في صحبة الإمام إلى دار الأمان

في صحبة الإمام إلى دار الأمان

بشير أحمد رفيق

كانت رحلتي إلى قاديان مشحونة بالعواطف. تفضل عليّ إمامنا وضمني إلى رفقته الكريمة. بدأت الرحلة بفضل الله تعالى على طائرة الخطوط البريطانية من لندن إلى دلهي مساء 16 ديسمبر 1991، وكانت رحلة ميمونة سارة . جلس الإمام في صالون الدرجة الأولى، وجلس الوفد المرافق لحضرته في الدرجة الثانية.

كانت الرحلة ليلية بدون توقف في الطريق. أطل علينا حضرته خلال الرحلة مرتين، وصافحنا جميعا. الحمد لله.. كانت روعة الإثارة وجيشان العاطفة تبدو بوضوح على محيا حضرته.

في العاشرة صباحا هبطت الطائرة في مطار دلهي. ومكث حضرته مع أسرته في استراحة الضيوف الكبار حتى انتهينا من الإجراءات الرسمية بعد ساعة تقريبا. وقف خارج القاعة لاستقبال حضرته وفدٌ يضم مسؤولي الجماعة الكبار من باكستان، وطائفة من أعضاء جماعة  دلهي. وعندما أشرق حضرته بطلعته خارجا من الاستراحة تعالت هتافات الإخوة الأحمديين بعبارات الترحيب وصيحات (الله أكبر ، الله أكبر) . وصافح حضرته كل من كانوا في شرف استقباله.

أرسلت حكومة الهند فرقة أمن خاصة لمرافقة ركب الإمام من المطار إلى المسجد، ثم إلى كل مكان يتوجه إليه. وشاركت أسرة من السيخ في استقبال حضرته في المطار، ونثرت أوراق الزهور والورود حوله، وقدَّموا سيارة جديدة لتكون تحت تصرفه خلال إقامته في دلهي. تقبل حضرته العرض الجميل واستقل السيارة إلى المسجد.

مسجد ودار الجماعة في دلهي بناء حديث يثير الإعجاب. مكث حضرته وأسرته في المسجد، وأنزلوني في فندق قريب. لقد تلطفت جماعة دلهي وراعت ظروفي الصحية، فاختارت لي المكان الملائم دون إشارة مني.. جزاهم الله خير الجزاء.

غادرنا دلهي في التاسعة صباحا متجهين إلى”آغرا”. تكرم الإمام بدعوة الأحمديين الذين جاءوا من ألمانيا وبريطانيا على نفس الطائرة ليكونوا في شرف صحبته أيضا في هذه الرحلة.

وصلت القافلة “آغر” في الثانية عشرة ظهرا، وزرنا قبر الملك المغولي (أكبر). ثم مضى الركب إلى (فتح بور سيكرى) حيث شيد (أكبر) قصورا فخمة. وبعد الظهر زرنا (تاج محل)، أحد عجائب الدنيا السبع، وهو بناء يحبه المرء بمجرد أن تقع عينيه عليه. ودعا الإمام عند قبر (شاه جيهان). ثم حدثنا بشئ من التفصيل عن إنجازات هذا الملك العظيم.

عدنا إلى دلهي في المساء قبيل منتصف الليل. وفي الصباح التالي، الثامن من ديسمبر، قمنا بجولة سياحية في مدينة دلهي، زرنا فيها قبر ولي من أولياء الله حضرة (بختيار كاكى)، وهناك دعا حضرته لصاحب القبر طويلا.

في التاسع عشر من ديسمبر استقل الركب قطارا إلى مدينة (أمرتسار). كانت هناك عربة من الدرجة الثانية محجوزة لنا، شغلها الإمام وأسرته مع جمع الأحمديين الذين كانوا في مسجد دلهي (أي 89 راكبا). هتف الوفد في ساحة المحطة (الله أكبر، الله أكبر)، وأحسب أن هذه هي المرة الأولى منذ تقسيم الهند التي يُسمع فيها هذا الهتاف المدوي (الله أكبر) في محطة دلهي. كان كل منا يشعر بإثارة شديدة، والنفس مفعمة بعواطف فياضة. كانت هذه أشد الرحلات أهمية تاريخية وإثارة للعواطف. جلس حضرته ساكنا ومستغرقا معظم الوقت. أخبرنا أحد أعضاء أسرته أنه كان منهمكا في الدعاء طوال الوقت، فلم يتحدث إلى أفراد أسرته. استغرقت الرحلة إلى أمرتسار 7 ساعات. فقمنا مع فريق التصوير بتسجيل اللقاءات مع بعض البارزين من أعضاء الجماعة الذين أسعدهم الحظ بالصحبة في هذه العربة. توقف القطار في “جالندهر”، “لدهيانا”، و”بياس”، ثم وصل أمرتسار الساعة الثانية بعد الظهر. وهنا كان وفد (قاديان) في استقبال أمير المؤمنين أيده الله.

فوجىء السيخ المتواجدون في المحطة وذهلوا لسماع الهتافات تتصاعد مدوية: الله أكبر، الله أكبر، مع الهتافات بحياة أمير المؤمنين خليفة المسيح والإمام المهدي. ومرة أخرى كان المشهد عاطفيا بالغ الإثارة، وفاضت العيون وامتزجت دموعنا بدموع أهل قاديان. أخبرني أحد دراويش قاديان فيما بعد قائلا: عندما ترجل حضرته من القطار في محطة أمرتسار لم نكد نصدق عيوننا. ظننا أننا نشهد حلما جميلا.

دُعي الإمام لاستقلال قطار آخر يسافر لأول مرة بعد توقف عام إلى قاديان. قدَّم الطعام الذي أحضروه من قاديان إلى الجميع. كانت سعادة أمير المؤمنين تشرق في وجهه. في الساعة الرابعة مساء غادر القطار المكون من أربع عربات ممتلئة فقط بالأحمديين. كان حضرته يقف في مداخل العربة من شدة الاستثارة.

رجا الإخوة الأحمديون المسئولين عن قيادة القطار رجاءً خاصا كي يوقفوا القطار عندما تصير (منارة المسيح) في مجال الرؤية. ولما توقف القطار أمَّ الإمام الحاضرين في دعاء طويل. كان الجميع في قمة الانفعال.. وتصاعدت أصوات البكاء وشهقات العويل أثناء الدعاء. لا أستطيع وصف المشهد بالكلمات. وبعد الدعاء ترددت في الجو هتافات الجميع: الله أكبر، الله أكبر. ونظرا لقرب قاديان وقتئذ استجاب الأحمديون فيها لهتافنا بترديدها. ورغم برودة الجو الشديدة ظل أمير المؤمنين واقفا عند باب العربة، فلا يستطيع أحد قراءة انفعاله على صفحة وجهه.

بعد قليل وصل القطار إلى محطة قاديان. تصايح الأحمديون من أهل قاديان بعبارات الترحيب، وهتافات: الله أكبر، الله أكبر.. بطريقة جعلت غير الأحمديين من شعب قاديان يقفزون داخل بيوتهم. هكذا استمر الحال مايقارب من النصف ساعة.. وإمامنا لا يزال واقفا عند باب عربته صامتا ذاهلا؛ تغالب الدموع عينيه وهو يغالبها. وأخيرا، وبين صيحات (الله أكبر)، وكلمات الترحيب، وأصوات البكاء والعويل من شعب قاديان نزل حضرته متوجها إلى “دار المسيح الموعود”.

ولقد وصف حضرته دخوله قاديان بعد فراق دام أربعة وأربعين عاما بقوله: “كأنما كنت في أرض الأحلام”. وقف الأحمديون من قاديان وكذلك الذين جاءوا من بلاد أخرى.. وقفوا جميعا في صفوف متراصة لاستقبال حضرته عند دار المسيح والمهدي. كانت المنطقة حول الدار تزينها أضواء ملونة، موزعة بطريقة فنية جميلة، فكان مشهدا رائعا. صافح إمامنا جميع المستقبلين على مدى ساعة كاملة في حين كان “أطفال الأحمدية” (الصغار)في ثياب جميلة ينشدون أناشيد الترحيب بنغم عذب ولحن جميل. كان أحمديو قاديان يبكون وينشجون، ويمسحون دموعهم؛ وكان البعض منهم مختنقا بالأنفعالات تماما. لقد كان كثير منهم لأول مرة في حياته يشاهد طلعة الإمام.

وأخيرا خلا حضرته إلى منزله في دار المسيح، ونزل ببيت والدته..”أم طاهر”…حيث درج في طفولته.

وفي التاسعة مساء خرج حضرته ليصلي بالناس في “المسجد الأقصى” بقاديان لأول مرة بعد 44سنة. شرع في الصلاة كما هي العادة وأخذ يتلوا سورة الفاتحة، فاختنق صوته من الانفعال عندما بدأ يقرأ “الحمد لله رب العالمين”، وارتفع صوت بكائه عاليا، فبكى المصلون أيضا، فكأنما تحولت ساحة المسجد إلى مناحة. وكان عويل بعضهم شديدا كأنما أوشكوا على الإغماء. ردد أمير المؤمنين آية “الحمد لله رب العالمين” ثلاث مرات، ثم مضى في صلاته. ولسوف أذكر هذه الصلاة ما بقيت حيا، فما شهدت من قبل صلاة بمثل هذه الشحنة من المشاعر.

وبعد الصلاة خرجنا إلى طرقات قاديان.. فوجدنا أهل قاديان قد عادوا من “أرض الأحلام” وأمسوا متهللين، يعانق بعضهم بعضا، ويهنئون أنفسهم بحرارة وسرور.. فقد عاد خليفة المهدي والمسيح الموعود إلى مستقره الدائم بعد حوالي نصف قرن.

وفي اليوم التالي خرج أمير المؤمنين بعد صلاة الفجر إلى رياضة المشي اليومية المعتادة، فسار في طرقات قاديان. وفي طريق عودته قابل بعض عائلات السيخ واقفين خارج بيوتهم، فحيوه وقالوا: نرجوك.. أن تعود إلى قاديان عودة دائمة. هذا وطنك ونحنُّ إليك أشد الحنين. تأثر حضرته بهذه الكلمات كثيرا، ورد لهم تحيتهم واعدًا أنه، إن شاء الله، سيعود يوما إلى قاديان عودة أبدية.

بلغ عدد الحاضرين إلى الاجتماع 25.000 كانت الجماعة قد شيدت أربع دور للضيافة، تَسَع كل منها 200 ضيف. وأخلى السيخ من أهل قاديان أماكن للضيافة، وكنت واحدا من كثير نزلوا عند عائلات من السيخ. وقد حضروا الاجتماع في عدد كبير، وهتفوا بعبارات الترحيب أثناء خطاب أمير المؤمنين.

لقد انكمشت قاديان اليوم إلى بلدة صغيرة جدا، ولم يحدث فيها أي توسعات منذ انقسام الهند. قابلت كثيرا من السيخ الذين قالوا: نحن ننتظر بشوق يوم عودة إمامكم إلى قاديان عودة دائمة، ولسوف تتحول قاديان تحت قيادته إلى بلدة جميلة.

كان هذا الاجتماع السنوي المئوي ناجحًا موفقًا تماما. لم تنقطع زيارة الناس لقبر سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، فكانوا يفدون إليه طوال اليوم ويدخلون ساحته في دفعات يصل عددها إلى مائة في المرة الواحدة. وفي العادة تكون بوابة الفناء مغلقة، ويقف الناس خارج السور الحديدي على مسافة من القبر يدعون؛ ولكن خلال الاجتماع فتحت البوابة طول اليوم وسمح للناس أن يقفوا إلى جوانب القبر.

كنت قد عزمت على زيارة”لدهيانة” و”ديرا بابا نانك” خلال وجودي في قاديان. تتميز لدهيانة بأنه تمت فيها أول مبايعة للإمام المهدي والمسيح الموعود يوم 23 مارس 1889. كان حضرته نازلا في منزل أحد أصحابه هناك عندما أوحي إليه بأن يشرع بتلقي البيعة ليكون جماعة. وكان سيدنا المولوي نور الدين، الذي صار فيما بعد الخليفة الأول لحضرته أول من أُدخل إلى الحجرة ليبايع.

تقع لدهيانة على مسافة 175 ميلا من قاديان، قطعناها في خمس ساعات. والمنزل الذي تمت فيه البيعة الأولى ملك للجماعة ومؤجر لعائلة من السيخ. وصلنا المنزل بعد المرور في حارات ضيقة متعرجة شديدة القذارة ومزدحمة بالسكان. ونجد في تاريخ الجماعة أن هذه المنطقة في زمن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود كانت من المناطق الأنيقة الغالية. وليس الهندوس بطبيعتهم حريصين على النظافة والاهتمام بمحيطهم.

على أي حال، دلفنا إلى داخل المنزل، ورحب بنا الساكن الهندوسي، وقادنا إلى الحجرة التي جرت فيها البيعة الأولى، وهي غرفة صغيرة تبلغ 14، 15 قدما مربعا، ويستعملها أهل البيت كغرفة نوم. مكثنا بها لبعض الوقت في دعاء طويل. يحاول “صدر أنجمان قاديان” إخلاء هذه الحجرة ليحولها إلى ما يشبه المتحف للزوار الإخوة الأحمديين. قضينا بعض الوقت في لدهيانة، وعدنا في المساء إلى قاديان بحمد الله تعالى وتوفيقه. لعلك تعلم أن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود هو مكتشفُ عباءة “بابا نانك” مؤسس السيخية، وعلى العباءة كتابات لبعض الآيات القرآنية. وقد زار سيدنا المهدي والمسيح الموعود مع صحبه قرية “ديرا بابا نانك” في حوالي عام 1897 وأغرى الحراس ليفضوا عن العباءة مئات الأوشحة الحريرية والذهبية التي لفها حولها الحكام والمتحمسون من السيخ. وقد ذكر حضرته هذه الواقعة في كتابه “ست باتشان” أي القول الحق. قد رتبنا مع العائلة المنوطة بها الحراسة، وبالتنسيق مع المسئولين في الجماعة، لمشاهدة هذه العباءة المقدسة.

يقع “ديرا بابا نانك” على مسافة 50 ميلا من قاديان، قطعناها بالسيارة. العباءة محفوظة تحت قبة من الذهب الخالص في خزانة من الزجاج؛ وهذه ملفوفة في أوشحة من الحرير والذهب. وقد وعدتنا العائلة الحارسة بأن يحلوا لنا هذه الأوشحة كي نشاهد العباءة نفسها التي بلغ عمرها 500 عام.

قرأنا سورة الفاتحة وآيات قرآنية أخرى مطرزة على العباءة بغرز حريرية وعلى أحد ذراعي العباءة منقوش 100 من أسماء الله الحسنى. أخبرنا أحد علماء الدين السيخ هناك أن هذه العباءة عطية من الله للجورو صاحب (الجورو لقب يعني المعلم، وصاحب كلمة احترام)، وأخبرنا بالقصة تبعًا لما ورد في كتابات السيخ القديمة، فقال: ذهب المعلم “جورو بابا نانك” يوما إلى مجرى ماء قريب ليسبح. فغاص في الماء واختفى. فظن الناس أنه غرق. وبعد ثلاثة أيام عاد جورو صاحب إلى ديرا بابا نانك بهذه العباءة، وأعلن أن الرب أرسلها إليه هدية.

سألت العالم السيخي أن يفسر لنا لماذا أعطيَ هذه العباءة الحافلة بكتابات من آيات القرآن الكريم والكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، منقوشة عليها. فلم يحر جوابا. اقترحت عليه أن ربما كانت العباءة دليلا كافيا على أن جورو صاحب كان مسلما، ولكن الرجل لزم الصمت.

والحقيقة أن جورو صاحب اعتنق الإسلام دينا، وأدخل الهندوس في التوحيد تدريجيا ، ولكنه مات قبل أن يحولهم تماما إلى الإسلام دينا، وأدخل الهندوس في التوحيد تدريجيا، ولكنه مات قبل أن يحولهم تماما إلى الإسلام. ولذلك تجد تعاليم ديانة السيخ قريب جدا من تعاليم الإسلام.

وفي اليوم التالي زرنا “دربار صاحب” في مدينة “أمرتسار”، وهو مكان مقدس عند السيخ كالكعبة الشريفة عندنا، ويسمى أيضا “المعبد الذهبي”، لأن مهراجا “رنجيت سنغ” شيد قبة من الذهب الخالص فوقه. وثمة دليل آخر على أن ديانة السيخ في الأصل كانت قريبة من الإسلام؛ فواضع حجر الأساس للمعبد الذهبي هو الولي المسلم حضرة “ميان مير”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك