نجاة عيسى عليه السلام من الموت على الصليب

نجاة عيسى عليه السلام من الموت على الصليب

بشير أحمد رفيق

خطاب أُلقي في مؤتمر

«بطلان عقيدة وفاة المسيح على الصليب»

عقدته الجماعة بتاريخ الثاني، الثالث والرابع من حزيران 1978م

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ  وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

تعريب: نادر الحصني الحسيني

(كاتب سوري مقيم بكندا)

هناك ثلاثة آراء سائدة بخصوص حادثة صلب السيد يسوع المسيح :

أولاً: يعتقد كل من اليهود والمسيحيين أنَّ المسيح ابن مريم قد وُضع على الصليب ومات عليه، وبذلك فقد حمل اللعنة وصار ملعوناً. ورغم أنهم (اليهود والمسيحيون) يتفقون في هذا إلا أنهم يختلفون في الغرض من موته على الصليب. إذ يعتقد اليهود أنَّ هذه الميتة دليلٌ على أنَّ المسيح كان نبياً كاذباً والعياذ بالله، حيث تنصُّ كتبهم المقدَّسة على أنَّ هذه الميتة مرتبطةٌ بلعنة الله تعالى، فقد جاء في سفر تثنية من العهد القديم ما نصه:

“وإذا كان على إنسان خطيّةٌ حقُّها الموتُ فقُتل وعلّقْتَه على خشبةٍ، فلا تَبِتْ جثتُه على الخشبة. بل تَدْفِنُه في ذلك اليوم لأنَّ المعلَّقَ ملعونٌ من الله، فلا تُنَجِّس أرضك التي يعطيك الربُّ إلهُك نصيباً.” (تثنية 21:22)

وكذلك نقرأ في سفر تثنية:

“وذلك النبيُّ أو الحالِم ذلك الحُلمَ يُقتَل لأنه تكلَّم بالزيغ من وراء الرب إلهِكم الذي أخرجَكم من أرض مصر وفَداكم من بيت العُبُوديّة كي يُطَوِّحَكُمْ عن الطريق التي أَمَركم الربُّ إلهُكم أن تَسلُكوا فيها فتنْزعون الشرَّ من بينكم.” (تثنية13: 5)

وتنتهي وجهة الاتفاق بين اليهود والمسيحيين عند هذا الحد، إذ يؤمن العالم المسيحي أنَّ السيد المسيح قد استسلم بملء اختياره لميتة اللعنة كي يفتدي بنفسه عن خطايا البشرية جمعاء.

ثانياً: بينما ينبذ المسلمون فكرة موت السيد المسيح على الصليب لمعارضتها الصريحة للنصوص القرآنية الواضحة، فإنهم يعتقدون أنه لما جاء اليهود للقبض على السيد المسيح ليقودوه إلى الصليب، ألقى الله تعالى شبهه على شخصٍ آخر ظهر أمامهم بمظهر المسيح، فقاد اليهودُ إلى الصليب ذلك الشخصَ، بينما رفع الله تعالى عيسى بجسده إلى السماء. وبهذا نجّاه الله تعالى ليس من الموت على الصليب فحسب بل من التعليق على الصليب كلياً. ولم تَرِد هذه الواقعة في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الشريفة، وإنما نُسجت بسبب إساءة تفسير الجملتين التين وردتا في سورة النساء وهما:

وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ و وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ .

ثالثاً: أما نحن أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية فنعتقد أنَّ عيسى وُضع على الصليب ولكنه لم يقضِ نحبه عليه، بل اقتضت قدرة الله تعالى أن ينجو من ميتة اللعنة، وكادَ سبحانه ودبّر له أن يُنَزَّل من على الصليب وهو لا يزال حيّاً يرزق ولم تفارقه الروح بعد. وعُولِجَ حتى ارتدَّت إليه العافية واستعاد صحته كاملة. ومن ثم غادر فلسطين للبحث عن الخراف الضالة من قبيلة بني إسرائيل، وقد عاش وعُمِّر طويلاً حتى بلغ منه الكِبَرُ مبلغه فتوفاه الله تعالى ودُفِنَ في كشمير.

ونحن نبني اعتقادنا هذا على ما ورد في القرآن الكريم وسُنّة الرسول الأعظم محمد ، وعلى ماء جاء في الكتب المقدَّسة. كما وندعم هذا الاعتقاد ببراهين.. نستخلصها من العهد الجديد.. لا تدع مجالاً للشك بأنَّ عيسى قد وُضع على الصليب، ولكن الله تعالى نجّاه من الموت عليه، وأُنْزِلَ من على خشبة الصليب وهو لا يزال على قيد الحياة، وبذلك باء مكر أعدائه بالفشل.

وكما يُشير عنوان خطابي فإنّي سألتزم بتقديم أدلة مستخلصة من عباراتٍ وردت في الإنجيل. ومن الضروري أن أذكر في هذا المجال أننا لا نعتبر كُتُبَ العهد الجديد التي تحتوي على الأناجيل الأربعة منَزَّهة عن الخطأ، ولا نجد أنفسنا مُلزمين بقبول صحة نصوصها. فقد جُمعت هذه الكتب بعد حادثة الصليب بزمنٍ طويل، وهي في وضعها الحالي لا تحمل طابع الكتب السماوية في أثرها. وحتى نسبة بعضها إلى المصدر الذي تُرْوَى عنه أمرٌ مختلفٌ فيه، وكلمات السيد المسيح لم تُنقل بدقةٍ وأمانة. والأساليب التي نجمت عنها هذه الأناجيل والتي اتبعتها الهيئات الكنائسية المسؤولة عن جمعها وتصنيفها من اختبار وانتقاء ونبذ.. تدلّ على أنَّ هذه المؤسسات والهيئات الكنائسية لم تكن تعتبر هذه الكتب إلهاماً سماوياً بنصّه وحرفه. وبالإضافة.. نجد أنَّ بعض الفقرات في هذه الأناجيل تتناقض وتتضارب مع بعضها بعضاً في المعنى.

وقد تأخر جمع وتصنيف هذه الكتب إلى أن نبتت فكرة موت السيد المسيح على الصليب واستقرّت في الأذهان على الرغم من خطئها، فجرى هذا الجمع والتصنيف بغاية تأييد هذه الفكرة المسبقة. ولذلك أي دعم مغاير لهذه الفكرة لا شك هو دليل بأنَّ السيد المسيح لم يمت على الصليب.

وسوف أُقدّم في هذا المقال، بنظرةٍ عابرة من الإنجيل، أياماً قليلة من حياة السيد المسيح التي سبقت حادثة الصليب، لنُعطي القارئ فكرةً عن الظروف التي واجهها.

في تلك الأيام كان عداء اليهود له على أشدّه، وكانوا يبحثون عن وسيلةٍ للقضاء عليه، إذ لم يكونوا يعتبرونه نبياً صادقاً. وقد أثار حفيظتهم بتعاليمه ضد البدع التي تفشت في طقوسهم الدينية ومعاملاتهم وتقاليدهم الفاسدة، ولم يكن هناك من نبي يوبخهم على الرياء الذي تمكّن من طبيعتهم. فكانوا يتحيّنون الفرص للقضاء عليه.

ونقرأ في إنجيل لوقا:

“ويلٌ لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة. ما دخلتم أنتم، والداخلون منعتموهم. وفيما هو يكلمهم بهذا ابتدأَ الكتبةُ والفرّيسيون يحنقون جداً ويصادرونه على أمور كثيرة. وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئاً من فمه لكي يشتكوا عليه.” (إنجيل لوقا 11: 52-54)

عندما كان السيد المسيح يعلّم الناس في معبد القدس.. كان زعماء اليهود يُجهدون أنفسهم في خلق مختلف الوسائل للقضاء عليه. وفي إحدى المناسبات نسجوا شباكهم بأن دسّوا بين الناس عميلاً للحاكم الروماني. فنقرأ في لوقا الإصحاح 20:

“فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلِّموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين يا معلم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلّم وتُعلّم ولا تقبل الوجوه بل بالحق تُعلّم طريق الله. أيجوز لنا أن نُعطي جزية لقيصر أم لا؟ فشعر بمكرهم وقال لهم: لماذا تجرّبونني. أروني ديناراً لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدّام الشعب. وتعجبوا من جوابه وسكتوا.” (لوقا 20: 20-26)

كان الكثير من الناس قد بدأوا يؤمنون برسالته بتأثير تعليمه ومواعظه، مما أزعج رجال الدين، فتآمروا ليحدّوا من نشاطه، وأرسلوا رجالهم للقبض عليه، كما نقرأ في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا:

“سمع الفرّيسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه فأرسل الفرّيسيون ورؤساء الكهنة خدّاماً ليمسكوه.” (يوحنا7: 32)

اجتمع رجال الدين اليهود في منزل قيافا قبل أيام قلائل من احتفال عيد الفصح والفطير، وبدأوا يتداولون حول حيلةٍ للقبض على السيد المسيح تأتي بنهايته. وأخيراً بيَّتوا أن يكسبوا أحد تلامذته إلى صفّهم عن طريق الرشوة، ولقد باع نفسه يهوذا الإسخريوطي ابن سيمون بقطع نقدية قليلة من الفضة. ويسرد متّى في إنجيله وفي الإصحاح 26 كيف أنَّ يهوذا ذهب يوماً إلى رجال الدين وسألهم:

“حينئذٍ ذهب واحدٌ من الاثنَي عشر الذي يُدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة. وقال: ماذا تريدون أن تُعطوني وأنا أسلّمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلّمه.” (متّى 26: 14-16)

أقبل عيد الفصح.. فوجّه السيد المسيح تلامذته ليُهيّئوا العشاء لذلك اليوم. وفي المساء جلس إلى مائدة الطعام مع تلامذته الاثني عشر، وفي تلك الساعة تنبّأ:

“وفيما هم يأكلون قال: الحق أقول لكم إنَّ واحداً منكم يسلّمني.. الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلّمني.” (متّى 26: 21، 23)

مضى السيد المسيح بعد العشاء إلى ضيعة تُدعى جثْسيماني. وتبعاً لما جاء في إنجيل متّى ومرقس ولوقا ظهر مضطرباً وقلقاً. وطلب من تلاميذه أن يتأخّروا عنه وينهمكوا في الصلاة والتذلّل لله تعالى، وتقدّم عليهم وسقط على ركبتيه وبدأ في الصلاة. وعاد إليهم بعد فترة فوجدهم نائمين. فخاطب بطرس قائلاً:

“يا سِمعان أنت نائم؟ أما قدرتَ أن تسهر ساعةً واحدة. اسهروا وصلُّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف.” (مرقس 14: 37- 38)

وتركهم مرةً أخرى واندمج في صلواته، ثم عاد إليهم ليجد أنَّ النوم قد غلبهم. وتكرّر نفس الأمر مرةً ثانية، فخاطبهم بقوله:

“وقال لهم ناموا الآن واستريحوا هو ذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يُسَلَّم إلى أيدي الخُطاة. قوموا ننطلق هو ذا الذي يُسلّمني قد اقترب.” (متّى 26: 45 – 46)”ثم إنَّ الجند والقائد العام وخدَّام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه. ومضوا به إلى حنّان أولاً، لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة. وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود أنه خيرٌ أن يموت إنسانٌ واحد عن الشعب.” (يوحّنا 18: 12 -14)

استفسر زوج أم قيافا من السيد المسيح عن تعاليمه، فردَّ عليه بجوابٍ حكيم. وفي النهاية طلب منه قيافا أن يُطلعه عمّا إذا كان هو نفسه المسيح، فأجاب:

“أنا هو.. وسوف تُبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً في سحاب السماء. فمزَّق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود. قد سمعتم التجديف! ما رأيكم؟ فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت.” (مرقس 14: 62 – 64)

انقضى معظم الليل، وأوشك الصباح أن ينبلج، وقرّر رئيس الكهنة والمجتمعون من الناس موت السيد المسيح، وبدأوا ترتيباتهم لأخذه إلى بيلاطس الحاكم الروماني.

كانت سوريا وفلسطين حينئذٍ تحت الاحتلال الروماني، وتنقسمان لأربع ولايات كل منها تحت حاكم روماني مختلف. وكان بونتيوس بيلاطس حاكماً لليهودية جنوب فلسطين، بينما كان هيرودس حاكماً للجليل. ولم تكن السلطات الرومانية تأبه بالخلافات الداخلية بين اليهود، ولكنها لا تتغاضى عن أية حركة موجّهة ضد سلطانها. ولذلك.. عندما قاد اليهود السيد المسيح إلى بيلاطس قدَّموا ضده الاتهامات التالية:

“وابتدأوا يشتكون عليه قائلين، إننا وجدنا هذا يُفسد الأمة ويمنع أن تُعطى جزيةٌ لقيصر قائلاً إنه هو مسيحٌ ملكٌ. فسأله بيلاطس قائلاً: أنت ملك اليهود؟ فأجاب وقال: “أنت تقول”. فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إنّي لا أجد علّةً في هذا الإنسان. فكانوا يُشدِّدون قائلين إنه يُهيّج الشعب، وهو يعلّم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل إلى هنا.” (لوقا 23: 2-5)

وسأل بيلاطس السيد المسيح أسئلةً أخرى فأجاب عليها بالتفصيل فخرج على اليهود وقال:

“أنا لست أجد فيه علّةً واحدة.” (يوحنا 18: 39)

استناداً إلى ما يرويه لوقا في إنجيله كان “هيرودس” حاكم الجليل عندئذٍ في القدس. فلما علم بيلاطس أنَّ السيد المسيح من منطقة الجليل، أرسله إلى هيرودس الذي سأله عدة أسئلة أجاب عليها بالصمت.

“فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به، وألبسه لباساً لامعاً وردَّه إلى بيلاطس.” (لوقا 23: 11)

كانت زوجة بيلاطس قد رأت حلماً مزعجاً في الليلة السابقة، وحين مَثَلَ يسوع أمام بيلاطس أرسلت رسالةً إلى زوجها.

“وإذ كان جالساً على كرسي الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلةً: إيّاك وذلك البار، لأني تألّمت اليوم كثيراً في حلم من أجله.” (متّى 19: 27)

لذلك لم يكن بيلاطس يريد أن يُلطِّخ يديه بدماءٍ بريئة فأعلن للجميع:

“قد قدَّمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يُفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدَّامكم ولم أجد في هذا الإنسان علّةً مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضاً. لأني أرسلتكم إليه وها لا شيءَ يستحق الموتَ صُنِعَ منه. فأنا أُوَدِّبه وأُطلقه.” (لوقا 23: 14 -16)

لكن اليهود لم يقنعوا بشيءٍ أقل من الموت للسيد المسيح، فاعترضوا كما يحكي لنا إنجيل يوحنا:

“من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يُطلقه ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين إن أطلقت هذا فلست محبّاً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر.” (يوحنا 19: 12)

وإزاء هذا التهديد لم يتّبع بيلاطس خطّته الأولى في إنقاذ السيد المسيح بل لجأ إلى وسيلةٍ أخرى. وكان من المألوف أن يُطلق لهم سراح أحد المحكوم عليهم بالإعدام بمناسبة عيد الفطر. وفي ذلك الحين كان أحد أولئك المجرمين “باراباس” رهين السجن في انتظار تنفيذ الحكم. فسأل بيلاطس:

“فأجاب الوالي وقال لهم: مَن مِن الاثنين تريدون أن اُطلقَ لكم؟ فقالوا: باراباس.” (متّى 27: 21)

وهكذا تحت تأثير رئيس الكهنة والفريّسيين طلب الحشد جميعاً بدون استثناء إطلاق سراح باراباس. وهنا استفسر بيلاطس قائلاً:

“فماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح؟ قال له الجميع ليُصلب.. فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً بل بالحريّ يحدث شغب.. أخذَ ماء وغسل يديه قدَّام الجميع، قائلاً: إنّي بريء من دم هذا البار! أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا…. فأخذ عسكر الوالي يسوع إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة. فعرُّوه وألبسوه رداءاً قرمزياً. وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وقصبةً في يمينه وكانوا يجثْون قدّامه ويستهزئون به قائلين: السلام يا ملك اليهود. وبصقوا عليه وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه. وبعد ما استهزأوا به نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه ومضوا به للصلب.” (متّى 27: 22- 31)

كان ذلك يوم الجمعة، يوم التهيئة والترتيب لعيد الفصح. وحوالي الساعة السادسة قاد الجنود يسوع إلى خارج القصر، ووضعوا الصليب على كتفه وقادوه إلى مكان يُدعى “جلجثة” حيث دُقَّ الصليب في الأرض، وعُلِّق عليه السيد المسيح ودُقَّت المسامير في كفيه وقدميه. وبأمرٍ من بيلاطس كتب الجنود “ملك اليهود” على لافتةٍ علّقوها على صليبه. وصُلب على يمينه ويساره لصّان. وفي وقت متأخر بعد الظهيرة صاح يسوع: “إيلي، إيلي، لما شَبقتني”. والمعنى: إلهي إلهي لماذا تركتني. ثم أُغميَ عليه. وحسب قول متّى عمَّت الظلمةُ الأرضَ من الساعة السادسة حتى التاسعة، وإذا بحجاب الهيكل قد انشقّ إلى اثنين.

وفي المساء جاء إلى بيلاطس رجلٌ ثري من الرامة اسمه يوسف، وكان أحد تلامذة السيد المسيح. فحصل من بيلاطس على إذن بأخذ جثّته بعد إنزاله من الصليب. ووضعه في قبرٍ جديد كان قد نحته في الصخرة.

وفي اليوم الثالث.. أي يوم الأحد.. قصد بعض النساء القبر يحملن عطوراً، فوجدنَ الصخرة على المدخل قد أُزيحت من مكانها، وكان القبر خالياً من كل جثة. وبعد ذلك قابل يسوع تلاميذه سراً عدّة مرات.

والآن أستأنف تقديم الدلائل من الإنجيل على صحة معتقداتنا بأنَّ المسيح لم يمت على الصليب، بل غاب عن الوعي.. مما حسبه الضابط المسؤول موتاً. وبما أنَّ بيلاطس كان يُعارض صلب السيد المسيح.. فمن المرجح أن لجأ إلى وسيلة أخرى لإنقاذه من الموت بالاتفاق مع يوسف الرامي والطبيب نيقوديموس، وربما مع آخرين من تلاميذه. ويبدو أنه كان ضمن تلك الخطة المبيّتة أن قدمي السيد المسيح لم تكُسرا كقدمي كل من اللصين المصلوبين إلى جانبيه.

وأودُّ أن ألفت انتباهكم هنا إلى ثمانية نقاط من العبارات المختلفة في العهد الجديد التي إذا جُمعت معاً تؤيدون بدون شك أنَّ السيد المسيح لم يلقَ حتفه على الصليب.

  1. حين طلب اليهود معجزة من السيد المسيح كان جوابه لهم:
“فأجاب وقال لهم: جيلٌ شريرٌ وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى له آيةٌ إلا آيةَ يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ.” (متّى 12: 39- 40)

هذا الجواب الذي أعطاه السيد المسيح للفريّسيين مُفحِمٌ في جواب السؤال الذي نتداوله. فقد رفض المسيح أن يُعطيهم أيّة آية أو معجزة إلا معجزة يونس أو “يونان” النبي. وماذا كانت معجزة يونس!

كان عليه أن يقضي ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ في بطن الحوت نتيجة معارضة قومه له مما آل به الأمر إلى تلك الحال، وكانت المعجزة أنه عاد إلى قومه حيّاً، ولم تقضِ عليه هذه المدة التي قضاها في بطن الحوت.

كان جواب السيد المسيح يعني أنه نتيجة للتدابير التي بيّتها أعداؤه فسوف يتوجّب عليه أن يقضي بعض الوقت في بطن الأرض، ولكنه سيدخل بطن الأرض حياً، ويخرج إلى قومه وهو لا يزال على قيد الحياة، كما حدث مع يونان النبي، أي يونس ، وكدليل من الله تعالى على صدق كل منهما.

كان هذا جوهر المعجزة التي تنبّأ بها السيد المسيح بأنه سيوضع في ظروف تُصبح حياته خلالها مَيْؤوس منها، ولكن بقدرة الله تعالى تتم له النجاة من المحنة كدليل على صدقه. وكما عاد يونان إلى قومه بعد محنته وآمنوا به وقبلوه معزَّزاً مكرَّماً، فكذلك عاد المسيح إلى قومه الآخرين من خراف بني إسرائيل الضالة، تلك القبائل المتفرقة في أنحاء الأرض من شَرقِ فلسطين، ليقابَل بالإعزازِ والإكرام، وليستقر بعد طوافه في كشمير إذ آواه الله وأمه إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومَعِين. وإذا سلّمنا جدلاً بالنظرية المسيحية: “بأنَّ السيد المسيح قد مات ميتة اللعنة على الصليب، وافتدى البشرية جمعاء بحمل اللعنة عنهم، ثم دُفن جُثة هامدة وبقي كذلك إلى اليوم الثالث، ثم بُعث بجسد روحاني غير جسده البشري، مُنَزهّا عن الضعف الإنساني. ” فكيف نعتبر مثل هذا الترتيب في الحوادث آيةً كآية يونس النبي. ليس في دخوله القبر وبقائه به ميّتا أية معجزة، فهذا المألوف من دخول القبر لكل بشر، بل المعجزة كمعجزة يونس أن يدخله حيا، ويبقى به حيا، ويخرج منه وهو لا يزال على قيد الحياة. فلو سلّمنا بمعتقدات المسيحين هذه، فإن لليهود كل الحق في أن يُعلنوا أنه لم يتحقق أي جانب من هذه النبوءة للسيد المسيح. الحقيقة أن الله بقدرته قد نجّاه من ميتة اللعنة على الصليب، وقلب كيد أعدائه رأسا على عقب. الإنذار الذي تلقاه بيلاطس من خلال حُلم زوجته وهو على كرسي القضاء وفي سبيل إصدار الحكم على السيد المسيح، كان الغرض نه هو تحذير بيلاطس من إصدار مثل هذا الحكم، ويدل على أن الله تعالى لم يشأ مثل هذه الميتة اللعينة له، وليست مكتوبة في قدرة المحتوم. فقد ورد في متى الأصحاح ٢٧:

” وإذا كان جالسا على كرسي الولاية أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيراً في حُلم من أجله.” (متى ١٩:٢٧)

هذا الحلم الذي أراه الله تعالى لزوجة بيلاطس دليل ثابت بأن الله تعالى قد كتب للسيد المسيح النجاة والسلامة من الموت على الصليب.

فإذا كان ما يزعمه الإخوة المسيحيون صحيحاً من أن الغاية الرئيسية، والمهمة الكبرى للسيد المسيح كانت أن يموت على الصليب ويُلعنَ، بذلك يفتدي الإنسانية جمعاء بلعنته، فإن الرؤيا التي أراها الله زوجةَ بيلاطس، كانت معاكسة لمشيئته وإرادته، إذ كانت تلك الرؤيا تخدم غرض نجاته من الموت على الصليب ” لا موته على الصليب!”

وقد سبق أن أنقذه الله تعالى في حلم مماثل من كيد هيردوس بأن ألْهَمَ يوسف بالهجرة به وبأمه إلى مصر في عهد الطفولة. (راجع إنجيل متى الإصحاح )

” وبعد ما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلاً: قم وخذ الصبي وأمه واهربْ إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيردوس مُزمع أن يطلب الصبي ليهلكه.” (متى ١٣:٢)

وكما نبه الله تعالى يوسف في الحلم إلى ضرورة سلامة السيد المسيح من تهديد هيردوس بإبعاده بإبعاده إلى مصر، كذلك كان تنبيه يلاطس بنفس الأسلوب ولنفس الغاية . فعندما كان الأعداء يتآمرون للعمل على هلاك السيد المسيح، أعلم الله تعالى زوجة بيلاطس فيحلمها أن السيد المسيح من الأبرار وأنه فوق كل شبهة، وأن أية تهمة تُلفّق ضده لا تُرضي الله، بل إنه تعالى سيغضب لأي لوم يُلقى على هذا البريء.

وقد بلغت الرسالة بيلاطس وهو على كرسي الحكم، فيذل جهوده المتوالية لإنقاذه، ولكن اليهود قاوموا كل محاولة قام. وأخيرا هددوه بأنيشكوه إلى قيصر، فخشي عاقبة ذلك واضطر أن يسلمهم إياه ليصلبوه بعد أن تبرأ أمامهم من دمه، غير أنه عمل سرا على إنقاذه من الموت على الصليب:

أ. جرت المحاكمة في يوم التهيئة والاستعداد لعيد الفصح.

” فلما سمع بيلاطس هذا القول، أخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط، أو بالعبرانية “جبّاثا ” وكان استعداد، الفصح، و نحو الساعة السادسة . فقال لليهود: هو ذا ملككم”. (يوحنا ١٣:١٩)

ب. كان يوم الجمعة هو اليوم المعين لصلب السيد المسيح، وعند غروب الشمس مساءً يتبعه السبت وبالتالي لم يظل السيد المسيح معلقاً على شبة الصليب على خشبة الصليب عند غروب الشمس مساءً. وعلى هذا لم يبق السيد المسيح معلقا على خشبة الصليب عند غروب الشمس مساءً. وعلى هذا لم يبق السيد المسيح معلقاً على خشبة الصليب أكثر من ساعات قلائل.

ج. الضابط المكلّف بصلب السيد المسيح كان يؤمن بصدقه.

” ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال: حقا كان هذا الإنسان ابن الله. (مرقس ٣٩:١٥)

د. الساعات القليلة التي قضاها السيد المسيح على الصليب لم تكن كافية للقضاء على شاب في كامل الصحة، وهذا ما يؤيده الاندفاع المفاجئ للدم مع الماء من جنبه عندما طُعن بالحربة، الأمر الذي لا يحدث في حالة جُثة هامدة.

وقد استغرب بيلاطس نفسه أن يفاجئ الموتُ السيد بمثل هذه السرعة. وبالإضافة.. فإن رِجلَي السيد المسيح لم تُكسرا كما كُسرت أرجل اللصين المصلوبين إلى جانبيَه.

هـ. على الرغم من أن بيلاطس لم يكن مقتنعا أن السيد المسيح قد قضى نحبه، فقد أمر بتسليم جُثته إلي يوسف من الرامة.

” ولما كان المساء، جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضا تلميذا ليسوع. فهذا تقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطى الجسد.” (متى ٢٧: ٥٧-٥٨)

ويكفي هذا لإقناع أي عاقل بأن بيلاطس لجأ لكل أسلوب وطريقة لإنقاذ السيد المسيح من الموت على الصليب.

٣. لاحظنا فيما سبق أن السيد المسيح أخذ تلامذته إلى حديقة جثسيماني و أمرهم أن ينخرطوا في الصلاة، وأيقظهم عدة مرات ليعيد الطلب بأن يصلوا ويتبتلوا إلى الله. وانهمك هو معظم الليل في التبتل والتضرع إلى الله تعالى .. صائحا وباكيا.. راكعا على ركبتيه وساجدا على وجهه.

وكان دعاؤه: ” يا أبتاه! إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك … وإذ كان في جهاد، كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرَقُهُ كقطرات دم نازلة على الأرض. (لوقا ٢٢:٤٣-٤٤)

ولا شك بأن مثله لا يتردد أن يقدم حياته في سبيل الله. بل على النقيض، فحياة الأنبياء مركبة من سلسلة التضحيات. وهذا معنى قوله: ” لتكن إرادتك لا ارادتي ” ولكن الكأس التي يسأل الله أن يجيزها عنه هي لعنة الموت على الصليب التي تعارض كونه نبيا صادقا.

كانت غاية أعدائه أن يظهروه ككاذب أفاك (والعياذ بالله)، فكان محور صلواته أن يفشل مأربهم. لم يكن دعاؤه وتضرعاته بأن يموت على الصليب ملعونا ليفدي الإنسانية، لطلبها، وتمسّك بها، وأصر عليها سعيدا، محور دعائه مخالف لتلك الغاية.

” : ثم تقدم قليلا وخرَّ على وجهه و كان يصلي قائلا: يا أبتاه! إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك.” (متى ٣٩:٢٧، ٤٣)

ونحن نؤمن بأن الله تعالى تقّبل دعاء السيد المسيح، وأنه سبحانه أبعد كأس لعنة الموت على الصليب من شفتيه وأزاله عنه، فقد ذكر السيد المسيح آن الله تعالى يتقبل أدعيته:

” لذلك أقول لكم.. كل ما تطلبونه حينما تُصلّون فآمنوا آن تنالوا فيكون لكم.” ( مرقس ١١:٢٤)

وقال أيضا عن استجابة الدعاء: ” لأن كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له. أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزاً يعطيه حجرا، وإذا سأله سمكة يعطيه حيّة؟ ” (متى ٧: ٨-٩)

فإذا كنا نظن أن الله لم يستجب صلواته وتضرعاته بين يديه سبحانه، بهذا الخضوع الكامل.. وهذه اللجاجة الشديدة.. حتى إن عرقه كان يتساقط على الأرض كقطرات الدم. وإذا داخلنا الشك بأن مثل هذا الدعاء لا يُستجاب له، فلا معنى إذا لتأكيده لتلاميذه على أن أدعيتهم سوف تُسمع ويُستجاب لهم.

” ورفع يسوع عينه إلى فوق وقال: أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت بأنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلتُ ليؤمنوا أنك أرسلتني. ” (يوحنا ١١: ٤١-٤٢)

ولذلك أقول أنه سُمع له واستجاب الله أيضا له حين طلب أن تُزاح عنه تلك الكأس، كأس الموت على الصليب. إذ نقرأ في سفر العبرانيين:

” الذي في أيام جسده إذ قدَّم بصُراخ شديد، ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلّصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه. ” الرسالة إلى العبرانيين ٧:٥)

٤. نقرأ في إنجيل يوحنا:

” لكنّ واحداً من العسكر طعن جنبه بحربة، وللوقت خرج دم وماء.” (يوحنا ٣٤:١٩)

نرى من هذا بكل وضوح أن السيد المسيح كان في حالة غيبوبة ولم يدركه الموت، فإما أن الأمر اختلط على قائد المئة فظن الإغماء فظن الإغماء موتا، أو على الأرجح أن تعليمات بيلاطس ضمن خطته لإنقاذه تستدعي أن يُعلن الموت عند أول غيبوبة تنتاب السيد المسيح لكي يُبقي عليه، ويُرضي الكهنة في نفس الوقت. ويظهر أن أحد الجنود كان على علم بتعليمات بيلاطس فطعن السيد المسيح بحربه في جنبه وللوقت خرج دم وماء.. دليلا على أنه كان لا يزال حيا، لأن الجثة الهامدة لا تنْزف.

” والموت على الصليب عملية بطيئة قد تأخذ ثلاثة أيام أو أربعة في بعض الحالات، وفي النهاية تكسر رجلاه ويداه للتأكد من موته قبل تسليم الجثة، لأن أهل المصلوب يحتالون أحيانا لأخذه قبل موته، فإذا أُسعف في الوقت المناسب وهُيئت له العناية الصحية أمكن انتشاله أحيانا من مخالب الموت “

ونلاحظ في العبارة بلفظ الإنجيل ” وللوقت خرج دم وماء” أي حالا .. آنيا .. بدون انتظار. واندفاع الدم هكذا لا يكون من جثة هامدة على الإطلاق.

إن الدم لا يسيل من جثة هامدة بل يخرج ببطء على شكل علقة متخثرة، ففي جسد فارقته الحياة تتوقف نبضات القلب وتهمد الدورة الدموية، فلا يُمكن أن يسيل الدم من أي جرح، ولذلك خروج الدم من أي جرح، ولذلك خروج الدم لوقته وعدم تخثره أو تجمعه يدُل على حياة السيد المسيح.

٥. إن إجراءات الصلب عملية مختلفة عن الشنق، إذ تُهيّأ خشبة الصليب ويُثَبّت عليها المصلوب بمسامير تُدق في يديه وقدميه. والموت على الصليب عملية بطيئة قد تأخذ ثلاثة أيام أو أربعة في بعض الحالات، وفي النهاية تُكسر رجلاه ويداه للتأكد من موته قبل تسليم الجثة، لأن أهل المصلوب يحتالون أحيانا لأخذه قبل موته،

فإذا أُسعِفَ في الوقت المناسب وُهيِّئت له العناية الصحية أمكن انتشاله أحيانا من مخالب الموت.

والكاتب المعروف د. ف. ستراوس يذكر فيكتابه ” حياة جديدة ليسوع ” المجلد الأول ص ٤١٠ كما يلي: حتى لو كانت القدمان والكفان مثبتة بالمسامير، فلا تضيع إلا كمية قليلة فقط من دم، فهذا النوع من الإعدام شديد البطء، والقتيل يقضي نحبه تدريجيا تحت تأثير التشنجات وتصلب أعضاء وتصلب أعضاء الجسم ونقص الغذاء.

وعليه فلو افترضنا أن السيد المسيح قد رُفع عن الصليب بعد ست ساعات وهو يبدو ميّتا، فمن المرجح أن يكون موته المفترض عبارة عن غيبوبة تشبه الموت، وقد استعاد وعيه منها بعد إنزاله من على الصليب، أثناء وجوده في بروده الكهفوالم أو القبر المنحوت من الصخرة، خاصة وأن جسده قد غطته المراهم الشافية وعطور البهارات القوية.

ونستشهد أيضا بما جاء في كتاب:” حياة جديدة ليسوع” : ومن الطبيعي في هذا المجال أن أركن إلى وصف من جوزيفوس: أنه كان عائدا من مهمة عسكرية في إحدى المناسبات، فشاهد عددا من الأسرى اليهود وقد صُلبوا، ووجد بينهم ثلاثة من معارفه، فتوسل إلى تيتوس أن يعطيهم له. فرُفِعوا من على الصليب وأسعِفوا بعناية، وقد أمكن إسعاف أحدهم وقد أمكن إسعاف أحدهم و تم إنقاذه، ولكن لم يستعد الآخران الوعي.”

كان السيد عليه السلام في صحة جيدة عندما وُضع على الصليب، وكان في ربيع العمر لا يتعدى الثالثة والثلاثين، ولم يبق على الصليب أكثر من ذلك، وهذه المدة في ذاتها لم تكن كافية لتأتي بحتفه. والمصلوبان إلى جانبيه أُنزلا في نفس الوقت، ولما كانا لا يزالان حيين كسروا عظاهما.

” ثم إذا كان استعداد فَلِكَيْ لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت، لأن يوم ذلك السبت كان عظيما، سأل اليهود بيلاطس بأن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا. فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه.” (يوحنا١٩: ٣١-٣٢ )

ولما بلغ بيلاطس أن السيد المسيح قد مات أصابه العجب:

” فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعا، فدعا قائد المئة وسأله: هل له زمان قد مات؟

ولما عرف من قائد المئة وهب الجسد ليوسف.” (مرقس ١٥: ٤٤-٤٥)

وقد كتب ” جان. فلي- بيت- وود” في كتابه” تلامذة السيد المسيح” ص ٣٣٣:

“أصيب بيلاطس بالدهشة عندما طلب الجُثة” يوسف الذي من الرامة ” وجال في فكره أنه من غير المرجح ” موت السيد المسيح خلال هذه المدة الوجيزة.”

وحول نفس الموضوع كتب هاييم كوهن في مؤلفه ” محاكمة وموت يسوع ” ص ٢٨٣:

٥. أ: جسد الشرير المصلوب يبقى على الصليب ولا يُرسل إلى أهله. فالقانون الروماني ينص على أن المحكوم عليه. لا يدفن بعد التنفيذ، وفي حالة المصلوب بشكل خاص يُترك لتأكل جثته الجوارح ووحوش الفلاة، بينما يبقى رهين الواجب حرس من الفرسان ليمنعوا الأهالي أو الأصدقاء من دفنها بالسر. ودفن المحكوم عليه بالإعدام بدون ترخيص خاص كان يُعتبر جريمة. بينما يحق للإمبراطور وكبار ضباطه بصورة استثنائية منح البعض رخصة لدفن قريبه أو صديقه. وما كان في روما من سُلطات الإمبراطور كان في الولايات من حقوق الحاكم.”

كان من الواضح في حالة السيد المسيح أن اليهود حريصون على أن يقضوا عليه، وأن يوقعوا به الحد الأقصى من الأذى. وقد أُجبر بيلاطس بالوعيد والتهديد أن يَحكم عليه بالصلب. فلا يستغرب منه أن يكون على استعداد لتسليم جسد السيد المسيح إلى يوسف الرامي، مخالفا بذلك الإجراءات المألوفة من ترك الجسد نهبة للوحوش والطيور الجارحة، بل يزيد بالخروج على المألوف حين يأمر بعدم كسر عظامه فيُستثنى بذلك من بين المصلوبين إلى جانبيه، ليُسلم إلى إحدى تلامذته وعظامه سليمة. ولا يوجد هنا أي دليل إيجابي واحد يشير إلى العكس. وإعلان قائد المئة أنه مات على الصليب ليس بدليل، فهو ليس بطبيب ولم يقم بأي فحص للجسد، وقد أكد بكلماته أنه آمن بالسيد المسيح: ” حقا كان هذا الإنسان ابن الله. ” (مرقس ٣٩:١٥)

فمن المؤكد أن قائد المئة كان شريكا في خطة بيلاطس.

٦. بعد حادث الصلب بقي السيد المسيح كالجوع والظمأ ككل إنسان.وفي المناسبات التي قابل بها تلاميذه في السر طلب طعاما وأكل في صحبتهم.

” وبينما هم مُصدقين من الفرح ومتعجبون، قال لهم أعندكم ها هنا طعام. فناولوا جزءا من سمك مشوي وشيئا من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم.” ( لوقا ٢٤: ٤١-٤٣)

هذا دليل واضح على أنه كان عرضة لمخالب الجوع وعوامل الظمأ ككل بشر، ونرى في الإنجيل أنه عرض أجزاء جسمه الجريحة على تلامذته ليقنعهم بأن الله قد أنقذه من الموت على الصليب.

” فمن المؤكد أن قائد المئة كان شريكا في خطة بيلاطس “

” وفيما هم يتكلمون بهذا، وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنّوا أنهم نظروا روحا. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يديَّ ورجليَّ، إني أنا هو. جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه.” (لوقا ٢٤: ٣٦-٤٠)

٧. وهناك عامل آخر يؤيد وجهة نظرنا بأن السيد المسيح قد أُنقِذ من الموت على الصليب، وهو أنه لم يلتق أحدا بعد حادثة الصلب إلا تلاميذه فقط وكان ذلك سرا، فلم يُظهر نفسه لعامة الناس، ولم يمض متجولا بملابسه العادية، بل غير من زيه لكي لا يتعرف عليه أحد.

وقد أرسل رسالة إلى تلامذته ليسبقوه إلى الجليل على قدميه بطريق غير مباشر. والتقى على الطريق باثنين من تلامذته، وكان متخفيا فلم يتعرفا عليه. وقد اتخذ كل هذه الاحتياطات لكيلا يتعرف عليه اليهود فيُعاد ليُقاسي لعنة الموت على الصليب.

ولو كان السيد المسيح بجسده الروحاني بعد البعث المزعوم من الموت لما استطاع أحد أن يقبض عليه. ولا أمكن أن يُعاد صلبه. ولا حاجة هناك لكل تلك الاحتياطات من التخفي. فإذا كان قد ظهر لتلاميذه بجسده الروحاني بعد البعث، إذا لتوجب عليه أن يظهر لليهود بذلك الجسد المنَزَّه عن الضعف الإنساني ليُثبت لهم أنه على الرغم من مؤامراتهم لقتله على الصليب.. فقد بُعِث ثانية ولم يعد يخشاهم وهو بمَنجَى من أذاهم.

فلو فعل ذلك لآمن به جميع اليهود ولندموا على ما جَنوا. ولكانت لهم معجزة عظيمة. ولا يوجد أي نص يدل على أن أحد اليهود آمن به بسبب معجزة البعث.

٨. يؤكد الإنجيل أن مهمة عيسى كانت موجَّهةً إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل. والمقصود هو جميع القبائل الإسرائيلية في أيام بعثة السيد المسيح. والتي كانت مُوزعة في أنحاء الأرض شرقا من فلسطين إلى الهند. فمن بين اثنتي عشرة قبيلة لبني إسرائيل.. كانت هناك العشر الباقية توصف بالخراف الضالة.

يؤكد المسيحيون أن السيد المسيح قد مات على الصليب في سن الثالثة والثلاثين، ومن حينها لا يزال في السماء يجلس إلى يمين الرب. فماذا حصل لتنبُّؤاته بأنه سيذهب إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل الذين لم يكونوا مقيمين في فلسطين:

“ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضا فتسمع صوتي، وتكون رعيّة واحدة وراعٍ واحد. ” (يوحنا ١٠-١٦)” فأجاب وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. ” ( متى ١٥ : ٢٤ )” هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامرين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. ” (متى ١٠ : ٥-٦)

” لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. (لوقا ١٩ : ١٠ )

كل هذه التقارير إذا أُخذت معا تؤيد معتقدنا أن مهمة السيد المسيح ورسالته كانت مقتصرة على قبيلة بني إسرائيل بكل فروعها الاثني عشر، ولا تتعداها، وأنه كان عاقدا العزم على الذهاب للبحث عن القبائل المتفرقة أو الخراف الضالة في أنحاد البلاد المختلفة التي استقرت بها.  فإذا كان قد مات في سن الثالثة والثلاثين، فكيف تحققت تلك النبوءات. فهذا يعني أنه فشل كُلياً في مهمته.

وفي الختام سألفت الأنظار إلى الحقيقة الجليلة. بأن القرآن الكريم ذكر بأوضح عبارة أن الله تعالى أنقذ السيد المسيح من الموت على الصليب. فالقرآن الكريم أكد نجاة عيسى من الموت على الصليب، وأنه أبعد ما يكون عن اللعنة، إذ ” رفعه الله إليه” وقدّمه وقرّبه من مقامه.

ومثالاً لرد الله مكر أعداء عيسى إلى نحورهم، يقول تعالى:

( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).

ثم يؤكد الله تعالى عيسى في سورة آل عمران بقوله:

(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (آل عمران: ٥٦).
Share via
تابعونا على الفايس بوك