الحمد لله.. أم الحمد لي؟!
التاريخ: 1991-03-22

الحمد لله.. أم الحمد لي؟!

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة: كيف نتمتع بالصلاة

خطبة جمعة ألقاها مولانا إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية،

أيده الله بنصره العزيز يوم 22/ 3/ 1991، بمسجد “فضل”، لندن

 

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . آمين

تحدثت في خطبة الجمعة الماضية عن سورة الفاتحة وكيف أنها تعلمنا طريقة الصلاة، وتدلنا على صيغة العبادة، وأنها وسيلة لإقامة علاقات سوية مع بني البشر؛ لذلك ينبغي ألا تكون نظرة المرء لها متعجلة، ولكن ينبغي تلاوتها مع تدبر عميق في معانيها في كل صلاة؛ وفي نفس الوقت ينبغي على المرء أن يطبق هذه المعاني على نفسه. وإذا ما اعتاد الإنسان رؤية نفسه في مرآة سورة الفاتحة فلن يجد تجملاً خيرًا من ذلك، ولن يتوصل إلى وسيلة للتزين أحسن منها.. لأنها مرآة صادقة، ليس هناك ما يقدم صورًا حقيقية أفضل منها.

كنت أتحدث عن معنى الحمد، وبينت للجماعة أننا نقول (الحمد لله رب العالمين) نقر أن الحمد كل الحمد، الحمد التام الكامل لله وحده، وليس لأحد غيره على الإطلاق، وكل حمد يناله المرء فهو من الله وحده. وقدمت لكم الملاحظات عن الحياة اليومية بالعالم، ووضحت أننا نقول (الحمد لله رب العالمين) ولكننا في حياتنا اليومية على وجه العموم ننغمس في حمد الخلق ولا نفكر في حمد الخالق. نحب الزهور، ونحن الحدائق، ونحب المسكن الجميل، ونحب الجمال في الأحياء والجمادات، ونحب الجاه والسلطان.. ولكن عقل الإنسان لا يفكر ولا يتوجه في خضم حياته اليومية نحو الوجود الذي يعمل خلف كل تلك الأشياء. عندما يعلن مثل هذا الإنسان ويؤكد في كل ركعة من صلواته الخمس، وفي صلوات النوافل أن (الحمد لله رب العالمين).. فإن إعلانه وتأكيده هذين يكونان خاليين من الحقيقة المحسوسة. وبالرغم من أنه لا يكذب عندما يقول ذلك، إلا أن قوله لا ينعكس على حياته اليومية، ولا يرسم لها صورة منه.

وأود بهذا الصدد توجيه انتباهكم إلى هذا الموضوع بصفة خاصة، ولا أذكر ما إذا كنت قد فصلته لكم من قبل أم لا. إن أعظم العقبات في سبيل حمد الله تعالى هي التي يضعها الإنسان بنفسه؛ وأعظم الأصنام يوجد داخل الإنسان ذاته.. ذلك لأن الإنسان يحمد عالم المادة، ويهمل كثيرًا في حمد بارئه. ويخلق صنم الذات بالفعل أفكار الوثنية. لا يوجد صنم يدعي الألوهية أعظم من صنم الذات. وإذا فحصتم أنفسكم وفتشتم في مقاصد حياتكم اليومية لأدهشكم أنكم مع كونكم مؤمنين بوحدانية الله تعالى.. عندما تقولون (الحمد لله رب العالمين) ينبثق من داخل قلوبكم صوت يقول (الحمد لي، الحمد لي). قد لا يسمع كل إنسان هذا الصوت يهتف بهذه الكلمات عينها، وقد لا يدركها بهذه الصورة.. لذلك لا ينتبه لهذا الصوت؛ ولكنه في الواقع صوت يمكن سماعه إذا ما حاول المرء ذلك في ممارساته اليومية.

خذ مثلاً مغنيًا جيدًا، يتلو الشعر أمام جمهور المستمعين في صوت رخيم، ويتلقى الثناء من كل ناحية. فيرضيه ذلك ويمنحه من المتعة ما يجعل نفسه إلهًا له. وأغلب الظن أن عقله لا يتجه نحو كيف نشأت قدرته على الغناء، ومن وهبه الصوت الجميل، وما هو القدر الذي تسهم بها جهوده في هذا الغناء، وإلى أي حد تدخل رحمة الله تعالى وفضله في ذلك؟ إذا توجه الانتباه حقًا نحو هذا الاتجاه.. فلن يجد أي مغن لنفسه قيمة في عينه. فولادة أحد في أسرة وهبت حسن الصوت، ووجوده في مجتمع يتيح له فرصة تحسين صوته وتجويده، ويعطي الوسائل ليكون صوته أكثر موسيقية وجاذبية، ويقيه من أمراض الحلق التي تضر الصوت.. كل هذه الأشياء جديرة بالاعتبار وإن كانت سطحية؛ ولكن لو تغوص إلى ما هو أعمق، وتدرس نظام الجهاز الصوتي، فسيدهشك أن الله تعالى أبدع جهازًا للصوت في حلق كل إنسان.. بعد أن وصل إلى المرحلة الحالية من تطور على مدى ملايين السنين.. يحسنه ويجلوه، ويعطي لقدراته مزيدًا من البريق والفخامة، وانقضت من الحياة آلاف الأجيال وباتت في ذمة التاريخ بعد أن أخذت دورها في عملية التطور. ولا يدري أحد أي المسارات اتخذت الطبيعة طريقها فيما قامت به من تجارب لتكميل الجهاز الصوتي. وبدراسة ما نراه اليوم من الحياة الحيوانية.. منذ بدايتها وحتى الزمن الحاضر.. يندهش المرء عندما يعرف كيف كانت بداية الصوت. قبل هذه المرحلة كان عالم الحياة صامتًا تمامًا. كانت هناك حياة، ولكن لا يتواصل أفرادها عن طريق الصوت. لقد تناولت هذا الموضوع من قبل، ولكني أود اليوم ذكره بإزاء موضوعنا الخاص. فمن وهبه الله صوتًا حلوًا.. إذا لم يتجه ذهنه نحو هذه الأشياء، وبقي متمرغًا في الثناء على نفسه، فسوف ينشأ في قلبه وثن لا ينفك يزداد قوة، فيتغلب على ما تبقى من وجوده؛ لأن وثن الشرك مع الله تعالى لا يبقى محصورًا في دائرته، ولكنه ينمو وينتشر ويستمر.. ليكون أشد قوة.

وبالمثل، فإننا لو نظرنا متحدثًا مفوهًا يتلقى الاستحسان عندما يلقي خطبة جيدة؛ أو شاعرًا مجيدًا أتيح له تقديم أفكار بارعة في كلمات جميلة.. لتكرر الموضوع الذي أشرت إليه آنفًا.. موضوع الصوت الداخلي؛ وكذلك المصور المبدع، والمدرس البارع، والحرفي الماهر، وكل من خلق الله فيه قدرات جسمانية أو فكرية أو قلبية.. كل أولئك ينطبق عليهم هذا الموضوع. إذا أعلن الإنسان الذي يتمرغ في الثناء على نفسه قول (الحمد لله رب العالمين) مرارًا وتكرارًا أمام الله تعالى.. فإن أحوال حياته اليومية لا تتصل بهذا الإعلان. إذا قلت في صلاتك (الحمد لله رب العالمين) فانظر إلى وجهك في هذه المرآة، وتفكر في ممارستك اليومية: كم مرة تقدم الحمد لله كما يقدمه الناس لك.. بحيث لا تحسبه تحية لك، وإنما تقول بكل تواضع وخشوع: “التحيات لله والصلوات والطيبات”.. وتقدم هذا الثناء لله تعالى، لأن كل الهدايا جديرة بأن تقدم له وحده، وتخلي نفسك من كل حمد؟ إذا استطعت أن تنمي في نفسك المقدرة على فعل ذلك.. فلن يبقى قلبك خاليًا من الحمد، لأن الله تعالى يعيد الحمد المقدم إليه مضاعفًا أضعافًا كثيرة لمن يقدمه إليه، ونتيجة لذلك يبدأ المرء يستحق الحمد حقًا.

وكل ما يحمد به المرء هو حمد بصوت الله تعالى؛ ويحرك صوت الله القلوب، ويغلب صوت الله على العقول، وأناشيد الحمد التي تنطلق من الناس لمثل هذا الشخص تجعل منه محمودًا ومحمدًا. وكان من الحكمة العظيمة تسمية النبي الكريم محمدًا.. إذا قدم حمد نفسه بتمامه، وطول حياته.. لله وحده، واستمر مواظبًا على إعفاء نفسه من كل حمد؛ لذلك جعله الله تعالى محمدًا. وهكذا يصير “الأحمدون” (أي أخلص الناس وأكثرهم وأتمهم حمدًا لله تعالى) “محمدين”.. إذا كانوا أطهارًا أمناء مخلصين.. لا يدعون وثن أنفسهم يتدخل. ومن زاوية النظر هذه يضع موضوع (الحمد لله رب العالمين) أمامنا عملية تدريب طويلة، عملية لا تتوقف عند حد مدى الحياة، لأن الموضوع دقيق، وتبقى بعض جوانبه خفية عن نظر الإنسان ولو ناضل طول حياته ليحرر نفسه من حمد نفسه؛ بل ومع ذلك لا يستطيع المرء التوصل إلى هذا المقام المحمود الذي منحه الله تعالى للمصطفين الأخيار من عباده. لذا ينبغي على الإنسان أن يمضي في هذا الجهاد النفسي بالدعاء والتماس المعونة الإلهية.

كثيرًا ما يكون المرء الذي اعتاد على حمد نفسه “فرحًا فخورًا”، ينمي في نفسه عادة الشعور بالسعادة الغامرة بسبب أمور تافهة، ويتخذ من الفخر والتباهي عادة له.. لذلك ربط القرآن المجيد بين موضوع الفرح والحمد الزائف للإنسان، وسوف أبين ذلك بعد قليل، إن شاء الله تعالى. لا بد أنكم رأيتم عروضًا لذلك في المجلات الرياضية. ففي لعبة المصارعة الهندية مثلاً إذا نجح لاعب في استخدام مهارته، وتمكن من تخليص نفسه من قبضة منافسه.. فإنه يعود إلى مكانه وهو يقوم بحركات استعراضية عجيبة، كأن يرفع يده مشيرًا بأصبعيه إلى علامة النصر، أو يصدر أصواتًا غريبة، أو يضرب صدره بيديه تعبيرًا عما أبداه من مهارة عظيمة. وعندما يسجل أحد اللاعبين هدفًا في مباراة للكرة ترونه يقوم بحركات غريبة، كأن يقفز عاليًا في فرح شديد ليبدي فخره بإنجازه، أو يلتوي بصورة عجيبة، والبعض يصرخ، والبعض يتباهى في هدوء. هذه المشاهد تبرز أمامكم المدى الذي يصل إليه الإنسان في تعطشه إلى المدح، ويدفعه هذا الظمأ إلى لعق كل قطرة مديح يصادفها. ليس ذلك فحسب، بل ويتبختر متباهيًا ليبدي أنه قد روي غليله اليوم.

تقع هذه الأحداث في حياتنا اليومية، ونشهدها عندما ننظر للآخرين، ولكن لا نراها إذا نظرنا إلى أنفسنا. لذلك كان من الضروري توضيح هذا الموضوع بجلاء تام. لن تروا هذا الشوق الشديد إلى الثناء في أنفسكم، وترونه في غيركم. قد تضحكون من استعراضات التفاخر إذا صدرت من الناس، وتنسون أنكم تفعلون مثلها يوميًا وباستمرار، ولكن عيونكم تغفل عنها. والقرآن الكريم يبين أن هذه العاطفة لدى الإنسان عندما تتقوى فإنه يتمنى لنفسه حمدًا يجب ألا ينسب إليه أصلاً، بمعنى أنه يمكن أن يحمد بما فعله من مثل هذه الإنجازات التي تحدثت عنها أمامكم، وإن كان من اللازم أن يتذكر أنه لا دخل له في القيام بمثل هذا العمل البارع، وإنما الفضل والحمد يعود إلى الله الذي وفقه لذلك. عليه أن يرى يد قدرة الله متجلية وراء هذا الإنجاز، ولكنه إذا لم يفعل ذلك وأراد أن يحمد فهو معذور لحد ويجب تصحيح نظرته. ولكن القرآن يخبرنا أن الإنسان لا يكتفي بمثل هذا الحمد وإنما يتخطى خطوة أبعد فيقول:

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (آل عمران: 189).

لا شك أن الآية تتحدث عن الآخرة، ولكن هذا لا يعني أن موضوع الآية لا يختص بالحياة الدنيا، إذ نرى في دنيانا أن عطش الحمد عندما يشتد فإن الإنسان يريد أن يُحمد بما لم يفعل بل فعله غيره. ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة يوميًا، وفي كل بيت، وكل نظام، في علاقات الأناس فردًا وشعبًا، ولكن يحتاج الإنسان لملاحظة هذا إلى نظرة دقيقة.. وعلى سبيل المثال إذا دخلت بيتك ورأيت عملاً حسنًا قد قام به أحد وأنت لا تعرفه أو لا تريد أن تعلن عن اسم الفاعل، وسألت الأطفال: من الذي قام بهذا العمل الحسن، وجدت عددًا من الأطفال يدعون بالقيام بذلك، وإذا كانوا متأكدين بأنك لن تعرف فاعله فإن معظمهم سوف يرفعون الأيدي قائلين بأنهم فعلوه.

يميل كثير من الأطفال إلى كسب الثناء عن كل فعل حتى وإن لم يقوموا به.. بل يكون قد فعله أحد إخوتهم أو أخواتهم، ولكن ما دام هناك ثناء يعطى فإنهم ينسبون العمل إلى أنفسهم. وإن لم يكن بوسع المرء فعل ذلك فإن عادة المشاركة في المديح قوية بحيث يندر أن يخلو منها أحد. إذا كان طعام البيت شهيًا، وسألت عمن طهاه، فستجد أحدًا يقول بأن التوابل من اقتراحه، وثانيًا يقول بأن طريقة الطهي من بنات أفكاره، وثالثًا يدعي بأنه كان يقلب الطعام.. كل فرد يسعى للمشاركة في المفخرة والتكريم. هذا هو ما تشهد به أمور حياتنا اليومية البسيطة. وإذا تطور الأمر تحول إلى مرض عميق، ويُخشى أن يصير بعد ذلك مرضًا نفسيًا متأصلاً. ولا ضرورة الآن للخوض في التفاصيل، فكل شخص يستطيع التفكر في الأحداث التي يشهدها في حياته اليومية ويفحصها ليعرف مدى تعثره في هذا المجال. والرغبة في الثناء أمر طبيعي، أما حصره في حدود أو كبحه فشيء آخر. وإذا لم يحدث ذلك، وبقيت هناك رغبة للمدح الزائف.. فهو مرض خطير، يتحول إلى أسوأ أنواع الوثنية؛ والمصابون بهذا المرض “يخطفون” الحمد من الله تعالى، وفي كل حال يحاولون الاستئثار عن كل شيء زاعمين أنه ما تم إلا بسببهم!

وعندما يستدق هذا المرض يأخذ شكلاً غريبًا. أود ذكر مثال له كي تعرفوا منه كيف لا يمكن حتى للصالحين الوقاية من هذا النوع من المرض. مع أنهم على وجه العموم مؤمنون بوحدانية الله تعالى، ولكنهم ينزلقون في كثير من الأمور. هناك أيضًا ميل في الإنسان إذا وهبه الله تعالى فضلاً منه أن يبحث عما في نفسه من صلاح وتقى جعله مستحقًا لهذا الفضل من الله. إذا آتاه الله فضلاً خاصًا قال في نفسه: هذا بسبب تعاطفي مع الفقراء، وإذا زاد الله في رزقه أو حفظ عليه صحته ظن ذلك بسبب عطفه على كذا وكذا من الناس. هكذا إذا أنزل الله جل وعلا أفضاله على أحد حاول الناس أثناء تعليقهم حول ذلك أن يجدوا في نفسه خصالاً طيبة ليعزوا إليها فضل الله. وتسمع في الحوار اليومي بين الناس أن كيت وكيت من العمل الصالح نفع فلانًا. والواقع أنه ما قيمة عمل الإنسان.. إذا شاء الله تعالى أن يحاسبه عن أعماله الطيبة في مقابل أعماله السيئة؟ عندئذ لن يكون لدى أحد رصيد من التقوى في صالحه. يتذكر الإنسان أعمال بره، ولكنه ينسى أعماله الشريرة، وينسب إلى نفسه النعم التي نزلت عليه فقط بفضل الله تعالى.. النابع من خالص جوده ومحض كرمه جل ثناؤه. ولكن الذي أوتي معرفة عميقة بالله تعالى لا ينخدع أبدًا في هذه المسألة. ومثالاً لذلك قال الإمام المهدي والمسيح الموعود في بعض شعره ما معناه:

“الكلُّ من فضلِكَ: فلم نأت بشيء من بيوتنا”. ما أبسطه من تعبير، ولكن ما أعظمه وأقواه! ما أعمق الحكمة في هذا السطر الواحد.. كل ما بنا من فضلك أنت سبحانك.. فإننا لم نأت بشيء من بيوتنا!

عند قول الحَمْدُ لله .. إذا لم يكن الإنسان متوجهًا نحو (الكل من فضلك) فلن يكون الحمد كاملاً، ولن تتولد القوة في دعاء إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . أما إذا تحررت تمامًا من حمد نفسك، وعزوت كل أفضال الله لكرمه وجوده، وسبحت بحمده، ثم قلت إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .. عندئذ تسلم القلوب بإخلاص كامل، وتخشع لله تعالى معترفة ومقرة بأنه لا حمد لأنفسنا، ولا حمد لأي مخلوق آخر.. ولذلك لا نعبد الآخرين.. سبحانك أنت تعلم، وأنت تراقب.. لقد قدمنا الحمد الكامل لك بين يديك، فلا يبقى لنا سوى عبادتك. في مثل هذا الحال يصبح (العبد) (عابدًا)، ولا يبقى بعد ذلك إنسانًا عاديًا. إن كل إنسان في جميع أحواله عبد لله، ولكن سورة الفاتحة تحول العبد إلى عابد؛ ويكون له الحق عندئذ في تقديم دعائه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لقد وضعنا كل شيء بين يديك وفي عهدتك، ولم يبق في أيدينا شيء، لذلك نلتمس العون منك وحدك؛ ولولا عونك ما كنا ولن نكون قادرين على اكتساب شيء.

وكلمة “نستعين” تتضمن كل شيء. كل الدعاء يدخل في وعاء “نستعين” وتدخل الرغبة في الحمد تلقائيًا في هذا الوعاء. فمثلاً إذا مر إنسان بكل هذه المراحل، وحرص في كل مرحلة على تطهير نفسه تمامًا من الوثنية، وأدرك موقفه أمام الله Y، فإنه عندما يقول: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ فكل دعاء مما نطقه وما لم يتلفظ به، يلقى القبول من الله تعالى. ثم إذا قال

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

دخلت دعواته في موضوعات جديدة.. موضوعات البركات الإلهية التي لا حصر ولا انقطاع لها. وبهذا الصدد تذكروا أن الله تعالى قد وضع بكلمة أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .. التاريخ كله أمامنا. ولما كنت قد تحدثت إليكم عن هذا الموضوع، لذلك سوف أمر به مرورًا خفيفًا. لكلمة (أنعمت) أربعة مستويات أو درجات؛ وتذكر سورة الفاتحة في أولها أربع صفات إلهية.. مَن قويت وكملت صلته بها يصل إلى أعلى مراتب (أنعمت)؛ ومن تضعف صلته بها فسينزل بدرجة منخفضة في جماعة أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .. وهم الذين تفضل الله عليهم بنعمه وبركاته. ومن الخطأ القول بأن درجة منها قد انتهت تماما، فكل درجة مستمرة، ولكن الطريقة التي قدمت بها الصفات الإلهية في سورة الفاتحة تتصل اتصالا وثيقا بالنبي الأكرم ؛ فعبادته الكاملة، وتواضعه، وتجرده الكامل من كل حمد لنفسه، وتوثق صلته بصفات الربوبية والرحمانية والرحيمية والمالكية.. رَفَعَ مستويات هذه الصلات إلى آفاق عالية، ومن ثم جعلها الله تعالى إجبارية بالنسبة للمستقبل. فقال:

وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم (النساء:7)،

فمنذ اليوم لن تكفي العلاقة العادية بصفات الربوبية والرحمانية والرحيمية والمالكية، بل الذي يتبع الله والرسول.. ويقيم علاقة مع الله بمثل الكيفيات التي أقام بها الرسول صلته بالله، لهذا المتبع المطيع تتفتح أبواب الفضل جميعها. ولما كان هذا الموضع قد أصبح أكثر صعوبة وأسمى درجة.. لأن (الأسوة الحسنة) الذي طبقه في سيرته وبينه لنا.. قد وصل به إلى أعلى درجات الكمال، لذلك أصبح الوصول إلى تلك الدرجة مستحيلا؛ لكن المستوى العادي لهذه الطاعة يساوي أعلى المستويات التي وصل إليها الأقدمون. لقد شرح المصطفى هذا الموضوع ووضحه في قوله “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل”.

فالعلماء ليسوا أنبياء، وهم ليسوا كذلك لسمو مكانة أمتي؛ ولكن فيما يتعلق بالأمم السابقة فستجدون في أمتي كثيرا من العلماء والأولياء والأتقياء يضارعون الأنبياء في السابقين.

هذا هو الموضوع الذي، بالنظر إليه، فتحت كلمة أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بابا واسعا، ودعتنا إلى خطوة تقدمية على صراط لا ينتهي؛ ووضعت أمامنا تاريخ الأنبياء السابقين جميعا في صورة شاملة.. كما لو أن رايات كثيرة قد انتصبت على طول الطريق.. وهناك في النهاية راية المحط المحمدي.. لا تنفك تقدم لنا دعوة مفتوحة.. أنكم إذا رغبتم في المجيء فتعالوا إلى هذا المدى البعيد.. ولا تحاولوا التوقف في الطريق. يجب ألا يتغلب عليكم تعب الطريق. وعند أي مرحلة في هذه المرحلة يسلم الإنسان روحه إلى بارئها.. تكون بالنسبة له، هي مستوى الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والأسعد حظا هو من تمكن من الوصول إلى قدم المصطفى .

بعد ذلك موضوع غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ، أولئك الذين جلبوا على أنفسهم غضب الله تعالى، والذين ذهبوا في الضلالة يعمهون. وجدير بالذكر هنا أيضا.. مع قولنا في تفسير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بأنهم اليهود والنصارى، ولكنه من عظيم قدرة الله وكمال بلاغة القرآن أنه لم يرد هنا ذكر أمة باسمها، ولا أي دين بمسماه. الموضوع المذكور هو أن كل من يقطع صلته ببعضها بحيث ينبغي أن يُقطع من رحمة الله تعالى.. فسوف يربَط هذا بطائفة (المغضوب عليهم)، والذي يبقى صلته بها ولكن بطريقة معوجة، فسيعد من فئة (الضالين).

ولو تفكرتم في هذا الموضوع لانفتحت أمامكم دراسة واسعة في التاريخ. تلك الأمم التي صارت من (المغضوب عليهم) ذكر القرآن نفسه لماذا صارت تلك الأمم هكذا؛ كيف وأين قطعوا صلتهم بالصفات الإلهية الأساسية، وفعلوا ذلك مرارا وتكرارا، وفي نهاية المطاف.. بعد عفو متكرر وصبر طويل.. وُصموا بأنهم (المغضوب عليهم). وبهذه الدراسة، تستطيعون معرفة الأشياء التي يجب عليكم تجنبها، وتتعلمون ضرورة ألا تستسلموا لليأس بسبب الهنات الصغيرة.. بل يجب أن تبذلوا قصارى جهدكم. إذا تعثرتم مرة، ومع أن التعثر نقطة خطيرة، فلن تطرَدوا بالمرة. لقد وصم الله أمة بأنه من المغضوب عليهم بعد فترة امتدت إلى ألف عام.. نتيجة لأخطائهم المتكررة، وإصرارهم على الخطأ. والصورة التي تتضح من هذا هي أن الأمل باق في الحياة حتى النَفَس الأخير، ولكن إن مات الإنسان في حال ارتكاب الأخطاء فسيموت في حال المغضوب عليهم. هناك رسالة رجاء من ناحية، ورسالة تحذير من ناحية أخرى.

والجدير بالذكر أن نعلم لماذا لم يرد اسم اليهود في سورة الفاتحة؟ السبب في ذلك أنهم بالرغم من كونهم أمة مغضوبا عليها.. إلا أنه لا يزال من بينهم أناس صلحاء، ولا يزال من بينهم موحِّدون لله، ومنهم من يحب الله تعالى حتى يومنا هذا، ولو أنهم تلقوا رسالة الإسلام الصحيح، أو تعرفوا على كمالات نبي الإسلام الأكرم ، لاعتنقوا الإسلام وانضموا إلى أتباع سيدنا محمد ، ولكنهم بمعزل عن بيئتهم يعبدون الله تعالى، ويؤمنون به إيمانا راسخا، ويبذلون التضحيات في سبيله. لذلك ترون سورة الفاتحة قد وفت بمسئولية الإنصاف. وفي الوقت الذي فتحت أمامنا تاريخ المغضوب عليهم.. حذرتنا من أن نعد أمة ما من المغضوب عليهم.. بمعنى أنهم محرومون تماما من يولد فيهم رجل صالح تقي. فذلك مفهوم خاطئ. أطلق القرآن عليهم اسم المغضوب عليهم، ولكنه لم يذكر أحدا باسمه. وكلما أعلن القرآن الكريم بأن اليهود مغضوب عليهم، ذاكرا اسمهم.. فإنه دائما يذكر استثناءات، ويحذرنا مرة بعد مرة: مع أن اليهود قد وصموا بأنهم مغضوب عليهم.. ولكن يجب عليكم ألا ترفضوا هذه الأمة بكليتها، ولا تعلنوا أنهم في مجموعتهم يستحقون جهنم. وبالمثل، مع إعلانه أن النصارى ضالون.. ينبغي ألا ينبَذوا كأمة ضالة، أو يقال إنهم جميعا من أصحاب النار، معاذ الله، أو أنهم غير صالحين وبعيدون تماما من الله تعالى. لقد تكرر في القرآن الكريم التصريح بأن من بينهم أناسا طيبين صالحين مخلصين في إيمانهم، ويؤكد القرآن أنهم مازالوا يطبقون تعاليمهم بحسب فهمهم.. فلا خوف عليهم، ولهم أجرهم عند ربهم ولا شك.

وإذا كانت سورة الفاتحة تذكر قوما دون تسميتهم باسمهم.. فإنها بذلك توجه انتباهنا إلى هذه الحقيقة، كما أنها تحمل في طياتها رسالة رجاء.. إذ كانت تلك الأمم التي ظلت لألف عام أو ألفين أو حتى أربعة آلاف من السنين.. غيرَ شاكرة لأنعم الله تعالى مرارا وتكرارا، ونبذوا تعاليمه وراء ظهورهم، ولم يتوقفوا عن اضطهاد رجال لله من بينهم.. لا يزال هناك مجال للتقوى. فمن الظلم البين.. أن يقال عن الدين الذي جاء به سيدنا محمد ، وهو الدين الكامل الأخير.. بأن المنتمين إليه يستحقون الجحيم، وأنهم جميعا صاروا من الكافرين غير المؤمنين. وفي هذا درس.. للجماعة الإسلامية الأحمدية بصفة خاصة. إذا كان سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود قد استخدم كلمات شديدة عن أولئك الذين تجاوزوا في طغيانهم ضده كل الحدود، وتمادوا في شدة عدائهم، وتصرفوا بطريقة شريرة قاسية تجاهه.. فإن ذلك الأسلوب ينصب فقط على تلك القلة من الناس الذين تعدوا كل الحدود في الظلم والطغيان والمقاصد الشريرة؛ ولا صلة لهذه الكلمات الشديدة بالجماهير المسلمة. ولقد بيَّن حضرة الإمام المهدي هذا الموضوع في أماكن أخرى كقوله:

“أما فيما يتعلق بالمسلمين عامة.. فحبي لهم لا حد له، وفيهم أناس صلحاء، وقوم أتقياء. وطبقا لما أخبرني به الله.. ففيهم أناس من أهل الدرجات العلا، ومن بين هؤلاء صلحاء العرب وأبدال الشام”

لذلك ينبغي على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تتعلم هذا التواضع من سورة الفاتحة. تذكروا دائما أنه لا ضمان لنجاة كل فرد منا.. فهناك استثناءات من كل أمة، فيخرج من بين الصالحين من هو فاسد، ويولد في الطالحين أهل صلاح. لذلك لم يذكر عن أمة قط أنها جماعة (الذين أنعمت عليهم) أو أنها من طائفة (الضالين).. هكذا تُرك الموضوع. الأساس الواحد، والمحك لاتخاذ القرار واحد: كل شخص، وكل أمة تقيم علاقة عميقة مع الصفات الإلهية الأربع الواردة في سورة الفاتحة ويطهرون أنفسهم من جميع المفاسد.. يدخلون في عداد (الذين أنعمت عليهم).. إذا صحبهم فضل الله تعالى. وينبغي على هؤلاء أن يكونوا مخلصين حقا في صلتهم بالله. ولكن ستكون دائما هناك استثناءات بينهم. ومن ثم ينبغي علينا المراقبة الدائمة لأنفسنا، ومراقبة إخواننا وأخواتنا وأبنائنا صغارا وكبارا كجماعة. وعند دعائكم ينبغي عليكم محاولة إصلاح أنفسكم، واضعين بين أعينكم هذه الأمور وأنتم تتلون سورة الفاتحة، وتحاولون تنمية الفهم فيكم، وتحافظون عليه يقظا. وفي نفس الوقت يجب عليكم الدعاء لإخوانكم وللضعفاء والمهملين كي يخلق الله في كل منهم إنسانا ذكيا. لقد ذكر القرآن الكريم موضوع الخلق الجديد.. وميلاد خلق جديد يتم من داخل الإنسان.. وتكون بدايته كخلق إنسان ذكي من إنسان مهمل، يفتح عينيه ببطء، ويبدأ في الحركة، ثم يشرع في رؤية موقفه الداخلي، ويلقي عنه ظلماته.. وعندما يمسح عينيه يرى ضوء أكثر، بالتدريج يعمل إدراكه لنفسه على تغييره إلى معرفة عميقة بالله، ويتجلى خلق جديد من داخل هذا الإنسان.

ففي رمضان هذا.. ينبغي عليكم الدعاء لأنفسكم خاصة، وللجنس البشري عامة.. أن هؤلاء الذين يبالغون في دعاواهم يمنحهم الله بعض العقل على الأقل.

في خطبي القريبة حول موضوع الخليج أشرت بمشاعر تتألم إلى مخاطر تقترب منها أن السلام قد اختفى من الشرق الأوسط بلا رجعة. لقد تحققت مخاوفي التي أعربت عنها قبل أن يجف مدادها، ووقعت تماما كما تخوفت. ما أن توقفت الحرب حتى بدأت إسرائيل تلوم سوريا وتقول: لم نعد نواجه الخطر من جانب العراق،  وإنما نواجهه من جهة سوريا، ويرددون اليوم عن سوريا ما كانوا يقولونه من قبل عن العراق.

ثم تبدو الأخطار الأخرى التي ذكرتها وكأني، معاذ الله، صُغتها من وراء المجهول؛ الواقع أن كل إنسان يدرس الموقف ويصل إلى استنتاجاته. وبالمثل بقدر ما فهمت مزاج هذه الأمم، وما قمت به من تقديرات تقريبية.. كان حسباني أن العراق سوف ينشطر، من الممكن أنهم توصلوا إلى اتفاقيات خاصة بأن يستولي هؤلاء على شطر ويحتل هؤلاء شطرا آخر. وأيا كان التمرد الذي يحدث في العراق فيقال إنه لا علاقة بينه وبين الأمم الأخرى، ولكن العارفين بتاريخ هذا القرن يدركون تماما أن كل انقلاب وتمرد وقع في العالم كانت تلك الأمم متورطة فيه. في الزمن الحاضر لا يملك الجمهور العادي قدرة على قتال الجيوش المنظمة ما داموا لا يتلقون تشجيعا وعونا خارجيا.. ولا يستطيعون أبدا القيام بثورة منظمة في أي بلد. تعرفون ما وقع في أفغانستان.. فلو سحبت أمريكا مساندتها للمجاهدين ما أمكن أبدا أن يحدث هناك ما حدث. وفي فيتنام إذا تراجع الاتحاد السوفيتي في معاونة فيتنام الشمالية لا ستحال أن يقاسي الأمريكان ما نالهم من هزيمة نكراء في نهاية المطاف. لقد استمروا في حرب أكثر من ثمان سنوات، وما كانوا ليصمدوا أكثر من شهور قليلة لولا مساعدة السوفييت.

فأخطار التدخل الخارجي وقعت من قبل، وهي موجودة اليوم؛ والفرق أنها كانت في الماضي تواجه من ناحيتين، أما اليوم فهي من ناحية واحدة. فادعوا في رمضان خاصة.. لأن هناك قوة واحدة غالبة على العالم.. هي قوة أمريكا وحلفاؤها، وهي قوة عظيمة لم يكن لها مثيل على الأرض من قبل. سيطرت على العالم وركعت أمامه كل القوى المنافسة. ندعو الله تعالى ألا يدع الفرصة لتلك القوة كي تقهر الشعوب.

هناك حاجة ملحة لهذا الدعاء. ينبغي أن تدعوا الله تعالى كي يمنح أمريكا الإدراك والعقل فلا تسعى لتكون إلها، بل لتكون ممثلا لله جل وعلا. إذا أرادت أمريكا حقا أن تنتفع من قوتها وتوطد السلام في العالم.. فهناك حل واحد لا غير.. ذلك أن توطن نفسها على العدل، فبدون العدل لا يمكن أن يستقر السلام في العالم، ومن وطن نفسه على العدل يكن ممثلا لله تعالى، ولكنه لا يكون إلها. ومن الأسرار الحكيمة أن الوثنية تولد حيث ينعدم العدل. رجال الله العادلون لا يمكن أبدا أن يكونوا وثنيين؛ ورجال الله المنصفون لا يمكن أن يدعوا بالألوهية.

لذا ينبغي عليكم أن تدعوا لأمريكا التي أوتيت فرصة لم تعط لأمة من قبل في هذا العالم.. ادعوا الله كي لا يدع أمريكا تدعى لنفسها بالألوهية، وتستخدم قوتها وسلطانها في إرغام العالم على الاعتراف بسيادتها. إذا فعلت أمريكا هذا فإن الله تعالى، كما ذكرت، يمهل تلك الأمم، ولكنه لا يمنحهم وقتا طويلا قبل أن ينزل بهم القدر الإلهي العقابَ. وعلى عكس ما سبق سوف تواجه دول العالم الثالث أياما مريعة؛ فهم غير مسلحين؛ وطار السقف من فوق رؤوسهم، ولم يعد لهم سند في العالم.. لذلك يجب أن تدعوا لهم كي يتمكنوا من إقامة علاقة مع رب السماء.. الذي يحمي سقفه الكونَ كله، وتكون ثمرة ذلك أن يقيهم الله من المحن. وهذا أيضا لا يكون ممكنا ما لم يوطنوا أنفسهم على العدل، فمن لا عدل عنده لا صلة له بالله تعالى.

والظن بأن الطغيان وقف على الأغنياء والأقوياء وحدهم ظن خاطئ وهذا سر يتطلب فهما، وينبغي تثبيته في فكركم. يمكن للفقير والضعيف أن يكونا من الظالمين الطغاة، والفارق إما أنهم لا يستطيعون ممارسة طغيانهم وظلمهم، أو أنهم يمارسونه بدرجة أقل. وكون المرء ظالما أو غير ظالم يعتمد على ميوله الداخلية. وبقدر ما شاهدت فإنهم في معظم دول العالم الثالث يمارسون الظلم، وصدام حسين نفسه الذي دميت وتألمت قلوب المسلمين بسبب ما أصاب بلده من قصف شديد من جانب واحد.. عنده حرية داخل بلاده ليستعمل طغيانه وظلمه لإخماد التمرد والقضاء عليه؛ وهو الآن يستخدم القوة أكثر من المسموح به لمن يتقون الله. هناك قوة سمح بها القرآن الكريم للدفاع ضد قوة، ولا تتعارض مع خشية الله بشرط (ولا تعتدوا)، أي لا تتجاوزوا الحدود في مقابلة القوة. يجب ألا تثأروا بحيث تستخدموا الظلم بأشد ما لقيتم منه، ولا ترتكبوا من المظالم ما يقضي على القيم الإنسانية.

وسواء ارتُكِبت هذه المظالم ضد الأكراد أو ضد الشيعة، وفي أي صورة كانت.. فلكل أمة الحق في سحق التمرد ضدها، ولكن ليس لها الحق في قتل الناس حرقا بالنار كما فعلت أمريكا في فظائعها ضد الجنود العراقيين بقنابل النابالم والغازات والكيماويات. لو كانت هذه الأمور صحيحة كما ذكرت، فلقد علمنا بالفظائع من هذا الجانب، وهناك فظائع أيضا من الجانب الآخر. وكان دعاؤنا الذي أوصيتكم به: أن يا الله! ليكن نصرك للحق حيثما كان وفي أي حساب يذهب. وكان الحق منبوذا في هجوم العراق على الكويت، وهو عمل غير شرعي، وكان عليهم الانسحاب من الكويت، فمن ناحية الانسحاب من الكويت أجيبت دعوتنا، وبعد ذلك.. إذا لم يكن الحق في أحد الجانبين، ويرتكب كلاهما الفظائع، فلن يذهب دعاؤنا إلى حساب أي منهما، ولن يُقبل لصالح أحد منهما. فإذا دعوتم فادعوا الله تعالى أن يهب الحق للناس. لقد جاء وقت أفلس فيه الإنسان من الحق. والبلاد الفقيرة إذا كانت لا ترتكب الفظائع ضد جيرانها فهي ترتكبها في حق مواطنيها. كل ذي قوة يقهر الضعفاء، وكأن في أوقات الاضطراب هذه هناك تصريحًا يبيح للقوة أن تفعل ما تشاء من الفظائع والمظالم والقهر.. ولا ينبغي لأحد أن يوقفها!

في مثل هذا الوقت تتأسس العلاقات بين الأمم على الظلم والجور. واليوم قد أعطى الله تعالى أمريكا هذه المكانة.. ولم يعد لها منافس. وإذا كان لها في الماضي بعض ظروف الاضطرار.. فهي اليوم متحررة من أي اضطرار. ولقد منحها الله مكانة، فلا تهاب شيئا في سبيل إقرار السلام العالمي. وقد لا تتاح لها هذه الفرصة مرة أخرى. فإذا خطواتها الأولى في الاتجاه الخاطئ اليوم.. فلن يكون بوسعها تصحيح المسار بعد ذلك. لذلك أذكر الجماعة بصفة خاصة.. أن الله جل وعلا هو القادر على منح هذا الطالع الحسن للأمة الأمريكة، بعد أن انفردت بنيل شرف الحصول على مركز الدولة العظمى في العالم.. فعليها ألا تستخدم قوتها ضد البشرية وضد نفسها؛ ولكن ينبغي عليها أن تحاول توطيد السلام، فيساندها الله عندئذ في زمن حيازتهم للقوة، ويستمتعوا بالسلام قرونا طويلة. بيد أني أشهد هناك علامات أخشى بسببها ألا يكون ذلك ممكنا. وفي هذا الحال ينبغي أن تدعوا لدول العالم  الثالث، وللأمم الضعيفة.. كي يولد الله تعالى في قلوبهم العدل والرحمة، وأن يمكنهم من إعادة بناء قيمهم الأخلاقية من جديد.. لأن الأمة القوية لا يمكن التغلب عليها بالقوة، ولكن الفوز عليهم ممكن قطعا بالأخلاق السامية، هذا سر كشفه لنا القرآن المجيد. فإذا صارت أمة على خلق قوي عظيم، وأصلحت من نفسها، وأقامت التوازن في أمورها، وتجنبت الشهوات العارمة والجشع، وتعلمت كيف تحيا حياة القناعة، ونمت قدرتها على خلق جنة من فقرها.. عندئذ لا تقدر قوة على هزيمة مثل هذه الأمة.

ليس هناك دفاع للإنسان أفضل من القيم الإنسانية العالية، لذلك أقدم هذه النصيحة، ولا أكف عن تقديمها مرارا وتكرارا لبلاد العالم الثالث: يجب أن ترأبوا ما تصدَّع من أحوالكم الداخلية، وتقوّموا ما اعوجّ من أخلاقياتكم وتصلحوا ما فسد من علاقاتكم الداخلية، واتخذوا سبيل التواضع. إن لم تتمكنوا من وقف اعتمادكم على غيركم من الأمم الأجنبية فورًا، فعلى الأقل ضعوا خطة لتتحرروا بأسرع ما يمكن من الاعتماد على البلاد الأجنبية، وتعيشوا معيشة استقلالية، حتى لو عشتم في حالة فقيرة.

إذا تقبل العالم الثالث نصيحتي.. واتجهت الجماعة إلى الله تعالى بالدعاء وتفضل بقبوله، وإن لم تقبل كل البلاد بنصحي وقبله بعضهم واتبعوه تدريجيا.. عندئذ نشعر بالثقة بأن البلاد القوية لو وقعت في خطأ فلن تضر البشرية ضررا بليغا، لأن البلاد الضعيفة سوف تمضي في تجنب الضرر بما أصلحوا من حالهم، ولسوف يجهزون بأنفسهم وسائل الدفاع عن أنفسهم. وإذا لم يحدث ذلك، فسوف ترون الحروب بعيونكم تنشب في أماكن عديدة، ولسوف تتحارب الدول الفقيرة فيما بينها، ويبتاعون السلاح من الدول الغنية، ويمتصون دماء مواطنيهم المساكين، ويسعون لسفك دماء الدول المجاورة الفقيرة.

هذا هو ملخص عن حال العالم اليوم، وهو ملخص بغيض، ولكنكم لو ألقيتم نظرة على السياسة العارية من الأخلاق فلا تستطيعون الخروج بملخص غير ذلك. ومن ثم عليكم بالدعاء إلى الله تعالى.. في شهر رمضان هذا ينبغي أن تدعوا الله تعالى كي يمنح الإنسان العقل والتقوى والعدل، وأن يمكن الجماعة الإسلامية الأحمدية بالرغم من ضعفها لتقوم بأعظم الأدوار التاريخية أهمية في يومنا هذا عن طريق الدعاء. اللهم آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك