في رحاب التفسير
  أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (108)

التفسير:

عبارة (ألم تعلم) ليست موجهة إلى النبي الكريم ، وإنما إلى كل فرد من الناس كافة.. قارئ للقرآن أو سامع له أو غيرهما. والدليل قوله (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير). والمراد: ألا تعلم أيها الإنسان أن الله هو صاحب ملك السماوات والأرض..أي كما أن الله ينتزع الملك الدنيوي من أيدي أهل السوء ويؤتيه أهل الجدارة، كذلك ينـزع الملْك الروحاني أحيانا من قوم ويؤتيه آخرين. وما دامت السماء والأرض كلتاهما خاضعة لحكم ملك واحد..فلزم أن يخضعا لقانون واحد، ولا بد من قياس القانون السماوي بالقانون الأرضي وبالعكس.

فتوجه الآية أنظارنا إلى أنه يجب علينا عند انعدام النص أن نقيس القانون الشرعي –وهو قانون سماوي –بالقانون الطبيعي، وهو قانون أرضي، إذ لا يمكن أن يوجد أي اختلاف في قانونهما لأن كلتيهما من حاكم واحد..هو الله جل جلاله. لقد كان الإمام المهدي والمسيح الموعود دائما وأبدا يبين هذا الأصل ويقول إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، والقانون الطبيعي هو فعله، ومن المحال أن يوجد بينهما اختلاف في الأصول وصانعهما واحد (الملفوظات ج1،ص 145).

فكما نرى في سنة الله الجارية في الأرض أي شعب يتمتع بالحكم ما دام أهلا له ومؤيدا لواجبات الحكم، وحينما يقصر في أداء واجباته نحو ملكه ينتزع منه الملك..كذلك تماما عندما لا يعود أي دين صالحا لتلبية متطلبات الزمن فإنه ينسخ. فاعتراضكم على اصطفاء الله محمدا بالنبوة متعارض مع القانون الطبيعي. لِم لا تقيسون القانون السماوي بالقانون الطبيعي؟ ألا ترون أنه عندما يصير شيء ما عديم الفائدة يفنى ويدمر، كما قال تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(الرعد: 18)..أي أن ما لا ينفع الناس يفنى. فنفس هذا القانون جار على الشرائع أيضًا، فإنها تُنسخ عندما لا تفي بمتطلبات العصر. فما دامت الكتب السماوية السابقة فقدت صلاحيتها لإصلاح الخلق، وما دام لا بد الآن من نزول كلام سماوي لهداية الناس فإنه وإن لم يأتِ به محمد لأتى به غيره لا محالة. وإلى هذا المبدأ نفسه أشار سيدنا المهدي والمسيح في بيت شعر معناه: كان الزمن يقتضي بعث مصلح، ولو لم أبعث لبعث الله سواي.

قوله تعالى (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير): الجزء الأول من الآية موجه للناس عامة، أما في هذا الجزء فيخاطب الله المسلمين فقط.. أن ليس لكم ولي ولا نصير سوى الله تعالى. فما دمتم قد اعتبرتم الكتب السماوية الأخرى كلها منسوخة..فمن يواليكم إذن؟ كان عيسى قد نسخ كتب اليهود فعاداه اليهود ولم يعاده الهندوس. ولو نسخ أحد كتب الهندوس لعاداه الهندوس، ولا يعاديه غيرهم؛ ولو نسخ أحد كتب الزردشتيين لعاداه الزردشتيون ولا يعاديه اليهود.. أما كتابكم –أي القرآن –فقد أعلن نسخ جميع الكتب، وما دام كتابكم ينسخ بعض ما ورد في كل كتاب من الكتب السابقة، ويُذكِّر أهلها بما نسوه منها.. فإنه قد أقام القيامة في أهلها، لذلك صارت الأمم كلها أعداء لكم، مع أن محمدا يريد خيرهم وهم لا يفقهون، فلن يكون لكم صديق منهم.

الواقع أن قول الله هذا تحقيق لنبأ التوراة الوارد في حق إسماعيل-عليه السلام –لما أبلغه الله إلى مكة. يقول النبأ: (يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه)(تكوين 12:16)..أي أن سيفه يبقى مسلطا ضد إخوته جمعيا، وسيوف إخوته مسلطه ضده..بمعنى أن الدنيا كلها ستعاديه.

وهذا هو حال سيدنا المهدي والمسيح الموعود أيضًا، لأنه مبعوث للأمم، لذلك تعاديه الأمم كلها. فنحن عرضة لطعنات الكل. لا شك أن منهم أفرادا لا يعاملوننا بالسوء، ولكنهم يفعلون هذا كأفراد وليس كجماعة. وأغرب من هذا أن الهندوس والمسيحيين والمسلمين كلهم يتحدون على عداوتنا..ويتعجب المرء ويقول متى كان الهندوس والمسيحيون أصدقاء لأهل الإسلام! وليس ذلك إلا أن المهدي والمسيح الموعود بعث لإصلاح جميع هذه الشعوب.

لقد أخبر الله المسلمين قبل هذه الآية أن اليهود يتربصون بكم الدوائر، لذلك لا تنخدعوا بظاهر أعمالهم.. فإنهم ليسوا أصدقاء لكم، والآن ينبههم إلى أن اليهود ليسوا وحدهم أعداءكم… وإنما ليس لكم من بين كل شعوب العالم من ولي ولا نصير. وتؤكد هذه الآية أيضًا أن الآية السابقة لم تذكر النسخ في القرآن، وإنما ذكرت نسخ كتب الأديان الأخرى، وإلا فكيف يعقل أن يغضب اليهود والنصارى لنسخ آيات قرآنية؟ فعداوتهم دليل قاطع على أنهم غضبوا لأن القرآن نسخ كتبهم هم.

 

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (109)

شرح الكلمات:

يتبدل –تبدل: استبدل (الأقرب).

ضل-ضل الطريق وضل عنه: فقده؛ نسيه (الأقرب).

سواء السبيل: الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه (المنجد).

التفسير:

اعترض الجهلة من الكتاب المسيحيين على النبي بأنه كان يأمر أصحابه بالكف عن السؤال لقلة علمه – معاذ الله.

ولكن هذه الآية توضح أن الصحابة لم يُنهَوْا عن مجرد السؤال، وإنما نهوا عن تلك الأسئلة التي كان أصحاب موسى يسألونه إياها. والواقع أن وراء كل سؤال غرضا ونية، فمنه ما هو للاستزادة من العلم، ومنه ما هو للمحاجة والجدال أو إساءة الأدب أو التحقير والاستهزاء؛ والعاقل لا يسمح أبدا بتوجيه سؤال غير معقول. فمثلا إذا قام طالب في الصف بتوجيه سؤال بعد سؤال إلى الأستاذ فلا بد أن يؤنبه، ويقول له: إنك تضيع وقتنا. ولا يدل هذا التأنيب أبدا إلى قلة علم الأستاذ.

فالقرآن يمنع من طرح الأسئلة السخيفة التي لا طائل منها. ويشير إلى ذلك قوله تعالى (كما سئل موسى).

وقد ذكر الله نوعية الأسئلة الموجهة إلى موسى عليه السلام فقال: (يسألك أهل الكتاب أن تنـزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة)(النساء: 154).

وكذلك يتبين من التوراة أن بني إسرائيل كانوا يسألون موسى عن كل صغيرة وكبيرة. ولكن أصحاب النبي كانوا لا يفعلون ذلك، بل كانوا من الوقار والأدب وضبط النفس بمكان. كانوا ينتظرون حتى يأتي أحد الأعراب فيسأل النبي ، فيغتنموها فرصة لسماع حديثه (البخاري، العلم). فالله تعالى قد نهى المسلمين فقط عن سؤال يتعارض مع الشريعة ويضيع إيمان السائل، أو فيه سوء الأدب والوقاحة والكسل، أو فيه مضيعة للوقت، ولكنه لا ينهى عن أسئلة توجه لطلب العلم.

أذكر أنني والحافظ روشن علي وبعض الإخوة الآخرين كنا نتلقى دروسا في الحديث من سيدنا الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود. وكان الحافظ روشن علي يكثر السؤال ويناقش ويجادل على كل صغيرة وكبيرة لدرجة أن الخليفة الأول –رضي الله عنه –ملَّ من عرقلة الدرس بكثرة السؤال؛ وكما يقال إن للصحبة اعتبارها..فلما رأيت كثرة سؤال الحافظ وددت أن أسبقه في السؤال، وكنت عندئذ فتى في العشرين.. ذا حماس ونشاط، ففي اليوم الرابع أخذت أنا أيضًا أوجه الأسئلة. فسكت أستاذنا الخليفة الأول في ذلك اليوم، ولكن في اليوم التالي عندما وجهت إليه السؤال قال لي: أنا أسمح للحافظ المحترم بالسؤال، ولكني لا أسمح لك. ثم أضاف: أنت معي منذ مدة طويلة وتعرف طبعي. أتظن أني أبخل عليك بالعلم وأكتم عنك شيئا؟ كلا، بل إنني لم أبخل بعلمي قط، وإنما أخبرك بكل ما عندي، ومهما ناقشتني فلن أستطيع أن أزيد على جوابي. وكل ما أبدي من رأي لا يخلو من أحد اثنين: فإما أن أكون صائبا ومعقولا، ولكنك لم تفهمه واعترضت، أو أنه غير صائب واعتراضك صحيح. فإذا كان رأيي خاطئا.. فأنت تعلم أني لا أخون في قولي ولا أخدعكم به؛ وإنما كل ما أقوله عن أمانة وظن أنه هو الصحيح. فمهما جادلتني واعترضت علي فلن أزال أتمسك برأيي وأكرره. وإن كان رأيي هو الصحيح فعلا.. فيعني اعتراضك أنك لم تفهمه. وفي هذه الصورة يولد الاعتراض العناد في طبعك، ولا تجني منه شيئا. فنصيحتي لك اجتناب السؤال، والتفكر والتدبر في كل مسألة بنفسك. فإذا فهمت ما أقول فاقبله. أما إذا لم تفهمه فالْجأ إلى الدعاء ليلهمك الله العلم والمعرفة من لدنه.

وبعد هذه النصيحة لم أوجِّه إلى حضرته أي سؤال قط. وبعد بضعه أيام أُنِّب الحافظ الفاضل أيضا على كثرة السؤال أثناء الدرس، وبذلك زادت سرعتنا في الدرس، وكنا ندرس قسطا كبيرا من صحيح البخاري يوميا، إلى جانب مواد أخرى، وهذا لا يتسنى إلا إذا كان الطلاب ممتنعين عن السؤال مكتفين بسماع قول الأستاذ. مهما يكن من أمر فإنني على أثر نصيحة سيدنا الخليفة الأول بدأت التدبر في القرآن بنفسي، وازددت بفضل الله فهما للقرآن لدرجة أنني أصبحت ألقي دروس القرآن على الملأ وأنا طالب. وكأن الخليفة الأول عندما كفّني عن السؤال.. وجّه نظري إلى التدبر في القرآن بنفسي.

وكذلك فإن الله عندما ينهى المسلمين عن السؤال فإنه يريد رفع مستواهم النظري والفكري. لا شك أن الإنسان يحتاج أن يسأل غيره. ولكن يجب عليه التفكير والتدبر بنفسه في أكثر الأحيان. لقد رأيت الناس يكثرون السؤال عن ذكر قصة آدم في القرآن. مع أنهم لو تدبروا بأنفسهم في الأمر بدلا من سؤال الآخرين.. لتمكنوا من فهم القضية.

وقوله تعالى (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل).. يبين أن الغرض الحقيقي من السؤال هو الاستزادة من العلم، ولكن الذي لم يسأل للعلم، بل استهزاء بالرسول وإساءة إلى كلام الله تعالى.. فإن السؤال لن يزيده إيمانا بل يؤدي به إلى هوة الكفر؛ ولو سأل للعلم ما لقي هذا المصير.

فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه دائما، ويتجنب المناقشات غير المجدية والأسئلة التي لا طائل تحتها. لقد حدث مرة أن جاء شيخ لمناظرة ولي الله عبد الله الغزنوى – الذي كان قد رأى في الرؤيا أن نورا قد أشرق من قاديان.. ولكن أولاده حرموا منه[1]. فقال حضرته للشيخ: إنني أناظرك بشرط أن تكون صادق النية. ويبدو أن الشيخ كان ممن يخشون الله ويخافونه، فما أن سمع قوله هذا إلا وانسحب من المناظرة قائلا: أنا لا أناظرك. فالخصوم عموما لا يكونون حسني النية في المناظرة، وإنما يقصدون الجدال وكسب الصيت، وإهانة الخصم والنيل منه، ولأجل ذلك ينهى الله المؤمنين عن مثل هذه الاعتراضات والأسئلة.

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (110)

شرح الكلمات:

فاعفوا – العفو: المحو لغةً، ويعني محو آثار الذنب شرعا (الأقرب).

اصفحوا – صفح: ولّى صفحة وجهه (المنجد). فعندما يريد الإنسان مقاومة أحد فإنه يقابله وجهًا لوجه، ولكن عندما لا يريد المقاومة يولي وجهه، ومنه الصفح أي الاعتراض عن ذنب الغير.

التفسير:

لقد رُزق إبراهيم في أواخر عمره بابنه البِكر إسماعيل من زوجته السيدة هاجر، ثم رُزق بإسحاق من زوجته الأولى السيدة سارة (تكوين16و18). ولما كانت سارة بنت خال إبراهيم فقد رأت نفسها أفضل من هاجر التي لم تكن من أسرته. وتصادف أن ضحك إسماعيل وهو صغير من إسحاق، فرأت سارة في ضحكه إهانة لولدها. ولعلها ظنت أنه يضحك ظنًا منه أنه الوارث لأبيه لكونه البكر، فغضبت وطلبت من إبراهيم إخراجه وأمه بعيدا لأنها لا تريد أن يرث إسماعيلُ إبراهيمَ مع ابنها إسحاق. أما إبراهيم فقد استاء من قولها في أول الأمر ثم خضع لرغبتها أخيرا. ولكن الله كان يريد بعث الرسول من مكة.. فأوحى إلى إبراهيم أن افعل ما تقوله لك زوجتك سارة (تكوين 21). فبأمر من الله أوصل إبراهيم زوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى مكة، وبقيت أرض كنعان لسارة وإسحاق. وبدأ نسل إسماعيل يكثر في مكة، حتى ولد محمد رسول الله في آل إسماعيل بمكة.

ولم يتوقف هذا التنافس بين بني إسماعيل وبني إسحاق عند هذا الحد، وإنما تحقق ما أوحى الله إلى أمِّ إسماعيل وقت ولادته (يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه) (تكوين 12:16) أي سيكون بنو إسماعيل إلى زمن ما أقل عددا من بني إسحاق، وسوف يعارض كل بني إسحاق معا بني إسماعيل ويسعون لهدمهم.

هذا الموضوع يذكره قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم).. أي أن كثيرا من أهل الكتاب يريدون أن يرتد بنو إسماعيل – أي أتباع محمد – عنه ويخذلوه. ولا يريدون ذلك لذنب أو تقصير من الرسول أو لحسن نية فيهم.. وإنما حسدا وبغضا ومنافسة. إنهم يريدون أن تمتد منافسة سارة وهاجر إلى ألفي عام. ويتحرقون حسدا وكمدا أن سبقهم أصحاب محمد إلى الإيمان به.. وازدادوا صلاحا وهدى، ويريدون أن ينتقموا منهم بأن يحرموهم هم أيضا من الزيادة في كل خير، مع أنهم لو آمنوا كما آمن المسلمون لازدادوا مثلهم صلاحا وتقوى. وما أرادوا ذلك إلا حسدا وبغضا للمسلمين. وكلمة (من عند أنفسهم) تشير إلى أن هذه المشاعر السيئة ترجع إلى فساد نفوسهم، وليس أي تصرف من المسلمين وراء حسدهم. ذلك أن الحسد نوعان: أحدهما ما يكون سببه حَسَنا، والثاني ما يكون سببه سيئا – مثلا لو ازداد كافر ما مالا وغنى وحسده مسلم، فقد يكون حسد المسلم إما بنية كسر شوكة الكفر لأن ربه لا يريد الكفر؛ وإما لأن نفسه هو لا تتحمل أن يكون كافر ذا ثروة. ثم قد يكون الحسد بدون عاطفة دينية بسبب أهواء نفس الحاسدين فقط.

فالله تعالى يبين أن حسد اليهود ناشئ من أنفسهم.. أي لفساد وخلل في نفوسهم، وليس وراءه أي تصرف من المسلمين. فلو أن المسلمين أثاروا حفيظتهم باستهزائهم واستخفافهم لكانوا هم السبب، ولكنهم ناصحون أمناء يريدون لهم الخير. إذن فحسدهم نابع من فساد نفوسهم.

قوله تعالى (من بعد ما تبين لهم). قد يظن أحد أن أهل الكتاب يريدون رد المسلمين كفارا إما لأنهم يظنون خطأ أن المسلمين صاروا أسوأ حالا من الكفار المكيين.. فمن الأفضل أن يرجعوا إلى الكفر مرة أخرى، وإما أنهم يرون على وجه اليقين والبصيرة أن المسلمين صاروا أسوأ حالا من الكفار، فلو رجعوا إلى حالتهم الأولى كان أفضل لهم. ولكن الله يعلن أنهم لا يودون للمسلمين ذلك لخطأ في الفهم أو نصحا منهم للمسلمين.. وإنما يودون ذلك حسدا منهم ليس إلا، فإنهم يدركون جيدا أن كفار مكة أسوأ من المسلمين، وأن دين هؤلاء أفضل مما عليه المشركون. وكانوا يعلمون جيدا أن الهدى إنما يأتي من عند الله تعالى، ومع ذلك فإنهم أرادوا انتشار الكفر وتقلص الهداية. إذن فهم ليسوا أعداء للمسلمين فحسب، بل هم أعداء لله أيضا.

لقد جاء ذكر أماني أهل الكتاب نحو المسلمين في مواضع أخرى من القرآن الكريم حيث قال الله تعالى (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم.. وما يضلون إلا أنفسهم) (آل عمران: 70) وقال: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (آل عمران 101).

قوله تعالى (فاعفوا). ليكن معلوما أن الذنب يُعفى عنه ويمحى بثلاث طرق: أولا – بمحو نتائجه الدنيوية، كوقاية المذنب من عقوبة جسمانية، وثانيا – بمحو نتائجه الأخروية، كوقايته من عذاب الآخرة، وثالثا – بإزالة صدأ الذنب من لوح القلب والقضاء على الرغبة فيه. وهذا الأخير هو أفضل أنواع العفو.

وحيث إن الخطاب هنا موجه إلى المسلمين.. لذلك فلا يراد من العفو من العقوبة الأخروية وإنما المراد هو العفو عن العقوبة الدنيوية. فقد أمر الله المسلمين: لا تحاولوا معاقبتهم، بل اتركوهم.

وتشير (الفاء) السببية في قوله (فاعفوا) أن الأمر الإلهي جاء نتيجة لفعل من جانب أهل الكتاب، وهذا الفعل إنما هو محاولتهم رد المسلمين كفارا. فليس المراد من قوله (فاعفوا) أنهم يحاولون أن يردوكم كفارا لذلك فاعفوا عنهم.. ذلك لأن العفو يترتب على فعل حسن، ولكنهم لم يأتوا بأي خير، بل بالعكس قاموا بأمر خطير.. حيث خططوا للقضاء على وحدة المسلمين وتشتيت شملهم. فليس هناك أي خير لهم يستحقون به العفو عنهم.

وهذا ينشأ تساؤل: ما داموا لم يفعلوا أي خير، بل على العكس حاولوا رد المسلمين إلى الكفر واحدا فواحدا.. فلماذا أمر الله بالعفو والصفح عنهم؟

فليكن معلوما أن الله قد أراد بالعفو هنا النوع الأول فقط من العفو؛ أي لا تحاولوا معاقبتهم بهذا الخصوص، وإنما نحن الذين سوف نتولى بأنفسنا عقابهم. وأتبع العفوَ بالصفح، ومعناه إدارة الوجه إلى جانب آخر، ليقول بذلك: لا تعاقبوهم، بل ولا تعاملوهم بقسوة وجفاء، بل أعرضوا عنهم. لذلك قال بعدها: (حتى يأتي الله بأمره)، أي أعرضوا عنهم حتى ينفذ الله أمره.. أي إهلاكهم بإنـزال العذاب. فالذين ارتكبوا الجرائم المادية والجسدية والروحانية الخطيرة كهذه، وأرادوا رد المسلمين كفارا.. مع علمهم أنهم أرفع منهم قدرا وشأنا، وذلك فقط لحسدهم الناشئ عن فساد قلوبهم وخسة نفوسهم.. فلا يقدر على عذابهم حق العذاب إلا الله تعالى. لأن الإنسان يقدر فقط على تعذيب الجسم، ولا يستطيع تعذيب العقل والضمير والروح. ولكن الله هو الذي يملك ذلك بلا شك وبكل تأكيد. فجسم الإنسان وقلبه وعقله وروحه تحت تصرفه، لذلك قال الله تعالى: اتركوهم لنا، فنحن نعذبهم عقليا وفكريا، ونعذبهم نفسيا وروحيا.

وهذا هو بالضبط ما حدث. فلما تجاوز اليهود حد مضايقة المسلمين باللسان إلى إيذائهم بالمكائد السياسية ومؤامرات القتل.. أذن الله للمسلمين بقتال اليهود، وألحق بهم على أيدي فئة مسلمة شر خزي وأسوأ ذلة.

[1] وبالفعل عندما ادعى سيدنا المهدي وكان ذلك بعد أن توفي هذا الولي لله، عارضه أولاده معارضة شديدة، ومنهم المولوي عبد الحق الغزنوي.
Share via
تابعونا على الفايس بوك