وعلى العالَمين.. لأنّ ذاته أيضا كانت مُنيرة حتى من قبل أن تنزل عليها شعلة السماء. قال تعالى

يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .

فالناس مُتفاوتون في الفراسة. العين الضعيفة ترى بنور الشمس، وكذلك العين القوية.. ولكن بينهما تفاوتٌ في الرؤية. وهكذا الحال بالنسبة للتقوى. وما دام النبيُّ قال بأنّ المتَّقي يرى بنور الله تعالى فلا ينبغي أن نفهم من ذلك أنّ كل قرار له يكون صائِبا، ولو فكَّر أحدٌ هكذا لكان مُخطِئًا. إذا درستم هذه المسائل بدقة على ضوء آيات القرآن وأقوال النبيّ لوضَحت لكم هذه الأمور.

فمع أنّكم لا تعلمون الغيبَ والشهادة، ولكنكم تتَّخذون القرار مُستمسكين بالتقوى.. فإن أخطأتم فلن يُعاقبكم الله. إذا تعثَّر ضعيف البصر وسقط فإنّه يتأذَّى.. ولكنه لا يُعاقَبُ على ذلك. أما الذي يمشي نحو هُوَّة ويأخذ معه غيره ويدفعهم إليها.. فإنّه يضرّهم، ولذلك لا بدَّ أن يُعاقَب. فالمتَّقي إن أخطأ في قرارٍ نابعٍ من التقوى فلا عِقاب عليه لأنّه كان صالحَ النيّة. والجماعة التي ربَّاها الله وعلّمها على يد الإمام المهدي تسير في مجموعها على التقوى، ويُتوقَّعُ منهم أن يثبتوا على التقوى.. لذلك يكون انتخابهم من الله تعالى. فالمتَّقون هم الذين ينتخبون الخليفة، ولذلك يُعتبر انتخابهم هذا اختيارا من الله تعالى.. فهم يرون بنور الله. وهذا الضمان موجودٌ لنا كجماعة. فإذا جاهدنا لنكون متَّقين، وسألنا الله معونته بالدعاء والتضرُّع.. فسنبقى على التقوى لأكثر من ألف سنة. ولكن لا بدَّ من استمرار المراقبة والتربية. ويلعب مجلس الشورى دورًا هاما في هذا الصدد. وإذا لم يكن انتخاب أعضاء مجلس الشورى بالتقوى والإخلاص وتفقُّد الأحوال، فلن نبقى على التقوى. أما بالتقوى والإخلاص فلن يُعاقب الله من أخطأ في إعطاء صوته؛ وقد يُلهم الله الآخرين بتصحيح هذا الخطأ حتى لا يُنتخب شخصٌ غير مناسب.

وتاريخنا شاهدٌ على ذلك. بل وتاريخ جماعة النبي شاهدٌ على أنّ الأتقياء إن أخطأوا في اختيارهم فإنّ الله تعالى يُصلح قراراتهم ولا يتضرَّرون في مجموعهم. إذن يجب أن يتم اختيار أعضاء مجالس الشورى بالتقوى وصلاح النيّة. وإذا انتُخِب أحدٌ بأسلوبٍ خاطئ فعلى رئيس الجماعة المحليّة أن يُبلغ المركزَ بالأمر، ويذكر الأسباب والسوابق لهذا الشخص. ومثل هذا لن يُقبل في المجلس.

بعض الرؤساء لا يهتمّون بالأمر ويتهرَّبون من اللوم، ويغضّون النظر عن الخطأ. ولكن هذا التفكير مُحِطٌّ لتقواهم. يجب إبلاغ المركز بكل من انتُخِب خطأً بلا خوف من لوم أحد.  إنّهم أحيانا يكتبون للمركز للتعبير عن سخطهم لعدم انتخاب شخص يرونه محبوبا عندهم. وإنّي أسأل هؤلاء الشاكين: أين كانت تقواكم عندما عرفتم عيوبه أول الأمر؟ لماذا أغفلتم عنها وتذكرونها اليوم؟ إذا كنتَ لم تؤدِّ واجبك يومئذٍ فلماذا تفتح فاكَ بها اليوم؟ تشكوه الآن لأنّ مصلحتك قد اصطدمت بمصلحته.. لأنّك تعرف أنّه لو صار رئيسا أثَّر على موقفك.. وهذا ما جعلك تتذكر الماضي!

إذا كانت هناك عيوبٌ في شخصٍ مسؤول يجب أن تبلغ المركز في حينها. حدث قبل سنتين اختلاف بين بعض الناس في جماعة ألمانيا وبعض الرؤساء.. فجاءتني مثل هذه الشكاوى تذكر أخطاءً قديمة وقعت قبل عشرين سنة.

إنني عندما أطلب منكم إبلاغ المركز عن الأخطاء لا أدعوكم للتجسُّس على الناس؛ بل أدعوكم لخشية الله تعالى أولاً. فلا تؤثِّر النيّة الفاسدة على تصرُّف أحد. ولكن على المسؤولين أن يبلغوا المركز بالتجاوزات وقت حدوثها.

أحيانا لا يعرف الأمير شيئا عن شخصٍ ما.. ولكنه عندما يصبح مسؤولاً فإنّه تبلغه بعض الأمور.. فيجب أن يخبر المركز بذلك كي يتحرَّى المركز موقف هذا الشخص، فلا يصل إلى المسؤوليّة إلا أولئك الذين هم معروفون بالصلاح بين المؤمنين. ومثل هؤلاء الناس عندما يصلون إلى مجلس الشورى يدخلون في مرحلة الابتلاء.. لأنّهم يتحدَّثون في المجلس، وقد يختلفون مع غيرهم.. وربما تنحرف أفكارهم ويُسيئون إلى الجماعة، وينظرون إلى الغلبة فقط. وعندما يتغلّبون ويطمئنّون يفرحون لهذه الغلبة. وهذه الفرحة تدلُّ على عدم تقواهم. ولكن هنالك من إذا غلَبَت حُجَّتهم استغفروا الله تعالى حتى لا يشوب فرحته الزهو بالغلبة، قال أحد الإخوة ذات مرة: حاولت العمل على نجاح فلان لأنّ قلبي كان مرتاحا إليه وأراه صالحا.. فلما نجح فَرِحتُ، ولكني استغفرتُ الله تعالى.

وبعض الناس إذا بلغهم عن أحد أنه عارض وجهة نظرهم تباعدوا عنه. ألا يعرف هؤلاء أن مقاطعتهم لهذا المتقي ابتعادٌ عن الله تعالى؛ لأنّ الذي يُخالف أحدا لوجه الله، ويقول الحق مرضاةً لله، ولا يخشى إلا الله، ويعرف ان علاقاته سوف تتوتّر مع أصدقائه.. فإنّهم إذا ابتعدوا عنه كان ابتعادهم في الواقع ابتعادا عن الله.. هو تعالى يحافظ على هذا الصادق ويحميه. انظروا إلى الإمام المهدي.. عندما تناظر ذات مرة مع المولوي محمد حسين البطالوي، حضر كثيرٌ من الناس لأنّ الإمام المهدي كان يمثِّل أهل السُنّة وكان البطالوي يمثّل أهل الحديث. وكان أهل السُنّة يعرفون أنّ مرزا غلام أحمد مناظرٌ قوي سوف ينتصر في المناظرة. وفي بداية المناظرة سأله الإمام المهدي: كيف ترى مكانة القرآن أمام الحديث؟ فأجاب البطالوي بما يتّفق مع رأي الإمام المهدي. فقال الإمام المهدي: لقد انتهت القضية إذن. فثار الناس، وقالوا: لقد أحرجتنا أمام أهل الحديث وانهزمت أمام البطالوي. فقال حضرته: كيف أُناظر شخصا لا يُخالف القرآن في هذا الموضوع؟ وقد رضيَ الله تعالى عن موقف سيدنا المهدي وقال له: «سَأُبارِككَ حتَّى يَتَبَارَكَ مِنْ ثِيَابِكَ الملُوك». فالذين يقبلون الهزيمة لوجه الله تعالى لا يتخلّى عنهم.

فالذي يخالف ويُعارض أحدًا لوجه الله تعالى لا يُصيبه ضرر. فلا تتحرَّجوا من الخلاف في مجلس الشورى ولا تتضايقوا. يضيق المرء بغيره ويحتدُّ عليه وقد لا يُحدِّثُ مُخالفه باحترام.. فيدلُّ بذلك على أنّه جانَبَ التقوى. وضاعت منه جدوى الشورى. فإذا تحدَّثتم فليكن ذلك بصدرٍ رَحْب. واقبلوا الاختلاف لوجه الله تعالى، وشجِّعوا الاختلاف. ولكن بعد صدور القرار يجب أن تزول الخِلافات، وتطمئِنَّ النفوس، وتجتمع القلوب. ولو ظلَّ هناك أيُّ انقباضٍ نحو القرار في قلوبكم، أو تكلّمتم ضده بعد أن صادَقَ عليه الخليفة.. فلن تظلُّوا جزءًا من الجماعة.. سواءً أُخرجتم منها أم بقيتم فيها. فتذكَّروا ان تتقبَّلوا القرارات بشجاعةٍ لوجه الله، وأن تكون ألسنتكم متحلِّية بالأدب، ولا تحتدُّوا ولا تفلت منكم كلماتٌ تجرح مشاعر الآخرين. وإذا أخطأ أحدٌ في قولٍ فاصبروا لله تعالى. ولسوف يجزيكم جزاءً كبيرا. ثم عليكم أن تتقبَّلوا القرار الذي يتمُّ في مجلس الشورى. ولتعلموا أنّه ليس قرارا نهائيّا. يجب أن تعرفوا ذلك جيدا. وليتذكَّره أعضاء مجلس الشورى دائما. بل وكل الجماعة يجب أن تعرف ذلك. فالشورى ليست برلمانا دنيويًّا.. وإنّما تعني كما قال الله تعالى للنبي : وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. تبادل الرأي مع المؤمنين.. فإذا كان النبي مأمورا بالمشورة، فمن هذا الذي هو خادمٌ للنبي ولا يستشير؟ فمن واجب الخليفة أن يستشير المؤمنين الذين هم أهلٌ لتقديم المشورة في كل أمرٍ هام. وهذا قد بيَّنته للإخوة من قبل. وأُكرِّر: إنّ قرارات مجلس الشورى تُقدَّم للخليفة على أنّها مشورة. هذا القرار الذي يتمُّ في الجماعة المحليّة ينبغي ألا يُعارضه أحد منهم بعد ذلك. ولكن هناك احتمال أنّ يظنَّ أحد الأعضاء أنّ القرار ضارٌّ بالجماعة؛ فعليه أن يحتفظ بحقِّه، ويعلن للإخوة بأنّه سوف يُخبر الخليفة بموقفه.. لأنّ القرار الذي تمَّ يراه ضارًّا بمصلحة الجماعة. ويجب على رئيس المجلس أن يُعطي هذا الحقَّ لمن يطلبه.

هذا النظام للشورى الإسلاميّة نظامٌ كاملٌ وخالٍ من أيّ خلل. فإذا وصل القرار إلى الخليفة كان مشورةً له وليس قرارا. يقول الله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .. أي يا محمد. بعد أن استمعت إلى المشورة من المؤمنين ثم اتَّخذت أنت بنفسك القرار.. فتوكَّل على الله. هذا الأمر القرآني ليس خاصًّا بالنبي وحده، وإنّما هو واجب الاتّباع من قبل كل من ينتسب إليه ويخدم الإسلام كخليفة أو إمام. وقد أخبرتكم من قبل أنّ الخلفاء الراشدين فهِموا هذا المعنى من الآية. وكانوا يقبلون المشورة أو يرفضونها.. بصرف النظر هل هذه مشورة الأغلبيّة أو الأقليّة.. حتى لقد رفض الخلفاء قرارات أجمع عليها أهل الشورى. وحدث ذلك من النبي ، فمثلاً عند يوم الحديبيّة.. وافق النبي على ما أراده ممثل قريش.. مع أنّ الصحابة جميعا كانوا رافضين له. وقوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ لا يعني أن ينفِّذ قرارَ المشورة ويَعزِمَ عليه، وإنّما يأخذ القرار كما يرى هو، وليس كما جاء في المشورة. ثم يعزم على تنفيذ ما يصل إليه. وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر عندما أراد أن يُرسل جيش المسلمين إلى مكانٍ بعيد، وعارض المسلمون لأنّ المدينة كانت في خطر، ولكن أبا بكر أصرَّ على أن يبعث الجيش حيث أراد النبيّ قبل وفاته وقال: كيف يمكن لابن أبي قُحافة أن يُبدِّل قرارًا سبق أن أصدره النبي، وقال: لو أنّ الوحوش نهشت جثث الناس في المدينة فلن أوقف مسيرة هذا الجيش.. ولا بدَّ أن يتوجَّه الناس حيث أراد النبي . وهذا هو التوكُّل الحقيقي، ولا نجد مثالاً لهذا التوكُّل. كانت القبائل حول المدينة قد تمرَّدت على الدولة الإسلاميّة، ولكن انظروا كيف حوَّل الله هذا الحال إلى أمنٍ وطمأنينة ببركات الخلافة.

فهذه الأوامر القرآنيّة إذن هي للنبي ولخلفائه ولأتباعه الصادقين. فكل من يتولّى منصبًا في النيابة عن النبي ويعمل بهذه النصيحة سوف تجد قراراته تأييدًا وبركة من الله تعالى. وفي تاريخنا أيضا.. عندما عارض الخليفة قرارا من الأكثريّة بارك الله قرار الخليفة.

في ساحل العاج تنتخب الجماعة أميرهم ويعقدون الشورى؛ فادعوا لهم، لأنّ الإخوة الجدد بحاجة إلى الدعاء والتربية.. كي يكون مزاج الجماعة واحدا للجميع للأسود والأبيض والشرقيّ والغربيّ، ونكون على نورٍ واحد، النور المحمَّدي الذي وصفه القرآن بانّه لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ .. إنّه نورٌ مشترك للجميع ولا يختصُّ بأحدٍ منهم.

أريدُ أن أذكر بعض الأمور الأخرى. نظام التبرُّعات لم يتوطَّد بعد. وأعرف أنّ الكثيرين لا يُقدِّمون التبرُّعات بحسب القَدْر المقرَّر للجماعة. يجب أن يشترك كل فرد في نظام التبرُّعات. وهناك شرط في الانتخابات.. ألَّا يشترك فيها ناخبٌ أو مرشَّح إلّا إذا كان مسدِّدًا لتبرُّعاته بحسب النِصاب. هناك من لا يؤدّون التبرُّع، أو يُؤدُّونه أقل من النِصاب، أو يُؤخِّرونه حتى اللحظة الأخيرة.. وأرى أنّ هؤلاء ينبغي استبعاد أسمائِهم من قائمة الانتخابات إلا بإذنٍ من المركز. وتباطؤهم ونقصان ما يؤدُّونه مُخالف للتقوى، ولا ترغب جماعتنا في مثل هذا المال أبدا. ما فاتَ قد فات؛ ولكن لا تكرِّروا ذلك بعدها أبدا. الذين يؤدُّون تبرُّعاتهم يؤدُّونها بالتقوى. وإذا لم يستطيعوا فقد يكون ذلك في بعض الأحوال الخاصة، ولكن إذا تكرَّر هذا فسوف يُعاقب من يعتادون ذلك. وبالنسبة لأولئك الذين لا يؤدُّون التبرُّع بحسب النِصاب المقرَّر فيمكن معاملتهم بطريقةٍ من ثلاث:

أولاً: مَنْ طلبوا الإذن بتخفيض النِصاب يحقُّ لهم الاشتراك في مجلس انتخاب الأمير، ولكن لا يُرشَّحون للانتخاب.. لأنّهم أدنى من المستوى الحقيقي. لقد رخَّصتُ لهم بذلك، وهذا يُجيزُ لهم التصويت فقط. وثانيًا: من لم يحصلوا على الإذن فلا حقَّ لهم في التصويت لانتخاب الأمير. وثالثًا: من يُؤدُّون التبرُّع كاملاً ولكنهم يتأخَّرون أحيانا فلا بأس من اشتراكهم في التصويت.

يقول البعض: لقد تعرَّضنا لضيقٍ ماليّ منذ ثلاثة أعوام.. فَأذَنْ لنا بالتصويت. أقول لهم: هذا ابتلاءٌ من الله تعالى، وعليكم أن تقبلوا نتائجه. المرض له عواقب. وعلى من يُصاب بالمرض أن يتحمَّل عواقبه. لا نستطيع أن نضع زمام الجماعة في يد من لا يسدِّدون تبرُّعاتهم. وعلى ضوء هذه الشروط انتخبوا من هو أهلٌ لحمل الأمانة، ومن هو في نظركم أتقاكم. وقد أخبرتكم بعلامات التقوى.. فخذوا هذا القرار، واضعين في الاعتبار أنّ الله تعالى يراكم.. وعندئذٍ سوف يؤيِّدكم ويكتب النجاة للجماعة حتى وإن أخطأتم.

وختامًا، أدعوكم للدعاء لجماعة ألمانيا.. لأنّها جماعة أوربيّة نشيطة، تزدهر بسرعة، وهي أفضل جماعات أوروبا. وفَّقهم الله لأداء الواجبات المتزايدة مع توسَّعاتهم، فإنّ الله عندما يُنعم على أحد فإنّ مسؤوليته تزداد. فاذكروهم بالدعاء. وكذلك اذكروا ساحل العاج فهو بلدٌ له أهميته. وقد تذكرون ما سبق أن أخبرتكم به من أنّ الله تعالى أراني في الرؤيا أنَّ الجماعة تزدهر وتنتشر هناك أكثر من غيره بطريقةٍ عجيبة محيِّرة، ومع أنّ الأمير والمبشِّر هناك لم يتغيَّرا. والثمرات التي لم نكن نحصل عليها في سنوات أعطاها الله لنا في أسابيع. الإخوة الجدد يأتون.. ولكن يجب علينا أن نُضاعف الجهود لتربيتهم. وقد ذكرت لكم دعاء النبيّ :

«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ. اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لي».

فكِّروا هذا الدعاء، وادعوا للقادمين الجدد. وفَّقنا الله تعالى لحماية هذه الثمار. وأداء هذه الواجبات الجديدة. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك