دعوات الأنبياء وخلفياتها (2)
التاريخ: 1991-04-19

دعوات الأنبياء وخلفياتها (2)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة كيف نتمتع بالصلاة

دعوات الأنبياء وخلفياتها (2)

خطبة جمعة لمولانا إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، أيده الله بنصره العزيز

ليوم 19/ 4 / 1991 بمسجد فضل ، لندن

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

في الخطبة الماضية كنا نتحدث في موضوع سورة الفاتحة بأن دعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ دعاءٌ بالغ الصعوبة .. لأن صراط هؤلاء الذين أنعم الله عليهم صراط شديد الوعورة، والدعاء طلبًا للسير في هذا الطريق يتطلب شجاعة عظمى. وقلت أيضا أننا عندما ندرس القرآن الكريم وننظر في أحوال حياة هؤلاء الناس كما تنعكس في مرآة القرآن الكريم.. نتعلم أنهم جعلوا صراطهم سهلا بقوة الدعاء ومساندة الدعاء. لقد قطعوا رحلتهم الشاقة بيسرٍ حتى وصلوا إلى خاتمتهم الصالحة. من ذلك نستنتج أننا عندما نتلو دعاء سورة الفاتحة يجب أن نلتمس مساندة هذه الأدعية .. كما التمسها أولئك الذين أنعم الله عليهم في الماضي.. وإلا فلن تكون لدينا الشجاعة الكافية لتلاوة هذا الدعاء.. ناهيكم بالسير في هذا الصراط. وقد بدأنا في تناول الأدعية القرآنية، ونمضي اليوم من حيث انتهينا في الجمعة الماضية.

ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى ما أن أرسل سيدنا عيسى في مهمته إلى بني إسرائيل، وهي حقا مهمة صعبة كلفة الله بها، حتى أدرك أن الأمة كلها ستكفر به وترفضه. ماذا حدث عندئذ؟ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ : عندما استشعر عيسى كفرهم ، نادى بصوت مشوب بالألم: من أنصاري إلى الله؟ من يتقدم ويمضي معي في مهمة السير في طريق الله تعالى؟ عندئذ قال النفر القليل من تلاميذه: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ .. نحن مستعدون للمضي معك في سبيل الله، آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ، وكن شاهدًا لنا بأننا من المؤمنين الذين أسلموا لله تعالى. ثم دعوا:

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ،

يا رب لقد آمنا بما أنزلت على رسولك من وحي، وأصبحنا نتبعه ونسير معه في طريقه .. فاجعَلنا من الشاهدين.

ينبغي أن تعرفوا حكمة هذا الدعاء، فهو دعاء ذو شقين، أولا: توجه الذين آمنوا مع سيدنا عيسى يسألونه أن يكون شاهدا عليهم، ثم توجهوا بالضراعة إلى الله تعالى والتمسوا منه أن يجعلهم من الشاهدين. لم يسألوا في دعائهم أن كن يا ربنا شاهدا لنا.. وإنما التمسوا أن يكتبهم مع الشاهدين، وكأنهم يقولون: يا ربنا، كما كلفت الأنبياء بمسئولية الإشراف والمراقبة على من آمنوا بهم وآمنوا بالله تعالى.. وأن يختبروا سلوكهم دائما بنظرة دقيقة فاحصة.. لأنهم في يوم الحساب سيكونون شهداء عليهم، وشروط الشهادة متحققة فيهم.. فالشاهد في هذا المجال لابد وأن يتوفر فيه شرط أساسي: ذلك بأن تكون التقوى التي يدعو إليها صفة واضحة فيه، إذا كان هذا الشرط الأساسي غير متوفر فيه فمن المؤكد ألا يُجعل شهيدًا على الناس. فالذي يكون شاهدا على التقوى لا بد وأن يكون نفسه تقيا. وهكذا ترون ما في دعاء الحوارين هذا من حكمة، طلبوا أولا أن يكون سيدنا عيسى شاهدا عليهم .. لأنه هو الذي يملك هذه الصفة، ويفعل كل ما يأمرهم به، ويسلك حسب تعاليم التقوى التي يدعوهم إليها. فليكن شاهدا على أنهم يعملون طبقا لتعاليمه. ثم ابتهلوا إلى الله تعالى أن يجعلهم من الشاهدين: أي يكونوا في نظر الله تعالى.. قادرين على تبليغ تعاليم التقوى إلى الآخرين.. وفي نفس الوقت يكونوا عاملين بحسب هذه التعاليم.. حتى يكونوا في نظر الله من الشاهدين. وهم بذلك يطلبون مقاما عظيما.. أي أن نكون في تقدير الله تعالى من بين صحابة النبيين الذين بعثوا ليكونوا شهداء على الناس. وهكذا تضمن هذا الدعاء صالح الأعمال والإخلاص .. فكان بذلك دعاء شاملا.

ثم ذكر القرآن الكريم دعاء دعا به نبيون كثيرًا كلما واجهوا شتى صنوف المصاعب. يقول القرآن الكريم :

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران: 147)،

كم من نبي.. أي كثير من الأنبياء.. جاهدوا ومعهم جماعات كثيرة من رجال الله الصالحين الربانيين. فما أصابهم الوهن.. أي انكسار الخوف، وما ضعفوا عن الجهاد، وما نزلت الذلة والخضوع بسبب ما لحق بهم من أذى وقتل وتعذيب، بل ثبتوا، ووطنوا أنفسهم على الموت، وصبروا على الجهاد ومقتضياته، ولم تؤثر فيهم شدة البلاء، وكانوا صادقين في ثباتهم. فلم ير الناس فيهم ما يلحق بهم مذلةً أو انكسار أو عارا من جبن أو خور. كيف حدث هذا؟ ولم كان ذلك؟ حدث ذلك بفضل الدعاء.. يبين القرآن الكريم ذلك بوضوح

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (آل عمران : 148).

ما كانوا يقولون إلا هذا الدعاء .. اغفِر لنا ذنوبنَا وتفريطنا في حق أنفسنا، وثَبتَّنا في مواقفنا ساعة الجهاد، فلا نهتز ولا نتردد، وانصرنا على أهل الكفر. هذا هو دعاؤهم الذي داوموا على ترديده.

وإذا طبقنا هذا الدعاء على الموضوع الذي ناقشناه آنفا.. من أنهم لم يقاسوا هذا الضعف أو ذاك الخور .. وجدنا الجواب على هذه الأشياء موجودًا في هذا الدعاء. كل أجزاء هذا الدعاء تتعلق بتلك الأشياء التي ظلوا بمنجاة منها، وحررهم الله منها كل ذلك كان ثمرة لهذا الدعاء. فإذا كان المؤمنون يلتمسون نفس هذا الصراط. فعليهم أن يتحلوا بنفس الصفات اللازمة له، وعليهم بالدعاء إلى الله تعالى أن يهبهم الثبات والصبر.

هناك دعاء آخر ورد في القرآن الكريم.. هو دعاء أولي الألباب.. أصحاب الفهم السليم والعقول المستنيرة والذكاء الحاد.. يقول:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ

في خلق السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار آيات لأهل الفهم. فماذا يفعلون؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا .. إنهم يتذكرون الله تعالى في حال الوقوف وحال القعود، وَعَلَى جُنُوبِهمْ .. وفي حال الرقود ليلا أو نهارا، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. ودائما في تأمل وتفكر حول خلق العالم سمائه و أرضه.. ماذا خلق الله.. وماذا في خلقه من حكمة، وكم من سر في مخلوقاته. وعندما يتفكرون في هذا ينطلق من قلوبهم صوت تلقائي:

رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ..

كل خلقك، يا ربنا، مليء بالحكمة.. ليس بدون هدف.. ليس باطلا. فمثل هذا النظام المحكم المتناسق الكامل المسفر عن حكمة بالغة لا يمكن أن يكون بلا طائل، ولا يمكن أن يخلق بلا غاية. إنه ذو غاية ولا شك، وإذا فشل في تحقيق هدفه استحق أن يُقذف في النار.. شأن الأشياء عديمة الجدوى، ونخشى يا رب، أن نكون وقود النار. يتضمن الدعاء كل هذه الأمور، وإن كان في كلمات موجزة. ولذلك نذعن قائلين : سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . . إن مجدك عظيم.. إنك قدوس منزه عن النقص.. فنجِّنا من عذاب النار.

المسألة هنا: بعد ذكر خلق السماوات والأرض.. ما مناسبة ذكر عذاب النار؟ هذا ما أحاول توضيحه. فالجواب مضمر في هذه الإشارة وكامنٌ بها وإن لم تره عين مادية. فعندما يدركون عظمة وروعة هذا الخلق وما فيه من حذق ودقة وحكمة.. الذي استغرق بلايين وبلايين من السنين حتى وصل إلى كماله.. يدركون أنه لا يمكن أن يكون كل ذلك بلا جدوى ومجرد لغو. لو أن شخصًا صنع مِضربًا ليستخدم ولو في مباراة واحدة فذلك له هدف. لو صنع الأطفال لعبة أو شكلوا تمثالا من الطين فلذلك غرض، وإذا لم يتحقق هذا الغرض فإما أن يُرمى الشيء في سلة المهملات أو يلقى به في النار. كل شيء مصنوع لغرض إذا لم يعد يؤدي الغرض منه يُنبذ في النفايات. لا بد وأنكم رأيتم السيارات التي يتخلصون منها تُترك في أماكن خاصة حيث تسحقها المكابس الضخمة لتتحول إلى نفايات معدنية، وتفقد هيئتها كسيارات وتتحول إلى خردة. ما سبب ذلك؟ ذلك لأنه لا يستحق البقاء من الأشياء إلا النافع الذي يحقق الأهداف التي خلق لها. وكل ما فقد نفعه ولم يعد يحقق ما صنع من أجله، يُنبذ.. لأنه لا مبرر لاستمرار وجوده. ولقد خلقتَ النار لمثل هذه الأشياء.. خلقتَ النار لتدمير أولئك الذين فشلوا في تحقيق الغرض من خلقهم.

فالدعاء ذو حكمة عميقة، وترون هؤلاء الناس كم يلائمهم اسم أُولُو الْأَلْبَابِ أهل الفهم. فبدلا من إطالة الوصف.. اتجه رأسا إلى النقطة المهمة وذكر الهدف النهائي: يا ربنا، لقد تفكرنا بما فيه الكفاية.. وأصبحنا على يقين من أننا لو لم نوف بمسئولياتنا.. نكن أهلا ليلقى بنا في النار.. لذلك نبتهل إليك لتنقذنا بفضلك من عذاب النار. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ .. مَن عاقبته بالنار وقع في خزي وعار.. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ : وليس لأهل الظلم من معين أو نصير.

وهذا الدعاء أيضا.. ما أشده امتلاءً من الحكمة! وترون مدى استحقاق الداعين به لصفة أُولُو الْأَلْبَابِ . فبعدما ذكر أن من يدخل النار يلقى الخزيَ.. قد يشك أحد في أن الله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، يُكره الناس على دخول النار، فأُزيل هذا الشك بالتعقيب الأخير من هذا الدعاء وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ، يا ربنا من أدخلته النارَ فهو ظالم.. من الذين ظلموا أنفسهم، ومن كان ظالما لا يستحق نصرة ولا نجدة.. ولذلك لن يلقوا منك نصرة.

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا

لقد سمعنا مناديًا من لدنك يدعونا للإيمان بك فآمنا. وما هو المطلوب في مقابل الإيمان؟ يلتمس أولو الألباب: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا . أول التماس لنا، يا ربنا بعد أن وهبتَنا حياةً جديدةً وأدخلتنا مرحلة جديدة.. ألا تحسب علينا خطايانا القديمة، ولنَبدَأ رحلة جديدة في الحياة بصفحة ناصعة نظيفة. وليس هذا بكافٍ .. لأن كثيرا من نقائض الإنسان تدخل حياتَه وتبقى معه كما لو كانت طبيعةً ثانية له، ولا تزول هذه العيوب تلقائيا بمجرد الإيمان. لقد غفرتَ لنا الذنوب القديمة.. ولكن العادات السيئة التي صارت جزءا من حياة الإنسان.. كيف نقلع عنها؟ وماذا بشأن الذنوب الجديدة التي لن يبرح يرتكبها الإنسان بسبب هذه العادات القديمة. وهكذا ترون حسن الدعاء الذي يدعو به أولو الألباب. يقولون وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا : اغفِر لنا ذنوبنا السابقة، وأيضا أزِلْ عنا عيوبَنا ونقائصنا التي قد نقاسي منها في المستقبل.. تلك السيئات التي لصقت بنا كالأمراض.. ولا نملك القدرة على إزالتها، إذ لا تزول كل السيئات مباشرة بعد الإيمان. هذه الحكمة يجب أن يتذكرها كل إنسان وخاصة المسلمين الذين يدعون إلى الإسلام في العالم.. فالظن بأنه بإدخال إنسان في الإسلام يتم عمل المبلغين.. لا يجدي بالتأكيد.. فهناك كثير من المؤمنين الذين تابوا بإخلاص.. ولكن بقي معهم الكثير من سيئاتهم التي لا يملكون القدرة على التخلص منها. فإذا لم نُولِهم الاهتمام.. إذا لم يقم المبلغ بإقامة صلة دائمة معهم، ولم يساعدهم على التحرر من سيئاتهم.. فذلك يشبه حال طفل مصاب بمرض مُعدٍ تمضي به أمه إلى أماكن شتى، ولا تدرك أن اصطحابه إلى الأماكن المزدحمة ينشر المرض أكثر. إن بعض الأمهات يحضرون بأطفالهن عندي، وعندما أتودد إليهم وأتحسس أجسادهم.. يُخبرنَني أن الطفل مصاب بمرض كذا المعدي. نعم، إن الله يحمينا .. وهذا شيء منفصل، ولكن لا بد من أن تتذكروا دائما أن القرآن الكريم يعلمنا أن أولي الألباب يعترفون بأن مجرد الإيمان لا يطهرهم ولا ينقيهم تماما.. حتى وإن غُفرت ذنوبهم.. ما دامت بعض السيئات فيهم. ومن غير معونة من الله تعالى لا تزول هذه السيئات لذلك يجب على المؤمنين أن يولوا اهتماما بحديثي الإسلام، ويوطدوا صلتهم معهم، ويعينوهم على التخلص من عيوبهم. وإن يفعلوا وتركوهم وحدهم فلن يتوقفوا عن نشر سيئاتهم في غيرهم من أبناء الجماعة أيضا.

والجزء التالي من الدعاء يُكمله.. يقولون: وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ إذا قَبِلَ الله تعالى دعاءَنا فلا شك أنه سوف يخلصنا من سيئاتنا.. ولا نعرف كم يطول بنا الوقت حتى يتم ذلك. فبعض الأمراض تبقى ملازمة للإنسان طول حياته.. ولا يعرف كم من الوقت يحتاج الأمر للخلاص منها، وإذا جاء الموت.. يكون المرء قد تخلص منها أم لا؟ وموعد الموت موعد غير معروف على وجه التحديد. وهكذا ترون مدى حصافة وذكاء أُولي الألباب في دعائهم وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ .. لا تَدَعْنا، يا رب، نَمُتْ ونحن غير معدودين في المتقين الأبرار. الأمر لك. أنت تشفينا من سيئاتنا آجلا أو عاجلا، ولكن ما نلتمسه منك ألا تَدعُونا إليك ونحن مرضى. نود أن نلفظ أنفاسنا ونحن في حال ترانا فيه من بين الأبرار، ألا ما أحلى هذا الدعاء! ردِّدوا هذا الدعاء دائما.. وابتهلوا إلى الله بمثل هذه الأدعية.

هناك سيدة صحابية لسيدنا المهدي والمسيح الموعود في لاهور. وهي أم لعضو مخلص من الجماعة هنا، وهي السيدة صديقة. هي سيدة مسنة بين التسعين والمائة من عمرها.. وهي، ما شاء الله، واعية الذهن وتذكر الأحداث من زمن سيدنا المهدي والمسيح الموعود . تسلمتُ رسالةً منها خلال شهر رمضان المنصرم، تذكرني بهذه الآية.. وكيف حفظ الله في القرآن الكريم كلمات أحبائه، أولئك الذين خلوا من قبل وأولئك الذين سوف يلحقون بهم. قالت: ادْعُ لي فقط بهذا الدعاء.. أن يتوفاني الله وهو راضٍ عني. عندما يدعو أولو الألباب بدعاء: وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ فهم يعرفون أن الحياة والسيئات تمضي معا.. وفي بعض الأحيان تعود السيئات بعد تركها.. والحكم الأخير يصدر لحظة ما يعود المرء إلى ربه. فإذا كانت عين الرضا الإلهي ترمق للإنسان في ذلك الوقت.. إذا كان الإنسان معدودا بين الأبرار في نظر الله تعالى.. عندئذ يكون الغرض من الحياة تحقق.. وعندئذ فقط يمكن للمرء أن يقول: وأنا أيضا لستُ باطلا.

بعد هذا يأتي دعاء آخر. لقد سأل الإنسان كل شيء لنفسه، ولكنه لم يسأل شيئا يترتب عليه بدء الإصلاح لدينه. ولذلك يدركون لحظة تذكر الموت ويقولون: يا ربنا ينبغي أن نبلغ هذه الرسالة إلى الآخرين أيضا، وإن وعودك لنا التي وعدت بها الرسل في الماضي .. من أننا سوف نبدل حال الدنيا ونحدث تغيرات صالحة في حياة الناس.. إذا لم تتحقق هذه الوعود فلن نبرح نقاسي الخجل يوم الحساب. مما يعني أن المرء وإن أصبح تقيا، وكانت خاتمته في الظاهر خاتمة التقوى.. ولكنه إذا لم يقم بواجبه تجاه الآخرين.. فلا يعتبر نفسه ناجحا. هكذا يفكر أولو الألباب كما يتبين. لذلك يقول هذا الدعاء في نفس الوقت : رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ .. اللهم حقق لنا كل وعودك التي وعدت بها الأنبياء السابقين.. من أنك ستعامل أهل الأيام الأخيرة بكذا وكذا. يجب أن نفكر ما معنى مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ هنا؟ الواقع أن هذا الدعاء كله.. دعاء أولي الألباب.. هو دعاء أتباع محمد المصطفى .. وكل قوم ذكروا هنا.. هم أتباع محمد رسول الله ذلك لأن أمته وحدها هي الأمة التي بشر بها الأنبياء السابقون، ‏وأن الله سوف يظهرهم على كل الديانات الأخرى، ولذلك فهم يبتهلون: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ .. ‏كل البشارة التي أعطيتها لنا عن طريق الرسل السابقين، ووعدت أنك سوف تعامل أمة محمد بكذا وكذا، فاللهم حقق لنا كل هذه الوعود.

وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أي لا تلحق بنا الخزي والعار يوم القيامة، وذلك بأن لا تتحقق الوعود المرتبطة بنا. وإذا لم تتحقق هذه الوعود.. قد يحسب المرء أن الله لم يحقق وعوده.. في حين أن الله تعالى يحقق وعوده دائما.. ولكن الجزء الأخير من هذا الدعاء يؤكد: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ .. إنك بكل تأكيد تحقق وعودك. فعندما ندعو أن تحقق لنا وعودك.. فالمعنى أن إجْعَلْنا من أولئك الذين يستحقون وعودك.. لأننا إذا لم نكن مستحقين لها فلن تتحقق لنا.. ويكون الخطأ منا وليس منك.

وهكذا‏ يسهّل الله تعالى لنا صراط أولئك الذين يَسَّر لهم صراطهم من قبل نتيجةً لدعائهم، ويعظنا أن نمضي بهذه الابتهالات قُدُمًا في هذه الرحلة.

ثم حفظ الله تعالى في القرآن دعاء الضعفاء من الرجال والنساء والأطفال. إنه تعالى لا يترك جانبا من جوانب الحياة بدون دعاء، بل هناك أدعية لكافة الأحوال، وإذا تفكرتم فيها أدركتهم أنها تغطي كل الأحوال المحتملة في الحياة. فهناك دعاء مثلا يقول:

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (النساء: 76)،

أي لماذا لا تجاهدون من أجل الضعفاء رجالا ونساء وأطفالا.. الذين يُضطهَدون ويقاسون الشدائد، ويدعون: اللهم خلِّصنا من هذه البلدة التي صار أهلها طغاةً ظالمين.. وابعَثْ لنا من عندك صديقا نصيرا.. يستنقِذُنا منهم وينصرنا عليهم.

ثم هناك دعاء سيدنا موسى .. وكان قومه غير مخلصين معه، وكلما أبلغهم بأمر من الله تعالى رفضوا الانصياع له والعمل به. فعندما أمرهم جل وعلا أن يدخلوا مدينةً، ووعَدَهم بالنصر المحقق قالوا: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ .. إذا فتحتَ المدينةَ أنت وربك فأبلغنا كي نأتي وندخلَها. عندئذ دعا سيدنا موسى : ‏قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، اللهم إني على حال من الضعف وقلة الحيلة بحيث تركني الجميع وتخلوا عني، وليس معي أحد يعينني، وبقيت وحدي وأخي.

‏وفي هذا الدعاء حكمة عميقة. فقد قال القوم لسيدنا موسى أن اذهب أنت وربك فقاتلِا، وبذلك ذكروا الاثنين معًا. والله تعالى هو سيد الكون كله.. ولا حاجة له لقتال أحد.. لو شاء هلاك أحد لأهلكه، ولكن الاثنين اللذين يحاربان فِعلاً هما سيدنا موسى وأخوه سيدنا هارون. وجواب القوم قد يثير شكا في إخلاص موسى وانضمام أخيه إلى القوم، ولكي يزول هذا الشك جاءت كلمات سيدنا موسى لتعبر عن إخلاصه وإخلاص أخيه أيضا. فمع أن الناس لم يذكروا اسم سيدنا هارون.. قال موسى ‏قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ‏لست وحدي متبعًا سبيلك في إخلاص تام، بل أخي أيضا في ذلك، ولسنا سوى فردين فقط. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ .. اجعل ما يميز بينه وبين أهل الفسوق. عملنا بطريقة تكشف بوضوح أننا من أهل محبتك ومن الذين نالوا رضاك ولسنا ممن قَلَيْتَه وهجرته.

‏ويعلمنا القرآن الكريم دعاء آخر يقول:

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ

وهذا يذكرني بالدعاء السابق للحواريين كرد على دعوة سيدنا عيسى ، هناك الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “أنصار الله” قالوا: “فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ”، وإنه من معجزات القرآن البلاغية المدهشة أن يَرِدَ تعليم هذا الدعاء في معرض الثناء على النصارى وبيان أن من بين النصارى حتى اليوم أناسا إذا ذُكِرَ اسم الله فاضت أعينُهم بالدمع محبة له. ولما كان القرآن بصدد الحديث عن صفاتهم الطيبة على أنها صفات دائمة.. وأن منهم أهل تقوى، وإنهم يمارسون تعاليمهم حتى بعد مبعث ، وأنهم أتقياء في نظر الله تعالى. ودعاء “فاكتُبنا مع الشاهدين” له صلة بأولئك النصارى الذين آمنوا من البداية بسيدنا عيسى المسيح . وأن هذا الدعاء نال موافقة الله تعالى حتى أنه اعاد ذكره في أمة المسلمين ووصى بأن يردده أيضا أتباع محمد .

‏وهناك دعاء يتصل بالمائدة أي الطعام، ويحتاج إلى شيء من البيان. عندما أخذ حب الدنيا يبرد في قلوب الحواريين.. وخرجوا للدعوة وكأنهم يتكففون، وتخلوا عن كل عمل آخر، ولم يكن لهم وسيلة يتعيشون منها.. عندئذ تخوفوا من شدائد الدنيا، والتمسوا من سيدنا عيسى أن يدعو الله لهم ليرسل إليهم طعاما من السماء، لأنهم غير قادرين بأنفسهم على كسب طعامهم، بعد أن وقفوا حياتهم تماما لخدمة دين الله، فعليه أن يزودنا بما يقوم به أودنا، ويرسل إلينا طعام من السماء،  ولما دعا سيدنا عيسى ، طلب الطعام لأولهم ولآخرهم. يقول الدعاء:

قَالَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَة مِنْ السَّمَاء تَكُون لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرنَا وَآيَة مِنْك وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْر الرَّازِقِينَ (المائدة :115)،

أنزل علينا رزقا من السماء يكون عيدا وإحتفالا سعيدا للأولين منا وللآخرين منا أيضا.. أي يكون سببَ سعادةٍ لنا جميعا، ويكون آيةً.. منك..وارزقنا قوتنا وأنت خير الرازقين.

من الواجب أن ننتبه لتحذير صدر من الله تعالى بعد هذا الدعاء وأن نحفظه تحت نظرنا. فبعد سماع هذا الدعاء وَرَد تحذيرٌ يقول:

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ..

سأنزلها عليكم شريطة أنه من تنكر من هؤلاء القوم للنعمة فسوف أعاقبهم عقابا لم أُنزِلْه بأحد من الناس، وسأجعلهم عبرة لمن يعتبر.

‏وإعطاء الرزق بهذا الشرط يبدو غريبا على نحو ما.  فما معناه؟ أنه يتطلب تفكرا. فمن ناحية، الله تعالى رحيم منعمٍ رزاق، وكريم رحمان بلا حدود، ويقبل دعاء نبيه ويقول “إني منزلها عليك”.. نعم، أَجَبتُ دعاءك وسأنزلُ لهم ما طلبوا، ومن ناحية أخرى، يصدر هذا التحذير الرهيب: “إذا كفروا بهذه النعمة فسوف أعذبهم أشد العذاب الذي لم أصب به أحدًا من الناس”. أي حكمة في هذا؟ عندما تفهمون هذا تستطيعون التلفظ بهذا الدعاء بين يدي الله بطريقة متوازنة..  وإلا ستمضون في ترديد هذا الدعاء بمعان خاطئة.

‏لقد دعا سيدنا عيسى هذا للطعام الروحاني.. كما دعا للرزق المادي ضمنيا. لنعرف ذلك تعالوا نقرأ الدعاء مرة أخرى، يقول:

أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا …

فالمائدة شيء والرزق شيء آخر. وسأل سيدنا عيسى لقومه الرزق فضلا عن المائدة. والذين التمسوا منه الدعاء لمن يكن الطعام الروحاني في ذهنهم، إنما كان الطعام الدنيوي الذي يشغلهم، وعندما قَبِلَ الله تعالى الدعاء ذكَّرهم بأن المائدة الحقيقية هي الطعام الروحاني، فإذا لم تنتفعوا من الرزق الروحاني وانهمكتم في الطعام الدنيوي فسوف تكونوا وسيلة تعثر للعالم.

سوف يرى الناس تقدمكم الدنيوي ويظنون أنه بسبب دعاء سيدنا عيسى أعطاكم الله كل شيء، ويحسبون اتّباع خطواتكم مفخرة لهم، ويعدونه وسيلة لخلاصهم، ويظن الناس أن الأمة التي أنعم الله عليها بكل هذه النعم، وجعل يرزقهم أوفر من سائر أمم العالم، وصاروا سادة الثروة في الدنيا كلها، لابد وأن يكون هؤلاء قوم طيبين.. ولهذا السبب أنعم الله عليهم. لذلك قال الله تعالى: ليس لازما أن يكون تلقي الطعام الدنيوي دليلا على أنهم طيبون في نظر الله تعالى. يقول الله: إجابة لدعائك سوف نمنحهم الطعام، ولكنهم إذا ما اكتفوا بهذا الطعام ونسوا الرزق الروحي، وصاروا مولعين بالطعام الدنيوي وارتبطوا به فقط، وكانوا بذلك حجر عثرة للعالم، عندئذ سيكون قضاؤنا أن نهلكهم نهائيا..‏كي يفهم الناس أن الطعام الدنيوي ليس دليلا على البركة الربانية.  البركة الإلهية شيء وإيتاء الطعام الدنيوي الوافر شيء آخر. هذا هو السبب في أن الوعد الإلهي الكبير الطعام الدنيوي الواسع يقابله وعيد شديد لابد من الوفاء بمسؤوليات هذا الرزق وإلا أبادهم الله من وجه الأرض، وأهلكهم بعقوبة رادعة. ‏هذا هو سيدنا عيسى للأولين والآخرين بصفة خاصة.

ويُعَّدُ من بين المؤمنين بسيدنا عيسى نصارى هذه الأيام، وترون كيف حقق لهم الله تعالى الجانب المادي من هذا الدعاء. لقد منحهم الله طعامًا وفيرا بحيث يعتبر العالم كله بالنسبة إليهم مجموعة من الشحاذين الذين لا يملكون شيئا. لقد أصبحوا مموِّلين للعالم كله. يعطون الطعام لمن يريدون، ويمنعون الطعام عمن يريدون. ولكن نظرًا لأنهم لم يوفوا بالجانب المتعلق بالرزق الروحاني صاروا سببا في تعثر العالم، في كثير من أنحاء العالم الفقير.. يتنصر المسلمون والهندوس والبوذيون ويقولون: إن الله كان رفيقا بهذه الأمة النصرانية وأنعم عليهم بنعمة الدنيوية.. فلابد وأنهم على الحق.. وإلا فلن يعاملهم الله تعالى بهذه الطريقة:

‏فكل تحذير ورد في هذه الآيات نراه متحققا بكل جلاء أمام أعيننا. ولهذا، إذا لم تصلح هذه الأمة من نفسها ولم تتجه نحو الرزق الروحاني المرسل من الله تعالى، ولم يتجهوا إلى الدين الحق.. فسيكونون درسا وعبرة، وسيُمحَون من على وجه الأرض.

وأنا أقف الآن في لندن، وفي قلب المملكة المتحدة.. أقول لكم هذا، وإنه لقول حق مائة بالمائة، ولا تستطيع قوة في العالم أن تحول دون تحققه. قبل ألفين من السنين ما كان لأحد أن يتخيل أن أتباع سيدنا عيسى سيعطَون هذه الوفرة من الطعام من السماء، وستنزل لهم هذه المائدة العريضة، وما كان لأحد قبل 14 قرنًا حين نزل القرآن الكريم أن يتخيل كيف يسود النصارى على أهل العالم.. وكيف يتحكمون في كل وسائل ‏الرزق. إن هذه الآية القرآنية.. تخبرنا أنه عندما دعا سيدنا عيسى لنصارى الأيام الآخرة قال الله تعالى: نعم سأقبل دعاءك.. ولكن الذين يكتفون بالطعام الدنيوي، ويعرضون عن الحياة الروحية.. سأجعلهم هدفًا للعذاب. وكما تحقق الجزء الأول هكذا سوف يتحقق الجزء الثاني حتما. هناك فقط سبيل واحد لنجاتهم.. هو أن تتوب هذه الأمة، وتنضم إلى جماعة الأيام الآخرة.. الذين هم “الآخرين” من أمة محمد هناك “الآخرين” الذين ذكرهم سيدنا عيسى في دعائه، والذين ورد فيهم هذا الموضوع، وهناك “الآخرين” غيرهم أيضا الذين ذكرهم محمد وجاء ذكرهم في صورة تختلف تماما عن تلك، ‏فقال: كما أن الإسلام اليوم فقير.. أي بدأ من فقر وليس من غنى.. كذلك سوف يأتي “الآخرين” يعيدونه.. ويبدأ الإسلام مرة أخرى من حال فقر.  فــــ” الآخرون” ليسوا من الأغنياء بل هم جماعة فقيرة.. ومع ذلك لا ينفكون يضحون بأرزاقهم في حب الله تعالى وفي سبيله، ولن يتوقفوا عن الإسهام في سبل البر والتقوى. هذا هو السبيل الوحيد لحماية هذا الانبعاث الروحاني. وعلى الآخرين من قوم موسى أن ينضموا إلى “الآخرين” من جماعة محمد . فهناك يوجد خلاصهم.

‏ثم هناك دعاء لسيدنا آدم ورفيقته مذكور في القرآن الكريم. عندما أدخل الشيطان الشك في قلبيهما وخدعهما دَعَوَا معا:

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف: 24)

لقد أخطأنا في حق أنفسنا، فإذا لم تغفِر لنا ذلك وترحَمْنا نكون قد خسرنا كل شيء.

‏كتب سيدنا المهدي والمسيح الموعود فقال: “على المرء أن يواظب على الاستغفار لكل خطيئة ظاهرة أو خفية، يعرفها أولا يعرفها، فعلها بيده أو رجله أو لسانه أو أنفه أو أذنه أو عينه، وفي هذه الأيام ينبغي ترديد دعاء سيدنا آدم عليه السلام

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . (الملفوظات، ج4، ص285)

كان سيدنا المهدي والمسيح الموعود قد أُرسل كطبيب روحاني.. وإن هذا الدعاء يبدو متعلقا بهذه الفترة بصورة خاصة‏. وعندما تفكرت في هذا أدركت أن سيدنا المهدي والمسيح الموعود سُمِّي أيضا (آدم العهد الجديد)، وأن هذا هو عهد العظمة والظهور الذي يعود في الإسلام مرة أخرى ليسود الدنيا كلها. ولهذا سَمَّى حضرة المهدي والمسيح الموعود نفسَه في بيت من نظمه باسم آدم.

‏فهذا الدعاء يتصل اتصالا عميقا بجماعة سيدنا المهدي والمسيح الموعود . لأنه يتعلق بفترة آدم جديد. وينبغي أن تدخلوا هذه الفترة الجديدة بمعونة من هذا الدعاء، وترديد

رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

ولكلمة “الخاسرين” في هذا الدعاء صلة خاصة بالزمن الأخير.. ففي سورة العصر من القرآن الكريم يقول الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ .. أي احذروا وتنبهوا لذلك العصر عندما يكون الإنسان.. أي المجتمع الإنساني بحال يقاسي فيه الخسران، أي يكون العالم في ظروف تجعل منه عالم الخاسرين. وموضوع هاتين الآيتين متصل بصلات عميقة لا يمكن رؤيتهما بنظرة سطحية، ولكن إذا غصت فيهما ودرستهما بتعمق يدهشك أن النظام الروحاني أيضا شديد العمق والتناسق، مترابط الجوانب. فعندما ذكَّر سيدنا المهدي والمسيح الموعود الجماعة بهذا الدعاء لم يكن ذلك مجرد فكرة عابرة.. ولكن باعتباره آدم، وواضعًا في الاعتبار الأنباء القرآنية بأن هذا العصر هو عصر الخاسرين. لذلك فإن الدعاء بالغ الأهمية بالنسبة للجماعة، وحيوي لاستمرار حياتنا.

‏‏ونتعلم من الدعوات الأخرى.. أن الدعاء لا يقتصر على هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكنه يستمر بعد الموت. فمثلا في سورة الأعراف نجد هذا الدعاء اللافت للانتباه… يردده أهل الجنة الذين هم على الأعراف.. يسألون ربهم: قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأعراف: 48).. لا تعُدَّنا مع فاعلي الإثم المعتدين. فما معنى هذا؟ لقد خرجوا من عالم الاشرار ووقفوا أمام ربهم، ووُضعوا في مقام سماه القرآن الكريم (الأعراف)، أي رجال الله المصطفون الأخيار.. وكأن يقف أحد على قمة جبل فيتميز ويعرف كذلك، هم ‏يُمنَحون مقامات عالية.. فيُرَوْن مِن بعد في مقام متميز بأنهم الخيرة من بين أهل الله. ‏ومع وضعهم في هذه المنزلة السامقة المرموقة.. فإنهم يبتهلون إلى الله تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .

‏هذا لأن حسابهم لم يكتمل بعد، وهذا وصف لتلك المرحلة عند يوم القيامة حينما يتم حشر الناس ولكن الفصل النهائي لم يأت حينه بعد.. وإن كانت سمات المتقين صارت واضحة، وأمارات الأشرار قد تجلت.. وانقسم الناس إلى طائفتين. يقتضى التواضع في هذا الحال، والجنة أمام أعينهم، أن يبتهلوا إلى الله تعالى: إذا قضيت، يا رب، بشأننا أننا أشرار فقرارك حق.. ونعترف بخطايانا وشرورنا.. ولم ننخدع بموقفنا هذا على الأعراف.. ولا نحسب أنفسنا من أولئك الذين لم يرتكبوا ظلما في حق أنفسهم، ‏وعندما نقول رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ نعني بذلك ألا تجعلنا من بين الأشرار، ودعاؤنا يرمي إلى أننا مع كوننا مذنبين مخطئين نلتمس منك ألا تجعلنا من بين الظالمين، وإذا غفرت لنا فإننا لن ننخدع ونحسب أن الغفران كان بسبب أعمالنا الصالحة وإنما تفضلتَ به علينا رقم شرورنا.. ولم تجعلنا من الظالمين.

‏وسيدنا شعيب هدده المتكبرون من قومه أن يعود إلى ما عليه أكثرية قومه.. الأغلبية تناديك للعودة إليهم.. لقد سلكت سبيلا جديدا تتبعه الأقلية، وأنتم فئة ضئيلة العدد لا مركز لكم بوسعنا اهلاككم في أي لحظة، أمامكم الآن خياران فحسب: إما أن تتوقفوا عن الجدال وتمتنعوا عن المناقشة، وتعودوا إلى ملتنا.. أو نقضي على وجودكم من بلادنا. فكان جواب سيدنا شعيب على ذلك دعاء تضرع به إلى الله تعالى. وجه قومه إليه تهديدا وإنذارا، يقول القرآن بأنه تجاهله، والتفت إلى ربه داعيًا:

وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ .

عِلم الله يحيط بكل شيء، وإن اعتمادنا على الله وحده، فلا نعتمد على عون أو تأييد من أي قوم أو أغلبية أو سلطة دنيوية. ربنا أَصدِرْ حكمَك بيننا ‏وبين قومنا.. ‏لأننا لا نملك القوة على الحكم.. فاحكُم أنت، يا ربنا، بالحق.. فحكمك أفضل من حكم كل قاض سواك.

‏فالذين يتعرضون اليوم للمتاعب بسبب عقيدتهم، ويهددهم قومهم بالطرد من أرضهم إذا لم يعودوا إلى عقيدة الأغلبية.. فإن هذا الدعاء أنسب دعاء لموقفهم.

‏وفيما يتعلق بموضوع الطرد من بلد.. تذكروا أنه ليس من الضروري أن يكون معنى الإخراج من البلد الطرد فعلا من الأرض.. فلذلك يكون أيضا بحرمانهم من حقوقهم المدنية، كل زمن له أسلوب مختلف. في هذا العصر نجد من أساليب النفي أن يحرم الناس من حقوقهم المدنية مع استمرار وجودهم في بلدهم.

‏وهذا ليس جديدا وإنما حدث من قبل في عهد سيدنا موسى .. نفى فرعون قوم سيدنا موسى .. ‏ليس بطردهم خارج البلاد وإنما بسلب كل حقوقهم. ومن أعنف صنوف النفي أن تقيد حريَّة من يريد مغادرة البلد، وتضع العراقيل في وجهه وتعاقبه وتسجنه وتقول له لماذا تريد مغادرة البلد، وتحبسَه في البلد لتحرمه من كل حقوقه. في عصر فرعون هذا كان أشد خطورة وإيلاما فيما يتعلق بالنفي. نسأل الله تعالى أن يخلص عباده المضطهدين من صنوف الفظائع والعدوان هذه.

‏رفض فرعون أن يسمح للناس بمغادرة البلد، وأصر سيدنا موسى أن دَعْ قومي يتحرروا ويخرجوا بعيدا عن عدوانك واضطهادك. إذا رأيتَهم لا يستحقون المساواة بسائر المواطنين في هذا البلد فخلِّ سبيلهم ودعهم يتركوا الأرض. فقال فرعون: لن أسمح بهذا، وافعل أنت ما شئت. ‏عندئذ وصل الأمر إلى صراع روحي.. وقال فرعون لموسى : ما جئتَ به من آيات ربانية لا تعني شيئا، وما هي الا خداع وتضليل، وسنرتب لك مباراة مع أناس مثلك، وسيرى الناس أين الحق، ودعا فرعون كبار السحرة ليجتمعوا، وأمر أن يحضر الناس في يوم عيد معين حيث تجري مباراة بين “ساحر” وبين سائر السحرة، ونجد في القرآن الكريم تفصيل أحداث هذا الموضوع وسأوجزها لكم.

‏عندما اجتمع السحرة للمباراة مع سيدنا موسى قال لهم فرعون: ماذا تريدون نظير خدماتكم؟ فلم يسألوا قربا من فرعون، ولكن طلبوا جزاءً ماديا. وهذه مسألة مشوقة. فعندما يسأل أهل الله المتقون ربَّهم شيئًا فإنهم يطلبون القرب منه، وعندما يسألون أنبياءهم شيئًا فإنهم يطلبون صحبتهم. ويبدو أن فرعون أحس بالخزي من جوابهم فقال لهم: حسنا سأُعطيكم الأجر الذي تطلبون، فضلا عن أني سأجعلكم من المقربين إليَّ، مع أنهم لم يلمِّحوا إلى مثل هذا القرب ولم يطلبوه. وهذا يبين أنه لم يكن بقلوبهم حب لفرعون، ولم يكنوا له احتراما وتقديرًا. ولعل هذا هو السر في اهتدائهم إلى الحق عندما تبين لهم. لو كان بهم صلة عميقة بفرعون أو بعقيدته، ولو كانوا يحملون له حبا واحتراما في قلوبهم فلربما لم يهتدوا بهذا اليُسر. على أي حال، لما رأوا آية الله تعالى، وانتصر موسى على حيلهم انتصارا عظيما، آمنوا بموسى دون أن يلتفتوا إلى فرعون، وتضرعوا إلى الله على الفور:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ..

يا ربنا، أنزِل علينا الصبر ‏والثباتَ، واجعَلْ موتَنا ونحن مؤمنون بك.

‏السبب في هذا الدعاء أن فرعون كان شديد الغضب عندما أعلنوا إيمانة، ونهرهم: كيف تؤمنون دون إذني؟ عند ذلك قالوا: ما الداعي لطلب الإذن؟ لقد رأينا الحق وآمنا. فقال فرعون: إذا كان الحال هكذا فلسوف أعذبكم عذابا شديدا.. ولأقطعن أيديَكم وأرجلَكم من خلاف، وأجعلُكم شيئا مهمَلاً إمعانا في إذلالكم واهانتكم، وأجعلُكم تقاسون أشد العذاب. قالوا لفرعون: فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ، إفعل ما بدا لك، أنزِلْ بنا ما شئتَ من تعذيب. فلقد آمنا بما شهدنا من الحق. وبهذا الموقف الصعب أمام ناظريهم.. دَعَوا

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ،

اللهم أنْزِلْ علينا الصبر من لدنك، لأنك إن لم تُنزل علينا الصبرَ من عندك فلن نستطيع الصبر بمجهوداتنا الذاتية.. وإذا قدَّرتَ علينا الموتَ فأمِتْنا عندما نكون مسلمين لك، ولا تدَعْنا ‏نَعِشْ لحظةً واحدة في حال الكافرين.

‏وعندما تغيّب سيدنا موسى لبعض الوقت وخَلَفه سيدنا هارون، تمردت طائفة كبيرة من قومه، واتخذوا العجَل إلهًا لهم. عاد سيدنا موسى، فغضب لذلك. ولابد أنكم قرأتم هذه الحادثة في القرآن الكريم وكيف كان سيدنا موسى غاضبا، واعتبر سيدنا هارون مسئولا عن هذا، وطلب منه بطريقة خشنة تفسيرا لما حدث. عندئذ وضح سيدنا هارون لأخيه الأكبر: إني بريء تماما مما فعلوه، ولم يكن بي قدرة على منع هؤلاء القوم الجهلة ارتكاب ما اقترفوه. لقد حاولتُ ولكنهم أصروا، وانزلقوا مرة أخرى من دين التوحيد إلى الوثنية. عندئذ دعا سيدنا موسى ربه:

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الأعراف152).

هناك فرق بين هذا الدعاء وبين الدعاء السابق لسيدنا موسى . هنا دعا موسى الله قائلا : “رب”، وهناك دعا الله قائلا: “ربنا”. هنا كان سيدنا موسى عائدا من لقاء خاص مع الله، وكان موقف سيدنا هارون محل شك لديه.. إلى أي مدى كان مسئولا عما وقع من بني إسرائيل وإلى أي حد كان غير ملوم.. لذلك دعا مشيرا إلى نفسه: أنت، يارب. تعرفني. لقد عدتُ توَّا من لقائي معك، ولا لوم علي مطلقا.. لذلك يا رب، اغفر لي واغفر أيضا لأخي، وعامِلنا بخلاف هؤلاء الناس، فإنك ترحم أكثر من كل من يرحم.

وأدعية سيدنا موسى لها أسلوبها الخاص. وعندما هدأ غضبه في آخر الأمر،‏وأوشك أن يصطحب معه سبعين رجلا اختارهم من بين بني إسرائيل ليذهبوا إلى مكان معين حدده الله تعالى معهم حَدَث زلزال طبيعي، وكان الزلزال من الشدة حتى خَشِيَ الجميع أن يحل بهم الهلاك. فماذا كان دعاء موسى عندئذ؟ قال:

ربِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ..

يا رب لو كانت مشيئتك أن تميتهم من قبل لفعلتَ، ولكننا قادمون على مهمة خاصة، فليس هذا الوقت مناسبًا لهلاكهم، ليس لأنهم غير مذنبين، أو لأنهم ليس من الصواب هلاكهم، ولكن الوقت لا يبدو مناسبا في نظري، وفيما يتعلق بقدرتك لأهلكتني أنا أيضا معهم. أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ؟ هل تهلكنا لأن بعض الحمقى من بيننا وقعوا في الوثنية؟ لا أحسب الأمر هكذا.. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ .. إني على ثقة من أن الأمر ابتلاء منك. ‏إنك تريد إخافتنا، ولا شيء غير ذلك ولا يعقل أنك سوف تهلكنا. تُضلَ بها من تشاء وتهدي من تشاء .. بمثل هذا الابتلاء تكشف الضعفاء وتبين ضلالهم، فتبدي غضبك عليهم، وتهدي من تشاء، وهذا ما ترمي إليه. أنْتَ وَلِيُّنَا .. ولكن تذكر، يا ربنا، أنك صديقنا، وليس لنا صديق سواك، ولا نلتمس المعونة من غيرك، ولن نطرق أي باب إلا بابك، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏أنت أكثر وأعظم مغفرة من كل الغافرين.

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ

ما أحلى هذا الدعاء: لقد جئنا إليك بعد مسيرة طويلة جئنا إلى ساحتك، ولا سبيل إلى رجوعنا.. لن نعود حتى نتلقى الخير منك. إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ .. لقد عدنا إليك.. فلا تعامِلنا بما يعرضنا للخزي والعار أمام أعدائنا.

‏عليكم أن تتفكروا في أدعية الأنبياء، فهم أولئك الَّذِيْنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ . ما أنسب وأوفق دعواتهم، وما أعظم ما فيها من حكمة وألم وإخلاص! لقد ابتهلوا بهذه الدعوات فتقبِّلت على الفور، وفيما يبدو ليس هناك فرصة لرفضها من الله تعالى، لأنها كانت تصعد من القلب بأمانة وصدق.

‏الوقت يتأخر وسأذكر دعاء آخر ثم أكمل هذا الموضوع في الخطبة القادمة، إن شاء الله. قلت إن موضوع الدعاء مستمر في الحياة الأخروية أيضا، وما دامت هناك مقامات عليا سوف تُمنَحُ في الحياة الآخرة، وما دام الارتقاء الروحي لا يُنال من دون معونة الدعاء.. فوجب أن تثبتوا موضوع أهمية الدعاء في أذهانكم. ما دام الارتقاء المستمر حتى بعد الوفاة فلابد وأن يستمر الدعاء.

‏يقول القرآن:

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (يونس: ١١).

ما هو دعاء أهل الجنة؟ هو سًبْحَانَكَ اللَّهُمَّ يا الله.. إنك منزه عن كل نقص. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيْهَا سَلامٌ .. ويتبادل بعضهم مع بعض السلام، والسلام دعاء. سوف يدعون بالسلام من الله لبعضهم البعض.

وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..

وسيكون دعاؤهم الأخير الحمد كله لله وحده.. رب العالمين.

‏وهنا قد اختتم النغم الدعائي بكلمة “رب” وكان نعم الدعاء في سورة الفاتحة بدأ بالحمد لله رَبِّ العَالَمِيْنَ .. يشار بذلك مرة أخرى إلى هذا الموضوع الذي يبدأ بسورة الفاتحة، وهو أن الله تعالى “رب”.. أي الذي لا يدع شيئا يبقى على حال واحد. فكل ما في يده لا يتوقف عن تحسينه وتقدمه أكثر وأكثر، ويستمر في تكميله. هناك عملية تطويرية لا تنتهي متصلة بالرب.. الذي يتحلى بصفة الربوبية. لذلك فإن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا تعني: شكرا لله، فقد حصلنا على كل شيء، ولكن ما يعني أن الحمد لله كله لله الذي هو رب.. والذي يطور كل شيء إلى مستوى أرفع. ومن ثم فإننا رغم الحصول على هذه المقامات نود مزيدا من التقدم لذلك يا ربنا كما‏ عاملتنا بربوبيتك في الحياة الدنيا كذلك استمر في معاملتنا بصفة الربوبية أيضا في الحياة في هذه الحياة أيضا.

بهذا الدعاء أختتم خطبة اليوم. وسوف أستمر في هذا الموضوع في الخطبة القادمة، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك