الإيمان

الإيمان هو الاعتقاد الراسخ الثابت بوجود حقيقة معينة. وهذا الإيمان ينبع من أسس وبراهين مسبقة استدلَّ عليها المرءُ من علمه ومعرفته وتجاربه وخبرته التي اكتسبها وتعرَّف عليها في مراحل معينة من حياته اليومية.

وكلما تعمَّق الإنسان في المعرفة واكتسب المزيد من الخبرة كلما ازداد إيمانه ورسخ في جدران قلبه، وبازدياد الإيمان والمعرفة يزداد استمرار نشوء مظاهر جديدة، تنمو وتكبر وتتطور مع نُمو الإنسان وتطوره.

وهذه المعلومات والاستنتاجات التي اكتشفها الإنسان تكون معلومات ثابتة وراسخة، ومن العسير زحزحتها من ذهنه، إلا إذا جئناهُ بالأدلة المـُناقضة والبراهين المعاكسة لتلك التي توصل إليها. لا ينبغي فقط على الإنسان أن يؤمن بالمعايير والقيم والمبادئ التي تَوصل إليها واستنتجها، بل عليه أيضا أن يؤمن بالغيب، وأن يُزيل كل الشكوك والأسئلة التي تزاوله بين الحين والآخر. كما تقول الآية:

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (البقرة:3-4)

فعلى الإنسان أن يؤمن أيضًا بعالَم الغيب، وأن يُقيم إيمانه على أُسس الطاعة وليس عن كيفية الأسئلة. على الإنسان الذي يؤمن بالغيب أن يزيل كُل الشكوك ويقتنع بإيمان قوي بوجود خالقه وبوحدانيته. يقول الله تعالى:

أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة: 4).

فالذين يُبعدون كُل شكوكهم، ويؤمنون بالله سوف يهتدون إلى صراط مستقيم، وسوف يفلحون في الدنيا والآخرة.

إن كلمة (الإسلام) تعني تسليم الإنسان نفسه وخضوعه لله تعالى. ولا بد أن يكون الخضوع وتسليم النفس ناتجا إيمان واقتناع وطاعة. وكل من يخرج من الإسلام فمن المستحيل عليه استرداد إيمانه، إلا بالخضوع والرجوع إلى الله تعالى:

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ (الزمر: 37-38)

إن الفائدة الأولى التي يتمتع بها المؤمنون بعد الإيمان هي حسب قوله تعالى: وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ . فهو يمنحنا نورًا لنبصر به، حتى تُصبح سُبُلنا واضحة ومُنيرة أمامنا ونستطيع أن نميز بين الحق والباطل، وأن نُدرك الصحيح من الخطأ.

وكما ذكر سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر أحمد أيده الله تعالى في إحدى خُطبه: “إن صفة النُور كانت موجودة في نفس المصطفى حيث كانت شعلة النور فيه على وشك الاشتعال، وفي تلك اللحظة أُنزلت من السماء شعلة من النور على فؤاده، فأصبح نورًا على نور”. إن شُعلة النور موجودة في كل إنسان، لكن على الإنسان أن يسعى ويجتهد لأن يُشعل ذلك النور، وهذا بحاجة إلى صبر وسعي دائم ومستمر.

هناك نوعان رئيسيان من الإيمان؛ الإيمان الظاهري والإيمان الباطني. الإيمان الظاهري هو ذلك الإيمان الضعيف الواهن السطحي، الذي لم يترسخ بعد في قلب الإنسان، فنرى أن الإنسان مازال غير مقتنع بوجود الله، ويراوده الشك والحيرة بين الحين والآخر، أي أن الإيمان لم يُشرق بعد في قلبه.

ونجد مثال الإيمان الظاهري في شخص يُعلن إسلامه وإيمانه بالله، ولكنه لا يقوم بالصلوات الخمس يوميًا. ولا يقرأ كتاب الله، ولا يتعمق بدينه، فتبقى معلوماته سطحية وهامشية ما لم يصل إلى الجوهر. فالأقوال لا قيمة لها ما لم تُصدقها الأفعال. كما جاء بالآية الكريمة:

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: 15).

توضح لنا هذه الآية معنى الإيمان الظاهري والإيمان الباطني. فليس كل من أعلن إسلامه وخُضوعه لله تعالى قد دخل الإيمان في قلبه، لأن على المؤمن أن يبحث ويتعمق في دينه ليعرف فحوى دينه. على المؤمن أن يخضع لمبادئ وتعاليم الإسلام ويلتزم بها ويطبقها في حياته اليومية، وألا تغفله دنياه عن دينه. على عكس ذلك هناك الإيمان الباطني، الذي نشأ على حب الله وطاعته، وذلك الإيمان الذي ارتسخ في قلب المسلم، فلا تزحزحه أية هزة أرضية. ذلك الإيمان الطاهر الذي يخلو من الشك والحيرة. وأرى أفضل مثال للإيمان الباطني هو قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ:

فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل: 43-45).

كان هذا لقاء سيدنا سليمان مع ملكة سبأ التي قيل أن اسمها بلقيس، وكما ذُكر بالآية الكريمة كانت الملكة بلقيس كافرة. فبدأ سليمان يخبرها عن الإسلام. فقبلت الإسلام وأعلنت إسلامها أمام سليمان . ولكن حضرته كان يعلم أن هذا الإيمان ليس إلا مرحلة بدائية من الإسلام، أي إنها لم تفهم مضمون الإسلام تماما. فطلب منها أن تدخل القصر، كان بلاط القصر من الزجاج وتحته يجري الماء، فانخدعت بالزجاج وظنته ماء، فرفعت الثياب وكشفت عن ساقيها كي لا تتبلل، فقال لها سليمان: ليس هذا ماء وإنما الماء تحت الزجاج، فاتضح لها فجأة بأن إسلامها مجرد ادعاء. فشعرت بخجل في نفسها وقالت مكرهةً. رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي عندما كنت أعلن أنني مسلمة لم أكن أعلم شيئا عن الإسلام، ولكنني الآن فقط علمت وآمنت بالإسلام الذي يؤمن به حضرة سليمان والذي لا خلط فيه مع الوثنية.

وهذا هو معنى الإيمان الباطني الذي ينبغي على كل مسلم أن يتبعه. وقد ذكر سيدنا المهدي والمسيح الموعود هذا الأمر بطريقة أخرى حيث قال: “إنني لا أحب إيمان الفلاسفة والعلماء وأفضل عليه إيمان العجائز وإيمان الأطفال الصغار”. فمن جهة ذكر حضرته إيمان العجائز ومن أخرى ذكر إيمان الأطفال. ونرى أن هناك تشابهَّا بين الاثنين من ناحية التمسك بالعقيدة والآراء. فإيمان الأطفال يكون إيمانا بريئا وطاهرا، فهم يطيعون ما يُملي عليهم قلوبهم ببراءة وطهارة، أي أنه إيمان خال من التفكير والحيرة. وبالفعل فإن كان الطفل يخاف من شيء معين، وحاولنا إزالة هذا الخوف عنه ما استطعنا ذلك، لأن إيمان الطفل لا يتزحزح، لأن علم الطفل نابع حسبما يؤمن قلبه.

بالإضافة إلى ذلك النوع من الإيمان العام علينا أن نؤمن بالقرآن الكريم وسنة الرسول والحديث الشريف، فقد قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود :

“القرآن فاتح سُبل السلام والحق الكامل، لذلك فاقرأوا القرآن بتدبر وأحبوه حبًّا جمًّا، حبًّا ما أحببتم أحدًا كمثله. الخيرُ كله في القرآن”.

كما قال حضرته: “إنه القرآن يستطيع أن يطهركم في خلال أسبوع واحد إن لم يكن هناك أعراض معنوية أو صُورية، وإنه لعمري ليستطيع أن يجعلكم مثل الأنبياء لولا أنكم أنفسكم تفرون منه”. وعن السنَّة النبوية قال حضرته: “السنَّة ذريعة ثابتة للهداية وأعني بها أسوة رسول الله المقدسة التي أقامها بأفعاله وأعماله”.

وعن الحديث قال حضرته: “الذريعة الثالثة هي الحديث، وهو عبارة عن رواية أفعال وأقوال الرسول جُمعت بعده”.

كما وينبغي علينا أن نؤمن بالصلاة والدعاء وأن نتخذها سلاحنا الأول في حياتنا اليومية. وعن الدعاء قال سيدنا أمير المؤمنين الإمام الحالي للجماعة الإسلامية الأحمدية: “في جميع الحالات سواء في حالة الرعب والخوف أو في حالة الأمل والرجاء، يظل الدعاء في أعماق قُلوب المؤمنين، ويظل الدعاء مصدر أملهم، وبه يرجون العون والتأييد. كما على المؤمن أن يستعين أولا بوجود الله والصلاة والدعاء وهي وسيلته الأولى لذلك. فالله هو المساعد وهو المعين لجميع خلقه. ولكن من أجل الحصول على تلك المساعدة والعون علينا أن نلتزم بالدعاء”.

إذاً يجب علينا أن نثابر بكل قوة على صلواتنا حتى لا تزحزحها أية قوة دنيوية، ويجب أن يظل اعتمادنا الأول على الصلاة والدعاء إلى الله في كل ما نقوم به من أعمال ولا يكفي مجرد أداء الصلاة والدعاء بقراءة الكلمات، بل علينا أن نُصلي وندعو الله تعالى بكل حرارة. يجب أن تذوب أنفسنا أمام الله. وبذلك تُقبل صلاتُنا ويستجاب دعاؤنا. بالدعاء يمكن أن تحدث أشياء تبدو من باب المستحيلات.

إضافة إلى ذلك علينا أن نؤمن ونثق بعضنا بالآخر، وأن نبني حياتنا على حُب وإخلاص للآخرين. علينا أن نخدم بعضنا البعض بكل صدق وأمانة، فالإنسان وُلد لخدمة أخيه الإنسان، وأن لا ننسى أبدًا تعليم الإسلام (الحب للجميع ولا كراهية لأحد). فكلنا أبناء آدم، وآدم من تراب.

أيضا علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر، ونؤمن بالموت كحقيقتنا ومصيرنا. علينا أن نتصافح مع الموت ونتقبله كقدر لنا. فالموت مصير كل حي، ولا مفر لنا منه أبدًا. فإن كان الخلود يا سادتي أمرًا من المستحيلات وإن كانت حياة الإنسان محدودة المجال، فلماذا لا نقضي حياتنا طبقًا لأوامر الله تعالى. لماذا لا نعيش حياتنا المصيرية طبقًا لذلك الدستور الإلهي، طبقًا لنور القرآن الكريم، طبقًا لتعاليم سيدنا محمد المصطفى . فقد أرسل الله إلينا رسوله الكريم هدى ورحمة للعالمين. جاء رسولنا الكريم ليقدم لنا الحياة الفاضلة المثالية القائمة على الصدق والأمانة الداعية إلى عبادة الله الواحد الأحد، الخالية من الشك والريبة، الساعية بخطٍ مستقيم ومتواصل نحو الآخرة. لماذا لا نسعى بكل قوة وإرادة لنحظى بتلك الحياة الفاضلة، ونكون بذلك قد فُزنا بالدنيا والآخرة. لماذا نسعى لأن نحطم أنفسنا بأنفسنا ونجلب علينا سخط ربنا؟! فمن ذا الذي يمنعنا من ذلك؟

هناك مخلوق قابع في قلوبنا يحثنا على اتباع شهواتنا وأنفسنا الهاوية. هنالك مخلوق يدفعنا أن نعصي أوامر ربنا، يسعى أن يوقعنا في الشرك ويوصلنا إلى الهلاك لنخسر حياتنا المصيرية. نعم يا سادتي إنه هو الشيطان الذي حدثنا عنه الله كثيرا في القرآن. فالشيطان العدو الأول للإنسان الذي يسعى إلى إهلاكه.

فالعداء القائم بين الإنسان والشيطان عداء عميق الجذور، يعود تاريخه إلى اليوم الذي شكل الله فيه آدم قبل أن ينفخ فيه الروح. فلما نفخ الله في آدم الروح وأمر الملائكة بالسجود لآدم، وكان إبليس يتعبد الله مع ملائكة السماء فشمله الأمر، لكنه تعاظم في نفسه واستكبر وأبى السجود لآدم، فطرده الله من الجنة بسبب استكباره، وحصل على وعد من الله بإبقائه حيًّا إلى يوم القيامة: فقال: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (الأَعراف: 15-16). وقد قطع اللعين على نفسه عهدًا بإضلال بني آدم:

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (الأَعراف: 17-18).

وقوله هذا يوضح مدى الجهد الذي يبذله لإضلال بني آدم. لم يعط الله تعالى للشيطان القدرة على إجبار الناس وإكراههم على الضلال والكفر: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلً (الإسراء: 66). إنما يتسلط الشيطان على الذين يرضون بفكره، ويتابعونه عن رضا وطواعية:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر: 43).

فإذا تمكن الإسلام في العبد، ورسخ الإيمان في قلبه فإن الشيطان يخافه ويفر منه، وكلما قوى إيمانه قهر شيطانُه.

لقد حذرنا الله تعالى كثيرا من الشيطان حيث قال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ (الأعراف: 28)، وقال:

وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (النساء: 120).

وقال:

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران: 176).

لا يأتي الشيطان إلى الإنسان ويقول له اترك هذه الأمور الخيرة، وافعل هذه الأمور السيئة، كي تشقى دُنياك وآخرتك، وإنما يسلك طرقًا أخرى. فهو يُظهر الباطل في سورة الحق، والحق في صورة الباطل، ويكرِّه الحق للإنسان. وهكذا قال لسيدنا آدم، إذ زعم له أن الشجرة التي حرمها الله عليه إنما هي شجرة الخلد، وأن الأكل منها يجعله خالدًا في الجنة أو ملكًا من الملائكة. فأطاعه فخرج من الجنة. فهو إذًا يأتي إلى الإنسان بطريقة تُدعى الوسوسة: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (الناس: 6). إنه يأتي إلى قلب العبد، فإن وجد فيه فتورًا وخللاً سيطر عليه، وضربه الكسل والتهاون. فالشيطان يسير بالإنسان خطوة خطوة، لا يكل ولا يمل، يقوده من معصية إلى أخرى، حتى يوصله إلى المعصية الكبرى فيوقعه ويهلكه. ومن أساليبه لإخلال العبادة زعزعة العقيدة بما يلقيه من شكوك وشبهات.

لذلك علينا أن نملك الإيمان الباطني.. ذلك الإيمان الذي لا تزحزحه أي هزة شيطانية. على الإنسان أن يلتزم الحذر والحيطة في صراعه الدائم مع الشيطان. كما عليه الالتزام بالكتاب والسنَّة وذلك أعظم سبيل للنجاة من الشيطان. فالكتاب والسنَّة جاؤوا بالصراط المستقيم، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط. قال سبحانه وتعالى:

وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة: 169).

طريقة أخرى للنجاة من الشيطان هي الالتجاء إلى الله تعالى والاحتماء به. إن الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجانبه من كل شر كل ذي شر يسمى الاستعاذة. ومعنى “أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ“.. أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم.

بعد أن اطلعنا وتعرفنا على ذلك العدو اللعين الذي يسعى جاهدًا غير يائسٍ لأن يوقعنا في الشرك ويجلب علينا سخط ربنا ويحرمنا من نعمة الجنة، ينبغي علينا أن نزيد من حذرنا وإيماننا في صراعنا مع الشيطان وأن نعرف كيف نقوم باتخاذ القرار الصحيح.

فما زالت لدينا الفرصة الكبيرة بأن نعود إلى الله تعالى.. بأن نتوب إلى الله ونكتسب إيمانًا قويًّا لا تزحزحه أي قوة دنيوية. فيفر الشيطان من قلبونا مكرهًا، ونسعى إلى أن نلاقي رب العالمين.

لقد وُلد الإنسان ليعبد الله تعالى ويحظى بحياة شريفة، مُستقيمة طاهرة، ويسعى ليفوز بالجنة. فنلاحظ مما ورد في الأسطر الأخيرة أن هذه الحياة حياة مصيرية بموجبها يقدر الله مصيرنا؛ أندخل الجنة أم ندخل النار. فما الحياة الدنيا إلا نقطة عبور إلى الحياة الآخرة. نستطيع أن نشبه هذه الحياة بحياة تلميذ دخل المدرسة الابتدائية وبدأ حياته من الصف الأول، وعليه أن يمر بجميع الصفوف إلى أن يصل الصف الثاني عشر والذي هو بمثابة المرحلة الأخيرة والهامة لينال “شهادة الدبلوم”. وهذه الشهادة هي في غاية الأهمية إذ أنها تقرر مصيره؛ هل يدخل إلى الجامعة، أم أن يذهب إلى للعمل والدخول إلى الجامعة يعتمد على معدل العلامات التي حصل عليها الطالب في شهادته. وهذه الشهادة الهامة لا تعتمد فقط على ما يقوم به الطالب في الصف الثاني عشر بل تعتمد أيضا على ما استوعبه في الصف الأول والثاني وفي جميع المراحل التي قام بها. فنلاحظ أنه كلما كان معدل العلامات التي حصل عليها الطالب تقترب إلى المئة، تزداد إمكانية قبوله للجامعة. وللحصول على شهادة الدبلوم بامتياز هناك ثلاث حالات لها تأثيرها المباشر؛ أولا هناك نقطة البداية، فإن قام الطالب منذ البداية بالجهد والتعب والإرادة القوية زاد ذلك من إمكانية حصوله على الشهادة بامتياز. وليست نقطة البداية هي التي تقرر المصير وإنما هنالك من يبدأ غافلاً ثم يصحو، أي يتوب ويسلك الطريق الصحيح ويعمل بجهد ونشاط، وقد يملك طاقة أكبر من تلك التي قد حصل عليها الطالب الذي جدّ من البداية. النوع الثالث من الطلاب هم الذين يصحون في المرحلة متأخرة من الحياة الدراسية، وهنا قضية حصولهم على الشهادة تتعلق بمدى الجهد الذي يمارسونه من أجل تحقيق الهدف.

هناك نوع رابع من الطلاب الذين لا يصحون إطلاقا على مدى حياتهم الدراسية، وعلى هذه الفئة نستطيع أن نطبق قول الله تعالى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى (الإسراء: 73).

وإذا قمنا بتحليل هذه الرموز البسيطة الواضحة الخالية من التعقيد لاستطعنا أن نستنتج أن الإنسان طالب في مدرسة الحياة.. يسعى منذ ولادته للحصول على الشهادة أو على بطاقة العبور التي تؤهله للالتحاق بالحياة الآخرة ودخول الجنة.

هنالك من يبدأ منذ إدراكه بجهد وإيمان قوي وبسعي مستمر للحصول على تلك الشهادة. وهناك من يصحو ويدرك حقيقة أمره في مرحلة متقدمة من حياته، فيتوب إلى الله ويسلك الطريق المستقيم. وهناك فئة ثالثة تصحو في فترة متأخرة من حياتها ولكنها تتوب إلى الله. نلاحظ أنه الفئة الثانية والثالثة من الطلاب تحتاج إلى جهد كبير خاصة في البداية. فعلى الإنسان الذي يريد التغيير أن يتخذ قرارًا حاسمًا جديًّا بينه وبين الله تعالى، وأن يحدد التاريخ والموعد، وعليه أن لا يُغيّر الموعد أبدًا. فكلما كان التاريخ أقرب كان ذلك أفضل، ثم على الإنسان أن يحصل على عزيمة حديدية أو ما يسمى بالقوى الفولاذية. وهكذا يتغير الإنسان ويسلك طريق الخلاص والنجاة.

إن الصفوف التي يعلو بها الطالب في مراحل دراسته تطابق في الحياة تطور الإنسان. ففي البداية على الإنسان أن يواجه المجهول. وأول ما يصل إليه الإنسان من المواجهة هو التجربة التي تُكسبه المعرفة. بعد مرحلة المعرفة وبتأثير التكرار ينال الإنسان الخبرة ومنها يصل إلى درجة الإبداع.

قد يصل الإنسان إلى درجات مختلفة ومتنوعة في الحياة: الرئيس والمرؤوس، الآمر والمأمور، القوي والضعيف إلخ…

كل هذه العوامل تسمى عوامل ثانوية لا تُعد فروقا أساسية بين إنسان وأخر، ولكن الفرق الوحيد بين إنسان وآخر هو مدى تفكيره في الله تعالى.. مدى قربه منه وخشوعه لله تعالى، ومدى جهده وسعيه للحصول على الشهادة الإلهية.

فالعلاقة القائمة بين الله والعبد هي علاقة تعاون مشترك. فالله يأمر عبده أن يسلك الطريق الصحيح ومقابل ذلك ينال الإنسان الهداية والعون الإلهي في حل جميع مشاكله التي يواجهها في حياته الدُنيا. كأن الله يقول: “عبدي” أنت تُريد وأنا أريد، فإن حققت لي ما أريد أعنتك على ما تريد، وإن لم تقم بما أريد أتعبتك على ما تريد، ولا يكون إلا ما أريد”. تمامًا هكذا نستطيع أن ندرك أن العلاقة بين الله والعبد هي علاقة تفاعل مشترك.

فالله يُريد من العبد أن يعبده وألا يشرك به أحدا، وبالمقابل ينال العبد النور الإلهي والهداية السماوية ودخول الجنة في الآخرة.

إن العلامات التي يحصل عليها الطالب في مراحل دراسته تطابق الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته اليومية والتي بموجبها يقرر مصيره هل سيدخل الجنة أم يذهب إلى الجحيم. فلماذا لا نسعى في حياتنا اليومية للحصول على علامات هي أقرب إلى المئة. نعم، لقد ولد الإنسان ضعيفا، ولا بد للإنسان أن يرتكب أخطاء في حياته، لكن لماذا لا نحاول أن نقلل من تلك الأخطاء ونسعى للحصول على علامات أفضل ونطمع دائما للوصول إلى جوار المئة، ونطمع للوصول إلى جوار قمة الإيمان وقمة الكمال. وبذلك تكون شهادتنا مليئة بالعلامات العالية. وهذا ليس من المستحيلات لأن الإنسان يقدر بأن يسيطر على أفكاره ويأخذ قراراته التي تؤدي للقيام بأفعاله وأفكاره. وكأن الله يقول لنا يوم القيامة: “هنيئا لكم، لقد نجحتم في صراعكم مع الشيطان وفزتم بالجنة”.

نعيش في زمن الانحدار والانحطاط بعدما أحاط الذل والبلاء بالأمة الإسلامية من كل حدب، فأصبحوا مضحكة بين يدي الدول الغربية التي تحركهم يمينا وشمالاً كما تحرك أحجار الشطرنج وتحرضهم على قتل بعضهم البعض بدلاً من أن يقفوا كتلة واحدة أمام هذه القوى ويعيدوا للإسلام نصرته وعزته ومجده. لقد أصبحوا مهزلة بين يدي القوى العظمى بعدما كانوا عمالقة بين يدي التاريخ.. أيام كُنا في المواجهة المشرفة الصادقة من أبطال المسيرة الذين كانوا يخطون التاريخ الإسلام بالإيمان والتقوى والحمس.. أيام كُنا في عصر دوحة الإسلام الطيبة التي أنبتت عُمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي. حيث كانت كلماتهم ووصاياهم ترتفع وترسل الأنوار ساطعة للسالكين عل درب الهداة الصالحين. فكان المسلمون يخشون الله وكانوا على قمة الإيمان والتقوى. فلا يكفي أن نكون أبطالا في الماضي بل يجب علينا أن نكون أبطال الحاضر أيضًا.

وها هو وضع المسلمين اليوم يُذهل المرضعة عن رضيعها ويمزق كل من له قلب أو بقية لب. لقد نسوا رسالة المصطفى  . لقد نسوا ما قال سيدنا المصطفى قبل أربعة عشر قرنًا: “عندما تقع أمتي في المحن والمصائب ينقذها المهدي”. وها قد ظهر المسلمين ودعا المسلمين للركوب في سفينته ليخلصهم من الذل والعذاب، وليبعدهم عن مستنقع المترفين. لكن معظم المسلمين أنكروه كبرًا وجهلاً واتخذوا جماعته الإسلامية المسالمة التي أُقيمت بأمرٍ من الله تعالى، والتي تسعى جاهدة غير يائسة لنصر الإسلام ولتوحيده ولإعادة عزته كما كان في الماضي.

ومما لا شك فيه أن وضع المسلمين الحالي ناتج عن انحرافهم عن سبيل التقوى ورفضهم للمهدي والمسيح الموعود .

وها نحن اليوم يا سادتي نعيش في زمن خليفته الرابع، وقد رأى حضرته الآلام والمصاعب المنغرسة في نفوس المسلمين، فجرد قلمه يكتب ويؤلف لأبناء هذه الأمة، ودوى صوته يستصرخ القادة المسلمين منذرًا بالخطر الداهم الذي نزل بساحتهم. فيقدم لهم النصائح القيمة ويدعوهم إلى الرجوع إلى الله تعالى، وأن يبصروا سبل التقوى، فكانت تلك النصائح معبرة أصدق تعبير عن مشاعر النفس وأحاسيسها، وواقع الأخطار وأبعادها. فتخرج الكلمات حرّى، وما خرج من القلب دخل القلب، لكن قلوب المسلمين قد قست وأصبحت كالحجارة ولم تعد تستوعب تلك الكلمات العذبة الطاهرة التي تهدف لإصلاح الأمة المحمدية.

إن خلاصة ما في هذه الأسطر، أن الإيمان والتقوى هو السبيل الذي يُخلص الأمة من بلائها ويكسبها نصر الله ورضوانه، وبدونه ستبقى مستباحة الحمى، مستذلة من خصومها، مغضوبًا عليها من ربها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك