في عالم التفسير
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجلَ مِن بَعدِهِ وَأَنتُم ظَالِمونَ (البقرة:52)

 

ظالمون: جمعُ ظالم. للمزيد راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (… ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).

التفسير:

تذكر هذه الآية منّةً إلهية أخرى تنكّرَ لها بنو إسرائيل في زمن موسى ، ولم يألوا جهدًا في تغيير هذه المنّة إلى سبب للعذاب. وبيان ذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يخلو للعبادة في جبل كان في طريقهم إلى كنعان، ليتلقى منه تعالى بعض التوجيهات. فذهب موسى إلى الجبل، ولكن بني إسرائيل أحسّوا بعد أيام أن غيبته قد طالت عليهم وظنوا أنه قد مات أو تعرض لمكروه. فصنعوا تمثالَ عجل ذهبي من الحُلِيّ التي كانت معهم، وقالوا هذا إلهنا، وعكفوا على عبادته. وأخبر الله تعالى موسى بما فعله قومه وأمره بالرجوع إليهم.

ويذكر الكتاب المقدس هذه الواقعة كالآتي:

{وَقَالَ لِمُوسَى: «اصْعَدْ إِلَى الرَّبِّ أَنْتَ وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو، وَسَبْعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ، وَاسْجُدُوا مِنْ بَعِيدٍ. وَيَقْتَرِبُ مُوسَى وَحْدَهُ إِلَى الرَّبِّ، وَهُمْ لا يَقْتَرِبُونَ. وَأَمَّا الشَّعْبُ فَلاَ يَصْعَدْ مَعَهُ»}(الخروج 24: 1-2).

فعمل موسى بذلك،

{وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَقَالَ لَهُمُ: «اجْلِسُوا لَنَا ههُنَا حَتَّى نَرْجعَ إِلَيْكُمْ. وَهُوَذَا هَارُونُ وَحُورُ مَعَكُمْ. فَمَنْ كَانَ صَاحِبَ دَعْوَى فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمَا».} (اَلْخُرُوجُ 24: 14)

ثم ورد:

{وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ. وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.}(الخروج 24: 18).

ثم ورد:

{وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ». فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَاتُونِي بِهَا». فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ. فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: «هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ، وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ». فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ.} (الخروج 32: 1- 6).

يتضح من هنا أن الكتاب المقدس يرى أن الله تعالى أمر موسى بقضاء ليالي في الجبل. وقبل أن يصعد موسى إلى الجبل أمر بني إسرائيل بطاعةِ هارونَ وحُورَ فترةَ غيابه. وبعد أيام ظن بنو إسرائيل أن موسى قد مات فلم يرجع إليهم، وطلبوا من هارون أن يصنع لهم صنمًا. فلبّى طلبهم وجمع منهم حُلِيِّهم وصنع لهم عجلاً، فقدَّموا له القرابين والأضاحي بمساعدة هارون.

أما القرآن الكريم فقد ذكر هذا الحادث في قول الله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (الأَعراف 143).

وقال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (الأَعراف 149).

وقال تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (طه 91-92).

لقد وجّه هارون أنظار بني إسرائيل هنا بقوله: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ إلى أن الله تعالى برحمته الواسعة يُنزل كلامه لهداية الناس، ولكن ما هو الهدي الذي يعطيكم هذا العجل؟

وهناك بون شاسع بين بيان الكتاب المقدس والقرآن الكريم؛ فأولاً: يبين القرآن الكريم سبب قلق بني إسرائيل ويذكر أن موسى أُمر في البداية بقضاء ثلاثين ليلة في الخلوة على الجبل، ولا بد أنه يكون قد أخبر قومه بهذه المدة، ثم زاد الله تعالى عشر ليالٍ أخرى تكميلاً للإحسان إلى موسى ، لأن عدد الأربعين يدلّ على الكمال في العالم الروحاني، وبسبب هذه الزيادة في عدد الليالي أصاب قومَه القلقُ، فمنهم مَن قال أن موسى قد مات، منهم من ظن أنه خذلهم هروبًا من مشاقّ الطريق، ونظرًا لحداثة عهدهم بالإيمان تأثّروا بمن حولهم من الأقوام الوثنية وصنعوا صنمًا يعبدونه. ولكن الكتاب المقدس لا يبيّن السبب وراء قلقهم.

وثانيًا: يصرح القرآن الكريم أن هارون لم يقع في هذا الشرك، بل إن بني إسرائيل هم الذين ارتكبوه، وحاول هارون بكل جهد منْعَهم منه. أما الكتاب المقدس فهو لا يكتفي بتوريط هارون النبي في هذا العمل الوثني، بل يقول إنه قَبِلَ طلبهم بلا تردد، ولم يصنع العجل لهم فحسب، بل دعاهم جميعًا لعبادته. لا حول ولا قوة إلا بالله! والحق أن رواية الكتاب المقدس هذه مخالفة للعقل والمنطق ولا يمكن أن يقبلها عاقل للحظة واحدة، لأن معنى ما يقوله الكتاب المقدس أن النبي الذي كان معتادًا على سماع كلام الله تعالى أَلَّهَ تمثالاً بلا حياة، لا يضرّ ولا ينفع، وعَبَدَ بنفسه هذا التمثال وحثّ قومه على عبادته! مَن يقبل هذا الهراء السخيف سوى قساوسة النصارى وأحبار اليهود الذين ختموا بالرصاص على آذان عقولهم لكي يصدقوا كل ما ورد في أسفارهم من رطب ويابس؟!

ويعترض البعض هنا: كيف صُنع تمثال العجل في عشرة أيام فقط؟ وكأن هؤلاء المعترضين قد رأوا ذلك العجل ووجدوه رائع الصنعة بحيث تطلّبَ صنعُه مصانع عظيمة ومهندسين كبارًا! أيُّ صعوبة في صياغة صنمٍ بإذابة الذهب في قالب من التراب؟ إن الذي صنع التمثال كان مشركًا بقلبه، وكان حريصًا على أن يرتد بنو إسرائيل إلى الشرك ثانية، فصاغ تمثالاً عاديًا في ساعات. وصياغة مثل هذا التمثال ليست أصعب من صياغة الأسورة العادية التي يصنعها الصاغة في ساعات قليلة.

أما السؤال مِن أين تعلّمَ هارون هذه الصنعة، فهذا سؤال يجب أن يردّ عليه اليهودُ والنصارى لا نحن، لأننا نؤمن أن هارون كان مبرأ من هذا العمل الوثني، وأن التمثال قد صنعه شخص آخر اسمه السامري، ولعله كان صائغا فصنعه بنفسه أو مستعينًا بالصائغين الآخرين الذين كانوا يحملون مثل أفكاره.

ويعترض البعض هنا قائلا: لقد واعدَ الله تعالى موسى ثلاثين ليلة في البداية، ثم جعلها أربعين، وهذا إخلاف للوعد.

الحق أن مثال هذا الاعتراض كأنْ يَعِدك أحدٌ بإعطاء ثلاثين درهمًا، ثم يزيدها إلى أربعين. فهل هذا إخلاف للوعد؟ إن كلام الله تعالى نعمة عظيمة، وقد أتمّها بأربعين ليلة بدلاً من ثلاثين، وإتمام النعمة ليس إخلافًا للوعد، بل هو إحسان وإنعام.

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة:53)

شرح الكلمات:

ثُمَّ: حرفُ عطف. وللمزيد راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (… فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجَعون).

عفونا: عفا عنه ولَه ذَنْبَه وعن ذنبه: صفَح عنه وترَك عقوبتَه وهو يستحقّها وأعرض عن مؤاخذته. عفا الله عن فلان: محا ذنوبه. عفا عن الشيء: أمسك عنه وتنزّهَ عن طلبه (الأقرب).

لعلّ: راجِعْ شرح كلمات قول الله تعالى (… الذي خلقكم والذين مِن قبلكم لعلكم تتّقون).

تشكرون: شكَره وشكَر له: أثنى عليه بما أولاه من المعروف (الأقرب).

التفسير:

يتّضح من الكتاب المقدس أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل عندما اتخذوا العجل إلهًا، وقال لموسى :

{رَأَيْتُ هذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ} (الخروج 32: 9-10).

وورد أيضًا:

{فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِهِ… فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ} (المرجع السابق: 11-19)،

أي لم يعاقبهم الله تعالى، بل عفا عنهم.

وقوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ يعني أن الله تعالى عفا عنهم كشعب، ولكن كبار المجرمين منهم نالوا العقاب الفردي، ولم يُعْفَ عنهم. ذلك أن الجرائم القومية قسمان: قسمٌ يتعلق بالقوم ككل، وقسم يتعلق بأفراد منهم. فهناك أناس يقومون بالدور الأكبر في الجرائم القومية، ومنهم مَن يشارك بنصيب أقل، ومنهم من لا يشارك فيها بجهده، وإن كان مع المجرمين بقلبه ولسانه، وهناك من لا يشترك بلسانه ولكن قلبه معهم، وهناك من ينساق للمشاركة في الجريمة جُبنًا وقلبه غير مطمئن إليها، ومنهم من لا يشترك في الجريمة ولكن يؤيدها بلسانه فقط، وقلبه كارهٌ لها. ومنهم من لا يشترك فيها لا بالعمل ولا باللسان ولا بالقلب، ولكنه لا يقاومها، بل يسكت عليها. ومنهم من يكتفي بإبداء عدم الرضا عن الجريمة بلسانه دون مقاومة جادة منه. كل هؤلاء يكونون شركاء في العقوبة القومية، ولكن عند العقوبة الفردية يُعاقَب كلُّ شخص منهم بمقدار دوره في الجريمة. وقوله تعالى: عَفَوْنَا عَنْكُمْ إنما يشير إلى رفع العقوبة القومية عنهم نتيجة دعاء موسى ، ولا يشير إلى رفع العقوبات الفردية التي استحقها كبار المجرمين، إذ يتبين بعد آيتين أنهم عوقبوا.

وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني أننا تفضّلنا عليكم بهذا الفضل لكي تقدّروا رحمتنا الواسعة حق قدرها، فتنتفعوا بها على الدوام.

 

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (البقرة:54)

 شرح الكلمات:

الفرقان: مصدرُ فَرَقَ، يقال فَرَق بينهما فُرقانًا: فصَل أَبْعاضَهما… فَرَق لفلان أمرٌ ورأيٌ: تبيّن واتضح. فَرق له عن الشيء: بيَّنه. والفرقان: القرآنُ؛ وكلُّ ما فُرق به بين الحق والباطل؛ النصرُ؛ البرهانُ؛ الصبحُ أو السحر؛ انفراقُ البحر؛ التوراةُ؛ ويوم الفرقان: يومُ بدر (الأقرب).

الواقع أن المعنى الأصلي للفرقان هو كل ما فُرِقَ به بين الحق والباطل، وقد  ذكر أهل اللغة معاني أخرى للفرقان مثل: القرآن الكريم والتوراة وانفراق البحر، على وجه الاستنباط، لكنها ليست معاني لغوية للفرقان، وقد أوردوها لأن كلاً منها ميّزَ بين الحق والباطل عند أهل هذه الأديان.

تهتدون: اهتدى الفرسُ الخيلَ: إذا صار في أوائلها وتقدّمَها (تاج العروس).

فعلاوة على المعنى المعروف فإن (لعلكم تهتدون) تعني أيضا: لكي تسبقوا الناس وتكونوا أئمة لهم.

(راجع أيضًا شرح كلمات قول الله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) وقوله تعالى (هدى للمتقين).

التفسير:

ذكرت هذه الآية ضمنًا ما أُعطيَ موسى في الأربعين ليلة. وكأنه تعالى يقول هنا: لقد عملنا كلّ هذا لهداية بني إسرائيل ولازدهارهم، ولكنهم عكفوا على عبادة العجل، معرضين عن إلههم الحي المحسن. هذا التباين بين فعل الله تعالى وفعل بني إسرائيل يبرز جريمتهم أيما إبراز بحيث من المحال ألاَّ يتأثر منه عاقل.

أما قول الله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فبيّن فيه أننا كنا نعمل لهدايتكم، وأنكم تعملون لضلالكم. فالكتاب والفرقان اللذان أُوتيهما موسى على الجبل كان الغرض منهما أن يتحول إيمان بني إسرائيل الإجمالي إلى إيمان تفصيلي، ولكنهم أضاعوا في تلك الأيام ما كان فيهم من إيمان ووقعوا في الشرك والوثنية.

سيدنا موسى

ورد اسم موسى في القرآن الكريم في هذه الآية أول مرة، فحريّ بنا أن نذكر هنا أمورًا عنه .

يتضح من القرآن الكريم أن موسى كان من بني إسرائيل، وكان الحلقة الأولى من سلسلة النبوة في بني إسرائيل التي كان عيسى الحلقة الأخيرة فيها. ورد في القرآن الكريم أن الملأ من قوم فرعون قالوا له: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (الأَعراف 128). كذلك قد ورد في أكثر من عشرة مواضع في القرآن الكريم أن بني إسرائيل هم قوم موسى . ومع أنه يمكن أن يراد من قومه هنا المؤمنون به، ولكن القرآن الكريم يبين أن موسى لم يبعث إلاَّ إلى بني إسرائيل، فلا بد أن المؤمنين به هم بنو إسرائيل أنفسهم إلاَّ ما شذَّ وندر، وعليه فالمراد من قومه بنو إسرائيل. وثمة آية أخرى توضح المراد من قوم موسى كل التوضيح، قال الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ (يونس 84). فالقوم هنا هم بنو إسرائيل في كل حال ولا يمكن أن يراد من القوم هنا المؤمنون.

إن الباحثين الجدد المعاصرين يحاولون إثبات أن موسى لم يكن من بني إسرائيل، بل كان من أصل مصري، ويستدلّون على ذلك بما يلي:

الأول: موسى اسم مصري، فيقال باللغة المصرية (مَوْسى) للطفل. يقول برستيد (Breasted): “توجد لدى المصريين القدامى أسماء مثل (آمُن موسى) و(بتا موسى)، ومعناهما: طفل آمون وطفل بتا. وآمون وبتا إلهانِ من آلهة المصريين” (كتاب فجر الضمير The Dawn of Conscience)

ويقول البروفيسور سيجموند فرويد S.Freud: “وعلاوة على هذه الأسماء، هناك أسماء مشابهة لها للملوك المصريين مثل: آه موسى، ثُت موسى، رع موسى” (موسى والتوحيد Moses And Monotheism).

و(رع موسى) هو الذي يذكره الكتاب المقدس باسم (رعمسيس). و(رع) هو إله الشمس عند المصريين، فمعنى (رع موسى): الطفل الذي وهبه إله الشمس. ويقول هؤلاء الباحثون أن الأسماء الأخرى التي كانت مع كلمة موسى سقطت، وبقي اسم (موسى) فقط.

الثاني: ويدّعون أيضًا أن التوحيد لم يكن معروفًا في القبائل الكنعانية، وإنما أسس عقيدةَ التوحيد أحدُ ملوك مصر اسمه (أمنحوتب الرابع). كان يعبد إلهًا يسمّيه (آتون)، وأمر الناس بعبادته. وأُطلق اسم (آتون) في الكتب القديمة على إله الشمس، ويقال أنه كان هناك في هليوبوليس معبد كبير لإله الشمس يزاولون فيه عبادة الشمس، وكان الكثير من رهبان هذا المعبد يحملون أفكارًا فلسفية، فبدأوا بالتدريج يُسْبغون على إله الشمس طابعًا أخلاقًيا، بدلاً من طابعه المادي، ثم خلَع عليه أمنحوتب صبغة الإله الواحد، وروّج له في مصر. وينقلون عنه قوله: أيها الإله الوحيد الفريد، لا إله سواك. وقد نقل (برستيد) قول أمنحوتب هذا في كتابه (تاريخ مصر History of Egypt)، ويستدلون من قوله هذا على أنه كان مؤسس فكرة التوحيد، وأشاعها في البلاد قسرًا، وأمر بهدم معابد الآلهة الأخرى. وكان اسمه (أمنحوتب) اسمًا وثنيًا فاستبدله باسم (أخناتون)، وكأنه نسب نفسه إلى الإله الواحد (آتون).

الثالث: روّج موسى في بني إسرائيل عادة الختان، وهي عادة مصرية، فثبت بذلك أن موسى كان مصريًا.

الرابع: لا يوجد في تعاليم الملِك المصري أخناتون ذكرُ البعث بعد الموت، وكذلك لا يوجد ذكرُ البعث في تعاليم موسى أيضا.

الخامس: كان المصريون يكرهون الخنزير، وفي تعاليم موسى أيضًا كراهية الخنزير.

السادس: ورد عن موسى أنه كان لا يجيد التعبير عن أفكاره، وهذا يدل على أنه كان مصري الأصل ولم يكن يجيد الحديث بالعبرية.

بهذه الأفكار يستدلون على أن موسى كان مصري الأصل، وأنه كان من أتباع الملِك المصري أمنحوتب المعروف بأخناتون. ويقولون: بعد موت (أخناتون) عادت الديانة المصرية الوثنية ثانيةً وحلَّ الشرك محلَّ التوحيد مرة أخرى. وعندما لم ير موسى إمكانية نشر دين أخناتون الداعي إلى التوحيد بين المصريين توجه إلى قوم بني إسرائيل غير المصريين الذين كانوا عرضة لاضطهادهم دائمًا، وكان من السهل صرفهم عن العقائد المصرية بسبب كراهيتهم للمصريين. فأقبل بنو إسرائيل على دينه مسرعين بسبب عدائهم للمصريين، وعندما لم يعد لهم مكان في مصر نتيجة اعتناقهم الدين الموسوي هاجروا مع موسى منها إلى كنعان.

وأردّ الآن على هذه الأدلة الستة بإيجاز:

دليلهم الأول:

الحق أن قولهم: إن موسى اسم مصري، فلا بد وأن يكون موسى مصري الأصل؛ لقولٌ سخيف للغاية. لقد عاش بنو إسرائيل في مصر عبيدًا محكومين، فكان  لا بد أن يتأثروا من حضارة المصريين وعاداتهم. وهذه الظاهرة تلاحظ في الشعوب المستعمرة، فمثلا إن الإنجليز في الهند قليلون، وربما لا يبلغ عددهم حتى الواحد بالألف من سكانها، ومع ذلك نجد الآلاف من الهنود يسمّون أنفسهم بأسماء إنجليزية مثل جيمز وجونز وتامس وغيرها، ويعتزّون بها، مع سواد بشرتهم وقيام بعضهم بأعمال تنظيف المراحيض، ولا يستطيعون أن ينطقوا كلمة واحدة من الإنجليزية، دعْ عنك أن يتحدثوا بها. فهل يحق لمؤرخ أن يستدلّ بهذه الأسماء أن هؤلاء من أصل إنجليزي؟ يجب أن يكون الاستدلال ذا قيمة، وعلى المؤرخ أن يقدم رأيه بعد دراسة الأحوال والظروف كلها بنظرة عميقة واعية. وإني لأتعجب كيف استساغ هؤلاء المؤرخون الغربيون استنباط هذه النتائج بهذه السطحية والعجلة! الغريب أنهم يستغربون من إطلاق أسماء مصرية مثل اسم موسى وأسماء بعض أصحابه، مع أننا نستطيع تقديم آلاف الأمثلة لهنود سمرٍ يسمّون أنفسهم تامس وجيمز وجونز، مع أنهم ينظفون المراحيض ويجهلون اللغة الإنجليزية جهلاً تاما. ونفس الحال بالنسبة للنساء أيضا، فهناك المئات منهن اللواتي لسنَ مسيحيات، ولكنهم بسبب دراستهن في مدارس الكنائس المسيحية سمَّين أنفسهن أو أولادَهن بأسماء إنجليزية. وأحيانًا تجد للمرأة اسمين أحدهما إنجليزي والآخر إسلامي أو هندوسي، وهي معروفة بين صديقاتها وأقاربها باسمها الإنجليزي. فمثلا يكون اسمها ثريا، لكنها معروفة بين أترابها باسم دولي (dolly)، أو يكون اسمها “رام كور”، لكنها شهيرة بين صديقاتها باسم جين (jane). فهل يجوز لأحد أن يستنتج من أسمائهن أنهن من أصل إنجليزي. فلماذا لا نستنتج بناءً على هذه الأمثلة التي تبلغ الآلاف أن (موسى) إن كان اسمًا مصريا فقد سمّاه به أبواه أو غيرهما تأثرًا بالمحيط المصري. وأيّ غرابة في هذا خاصة وإن القرآن والكتاب المقدس يذكران أن أم موسى عندما وضعتْه جعلتْه في صندوق بأمر الله تعالى وألقته في النهر خوفًا من اضطهاد فرعون، فعثرت عليه امرأة من الأسرة الملكية الفرعونية وأخذته وقامت بتربيته. لقد عثروا عليه على شاطئ النهر، وما كان لهم أن يعرفوا له اسمًا، فلو سمّوه بلغتهم فما الغرابة في ذلك.

باختصار، حتى لو افترضنا في ضوء هذا الحادث بأن موسى اسم مصري، فإنه لا يحقّ لنا الاستدلال على كون موسى مصري الأصل حتى وإن وجدنا في سلسلة أحداث طفولته حلقة تؤكد إمكانية أن يكون اسمه مصريا. فاستنتاجهم هذا استنتاج واهٍ وضعيف للغاية ولا يؤبه له مطلقًا.

يقول الكتاب المقدس عن هذا الحادث أن رجلاً مِن بيت لاوي تزوج امرأة من قبيلته،

{فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ. وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُخَبِّئَهُ بَعْدُ، أَخَذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ. وَوَقَفَتْ أُخْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعْرِفَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِ. فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ. وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ». فَقَالَتْ أُخْتُهُ لابْنَةِ فِرْعَوْنَ: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟» فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي». فَذَهَبَتِ الْفَتَاةُ وَدَعَتْ أُمَّ الْوَلَدِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: «اذْهَبِي بِهذَا الْوَلَدِ وَأَرْضِعِيهِ لِي وَأَنَا أُعْطِي أُجْرَتَكِ». فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَأَرْضَعَتْهُ. وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»}. (اَلْخُرُوجُ 2: 2-10)

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الحادث في قول الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (القصص 8-10).

يتبين من هذه الفقرات من القرآن الكريم والكتاب المقدس أن امرأة من بيت فرعون أخذت موسى طفلاً رضيعًا وقامت بتربيته. ويقول الكتاب المقدس أن هذه المرأة كانت بنتَ فرعون، وهي التي سمّته. وما دامت هي التي سمّته فكان طبيعيا أن تسمّيه باسم مصري.

فمن غير المعقول اعتبار موسى مصري الأصل لكون اسمه مصريا. يوجد عندنا في منطقة البنجاب مثالان على الأقل من هذا القبيل، فاثنان من الإنجليز المشهورين قاما بتربية طفلين هنديين وتسميتِهما باسمين إنجليزيين، وكلاهما معروف باسمه الإنجليزي حتى اليوم، وأحدهما يُنسَب إلى عائلة واربرتون (Warburton)، والآخر إلى عائلة الدكتور مارتن كلارك (Dr. Martin clarck)، وكان أحد أفرادها وزيرًا في الحبشة. وكلا الشابين هنديٌّ قحٌّ، ولكنه معروف باسمه الإنجليزي، لأن الإنجليز ربَّوه وسمَّوه باسم إنجليزي.

كما أرى أن هؤلاء الكتاب الغربيين لم يقدّموا دليلاً كافيًا على كون موسى اسمًا مصري الأصل، ولا على أنه ليس اسمًا عبرانيًا. إنهم يستدلون بأسماء مصرية يتكون أحد جزءيها من لفظ (موسى)، ولكننا نجد علماء الألسنة مختلفين في ذلك، إذ ليس منهم واحدٌ ذكَر بأن نُطْق كلمة (موسى) المصرية هو مثل نطق كلمة (موسى) بالعبرية، وإنما قرأها بعضهم (مَوسِى)، وبعضهم (مَيْس)، وبعضهم (مَيْسُو)، ومعناها الطفل، وتُستخدم منفردةً حينًا ومتصلةً باسم آخر حينا آخر. فقد وردت في الأسماء الملكية المصرية التالية: (تحتمُس، أحِمُس، رعْميسو). وكما هو ظاهر، فهناك بون شاسع بين نطق هذه الأسماء ونطق كلمة موسى.

بالإضافة إلى ذلك قد ورد في الكتاب المقدس أن ابنة فرعون نادت الطفل باسم (موسى) قائلة: “لأني انتشلتُه من الماء”. ولكن ليس في اللغة المصرية كلمة موسى أو مشابهة لها تعني معنى الانتشال من الماء. بينما توجد في العبرية كلمة تعطي معنى مشابهًا للانتشال من الماء، وهي كلمة (موشي) التي تتركب من مقطعين: (مو) ومعناه ماء، و(شي) ومعناه شيء. والمعروف أن العبرية والعربية لغتانِ متشابهتان، ولو حوّلنا هذه الكلمة إلى العربية صارت كالآتي: ماء شيء. والماء يسمى “مَو” في العربية المشوهة، ولا بد أن من ذهب للحج هنالك قد سمع هذه الكلمة هنالك، إذ يقول الواحد للآخر هنالك: “مو شَي فيه”، أي: هل شيء من الماء فيه. والحق أن العبرية صورة مشوهة من العربية، وعليه فتعني كلمة (موشي) بالعبرية: شيء مائي، أي الولد المنتشَل من الماء، وانقلبت موشي في العربية إلى موسى، كما هو الحال في كلمتي (عيسى وإسماعيل)، فأصلهما العبري (يشوع ويشمائيل). وهذه قرينة قوية على أنَّ اسم موسى عبراني الأصل، وأن رواية الكتاب المقدس في هذا الصدد ضعيفة.

ثم إنه من غير المعقول أن يمكث الطفل عند أمّه كل هذه السنين ومع ذلك لا تسمّيه باسم من عندها. أرى أن أم موسى عندما أحضرتْه من بيت عائلة فرعون لكي ترضعه سمَّته (موشي)، وذلك نظرًا لنجاته من الغرق في الماء، ليُذكِّرها هذا الاسمُ دائمًا بالمعجزة الإلهية التي وقعت لها. ويبدو أنها حين عادت به إلى بيت فرعون أخبرتهم باسمه هذا مبيِّنةً لهم سبب هذه التسمية، فأعجبهم الاسم وقالوا سنناديه بهذا الاسم.

أرى أن هذا هو البيان الأقرب إلى الواقع والصواب، لأنه أولاً: ليس في اللغة المصرية كلمة مثل موشي بمعنى (ما انتُشل من الماء)، وثانيًا: من غير المنطقي أن يبقى الطفل بدون أيِّ اسمٍ إلى كل تلك السنوات.

ثم إذا ألقينا نظرة على اللغة العربية وجدنا أن لفظ موسى يعني بالعربية: المقطوع، وفيه إشارة إلى أنه فُصِلَ مِن أسرته وتربى عند آل فرعون. أما لفظ “موشى” العبري فيعني في العربية الشيء المنتشل، حيث يقال: أوشى الشيءَ: استخرجه. واسم الفاعل منه هو “مُوشي”، واسم المفعول هو “مُوشَى”، وعليه فالمراد من موشى: المنتشَل. وهذا المعنى يطابق قول بنت فرعون الوارد في الكتاب المقدس (لأني انتشلته من الماء).

فعندي أن لفظ موسى كان في الأصل مُوشَى، ونُطق في العبرية مَوْشَى، ومعناه الأصلي: من انتُشل أو استُخرج.

وأقول في الأخير: العجيب أن هؤلاء الباحثين المعاصرين يريدون من ناحية إثباتَ أن بني إسرائيل لم يذهبوا إلى مصر ولم يخرجوا منها أصلاً، ومن ناحية أخرى يقولون إن بني إسرائيل ذهبوا إلى مصر، وأن كبيرهم موسى ( ) كان مصري الأصل، وأن دينه كان دينًا مصريًا. يمكن أن يدرك الإنسان بهذا التعارض مدى ضعف أساس أقوالهم. لا شكّ أنهم قاموا ببعض البحوث الجيدة فعلاً، ولكن شوقهم إلى تعميم النتيجة التي يتوصلون إليها في مسألة ما على سائر المسائل هو ما أفسدهم وأوقعهم في العثار. ومثلهم كمثل الذي يصنع إناء من الطين، ثم يتباهى بأنه قد صنع العالم كله! إن صنع الإناء عمل جيد، ولكن هذا لا يعني أنه صار بذلك صانعًا للعالم كله. ولو أن هؤلاء لم يقعوا في سوء الفهم هذا لكان لبحوثهم وزن أكبر كثيرًا.

دليلهم الثاني:

قالوا: إن فكرة التوحيد مصرية الأصل، ولأن موسى ( ) نشرها في قومه، فثبت أنه كان مصري الأصل.

والجواب، أولا: إن الظن بأن فكرة ما لا يمكن أن تنشأ إلاَّ في ذهن شعب واحد فقط ظنٌّ باطل ومناف للعقل، وإلا فلا بد من التسليم بأن كل هذا الرقي العلمي في العالم لم ينشأ إلا في رؤوس خمسة أو ستة من الناس، وأن الآخرين أخذوا عنهم. وهذا باطل بالبداهة. فما زال عديد من الناس في شتى مناطق العالم يُعملون فكرهم لوحدهم فيما حولهم من الأشياء والأحداث، وتوصلوا إلى نتائج، وكانت أفكارُ مئاتٍ منهم متوافقة ومترادفة مع كونهم من مختلف أقطار العالم. كانت فكرتهم الأساسية واحدة بشيء من التنوع الذي يحصل بسبب اختلاف البيئات في مختلف الأمصار. أما قضية التوحيد فلا يمكن القول بشأنها تحديدا أنها نشأت في قلوب أهل قطر واحد. فقد شاهدنا أن هناك قضايا عملية كثيرة قد قام العلماء بالبحوث فيها في وقت واحد وفي بلاد مختلفة منفردين دون أن يرى أحدهم ما يقوم به غيره، ومع ذلك توصلوا إلى نتائج مماثلة؛ ولم يقل أحد أن هذا سرق نتائج الآخر، بل قالوا إنها ظاهرة توارد الأفكار. خذوا اللاسلكي مثلا، فكان عديد من العلماء يقومون بالبحوث بشأنه في وقت واحد بالإضافة إلى “ماركوني”، فتمكنوا بصورة منفردة من الوصول إلى حقائق شتى. لذا فلا يصح القول أبدًا أنَّ فكرة التوحيد نشأت عند المصريين فقط، ولا يمكن أن تنشأ عند غيرهم، ولأن موسى نشر التوحيد، فكان مصريا.

حتى ولو سلمنا جدلاً بصحة قولهم هذا، فلا يعني ذلك أن موسى كان مصريا. فهل من السنن الكونية أن الفكرة المصرية لا ينشرها إلاّ المصري؟ وأن من المحال أن يقبلها إسرائيلي وينشرها؟ إذا كانت فكرة التوحيد مصرية الأصل، فهل من المستحيل أن يعجب بها شخص إسرائيلي، كموسى مثلًا، وينشرها في قومه؟

إن ردودي هذه لا تمثّل إلا نقدًا علميا محضا، وإلاَّ فالواقع أن موسى لم يدّع قط أنه المخترع لفكرة التوحيد، كما لا يقول الإسلام أن موسى مخترعها. بل إن كل الأديان متفقة على أن الأنبياء لا ينشرون أفكارهم، وإنما ينشرون وحي الله تعالى، وأن فكرة التوحيد قد جاءت إلى الدنيا بوحي الله منذ بداية العالم. فما دام الله تعالى واحدًا، ولم يزل منذ البداية ينزل وحيه، فمن البديهي أنه سيقول لكل نبي بأنه واحد، ومن المحال أن يوحي لأنبيائه السابقين بتعدد الآلهة، ثم يقول لأخناتون المصري إنني واحد أحد. لقد وقع هؤلاء الباحثون في هذه الخدعة نتيجة عدم فهمهم للوحي وحقيقته. الحق أن أساس الدين هو الوحي، وإذا لم يكن هنالك وحي إلهي فليس الدين إلا وهمٌ وهراء، وفي هذه الحالة يصبح موسى بلا قيمة، سواء أكان من المصريين أو من بني إسرائيل أو من غيرهم. إنما تكمن عظمة موسى وأهميته فيما نزل عليه من وحي الله تعالى، وإذا سلّمنا بالوحي الإلهي فلا بد من الاعتراف أن التوحيد كان العنصر الأعظم من تعاليم الأنبياء أجمعين، وما كان الله تعالى لينتظر ظهور أمنحوتب (أخناتون) لإظهار وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى.

نجد القرآن الكريم يقول باستمرار لأهل مكة إن جدكم إبراهيم كان موحدًا، ولا شك أن إبراهيم كان قبل موسى عليهما السلام، ورغم أن أهل مكة كانوا مشركين، لكنهم لم يجرؤوا على إنكار ما قال لهم القرآن الكريم، حيث لا نجد في التاريخ واقعة واحدة قالوا فيها -ولو كذبًا- أن إبراهيم كان مشركًا مثلهم. وهذه شهادة تاريخية على أن قريشًا -الذين كانوا يعيشون بعيدًا عن بني إسرائيل وكانوا يعدّون أنفسهم من نسل إبراهيم- هم الآخرون كانوا يقرّون بأن إبراهيم كان من الموحدين. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كان موسى قد تعلَّم التوحيد من أمنحوتب المصري، فمَن علَّم إبراهيم التوحيدَ؟ هل تعلّمه من المصريين؟ كان أهل مكة مشركين، وكان من صالحهم أن يدّعوا أن إبراهيم كان من المشركين، ولكنهم لم ينكروا كونه من الموحدين. فادّعاء هؤلاء الباحثين أن التوحيد بدأ من أمنحوتب المصري باطلٌ تماما. إن التاريخ لمختلف الشعوب يؤكد بأن فكرة التوحيد كانت موجودة منذ الزمن السحيق، لأن الوحي الإلهي قد حفظ فكرة التوحيد حيّةً وقائمة في كل أنحاء الدنيا. التوحيد لم يتولد من الشرك، بل قد تولدت أفكار الشرك بعد التوحيد في زمن الضلال والانحطاط.

دليلهم الثالث:

قالوا إن عادة الختان مصرية، ولما كان موسى يُعلِّم بني إسرائيل الختان فثبت أنه كان مصريًا.

الجواب: أولا: إن هذا الاستدلال باطل، لأننا لو افترضنا أن الختان لم يكن إلا في مصر وحدها، فلِم لا نقول إن بني إسرائيل قد أخذوه تأثرًا بالمحيط المصري أيام إقامتهم الطويلة في مصر؟

وثانيا: من الخطأ القول أن الختان كان شائعًا عند المصريين وحدهم. يقول الكتاب المقدس إن الله تعالى شرع الختان لإبراهيم -الذي مضى قبل موسى بعدّة قرون- فقام بختان نفسه وأوصى به ذريته، بل ختن ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام. والدليل على صحّة ما جاء في الكتاب المقدس هو أن الختان كان شائعًا لدى العرب الذين لم يكونوا على علاقات اجتماعية جيدة مع بني إسرائيل، والذين لم يذهبوا إلى مصر قط، والذين تقول رواياتهم إن عادة الختان جاءتهم بواسطة جدهم إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام. يمكن لهؤلاء الكتّاب أن يقولوا بشأن ما يقوله الكتاب المقدس بهذا الصدد أن موسى المصري علَّم بني إسرائيل الختان، فنسبوا عادة الختان إلى جدهم إبراهيم، ولكن ماذا سيقول هؤلاء الكتّاب عما يقوله العرب الذين لم يكن لهم في تاريخ بني إسرائيل رغبة، ولم يكن في قلوبهم تجاه موسى تعاطُفٌ، بل كانت بينهم وبين بني إسرائيل عداوة لكونهم من نسل إسحاق الذي كان أخًا لإسماعيل من أُمٍّ أخرى. ففي وجود الختان في العرب وعَزْوِهم إياه إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دلالةٌ بينّة على أن هذه العادة جاءتهم بواسطة إبراهيم ، وعلى أن الباحثين القائلين بأن موسى كان مصري الأصل قد أخطأوا خطأً فادحًا في واقع الأمر.

لم يزل الختان موجودًا عند العرب منذ زمن طويل، وقد شهد على ذلك المؤرخ “فلاس تارجى ايس” 342 ق.م (الموسوعة اليهودية ج 4 ص 97)، إلاّ أن الشهادة الكبرى هي الشهادة القومية للعرب، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

كما ورد في الموسوعة اليهودية أن الختان كان ولا يزال موجودًا في شعوب أخرى، بالإضافة إلى المسلمين واليهود، مثل نصارى الحبشة والقبائل الإفريقية الوحشية التي عددُ المختتنين فيها أكثر من الذين لا يختتنون. وكذلك كانت قبائل أستراليا القديمة تقوم بالختان، مع أنها لم تربطها بمصر صلة.

(Tribes of  Central Australia by Spencer & Gellen)

كذلك كان الختان موجودًا في سكان القارة الأمريكية كلها (الموسوعة اليهودية، ج 4 ص 97).

لقد ثبت من هنا أن القول بأن الختان كان عند المصريين فقط قولٌ باطل. فما دام الختان شائعًا في معظم القبائل الأفريقية وقبائل أستراليا وقبائل شمال وجنوب ووسط القارة الأمريكية، وفي العرب أيضا، فما المانع من القول أن عادة الختان كانت موجودة في بني إسرائيل أيضا؟

إن أقدم ثبوت للختان في مصر هو في الجثة المحنطة للملك المصري (أمننحب Amen-en-heb) 1614 – 1555 ق.م (الموسوعة اليهودية، ج 4 ص 97، نقلاً عن archivfur anther ص 123)، وهو زمن ما بعد هجرة يوسف وأسرتِه إلى مصر. وهذا يدل على أن أقدم ثبوت للختان في مصر كان قبل موسى بقرنين فقط. وليس صعبًا أن نستنتج من ذلك أن يوسف لما كان مقربًا لدى الملوك المصريين، فبدأ الملوك وحاشيتهم من علية القوم يختتنون بتوجيه من يوسف . ويرى علماء الآثار المصرية أيضا أن الختان كان شائعًا بين الملوك وكهنة المعابد عمومًا.

دليلهم الرابع:

قالوا: إن دين أمنحوتب لا يذكر البعث بعد الموت، وكذلك لا ذكر للبعث بعد الموت في دين موسى، فثبت أن موسى مصري.

هناك عيبان كبيران في هذا الدليل: أولهما: أن دين أمنحوتب ليس معروفًا كله، فلم يترك كتابًا، وإن ترك فهو غير موجود، ولم يترك وراءه جماعة من أتباعه حتى نعرف الحقيقة من أقوالهم، فكيف يُجزَم بأن دينه لم يعلّم عقيدة البعث بعد الموت؟ فزعمهم هذا غير معقول.

والثاني: لم يُثبِت هؤلاء الباحثون أن تعاليم موسى خالية من ذكر البعث بعد الموت. والحق أن تعاليم موسى والأنبياء التابعين له تذكر الحياة بعد الموت. ونورد فيما يلي قولين لموسى وداود عليهما السلام:

ورد في الكتاب المقدس أن الله تعالى قال لموسى :

{وَمُتْ فِي الْجَبَلِ الَّذِي تَصْعَدُ إِلَيْهِ، وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِكَ، كَمَا مَاتَ هَارُونُ أَخُوكَ فِي جَبَلِ هُورٍ وَضُمَّ إِلَى قَوْمِهِ}(التثنية 32: 50).

 ويقول داود لربّه:

{نَجِّ نَفْسِي مِنَ الشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ، مِنَ النَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَدًا وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.} (المزامير 17: 13-15).

لقد ثبت من هنا بجلاء أن موسى كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وأن هذا الأمر موجود في الكتاب المقدس، كما أن داود كان يؤمن به، وجاء ذكره في المزامير.

لا جرم أن العهد القديم لم يذكر مسألة البعث بعد الموت بالقوة التي ذكرها دين زرادشت أو دين الإسلام أو دين الهندوس، ولكن سببه تكالُب اليهود على الدنيا بشدة، فعندما اندرست التوراة بحوادث الدهر وجمَعَها اليهود ثانية وجّهوا جلَّ عنايتهم إلى جمع الأنباء المتعلقة بالازدهار المادي، ولم يبالوا مطلقا بجمع ما هو خارج من اهتمامهم هذا، فاختفت من كتبهم أمور كثيرة منها مسألة البعث بعد الموت، ومع ذلك يوجد ذكر البعث بعد الموت في التوراة وأسفار الأنبياء الأخرى حتى اليوم، كما أسلفتُ.

دليلهم الخامس:

قالوا: الخنزير حرام عند بني إسرائيل، وكذلك الحال عند المصريين.

إن هذا الاستدلال راجع إلى عدم العلم. فليس صحيحًا أن المصريين كانوا يحرّمون أكل لحم الخنزير. غاية ما نعرفه من التاريخ المصري القديم هو أنهم كانوا لا يأكلون لحمه كثيرًا، ولكن هذا ليس دليلا على تحريمه عندهم (موسوعة الكتاب المقدس، ج 4 ص 4825، نقْلاً عن كتاب “مصر” لإرمن erman”” ص 441). بل الحق أن المصريين كانوا يربّون الخنازير في بعض المناطق، فقد ورد أنه كان في حظائر رِينِي (renni) الكاهن في معبد إلكاب (El-kab) ثلاثمائة خنزير. وقال هيرودتس: كان المصريون يقدّمون قرابين الخنازير باسم الإلهين ساليني (Salene)، وديونيسس (Dionysus) أو أوزيريس (Osiris). وأنه توجد رسومات خنازير على قبر باهيري (Paheri)، الملك المصري من الأسرة الثامنة عشرة. (موسوعة الكتاب المقدس، ص 4825-4826).

وكذلك قال البروفيسور أدولف لودز (Adolphe Lodz) الأستاذ بجامعة السوربون في باريس: كان المصريون لا يأكلون لحم الخنزير عادة، ولكنهم في الليلة الرابعة عشرة من شهور معينة كانوا يقدمون قرابين الخنزير في معابد (ساليني وديونيسس)، وكان الكهنة يأكلون لحمه. (إسرائيل للبروفيسور لودز ص 248).

فالقول أن موسى كان مصريا لأنه نهى عن أكل لحم الخنزير قولٌ باطل، لأن  لحم الخنزير لم يكن محرمًا عند المصريين حرمة تامة، والذين كانوا يحرّمون أكل لحمه إنما كانوا يحرمونه لقداسته عندهم لا لنجاسته، ومن أجل ذلك كانوا يقدّمون قرابينه في طقوسهم وفي معابدهم، وكان كهنتهم يأكلون لحمه.

والقول بتقديس المصريين للخنزير ليس قياسًا مني، بل هذه هي الحقيقة التاريخية، حيث ورد في موسوعة الكتاب المقدس أن سكان آسيا الصغرى واليونان وإيطاليا كانوا يعظّمون الخنزير تعظيمًا خاصًا. وكذلك قال البروفيسور لودز: كان الخنزير حيوانًا مقدسًا لدى الكثير من جيران بني إسرائيل، وكانوا يظنون أنه قد نزل عليه تقديس الرب. وكان الخنزير مقدسًا عند أهل بابل بسبب الإله “نينيب” (ninib) وأيضًا عند السوريين بسبب الإله “تموز”، حتى سمّوا شهر تموز (خَنزيرو) (إسرائيل للبروفيسور لودز ص 248، نقلاً عن Die keilinschriften und das Alte Testament, by Heinrich Zimmern und Hugo Winkler

فهذه المراجع أيضًا تؤكد أن المصريين كانوا يتجنّبون أكل لحم الخنزير تقديسًا له، لا كراهة له. لكن اليهود كانوا يكرهونه باعتباره سيئًا ونجسًا كما يذكر الكتاب المقدس، فالاستدلال من حرمة الخنزير عند المصريين على كون موسى مصريًا لا يصحّ على الإطلاق.

دليلهم السادس:

قالوا: يتبين من الكتاب المقدس أن موسى لم يكن يجيد النطق بلسان بني إسرائيل، وهذا دليل على كونه مصري الأصل.

إن عدم طلاقة لسان موسى أمرٌ صحيح إلى حد ما، ويقرّه الكتاب المقدس والقرآن الكريم، حيث ورد: {فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ. فَقَالَ مُوسَى ِللهِ: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟»} (الخروج 3 : 10-11)

ثم بعد عدة توجيهات إلهية لموسى ورد:

{فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ». فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ؟ فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ».}(الخروج 4: 10-12).

وورد في القرآن الكريم: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (الشعراء:11-14).

يتبين مما ذكره الكتاب المقدس والقرآن الكريم أنه كان في لسان موسى شيء من الثقل حتمًا، لذلك تضرّع إلى ربّه سبحانه وتعالى وقال: لا ينطلق لساني فأرسِل إلى غيري. ولكن يتضح أيضًا من الكتاب المقدس والقرآن الكريم كليهما أنه قدم هذا الاعتذار إلى الله تعالى حين أمره بالذهاب إلى فرعون وتبليغه الحق. والآن أمامنا خياران اثنان: فإما أن نفسر هذا الاعتذار بأنه كان في لسان موسى لَكْنةٌ أو ضعفٌ في الأعصاب بحيث إذا تحمس في النقاش لم يستطع التعبير جيدًا عما في نفسه، فكان يتلعثم عند نطق بعض الحروف والكلمات؛ وإما أن نفسر اعتذاره بأنه كان لا يحسن الكلام بلغة قوم أُمر بتبليغ الحق لهم. فإذا أخذنا بالخيار الأول لبطُل تمامًا استدلالهم بأنه كان مصريًا؛ لأن لَكْنة اللسان أو غيرها ليست خصوصية للمصريين، بل يمكن وجود هذا العيب في أي قوم. وإذا أخذنا بالخيار الثاني لكان أيضًا دليلاً قاطعًا على أن موسى لم يكن مصري الأصل، إذ تُخبر التوراة والقرآن الكريم كلاهما أن موسى اعتذر بعدم انطلاق لسانه عند الكلام حين أُمر بتبليغ الحق للمصريين. فهل من عاقل يصدّق أن موسى المصري الأصل عندما أُمر بتبليغ الدعوة لفرعون المصري أخذ يعتذر بأنه لا يعلم اللغة المصرية؟ فما دام موسى مصريَّ الأصل فكان يعلم لغة فرعون يقينًا. باختصار، لو فسرنا المراد من معذرته أنه لا يعرف لغة مَن أُمر بتبليغ الدعوة له فهذا يعني يقينًا أنه كان من بني إسرائيل. كان قد أُمر بتبليغ الدعوة لفرعون، وكان لا يجيد لغة فرعون، فاعتذر وقال يا رب أنا لا أجيد لغةَ مَن تأمرني بتبليغ الدعوة له، أي أني أجيد العبرية ولا أجيد المصريةَ لغةَ فرعون. فثبت أن استدلال هؤلاء الباحثين باطل وواهٍ وضعيف للغاية، ودليلٌ على قلة تدبرهم.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك