العقل والدين

العصر الذي نعيش فيه يسمى أيضا عصر العقل. فمع تقدم العلوم والتكنولوجيا صرنا اليوم أكثر وأكثر اقتناعا بتطبيق العقل والمنطق في معاملاتنا في الحياة. لقد ولّى الوقت الذي كانت تُضطر فيه الجماهير إلى تقبل نظرية أو فكرة بإيمان أعمى! ولقد قدمت البشرية تضحيات عظمى لتحقيق هذه النتيجة.

ومن بين أعظم النتائج المترتبة على هذا النمط من التفكير أن الناس في العالم يحكمون على صدق الديانات الموجودة بناءً على العقل والمنطق. إنهم لا ولن يثقوا بأي شيء لا يستطيعون فهمه. والدين الذي يُعتبر بحق دين الجماهير هو ذلك الدين الذي يصمد أمام هذا التحدي. ومن ثم دعنا نقس بهذا المعيار عقيدتين عظميتين.

تُعتبر النصرانية الديانة التي لها أكبر عدد من الأتباع في العالم. ويقينا لا تسمع تعاليمها باستخدام المنطق في معتقدات هذا الدين. وفيما يتعلق بحقيقة يسوع فإننا بكل تأكيد نؤمن أنها معتقدات معقولة ومنطقية. ولكن على الفور بعد اختفائه من المشهد.. قام بولس وغيّر وجه النصرانية كله.

لم يكن بولس من تلاميذ عيسى ؛ بمعنى أنه لم يلتق به أبدا أثناء حياته. كان يهوديا ذا خلفية من تعاليم الرومان. وكان يتفوق على تلاميذ عيسى بسبب تمتعه بهوية رومانية. وبمثل هذه الخلفية حسب نفسه أكثر الناس قدرة على فهم رسالة السماء.. مع أن العلم الإلهي الحق وفهم رسالته لا يتطلب أن يكون للمرء درجات دنيوية أو شهادات دراسية. فالله تعالى هو الذي يعلم ويربي من يشاء ليبعثه مصلحا في العالم.

كان بطرس -مع أنه كان أميا وصيادا فقرا- في نظر الله تعالى أكثر علما ودراسة من أي واحد من معاصريه ذوي الدرجات الدنيوية. لقد تعلم وتربى على يد سيده عيسى نفسه، ومن ثم كانت دراسته ومكانته أعلى من بولس. وبسبب فهمه وإدراكه للحق وقف معارضا لبولس في كثير من المناسبات. لقد عارضه في مسألة الدعوة بين الأمم خارج بني إسرائيل.

ولقد أدخل بولس في النصرانية أفكارًا حالت دون تقدم العقيدة الصحيحة التي جاء بها عيسى . جاء بولس بنظرية لم يستطع أي إنسان عاقل أن يفهمها حتى اليوم. جاء بعقيدته التثليث فوضعت حجرة عشرة في طريق القيامة، وكذلك نظريتي القيامة والصعود من النظريات اللامعقولة. وبأي مقياس حكم الإنسان على النصرانية وجدها مؤسسة على الأساطير والخرافات.

تعتبر عقيدة التثليث العمود الأساسي لتعاليم النصرانية. لقد رمي منكرو الثالوث بالهرطقة والخطيئة، وطُرد كثير منهم من حظيرة الدين لأنهم آمنوا بالتوحيد. ولكن في عصر العقل هذا، لا يمكن لكائن عقلاني أن يقبل بفكرة الثالوث السخيفة. كيف يمكن أن يكون هناك ثلاثة آلهة؟ سؤال يتردد بين الناس كثيرا. ليس له من توضيح.. اللهم إلا أنه سر لم يفهمه أحد قط.. ومع ذلك يتحتم علينا الإيمان به! وعندما لم يجد المفكرون النصارى مفرا منه، ولم يستطيعوا تفسير أسس التثليث.. شرعوا ينكرونه علنا. وتنتمي طائفة “شهود يهوه” إلى هذا القسم، فهم ينكرون عقيدة التثليث.. ويؤمنون بثنائية الإله. لقد أنزلوا درجة يسوع قليلاً، ولكنهم احتفظوا بعقيدة الخطيئة الأصلية وعبادة يسوع وإلى ما ذلك.

وليس وراء اتجاه النصارى الأرثوذكس (السلفيين) إلى “شهود يهوه” أنهم وجدا مخرجا من العقائد اللامعقولة في النصرانية التقليدية. كلا، والمسألة الآن هي هل ستجد الجماهير الكفاية تفاسير “شهود يهوه”؟ لا، بالتأكيد.. لأنهم سيجدون نفس الاتجاه إلى الإيمان الأعمى فيما يتعلق بمسائل أخرى.. منها القيامة، والصعود، إلخ.

وكان (توماس باين) من بين المفكرين الأوائل الذين رفعوا أصواتهم متشككين في مصداقية التعاليم النصرانية ومعقوليتها ومنطقها. ولقد تعرض للتعذيب بسبب آرائه هذه. وما أصدق قوله:

” في منشوراتي عن الموضوعات الدينية.. وجهت جهودي إلى أن أجعل الإنسان يعرف الاستخدام الصحيح للعقل الذي منحه الله إياه، وأن أؤكد أمامه على المبادئ العظيمة للأخلاقيات والإلهية، العدل، الرحمة، والإحسان نحو كل الناس وكل المخلوقات ولأنفخ فيه روح الثقة”.

وفيما يلي ثمرة تفكير توماس باين وتدبيره في المسألة الإلهية بكلماته:

“أؤمن بإله واحد لا أكثر، وآمل في السعادة بعد هذه الحياة”، وكل مفكر صائبٍ ملتزمّ بقبول وحدانية الله ونبذ كل المعتقدات السخيفة عن التعددية. والآن، تعالوا ننظر في حال الإسلام بهذا الشأن. القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، ويتضمن شريعة كاملة توجه سلوك المسلمين. والخصائص الرئيسية للإسلام أن يبني أدلته وادعاءاته على العقل والمنطق. ولكل مسألة إيمانية هناك بيان معقول.

ففي القرآن الكريم يضع الله تعالى هذا المبدأ للإنسان:

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

وبحسب هذه الآية يتقرر أن كل تعاليم الله تعالى واضحة للعقل والفهم. ليس هناك غموض أو التواء فيها. كلها قائمة على العقل والفهم، وهناك عدد كبير من الآيات التي ذكر الله فيها استعمال العقل والتدبر تأييدا للإسلام وتعاليمه. ويكفينا النظر إلى ثلاثة من تعاليم الإسلام الأساسية بهذا المنظار.

الإله

إن المسألة الرئيسية في كل الديانات هي مفهوم (الإله). ما هو الله؟ وما هي علاقتنا به؟ وما هي قدراته؟ وكما أشرنا من قبل فإن النصرانية تقدم لنا تفسيرًا غامضًا محيرا وسخيفا عن (الإله) لم يكن باستطاعة أحد في هذا العالم أن يفهمه. كما أن المحاولات الحديثة لبيان تعاليم النصرانية عن (الإله) قد شوهت مواقفها تماما.

وقد بُحثت مسألة الثالوث هذه بحثا مستفيضا في مجمع نيقيا عام 325م حيث صوتت الأغلبية على فكرة الثالوث فاعتمدت. إنها لم تكن أبدا من تعاليم عيسى ولا تلاميذه. لقد كان عيسى يهوديا موحدا خالصا.

والإسلام شديد الوضوح في هذا الموضوع، ويؤيده القرآن الكريم بحجج قوية: فيعلن:

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (البقرة: 164).

والآية التالية لهذه تقدم الدليل على وجود الله فتقول

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: 165).

فتزوِّدنا هذه الآية بالدليل الذي يثبت وجود الله تعالى والذي ذُكر في الآية السابقة. فدراسة الكون بعناية لا شك تُشير إلى الخالق. السماوات والأرض، والليل والنهار، وما هناك من لوازم الحياة: من سقوط المطر ذي القوة على إحياء الأرض وإنبات الزرع، وسائل الانتقال، هبوب الرياح، إشراق الشمس.. كل هذه تشير إلى مهيمن واحد: الله تعالى، خالق السماوات والأرض. سأل أحد العرب المتعلمين صديقه الأمي البدوي عن دليله على وجود الله. فقال العربي: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام على السفير.. أفلا يدل كل هذا الكون على رب قدير! وهكذا يعلن القرآن الكريم وحدانية الله ثم يدلل علها بالبينة.

والمسألة التالية هي الوصال مع الله تعالى. هل هو يسمعنا ويجيب دعاءنا؟ ولا تقدم النصرانية جوابا معقولا على هذا السؤال، فإنكار الوحي الإلهي شائع جدا بين النصارى. لقد فشلت النصرانية لزمن طويل في أن تقدم أي مثال من الناس له تجربة من الوحي. ولكن بحسب القرآن الكريم.. تكلم الله تعالى في كل العصور، ولا يزال يتكلم مع المصطفين الأخيار من عباده. وفي عصرنا هذا أعلن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود -مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية- أن الله تعالى كلمه وأوحى له أنباء من الغيب عن المستقبل. يقول تعالى في القرآن الكريم:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187).

وتعطينا هذه الآية الجواب عن هذا السؤال: هل يتصل الله تعالى بنا؟ الجواب: نعم. إنه قريب، إنه يسمع دعاءنا.. ليس ذلك فحسب، بل ويجيبه.

ولقد أنجبت الجماعة الإسلامية الأحمدية بفضل الله تعالى الآلاف من أناس أعلنوا وأثبتوا دعواهم بأن الله تعالى تكلم إليهم وأجاب دعاءهم.

وعندما طاف الصليبي (بيلي جراهام) في أفريقيا تحداه دعاتنا هناك، وعرضوا عليه أنه إذا لم يكن بوسعه أن يُناظرهم في موضوع التثليث.. فليتقدم وليختر 30 من المرضى المزمنين الذين لا يرجى شفاؤهم في المستشفيات، ويوزعهم على جماعته: 15 معه ومثلهم مع المبلغين المسلمين الأحمديين. ثم يقوم كل جانب بالدعاء والابتهال والتضرع لمدة 40 يوما كي يُشفى من معه من المرضى. فإذا شُفي معظم من دعا لهم المسلمون كان ذلك دليلا على أن الإسلام دين من الله تعالى. ولكن القسيس رفض نهائيا.. وتجنب الموضوع وتحاشى المبلغين المسلمين الأحمديين. ولا يزال التحدي قائما! فكل جانب يتعلق بمفهوم الألوهية واضح بيّن في الإسلام ويمكن أن يفهمه الجميع وكذلك الحال بالنسبة لكافة تعاليم الاسلام الرئيسية. إنها كلها تقوم على فلسفة مفهومة للعقل الإنساني.

العقل في الدين

وهناك مسألة تحتاج إلى توضيح، ألا وهي موضع العقل في الدين. كما أشرنا آنفا فإن الإسلام يشجع استخدام العقل في تفهم مبادئ التعليم. ولكن في نفس الوقت يبين أن العقل وحده ليس الحَكَمَ الوحيد في إقامة علاقة مع الله تعالى. العقل فقط يمكن أن يقودنا إلى درجة معينة من الفهم. ولكن إذا صاحَبَ الوحي الإلهي العقل أدى إلى اليقين. ولذا فإن الصراط المستقيم هو في استخدام العقل المصاحب للنور الإلهي.

والمثال التالي يوضح لنا هذه النقطة. بالعقل وحده يمكن أن يصل المرء إلى مرحلة يدرك عندها أنه لا بد من وجود صانع لهذا العالم.. أي إله. ولكن الوحي والنور الإلهي يأخذ المرء إلى خطوة تقديمه بأن يقول: ما هو الله. والفرق بين (لا بد) و (ما هو) واضح تماما. إننا نصل إلى الحق بالعقل والتدبر، ولكن اليقين في الدين لا يتحقق إلا إذا واكب العقل وحيُ السماء. وفي الإسلام.. كلا الأمرين على قدر واحد من الأهمية، وكل منهما مرتبط بالآخر. العقل وحده قد يصل بنا إلى السفسطائية، ولا يمكن أن يكون مرشدًا حقيقيا إلى الله أو الخالق. ولكن كي ننال اليقين عن وجود الله فنحن بحاجة إلى الوحي الإلهي.

وفي عصرنا هذا جاءتنا بركة السماء بمجيء خادم المصطفى الإمام المهدي والمسيح الموعود -سيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني.. الذي أثبت للعالم أن الله جل وعلا لا يزال يتكلم ويكشف عن نفسه لعباده أيضا اليوم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك