الدين الكوني للمستقبل

الدين الكوني للمستقبل

(موجز بحث أعده د، ترنس داى من قسم الأديان، جامعة مانيتوبا، كندا)

Dr. Terence P .Day, Ph.D.; M.Th; B.D. (Hons), London; Dept. of Religion.

Univ. of Manitoba, Canada

عندما طرح (بوذا) عقيدة (الوجود المشروط) منذ خمسة وعشرين قرنا. علَّق الفيلسوف الأيوني قائلا: (لا شيء دائم سوى التغير). وأيد تاريخ المجتمعات والثقافات والحضارات البشرية المتلاحقة وجهةَ النظر من هذه بدرجة ملحوظة، ففي الحياة والموت، ومن خلال النمو والانحلال حدَّد مجرى التغير الذي لا مناص منه أن ما كان في الماضي هو الحال الحاضر وهو نتيجة ما سوف يكون في المستقبل.

درس مؤرخو الأديان أثر التغير في الديانات العظمى دراسة عميقة، وتتبعوا مسارها على مدى أربع ثورات اجتماعية ثقافية على الأقل. بدءًا من الثورة الزراعية القديمة، ومرورا بالثورات العلمية والصناعية والتكنولوجية في العصور الحديثة، وبطريقة علمية عينوا وقاسوا وفسروا وشرحوا الظروف والقوى والأحداث والعمليات الاجتماعية الثقافية التي دفعت إلى تطوير الأديان العظمى من حالتها البدائية إلى تقدمها المذهبي، والطقوسي والأخلاقي والمجتمعي، وتكويناتها التنظيمية. وهم حاليا يسيرون غور التغيرات الرهيبة التي تفرضها الثورات الاجتماعية الثقافية العالمية المعاصرة وتكنولوجيا الفضاء والاتصالات. على الأديان العظمى.. بتقليص شتى الثقافات والمجتمعات القديمة إلى الزمن والفراغ الخصوصي ل(بلد عالمي).. وما ينبثق عن ذلك من ثقافة وحضارة عالمية.

وأزمة الأديان العظمى هي أزمةُ هويةٍ تاريخية وانتماء عالمي. فالأديان التي كانت لقرون طويلة تشكل وتفصل عقائدها المميزة في ظل عزلة نسبية.. ودون تدخل بالسماح أو الإعاقة من الديانات الرئيسية المنافسة.. قد دخلت معا داخل الإطار الضيق ل(بلد عالمي).. حيث أغريت ببعضها بسبب تنافر النغمات الصادرة من مذاهب متعارضة تتزاحم موجاتها. وهنا ضاع وضوح التميز بينها بسبب التعميمات الدينية لثقافة حديثة توفيقية جامعة بين الديانات.. تمثِّل هوةُ عدم التحيز فيها مقبرةً لكل الإيمانيات، وإن كانت في نفس الوقت المـِرجل الذي تتشكل فيه كافة التفصيلات وتجمع معا.

هذا الجمع بين الديانات العظمى.. الذي لا مفر منه ولا سبيل إلى اجتنابه.. هو الموقف الحرج الذي يهرع إليه الباحثون الدينيون والمؤرخون من كافة الطوائف الدينية ليعوها ويتفهموها ويفسروها. إنهم مقيدون بعرض مستقبل دياناتهم بلغة مقدرتهم على المقاومة أو البقاء في مواجهة التآكل والوهن الذي نجم عنه الموقف الحاضر. عليهم أن يفعلوا ذلك في مواجهة ستائر التاريخ الديني.. أعني في ضوء مساراتها التطورية من بداية صورها الأكثر تقدمها في طريق تحولها إلى الأنظمة العظمى للديانات العالمية في القرن العشرين.. لأنهم فيما يبدو عند المرحلة الأخيرة للعهد المسيحي الوشيك، وقد يتحقق القدر المقدور لكل منها خلال انبعاثها كديانة عالمية للألف الثالث.

هذا التوقع لمجيء المسيح تعرضه اليهودية في استعارات (مملكة صهيون).. و (ابن داود الملكي).. و (آلام خادم الرب الممسوح).

وفي النصرانية نبوءة عن هذا في عقيدة (عودة المسيح) إلى هذه الدنيا في آخر الزمان. وفي الإسلام السني طالما تمثلوا عالما خاضعا لمشيئة الله الكاملة. وهناك في الإسلام الشيعي رمز المسيحية هو محمد المنتظر: الباب والمهدي. وهو موجود في الهندوسية في عقيدة نزلات (فشتو) التجسدية في الأوقات المناسبة.. وافتتاح عصور كونية جديدة مع كل نزول.. وفي شخصية (الإله كالكى) الذي سوف يتوج العصر الحالي ملكه. وفي البوذية يتركز هذا التوقع المسيحي في شخصية وعقيدة (ماتريا): بوذا الذي يتوج ظهوره العصر الحالي الميمون (بهادرا كالبا).. بالتجمع الكبير للناس كافة من خلال حنان (أميتابها) اللانهائي.

ولا يتصور مع كل ذلك أن تتمكن الدنيا من استيعاب خمس منطلقات دينية.. كل دين فيها سيكون الدين الأعظم للعصر المسيحي؛ ولا أن يقدر الله عقيدة غيبية مسيحية لتصنف وتحقق وتسمو على كافة أديان العالم ذات الأصل الوثني وعلى الوضع الجغرافي المحدد.. وقد تكون الحدث الإلهي النهائي الذي يتم به نهائيا الهدف التاريخي لكل دين من الديانات العظمى.. وإلا كان لنا أن نستنتج أن دينا واحدا فقط من الأديان العظمى هذه لا بد أن يسود في النهاية، ويصبح الدين الكوني للألف الثالث.

ولقد استثيرت باسم النصرانية نظريات (سبنسر بان) الاجتماعية الثقافية التطورية.. ووضعتها في المستوى الأعلى بين الأديان من سلسلة جاءت فيها الهندوسية والبوذية والإسلام واليهودية في مستويات أدنى.

ولقد قدم (حيثا) نظامًا مختلفا، يضع هندوسية الفيدا أو بوذية الفاجرايانا أو الإسلام على قمة مقياس التطور.

ولقد مّيز الخليفة الثاني للجماعة الإسلامية الأحمدية في كتابه (مقدمة لدراسات القرآن الكريم، ط 1985) العمليات والمراحل في الحضارة والثقافة الإنسانية… التي تشير إلى اكتمال نهائي في الشكل، مقدر للإسلام وحده أن يقدمه للعالم. يمكننا النظر من حولنا لنرى ما إذا كان الإسلام أو دين كبير آخر.. يمشي قدما أم لا.. ليشغل المركز الأول كدين عالمي للألف الثالث.

ويبدو أن الوقت الحاضر مُواتٍ، والتوقع الوشيك في صالح النصرانية الغربية بكنائسها وبعثاتها العديدة المزدهرة، ومتناولها العالمي يصف الكنائس الإرسالية والطوائف المحلية الرئيسية في وحدة كنيسة حديثة.. مما يشهد بتطور ديني مثير.

ولكن على الجانب الآخر يبدو جليا أن النصرانية تواجه في وطنها الغربي موقف ضعف في التمسك بالتراث، ومستقبلا مشكوكا فيه بسبب تناقص العضوية الطائفية، وقيادة ٍ كهنوتية هرمة، وجمهور فسدت أخلاقياته بثقافة غربية تتسم بالأنانية واعتناق الملذات.. مرتبكٍ بعقائد متناقضة وتشوهات طائفية في دينهم.. واهنِ العزم من أثر ما تذيعه وسائل الإعلام من تشويه بالغ للعقائد والممارسات النصرانية و تشهير مثير بقادتها.

ومع ذلك : لو تتمكن النصرانية الغربية من استعادة الوعي بالسلطة الروحية والأخلاقية للكنيسة، وتستنقذ دورها المقدس المتميز في العالم من استغراقاتها الدنيوية والاجتماعية والسياسية والإنسانية.. لو أمكن لها أن تعيد النشاط إلى رسالتها الأوليه والإرساليات العالمية؛ وتستعيد كرامتهم مما ينالها من انحطاط مبتذل على يد مبشري تلفزيزن أمريكا الشمالية الشعبيين، وتجدد مرة أخرى رسالتها الرعاوية العالمية. فعندئذ يكون الله في جانبها، ولا شك، ليجعلها دينه العالمي للألف الثالث.

ومن ناحية أخرى.. يبدو أن هذا التوقع المسيحي الكوني على وشك أن يكون مواتيا للإسلام.. الذي بشر نهوضه وانبعاثه في دنيانا المعاصرة.. بفتح ظافر للعالم، في سبيل الله، في القرن الحادي والعشرين. فهناك مجتمعه الدولي من الشعوب الإسلامية المخلصة الملتزمة؛ وهناك جماعاته الإسلامية الجديدة سريعة الانتشار.. بمساجدهم الكثيرة التي تناطح سماء النصرانية في قلب أراضي أوربا وأمريكا الشمالية، وهناك موارده الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة المكتسبة حديثا لنشر رسالته، وهناك قوته الداخلية التي تجلت في وقفته العازمة ضد الشيوعية والعلمانية وسائر القوى اللادينية والمناهضة للدين. وهناك الصحوة الإسلامية باعثة العزم.. كل ذلك يظهر الفرص النابضة بالحياة والمواتية لتحقيق فتح ديني عالمي خلال القرن القادم.

لو استطاع العالم الإسلامي أن يستعيد وحدته أيام عصره الأصيل؛ لو استطاعت أمم الإسلام الحالية والأغلبيات أن تفصل ما بين الجهاد الإسلامي وبين السياسات القومية والحزبية؛ لو أمكن تحويل مواقفها الكارهة المتنافرة مع القيم الإنسانية الحديثة للعالم العربي.. إلى بيان بالمـُثل والقيم الإسلامية السامية إنسانيا واجتماعيا؛ لو أمكن أن ينخرط علماؤه وحكماؤه في قوة منظمة للتبشير الإسلامي.. عندئذ لن تستطيع القوى غير الإسلامية أن تقاوم القوة القاهرة لرؤيته الدينية نحو مجتمع عالمي آمن.. في ظل رحمانية الله.. من خلال طاعة شريعته المقدسة، والخضوع لمشيئته الأبدية. ويمكن للانفتاح الإيجابي الانتقائي للهندوسية والبوذية على الأديان الأخرى وعلى جميع الأقوام من أن يحول أيا من هذين النظامين الدينيين العملاقيين ليكون دينا كونيا للألف الثالث. فأسلوب كل منهما في تحقيق الذات شديد التميز بالفردية؛ ورسالاتها السلمية عن عدم العنف، والتعاطف العالمي، والأخوة الإنسانية، وتقديرهم للحياة والبيئة الطبيعية.. كل ذلك له من الجاذبية بين الأجيال الشابة في أوروبا وشمال أمريكا ما يكفي لتزدهر تعاليمها إلى ديانة عالمية.

وعندما يجد الفلاسفة والعلماء النظريون في الوقت الحاضر في تراث كل من الفلسفتين الهندوسية والبوذية إجاباتٍ مقنعة للمشاكل العصرية.. فيما يتعلق بطبيعة الكون وإدارة البشر لمواردها. فهناك إمكانيات حقيقية لكل منها لتحقق فتحا ثقافيا للعالم الغربي، والاعتراف بها كنظام ديني كوني.

ومن الجانب الآخر.. فإنه عندما تستطيع الحركة التوفيقية الانسجامية الهندوسية أن تتشرب جميع الديانات في نظامها الكوني.. فإن التناقض بين أشكالها للخاصة والعامة، والتعديلات نحو وجهة النظر والمتطلبات العصرية الحالية في الهند.. يكون لذلك نتيجة موهنة على تأثيرها العالمي الواسع.

ومنذ نهاية ستينات هذا القرن تناقصت جاذبيةُ الهندوسية بعضَ الشيء لدى العالم الغربي.. والتي كانت سابقا من خلال ترجمات وتفسيرات رفيعة المستوى لتعاليمها إلى اللغات الأوروبية.. على يد نخبة موهوبة من رهبان وعلماء ومثقفين.. هنودا وأوربيين. وعلى المقالات الطريفة التي تتناول العقيدة والممارسة الهندوسية.. والتي لا تزال تحمل فئوية شرقية في الغرب المعاصر.. عليها أن تتغلب على إحساس هندوسي غريب عن المزاج الغربي. الفن والآثار الهندوسية المقدسة في حفنة من متاحف أمريكا الشمالية تضم الأساطير والطقوس تعرضها أقلية من المهاجرين الهنود الشرقيين؛ وممارسات اليوجا المستغربة والمجردة عن صبغتها الدينية؛ ومقررات سطحية عن الهندوسية والسنسكريتية في عدد قليل من الجامعات الأمريكية والأوروبية لا تفيد شيئا في الغزو الهندوسي الروحاني للعالم.

وكذلك فإن المستقبل العالمي للبوذية منفردة لا يدعو للتفاؤل. فهي قد تلاشت في الهند؛ وكادت تخمد في الصين؛ وقضي على الكثير من نظامها في كوريا الشمالية وفيتنام ولاوس وكامبوديا؛ وضاع منها النفوذ العام في بورما المعاصرة؛ وتحولت طاقاتها الروحية في تايلاند وسيلان نحو بواعث سياسية واجتماعية.. مع أن الأحوال السياسية السيئة قد زادت من قوة تحملها وبقائها في العالم الشيوعي. ويرتبط مستقبلها بموقف لاجئيها في أمريكا الشمالية التي يمكن أن تكون المركز الجديد لبعثتها التبشيرية العالمية.

وفي العالم الحديث.. ركبت البوذية قمة الثورة التكنولوجية. ويمكن أن تكون هذه، بالإضافة إلى حيويتها المتجددة، وتحمُّلِها الصبور للمواقف السيئة.. مؤشراتٍ إلى دلائل بقائها وإمكان انبعاثها عالميا خلال الألف الثالث.

والسؤال الحاسم إذن: هل لدين من الأديان الكبرى مستقبل عالمي أم لا.. بعد هذا العصر الخائن.. الذي يطلق عليه الهندوس (كالى يوجا) أي العصر المظلم أو عصر الحديد، ويسميه البوذيون عصر (المابو)؟ ومستقبل دين ما كمستقبل العالم نفسه على المدى الطويل.. يمكن أن يخمنه أي إنسان. ولكن إذا قُرئت الأوقات الحالية المضطربة على أن مخاض ولادة لعصر جديد.. يكافح كي يولد في زمن الرب.. على أنه الحدث المسيحي المقدر.. فلنا أن نتطلع إلى الدين الإلهي الجديد متوقعين ظهوره من مذنب هالي الأرزق.. متتعبا أطلال ديانات غابرة، محلقا نحو أفق الأبدية وراء الألف الثالث.

Share via
تابعونا على الفايس بوك