محاكمة "مجرم" بأيدي كبار المجرمين
التاريخ: 1991-01-18

محاكمة “مجرم” بأيدي كبار المجرمين

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

منذ انفجار أزمة الخليج كان إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية يعلق عليها في خطبه يوم الجمعة وقد بلغ المجموع 15 خطبة. ولقد نشرنا ما تم ترجمته منها وسوف نستمر في نشرها حتى يتعرف المسلمون على الحلول التي يقدمها حضرته أيده الله لمشاكل أهل الإسلام بل لمشاكل العالم كله على أسس إنسانية وتعاليم إسلامية. وها نقدم إلى حضرات القراء الكرام خطبتين من هذه السلسلة وقد ألقاهما حضرته بيومي 11 و18 يناير 1991 بمسجد الفضل لندن (التقوى).

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

بعد غزوة خيبر وفتح حصنها عاد الرسول الكريم إلى المدينة مردفا زوجته السيدة صفية خلفه على ناقته. وقد حفظت لنا كتب الحديث النبوي شيئا بينه وبينها وقتئذ. قال: يا صفية أعتذر لك من أعماق قلبي عما فعلت بقومك (يقصد غزوه لليهود في خيبر وفتح حصنهم) فاعتذر عن أي شدة أبداها نحو اليهود للسيدة صفية… وهم أهلها وذووها. ولكنه أخبرها في نفس الوقت كيف عامله قومها قبل ذلك.

وكان الغرض من حديثه ألا تسيء الفهم وتحسبه هاجم خيبر بدافع التحيز والظلم. وشرح لها النبي الاعتداءات والفظائع التي ارتكبها اليهود وكيف أطلقوا العنان لطغيانهم منذ البداية. ثم أخبرها عن نفسه خاصة وكيف دأبوا على التهجم عليه وقدحوا في شخصه وشتموه. أراد المصطفى بذلك ألا يتطرق إلى ذهن السيدة صفية وقد صارت زوجته أي شيء من سوء الفهم عن شخصيته .

أقول ذلك بمناسبة موضوع العراق والكويت وهو موضوع يدور حوله الجدل. وقد تناولته في خطب سابقة وذكرت ما تفعله أمم الغرب ببلاد المسلمين.

وهناك أحمديون ينتمون إلى بلاد الغرب هذه خشيت أن يدور بخلد بعضهم فكرة خاطئة عن التفرقة العنصرية لأننا جعلنا الغرب هدفا لانتقادنا وربما ظن أحد أن هناك تعصبا عنصريا مكبوتا عند الأحمديين. فأود بادي ذي بدء أن يكون واضحا للجميع أن رسالة سيدنا ومولانا محمد المصطفى التي بلّغها بلسانه وأكد على صدقها بفعاله هي.. أنه لا علاقة بين الدين وبين التفرقة العنصرية. لا يسمح لنا الدين أن نعارض أحدا بدافع التعصب أو نتعارك مع أحد بأي شكل من هذا المنطلق. والجماعة الإسلامية الأحمدية تتبع تعاليم محمد المصطفى وبالأحرى أنها الجماعة التي قامت لإحياء ما نُسي من السنة النبوية. لقد قامت بعزم وتصميم لإحياء تلك السنة الشريفة بفعالها بعد أن نسي المسلمون جوانبها الطيبة على وجه العموم. فمن هذه الناحية يجب ألا تبقى أية فكرة في ذهن أحد من هذا العالم أن الجماعة الإسلامية الأحمدية لا تحمل في فكرها أو سلوكها أي نوع من التعصب والتفرقة بين شرق وغرب أو تمييز بين سود وبيض نعوذ بالله من ذلك. فالتمييز العنصري لا يتعايش مع الإسلام ولا يتفقان أبدا. فكل انتقاد صدر منا أو سوف يصدر منا… إنما يقوم على ضوء المبادئ الأخلاقية السامية للإسلام. ومن هذا المنطلق… كل من يستحق الانتقاد سوف ينتقد ليس لتجريح أحد.. وإنما لنضع الحقائق أمام الناس ولتوضيح الأمور.

كلما قلت تعليقا فإني أفتش في قلبي ولا أنتقد أبدا بناء على أي نوع من التحامل وإنما أطهّر قلبي أمام الله تعالى وأحاول توضيح الحقائق والوقائع. قد تكون الحقيقة في صورة ما ذات طعم مرير لبعض الناس.. ولكن لا حيلة لنا بإزاء ذلك. لا يمكننا أن نؤيد أحدا على طول الخط تعصبا له.. لأننا ننحاز دائما نحو الحق ونساند دائما كلمة الله تعالى ونقف دائما مع سنة النبي . ألا من أراد أن يكون صديقنا إلى الأبد فلا مناص له من أن يكون مواليا لكلام الله تعالى ومواليا لسنة محمد المصطفى وأن يكون منحازا إلى الأمانة والصدق وفي هذا الحال يجدنا مؤيدين مناصرين له.

بعد هذا التوضيح الموجز أود أن أعرض نفس الموضوع أمامكم مرة أخرى.. ذلك الموضوع الذي تناولته في عدد من خطبي وأعني به الموقف العالمي الذي نشأ بسبب الصراع بين العراق والكويت. لم تبق سوى أيام قلائل تتسارع فيها الجهود المبذولة من أجل السلام. وفي النهاية نجدهم يتجهون نحو الاقتراح الذي قدمته لهم منذ البداية على ضوء التعليم القرآني. لقد ذكرت الأمم المتصارعة أن يبقوا الموضوع على أنه مسألة إسلامية ينبغي حلها بين الطرفين على يد العالم الإسلامي وينبغي على العالم العربي أن يسوي الموضوع ولكن ليس صوابا أن يجعلوا منه مشكلة عربية.

ولسوء الحظ فإن الجهود التي شرعوا فيها بهذا الصدد جاءت متأخرة. ويتجه انتباه القوى الكبرى نحو كونها مشكلة عربية بدلا من عالمية. أما عن كونها مشكلة إسلامية فقد انعقد منذ أيام قلائل في باكستان مؤتمر وزراء الخارجية حيث أثير الموضوع وبذلت محاولات من جانب باكستان تهدف إلى تكاتف دول العالم الإسلامي كي يجدوا حلا لهذه المعضلة. ولكنهم اتخذوا هذه الخطوة في توقيت متأخر بحيث لا تجد لها أثرا يذكر.

والموقف الحالي يتلخص في أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مقدمة الدول التي عقدت العزم القوي على تحطيم العراق. وبتوجيههم وقيادتهم تدق طبول الحرب ولا ينفكون يرددون أن تدمير العراق لازم لإنقاذ العالم. فهم ينفخون في آذان العالم أنه إذا ترك العراق على قوته الراهنة وأتيحت له فرصة أخرى فلسوف ينهار سلام العالم بل إن وجود العالم نفسه يتعرض للخطر الشديد! هذا هو ما يروجون له بكل قوة في اللقاءات التلفزيونية وما ينشر في الصحف ردا على تساؤلات الناس. يرددون دائما أمرا واحدا.. يقولون: انظروا الشناعات التي ارتكبها العراق ضد الكويت كيف يمكن للعالم تجاهل هذه الفظائع التي ارتكبها الطغاة من قتل وسرقة وإحراق.. أي حق لهم في البقاء أحياء إذا لم تتحد كل دول العالم اليوم لمعاقبتهم فسوف ينفتح سبيل الظلم ولن يستطيع أحد وقف أحد عن المضي في طريق الظلم. هذا هو موقفهم بإيجاز.

أما موقف العراق في مقابل هذا فيقول: إنكم تتحدثون عن المبادئ السامية وتتشدقون بذكر الأخلاقيات الرفيعة ولكنكم تتناسون ما في بلاد العرب في الشرق الأوسط من اضطراب. أنتم المسؤولون حقا عن كل قلق فيه وعدم استقرار يهدد السلام. وكلما تسنح فرصة لحل المشاكل المتعلقة بالشرق الأوسط تضعون أمامها العراقيل. والآن بعد احتلالنا للكويت تقولون: إنه عمل غير شرعي؟ (والعراق لا تراه كذلك). إسرائيل احتلت الضفة الغربية لنهر الأردن في الماضي القريب. وتتحدثون  عن الأمم المتحدة في حين أن هذه الأمم المتحدة أصدرت قرارات عديدة وحاولت إلزام إسرائيل بالانسحاب من الضفة الغربية وفي كل مرة تضع أمريكا بصفة خاصة.. كافة العراقيل في طريق ذلك وتعترض بحق (الفيتو) على كل الحلول!

يقول العراق لأمريكا وبريطانيا: كفوا عن حديث الأخلاقيات والمبادئ العالية! لو أنكم حقا تقدرون هذه المبادئ فعليكم وزن المشاكل معا بنفس المعايير وتحاولوا حلها بنفس الطريقة والمشاكل القائمة تتشابه إلى حد ما مع مشكلة الكويت مع العراق. لو تفعلون ذلك فنحن على استعداد للامتثال وتنفيذ القرار العادل في ظل نفس المبادئ.

هذا جانب واحد لموقفهم أي الغرب والجانب الثاني يقول: “إذا سمحنا لبلد أن يحتل بلدا آخر لأن الأول أقوى من الثاني لاضطرب سلام العالم إلى الأبد”. ومعنى ذلك أنهم يقدمون جانب الظلم منفصلا عن جانب الاحتلال كما لو كانا شيئين منفصلين.

والشيء العجيب أن الأمم التي تتحدث هكذا.. يقف تاريخهم شاهدا قويا ضدهم بأمور لا توجد في تاريخ الأمم الأخرى! الإدارة الأمريكية الحالية متصلة الأسباب بأوروبا. وذهب هؤلاء الناس إلى أمريكا في بداية القرن السابع عشر بعد اكتشافها لأول مرة ثم احتلوا شمالها وجنوبها وأطلقوا هناك العنان لفظائع وأهلكوا الأجناس التي هناك بكيفية يندر أن نجد لها مثالا في التاريخ. لقد أبادوا الهنود الحمر طبقا لخطة منظمة فلم يبق من أثرهم إلا القليل. هذه الأمم التي تحب الحيوان وتقرأون في صحافتهم وتشاهدون في إعلامهم برامج تصرخ لما تتعرض له أجناس الحيوان من فناء.. هؤلاء أفنوا كثيرا من قبائل الهنود الحمر التي كانت تملأ براري القارة الأمريكية قضوا عليهم بلا رحمة. فلم يعد لهم ذكر إلا في التاريخ ولا تراهم إلا على شاشة السينما. وكان أسلوبهم في ارتكاب الفظائع قصة لا تحتمل.

وبعد ذلك فإن الأوربيين في هجماتهم واحتلالهم لأفريقيا فعلوا كل الشناعات وأسروا السكان وباعوهم رقيقا بأعداد كبيرة وأجبروهم على الأعمال الشاقة. حيث كان الطلب عليهم كثيرا في أمريكا. واليوم يذكرنا عدد السكان الأفارقة في أمريكا بهذا التاريخ الحالك الذي اقتُرفت فيه تلك المعاملات الفظيعة في حق الإنسان.. بما يقشعر له البدن. لقد زرت بعض الحصون التي كانوا يضعون فيها هؤلاء العبيد حيث كانوا يحشرون أعدادا كبيرة في أماكن ضيقة تشبه تلك الثقوب الضيقة المظلمة التي قرأنا عنها في الهند حيث هلك الكثيرون اختناقا. وكانوا يضعون من يبقى حيا منهم في القوارب كالأنعام. قال مؤرخوهم إن كثيرا منهم هلك من مصاعب السفر ومن وصل منهم إلى شاطئ أمريكا وصل في حال يثير الشفقة. كانوا يسوقونهم سوق الماشية ويدفعونهم إلى العمل بضرب السياط. كانوا يدفعون العربات ويجرون المحاريث ويؤدون أعمال الدواب.

فالأمة التي هذا تاريخها.. تأتي اليوم لتعلن باسم الإنسانية والقيم الأخلاقية أنها مضطرة لتحرير الكويت ومساعدة هؤلاء الضعفاء! يقولون: إننا ملتزمون برفع الراية ضد الفظائع التي ارتكبت.. لأن قيمنا الأخلاقية العالية تقتضي منا ذلك وإذا لم نقم لها هلكت الإنسانية في العالم إذا لم نفعل ذلك ضاع الأمان من البلاد الصغيرة ولن يطمئنوا على حياتهم!

إذا كان هذا صحيحا مع أنهم فكروا فيه متأخرين جدا يمكن للمرء أن يوافق على قولهم ويقول: بناء على هذا الفكر الصالح التقي.. ينبغي أن تنسحبوا من أمريكا وتعيدوا لمن بقي من الهنود الحمر أملاك أسلافهم! ولو قال أحد ذلك لرموه بالجنون وقالوا: (ما هذا الهراء الذي تقول؟ ليس هناك علاقة بين الأمرين. هذا شيء وذلك شيء مختلف تماما). إذ رفضوا اليوم أمرين متماثلين وصاحوا بأنهما مختلفان تماما.. فما التفسير الممكن لذلك؟

إن بريطانيا التي تبدي حماسا شديدا مع أمريكا ضد العراق وتسوق أسبابا عديدة لذلك مرارا وتكرارا.. عندما احتلت أستراليا كتبت تاريخا في الفظائع ينكمش أمامه جرائم الأمريكان. هناك فرق ملحوظ بين سكان أستراليا الأصليين وبين الهنود الحمر من سكان أمريكا.. فهؤلاء كانوا قبائل مقاتلة أشداء يعرفون كيف يقاتلون ويدافعون عن حماهم ويضحون في سبيل ذلك تضحيات عظيمة أما القبائل البدائية الأسترالية فكانوا مسالمين لا يعرفون القتال. كان البريطانيون يصطادونهم من الغابات كالغزلان ومن نجوا من الصيد أخصوهم حتى لا يتكاثروا. لقد أبادوهم بأشد الطرق فظاعة. كان عدد اللغات في أستراليا يبلغ (600) ستمائة لغة لم يبق منها سوى عدد قليل. وهناك مساحات صغيرة تقطنها قبائل قليلة يحفظونهم كما تحفظ الحيوانات في حدائق الحيوان.. كي يشاهدهم الناس ويتفرجوا عليهم.. ويتعرفوا على من خطفوا منهم بلادهم! ويخبرون العالم أننا نحفظهم الآن من الانقراض!! هذا هو تاريخ بريطانيا.

وإلى جانب هذا.. فإن ما حدث في الهند وحدث في أفريقيا ليس هناك وقت للاستفاضة في الحديث عنه ولكن ما أود أن أقول بأنهم عندما يتحدثون عن المبادئ والأخلاق.. ينبغي عليهم أن يستقلوا عن الزمن لأن المبادئ والأخلاقيات غير مرتبطة بالزمن فيجب ألا يتغيروا مع تغيره. اليوم يتحدثون عن العقوبات ولكن ضد جنوب أفريقيا ورغم مضي سنوات لم يظهر لهذه العقوبات أثر يذكر ولكنهم لم يرفعوا الصوت بأن المقاطعة استغرقت وقتا طويلا وأنها لم تفعل فعلها ولم تؤت ثمارها فلم ينادوا بضرورة توحيد العالم كله لمهاجمة جنوب أفريقيا. بل لم تساند البلاد الغربية ولا حتى بريطانيا هذه العقوبة في مناسبات عديدة. ولقد رفع الجمهور البريطاني أيضا صوته احتجاجا على حكومتهم ولكنهم لم يبالوا ولم يتخذوا أي خطوة ضدهم. ليس هذا من التاريخ القديم بل هو من أحداث العصر الراهن.. ومع ذلك لم يرفع أحد صوتا بأن البلد الذي لا يراعي تطبيق العقوبة لابد من استخدام القوة العسكرية ضده وإجباره على مراعاة المقاطعة. كما لم يناد أحد بأنه مادامت المقاطعة قد طال زمنها ولم تؤت ثمارها فلا بد من التصرف حيال ذلك! أما مع العراق.. فلا يكف البلدان عن رفع الصوت بكل حماس.. أن لابد من تطبيق المقاطعة ضده بكل صرامة فلا يدخل طعام أو دواء ولا يخرج شيء. ولقد طبقوها فعلا بكل شدة حتى سدوا الطرق جميعا على العراق من كل جانب بل وحاصروا الأردن أيضا لاستكمال الحصار على العراق. وعلى مقربة من ذلك.. تحتل إسرائيل الضفة الغربية من الأردن ولم يطبقوا ضدها عقوبة ما ولم يرفعوا صوتا في وجهها لما ارتكبته من فظائع ضد الفلسطينيين. ولو كان السبب نفسه الذي برروا به موقفهم ضد العراق مطبقا هناك.. لانفض هذا النزاع من زمن طويل!!

لو تفكرتم في التاريخ الحديث لأمريكا واطلعتم على ما كتبه الأمريكان أنفسهم وعلى الإحصائيات في كتب أخرى.. تبين لكم أن المخابرات الأمريكية C.I.A حسب متطلباتها تدخلت في كل البلاد ولم يتورعوا عن الإرهاب ولم يتحاشوا المظالم واعتبروا ذلك حقا لهم ليفعلوا ما يشاءون! نشر حديثا كتاب اسمه (الحروب السرية للرئيس) يخبرنا أنه سمح لهم تحت اسم العمليات السرية كل أنواع المظالم والطغيان وأن يفعلوا ما يشاءون من اغتيال وتسميم الطعام وقتل المواطنين بلا تردد وأي شيء.. بشرط أن يتم ذلك في خفاء ويبقى إمكان الإنكار متاحا لهم. وهذا اتجاه جدير يثير الاهتمام.. يعني أنه بالرغم من أن رئيسهم يعطي تصريحا فعليا بعمل كل شيء على أن يتم في خفاء يبقى له فسحة الإنكار إذا انكشف شيء وسئل عنه.. بوسعه أن يتنصل ويدعي بأنه لم يأمر بذلك وأنه تم بدون أمره وسوف يتحرى الموضوع! وهذا هو ما يسمونه (القابلية للإنكار).

فالإرهاب الذي ينسبونه لبلاد إسلامية.. تقوم أمريكا بإرهاب أشد منه ألف مرة ناهيك بإسرائيل وفعلها.. ولايزالون يفعلونه.. بل إن المخابرات الأمريكية نشطة فعالة بهذا الأسلوب. في بعض الأماكن يحدثون انقلابات عسكرية. ولو قرأتم عن نشاطهم الذي مارسوه في فيتنام وكوريا ولاوس وجواتيمالا وإيران لاشتدت بكم الدهشة. لم ينشر هذه الكتب أحد المعارضين وإنما مؤلف أمريكي.. كتب عددا من الكتب الأخرى عن هذا الموضوع وهي كتب موثوق بها.

والآن أخبرونا كيف ذهبت هذه المبادئ!؟ الفارق أن تلك البلاد الإسلامية لسوء الحظ تتبع أسلوب السذاجة.. تلك السذاجة التي تقرب من الحماقة. إنهم لا يعرفون لغة الدبلوماسية. لا يقومون بأعمال خفية وإنما بدلا منها يجاهرون بأنهم سوف ينتقمون كذا وكذا.. سوف نقتل سلمان رشدي وسوف نغتال فلانا وعلانا.. الإسلام لا يسمح لنا بحسن معاملتكم.. سوف نقضي عليكم بكل وسيلة! يملكون القليل.. ويتسولون السلاح من تلكم الدول ويعتمدون عليها اعتمادا كاملا ويعيشون عليها ومع ذلك يصيحون ضدهم بتلك الادعاءات الضخمة ويقذفون بالتهديدات عن اجتثاث شأفتهم واقتلاع جذورهم.. يهددون بانتزاع جذور بنوا عليها كيانهم! وما هذا إلا حماقة.. بل هي أسوأ درجات الظلم إذا يخلطون فعلهم بالإسلام ويخلقون المشاكل في كل أنحاء العالم ليقع فيها الذين يحسبون الإسلام حقا. فهم من ناحيته يجعلون تلك البلاد تواصل ارتكاب الفظائع فوق الشنائع ويفعلون بالعالم ما يشاءون وينفذون حكمهم في كل مكان ويدمرون أي بلد يريدون.. ولكنهم يستخدمون كلمات ومسميات تحت ستارها يسمحون لأنفسهم بكل أنواع الممارسات والأنشطة. أما أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة على القيام بأي شيء فإنهم يستخدمون لغة متطرفة حمقاء فيلحقون بأنفسهم العار ويلطخون أيضا سمعة الإسلام.

فرسالتي إلى العالم الإسلامي: استخدموا عقولكم! الأمم التي تريدون حربهم.. تعلموا منهم على الأقل طرائق حربهم! استخدموا الكلمات التي يستعملونها معكم أو مع غيركم!

على أي حال.. كان هذا من شجون القول. وأعود الآن إلى الجزء الثالث.. ذكرت موقف العراق وموقف بلاد الغرب هناك دول إسلامية أخرى.. اتخذت لها موقفا أيضا أكثرها أيدت موقف السعودية.. الرامي إلى توحيد جهود الدول الإسلامية في التصميم على تدمير العراق. ولا يقف الموضوع عند هذا الحد بل يختطون إلى أبعد من ذلك فيعلنون أن السعودية أرض مقدسة يقع فيها الحرمان الشريفان: مكة والمدينة. فالمسألة اليوم ليست خاصة بالكويت بل إنها تتعلق بحماية هاتين البلدين.. حماية المقدسات التي عاش فيها الأكرم والتي وطأتها قدماه.. وهكذا يخلعون على الموضوع لونا ضخما من القداسة.. يثيرون بها مشاعر المسلمين. فنشر مثلا في باكستان مرارا أنهم سوف يرسلون ألفين أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف من الجنود.. دفاعا عن الأرض المقدسة وسوف نضحي في سبيل المقدسات تضحيات عظيمة!

أرى أننا بحاجة إلى رؤية تاريخ تلك الأرض وماضي أولئك الأقوام الذين يستعملون اسم الأرض المقدسة ويشيرون إلى النبي الأكرم ويحاولون كسب الرأي العام للمسلمين.. وكيف كان سلوكهم.

الحق أن السعوديين الحاليين هم الذين بدأوا باحتلال أرض الحجاز.. بحد السيف. بدأت العمليات العسكرية عام 1801م في زمن عبد العزيز رأس هذه العائلة ولكن ابنه سعود اكتسب شهرة كبيرة في هذه العمليات الحربية وكان ذا خبرة في هذا المجال وكانت هذه الهجمات تحت قيادته. هاجموا العراق أولا واحتلوا كربلاء ودمروا أماكن العبادة المقدسة على أنها من الوثنية وليست بذات حرمة.. وأنها لبنات من الحجارة ينبغي إزالتها. ثم ارتكبوا مذبحة دموية عامة ضد سكان كربلاء.. ومعظمهم من الشيعة. ثم تقدموا إلى البصرة وسلبوا ونهبوا كل المواقع فيما بين كربلاء والبصرة.. كانوا إما يحرقون البلاد أو يذبحون الأهالي. لقد ارتكبت هذه العائلة من الفظائع أشد مما ينسبونه اليوم إلى العراق. وبعد السيطرة على هذه المنطقة اتجهوا نحو الأرض المقدسة وبدأوا باحتلال الطائف في إقليم الحجاز. ثم دخلوا مكة والمدينة في عام 1803 حيث قاموا بمذبحة عامة وهدموا كثيرا من المقابر والمعالم والآثار المقدسة.. منها على سبيل المثال بيت مولد الرسول وبيت أبي بكر وكثير غيرها من الأماكن والقبور أحرقوها وانتهكوا حرمتها وقالوا: لا قيمة لها بل هي من علامات الوثنية وليس هناك سجل محدد لما سفكوه من الدماء ولكن المؤرخين يقولون إنهم قتلوا بلا رحمة عامة الأهالي العزل من السلاح ولا ضرر منهم. وفي عام 1813 تمكن محمد علي باشا من تحرير المنطقة من سيطرة السعوديين.

ولكن في أوائل هذا القرن عاد السعوديون في هجوم مباغت على الحجاز. في هذه المرة ساندتهم السلطات البريطانية. كان الجنرالات البريطانيون يرسمون لهم خطط الهجوم وكان البريطانيون يمدونهم بالسلاح والبنادق والذخائر ونفس البريطانيين أمدوهم بالأموال وعقدوا معهم المحالفات.. وفي عام 1924م احتلت الأسرة السعودية بلاد الحجاز مرة أخرى وانتهكوا حرمة الكثير من الأماكن المقدسة وسفكوا كثيرا من الدماء في مذبحة عامة. لقد دخلوا بمساعدة الإنكليز. وذكرت الأفلام التسجيلية التي أذاعتها المحطة البريطانية B.B.C أن البريطانيين أعانوهم أيضا قبل عام 1942م. وقال مقدم البرنامج أن السعوديين استولوا على المنطقة بمساعدتنا وقوتنا وهم اليوم كما قال المذيع يضطرون للدفاع عنها معتمدين علينا.

فإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الناحية.. بدا الموقف مختلفا تماما. فالحكومة السعودية الحالية التي تحكم الأماكن المقدسة. هي التي احتلتها بقوة الإنجليز أو بقوة العالم الغربي وهم لا يملكون القوة والدفاع عنها ويستدعون تلك الأمم الغربية مرة أخرى لنجدتهم. وليس مدلول “بريطانيا” اليوم كما كان وقتئذ.. كانت وقتها تحكم العالم كله. والآن امتزجت بريطانيا مع الأمريكان، واتحد فكرهم عمليًا بحيث أن ما هو أمريكي فهو بريطاني في نفس الوقت؛ وما هو بريطاني فهو أمريكي. من هذه الناحية سلمت بريطانيا ميراثها التاريخي لأمريكا. وهذا هو السبب في أن قراراتهم واحدة في هذه الفترة. وتختلف أوروبا شيئًا ما، ولا ضرورة للخوض في هذه التفاصيل.

خلاصة كل ذلك.. أن الحديث عن الأرض المقدسة، مكة والمدينة، ومحاولتهم جمع الناس دفاعًا عنها.. ليس سوى مكر وخداع. فلا علاقة بين اشتراك الجيوش من البلاد الإسلامية وبين الدفاع عن الأماكن المقدسة، لا حاجة بها إليه، ولا صلة بها معه، ولا خطر يتهددها. ولو كان هناك خطر لكان من جانب غير المسلمين. ولو كان هناك خطر يتهددها من جانب المسلمين.. فقد سبقت به المقادير ووقع بالفعل من جانب السعوديين.. وما استطاعوا احتلال هذه الأماكن إلا بمعونة من غير المسلمين!

وواقع الأمر إذن أن الدفاع عن هذه الأماكن قد بات موكولاً إلى غير المسلمين. وسواء شاركت الحكومات المسلمة أم لم تفعل، فلا علاقة لذلك بهذا الدفاع.. أعني الدفاع المحتمل.. إذ ليس هناك موضوع دفاع بعد، بل هو مجرد احتمال. لو تفكرتم بصدق.. ليس هناك أي احتمال لهجوم العراق على السعودية. إن العراق لا يملك القوة للدفاع عن نفسه أمام الهجمات المشتركة لتلك القوى العظمى. والناس كلهم يتعجبون رغم عدم التوازن الواضح، كيف يملك صدام حسين الجرأة على الاستمرار في رفض “الجهود المتكررة” للسلام، ويعلمون أنه تحت هذه الضغوط الهائلة سوف ينسحق كما يطحن القمح في الطاحون، ومستحيل عليه أن يواجه تلك القوى العظمى فيدافع عن الكويت أو حتى عن بلده نفسه. هذا هو رأي الخبراء العسكريين في العالم. والكل يتعجب.. ماذا يحدث؟ ماذا يملك صدام حسين حتى يستمر في رفض كل “محاولات السلام”؟

الواقع أن القوة الغربية هي التي سوف تقوم بكل عمل مؤثر في المنطقة، وهي التي تستطيع ذلك. أما طلب البلاد الإسلامية للمشاركة فهو لسبب آخر، لا صلة له بالدفاع عن الأماكن المقدسة. إنهم طلبوا من الحكومات الإسلامية أن تنضم إليهم ليكونوا رمزًا فحسب، وضموا معهم بلادًا أوروبية كذلك لتشترك بصورة رمزية، وضغطوا كثيرًا على اليابان ليشارك معهم، وهكذا حاولوا أن يضموا بلادًا أخرى من الشرق ومن الغرب. وليس السبب وراء ذلك أنهم بحاجة عسكرية إليهم، ولكنهم أرادوا تقديم هذا الصراع أمام العالم بصورة أن الرأي العام العالمي يعارض ذلك الطاغية. وإكرامًا لهذا الرأي العالم العالمي يصبحون فوق الملام، مهما ارتكبوا من أعمال العنف. فلو أنهم اتخذوا ضد العراق أشد الأعمال عدوانية، وشاركت معهم في هذا باكستان ومصر وتركيا وبلاد إسلامية أخرى.. فكيف يمكن أن تتحول هذه الدول المسلمة إليهم بعد ذلك ويقولوا: لقد جئتم شيئًا منكرًا. فالمشاركة تحميهم من الانتقاد، ولذلك رسموا هذا المكر، واختلقوا ضجيجًا شديدًا، وجمعوا الرأي العام بطريقة أجبرت العالم على مشاركتهم.. حتى ولو كانت المشاركة شكلية ويجلسوا جانبًا في هدوء.

وأرسلت بعض البلاد الإسلامية جانبًا من قواتها المسلحة، وأعلنوا صراحة بأنهم لن يشتركوا في الهجوم، وإنما سيمكثون حول مكة والمدينة للدفاع عن الحرمات المقدسة! لقد أعلنت باكستان هذا الإعلان السخيف.. كما لو أن الهجوم العراقي سوف يكتسح القوى العالمية العظمى، ويقضي عليهم، ويتقدم مئات الأميال ليصل إلى مكة والمدينة؟! ما هذا الفكر الطفولي! لقد قيل لهم: تعالوا.. وامكثوا هنا في كنفنا وحمايتنا بسلام.. لا تقلقوا، فكل ما نريده منكم هو اسمكم.. مشاركتكم الصورية.. تعالوا وانضموا إلينا بالاسم.. فهذا يكفينا! هذه هي الخطة الدولية العظيمة.. وكل هذا الضجيج من الوسائل يكفل تقديم المسألة في إطار جذاب من الخداع.

والسؤال الذي يبرز الآن: كيف يمكن لصدام حسين ألا يفهم هذه الحقيقة البسيطة الواضحة ولا يتعرف عليها؟! لماذا يصر قائلاً: لا، لن أنسحب من الكويت تحت هذه الشروط؟ بالإضافة إلى أمور أخرى.. لقد أحس صدام بأن هدفهم ليس مجرد إجلاء العراق عن الكويت. لقد قرروا تجريد العراق من السلاح بكل سبيل، وتركه بلا حول ولا قوة، وأن الانسحاب من الكويت هو الخطوة الأولى. ولذلك لا يقولون: لن نهاجم العراق، ولا يقولون: سوف ننهي المقاطعة الدولية ونوقف الحصار الاقتصادي. لا يقولون: لن نطالبكم بالمزيد كي تبقى مولدات الطاقة النووية دون إغلاق. ومع عدم إعلان ذلك، فهم يعبرون بهدوء في كل مكان: بعد الانسحاب سوف نفعل شيئًا. والعراق يعرف ذلك جيدًا، ويدرك أن المسألة ليست مشكلة الكويت فحسب.. بل إن الهدف الذي من أجله يساندون الكويت لا يتحقق بانسحاب العراق منه، ما دام العراق لم يتجرد عن قوته تمامًا.

فالحاصل أن الرئيس صدام لا يواجه خيارين.. وإنما هو خيار واحد: إذا كان هؤلاء عازمين على تحقيق أهدافهم الخبيثة.. فمن واجبنا أن نموت.. ولكن بحيث نلحق بهم أشد ما يمكن من الضرر.. ونعجزهم إلى الأبد، ونقضي على قوتهم وكبرهم. هذا بحسب ما أرى هو السبب في إصرار صدام حسين على ألا ينسحب من الكويت بشروطهم. من المحتمل خلال مباحثاتهم مع المستر بيريز دي كويلار، السكرتير العام لمنظمة الأمم المتحدة، أن يتضح بعض الأمور، وآمل عندما تبدأ هذه المباحثات أن يخلصوا إلى نتيجة يحصل بها العراق على تأمين وتأكيد بلسان الأمم المتحدة أنه إذا انسحب العراق من الكويت فسوف نعالج المشكلة العربية في ذات الوقت، وسوف نوليها انتباهنا، ولن تكون هناك تجاوزات بعد ذلك من أي نوع، وسوف ترفع المقاطعة الدولية، وسوف يدعون العراق دون تدخل من جانبهم.

لو أنهم وضعوا هذه الشروط أمام العراق في عبارات واضحة.. فإني على ثقة من أن العراق مستعد للدخول في السلام. ولكن ما أخشاه أن هذين الشرطين يتعارضان مع ما تريده دول الغرب.. تلك الدول التي أثارت الضجة الشديدة في أنحاء العالم، ولا يمكن لها أن تقبل تلك الشروط بأي ثمن. لو لم تكن نيتهم تدمير القوة العسكرية للعراق، ولو لم يكن هدفهم حماية إسرائيل.. ما كانوا ليرفعوا الصوت أبدًا بسبب احتلال الكويت، وما كان للكويت عندئذ أي صلة تهمهم. هذان هما الهدفان اللذان لأجلهما أثاروا الضجيج. فكيف يمكن أن يقبلوا هذين الشرطين اللذين يخالفان هدفهم ويخيبان أملهم ويحبطان خطتهم. هذا هو التحيل النهائي للموقف الراهن.

وأود أن أذكر الجماعة الإسلامية الأحمدية مرة أخرى.. أننا، وإن كانت هناك فوارق دينية، لا يمكن أن نتخذ قرارًا مبنيًا على التعصب، ولا نسمح للتعصب أن يدخل قلوبنا.. لأننا نؤمن من قلوبنا وأرواحنا أن من ينطوي على التعصب، أو يقضي بناء على التحيز.. لا يحق له أن يسمي نفسه مسلمًا بالمعنى الصحيح. الإسلام والتعصب خِلفان كالشرق والغرب لا يلتقيان. يقتضي الإسلام الحق أن يصدر كل قرار، والله تعالى من وراء القصد. هذه هي التقوى، وهي أساس كل شيء. كل قيمة إسلامية تقوم على التقوى. وجمال التقوى أنها ليست حكرًا لدين بعينه، وينبغي أن تكون التقوى هي النقطة المركزية لكل دين، وحولها تدور تعاليم كل دين. التقوى أن يكون كل فكرك تابعًا لما يرضي الله تعالى، وكل قرار ينبغي أن ترى قبل صدوره ماذا يريد الله منك. ولذلك أتوقع من الجماعة الإسلامية الأحمدية.. والتقوى نصب أعينهم.. أن يبتهلوا إلى الله من أجل البشرية جمعاء.. كي تكون القرارات نابعة من التقوى، وألا يدع الله قومًا يقاسون تلك الآلام التي تكون عادة في مثل هذه الأحوال.. وإنما يؤثر الله في قلوبهم تأثيرًا عظيمًا.. ويجعلهم يتوبون ويصححون موقفهم، ويوفقهم الله للعودة إلى الحق.

أدعوا للعالم كله.. ليهب الله له سلامًا؛ وما أعنيه ليس السلام الظاهري.. وإنما سلام العقل.. لأني أرى رؤية الحقيقة الثابتة، أن سلام العالم يتوقف على سلام العقل وسلام النفس. إن الذين حرّموا سلام العقل لا يمكن لمجتمعهم البقاء في السلام.. فإما أن يتعرض العالم للأخطار من ناحيتهم، وإما أنهم أنفسهم يتعرضون للأخطار من ناحية العالم. واضطراب الفكر، واضطراب القلب.. يحدثان اضطرابًا داخل الإنسان. فعليكم بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى كي يصلح طريقة تفكيرهم، ويصلح قلوبهم، ويصلح مجتمعهم، ويمنحهم السلام القلبي، والسلام العقلي.. لينعم العالم بالسلام.

وبالنسبة للموقف الراهن.. ادعوا دعاء خاصًا كي يمنح الله تعالى بلاد المسلمين من العقل ما يصدهم عن الانضمام إلى البلاد الغربية في طغيانهم، حتى لا يدمروا قوة إسلامية كبيرة.. بسبب تطلعاتهم الطامعة المتعلقة بمصالحهم الذاتية. ينبغي ألا يضعوا توقيعاتهم على هذا القرار.. فيسجل في تاريخ العالم أن دولة كذا وكذا اتخذت أتعس قرار في تاريخها.. قرارًا يكتب بأشأم مداد.. تترتب عليه تغيرات عالمية هائلة.. ويكتب عنه المؤرخون فيما بعد أنه القرار الذي دمر سلام العالم إلى الأبد؛ وأن الحرب التي خاضوها باسم السلام ولدت حروبًا لاحقة.. لم يبرح سلام العالم مضطربًا بها. هذا ما سوف يكتبون في صفحات التاريخ، ونراهم اليوم يكتبون.. ما لم تفق بلاد المسلمين وتتراجع في الوقت المناسب عن الخطوات الخاطئة وتصحح تفكيرها.

على أي حال.. لو أنهم مضوا في هذا الدرب.. فسواء دمر العراق أم لا، وسيتبين ذلك غدًا، سوف يضطرب سلام المنطقة إلى الأبد، ولن يتمكن العرب من العودة إلى ذلك الحال مطلقًا، ولسوف تنهض إسرائيل كقوة أعظم من ذي قبل، ولن تتمكن قوة عربية بعد ذلك أن تقف في وجه إسرائيل.. لزمن طويل على الأقل.. ونتيجة لكل ذلك، ستحدث أزمة اقتصادية عميقة. ولما كانت بلاد العالم الثالث نفسها تعاني من الركود الاقتصادي.. لذلك سوف يشتد تدهورها الاقتصادي، وتتولد الآثار السلبية التي تشعل حروبًا جديدة، ويستمر سلام العالم في اضطراب يومًا بعد يوم. ومجمل القول إن كل هذه البلايا سوف تواجههم في المستقبل إذا لم تصلح بلاد الإسلام من موقفها.

يردد المفكرون الغربيون عبارة: إن الكرة في ملعب العراق الآن، وفي يد الرئيس صدام أن يضرب الكرة في الاتجاه الذي يريد: إما ناحية الحرب أو ناحية السلام. وهذا القول غير صحيح. لقد قيدتم يد صدام، وجعلتم الموضوع بحيث لا يكون صدام في مفترق الطرق.. وإنما يواجه طريقًا واحدًا، إذا خطا فيه لقي الخراب، وإذا تراجع عنه صادف الدمار. إذا مضى إلى الأمام فهلاك مدمر سريع، ولكنه في نفس الوقت يكبد العدو أذى كثيرًا، وإذا تراجع فليس له إلا الشنق. أنتم لا تضعون صدام عند مفترق الطرق، ولكنكم أزحتم الطريق الثاني من أمامه. لو أنكم فتحتم له سبيل للاتفاق الشريف لأمكن له أن يقرر ويختار أي السبيلين يسلك: الموت الفجائي، أم الهلاك خنقًا وخزيًا! فالكرة ليست حقًا في ملعبه، وإنما هي في ملعب البلاد الإسلامية. إذا فهم المسلمون الموقف الراهن فهمًا صحيحًا، وشاءوا أن يدفعوا عن أنفسهم لوم اليوم.. بل ولوم التاريخ، وربما لهذا السبب وحده، لو أنهم راجعوا قرارهم وأعلنوا على العالم: إذا كان علينا تسوية الأمر مع العراق فلسوف نسويه، ولكن ينبغي على القوى الغربية أن تغادر بلادنا.. إذا أراد الغرب أن يساعدنا فليفعلوا معنا ما كانوا يفعلونه مع العراق في الماضي القريب.. عليهم أن يزودونا بالسلاح، اتركوا الأمر لنا كي نسويه بأنفسنا، إذا أعلن المسلمون ذلك اليوم.. فلن تجد قوى الغرب عذرًا لمهاجمة العراق بقوتهم العسكرية. ولو أصر الغرب بعد ذلك على استخدام العنف فلن يكون الأمر بهذه السهولة، لأن العرب والعالم الإسلامي سوف يتمردون عليهم.

هذا هو الموقف الصحيح. ابتهلوا إلى الله تعالى كي يمنح المسلمين الذكاء، ويلهمهم انتهاج الفكر السليم، ويوفقهم لاتخاذ القرار الشجاع.. فلا تجد الدول الأخرى ذريعة للتدخل في العالم الإسلامي. ولكني للأسف لا أشهد دلائل ذلك بعد، ويشعرني المدى الذي وصلوا إليه أن أساسه الأنانية الشديدة.. ونتيجة لهذه الأنانية لا تلعب روابط العرب، دعك من الأخوة الإسلامية، أي دور في طريق أفكارهم، فلا يفكرون في جيرتهم، حتى ولا يشعرون بالأخطار التي سوف يعاني منها العالم العربي. كل هذه الأمور بعيدة عن مجرى تفكيرهم. لقد سيطرت متطلبات مصالحهم الأنانية على كل فكر آخر.

لو تأملتم فستندهشون.. لماذا يتمسكون بموعد الخامس عشر من يناير؟ لم يحدد الله جل جلاله هذا الموعد.. فلماذا يحدث كل ذلك؟ كنتم في بادئ الأمر تقولون بتوقيع المقاطعة الاقتصادية، وأنها سوف تحدث أثرها في خلال عام.. وسيكون فعلها مؤثرًا حتمًا في العراق، وإن كان من المحتمل ألا يظهر أثرها الكامل في خلال ستة شهور. هكذا كانت أمريكا تتحدث علنًا في هذه الأمور، وكان خبراء الغرب يعطون تقديراتهم على هذا النحو. فما الذي حدث هكذا فجأة.. مع أن المقاطعة بدأت بالفعل تؤتي آثارها وقاسى العراق منها كثيرًا؟ لماذا بدلاً من الانتظار حتى يزداد العراق ضعفًا وضيقًا من المقاطعة.. أراكم تتعجلون الهجوم العسكري؟ ما صلة الموضوع بيوم الخامس عشر من يناير؟

تفكرت في الموضوع، وأحسب أنه متصل بأنانية السعودية وحلفائها. تتحمل السعودية نفقات هذه الحرب.. وهم أشد بخلاً على الرغم من ثرائهم الغزير. لعلهم قدروا، وقالوا لو انتظرنا حتى تنهار مقاومة العراق بفعل المقاطعة فلسوف تنهار أموالنا لأننا ندفع ونتكلف البلايين.. سوف يهلك رصيدنا في البنوك. لذلك أسرعوا وفضلوا مواجهة مخاطر الحرب حتى لا يفلسوا، وضغطوا على أمريكا لتعجل بالحرب. طبعًا، لا يمكن أن تتحدث أمريكا في هذا الأمر علانية وتكشف من يضغطون عليها. فالرئيس بوش يتعرض للفضيحة في بلده، ويسأله الكونجرس عدة مرات: لقد قلت بالأمس أن المقاطعة مؤلمة للعراق بهذا الشكل وذلك الشكل، وسوف يضطر العراق إلى الخضوع في مدى عام.. والآن لم غيرت قراراتك فجأة، ولا تتحدث إلا عن الحرب؟ كيف يمكن للرئيس بوش أن يرد على هذه الأسئلة بأنهم يتصرفون كالمرتزقة الذين يستأجرون للقتال في هذه الحرب.. وأنهم يأتمرون بأمر سيدهم الذي يدفع لهم؟ كيف يقول إن من استأجرهم يطالبهم بالإسراع، ويقول لهم: هيا رفاق.. فلا أستطيع تحمل النفقات أكثر من ذلك؟ هذا هو الموقف الحقيقي.

ولذلك عندما أقول إن الكرة في ملعب البلاد الإسلامية.. فقولي هذا من ناحية المعنى الإجمالي الذي ذكرته لكم، ولكن من ناحية الواقع.. فالسبب الأساسي لقولي هو أن القرار في يد السعودية.. التي يدفعها ارتفاع قائمة تكاليف الحرب إلى الإسراع بتدمير العراق في أقل وقت ممكن.. حتى ينتهي القتال، ويعود الوضع إلى الحال العادي. ولكن هذا من أقصى حماقات تفكيرهم.. أن يتوقعوا عودة إلى الأحوال العادية. بعد الحرب ستكون كل علامات “العادية” قد انمحت تمامًا. إذا دمر العراق فسوف يتدمر معه كل التاريخ الماضي، وسوف يتبدل المزاج العام في البلاد العربية تبدلاً تامًّا. سوف يتغير تفكير الأمم العربية، وينشأ عصر جديد ومناخ جديد. هؤلاء القوم ذوو الأحلام الحمقاء.. يريدون تسوية النزاع بسرعة كي يعودوا إلى الحال الطبيعي! لن يكون بوسعهم الرجوع أبدًا إلى أي حال عادي.. ولكن عجلة التاريخ سوف لا تنفك تدفعهم أمامها.. ليواجهوا أشد المواقف خطورة، ولن يستطيعوا تجنبها. إنهم اليوم يركبون تلك الأمواج التي تجري بهم كسيل الجبال.. ترغي وتزيد وتتلاعب بأضخم السفن.. وعندما تنحدر هذه السيول كالشلالات الهادرة فسوف تحطم أكبر الأشياء وتحيلها أشلاء صغيرة. هذه هي أمواج الزمان.. يمتطونها الآن، ولا يستطيعون الرجوع إلى التقوى، وأن يتخذوا قراراتهم والله تعالى في حسبانهم.. ينبغي أن ينظروا إلى مصالح أمة المسلمين، وأن يوطنوا أنفسهم على التضحية بمصالحهم الأنانية. لو أنهم فعلوا ذلك لأشرق على الإسلام فجر عصر جديد بإذن الله تعالى.. عصر جديد لا يشبه الماضي، وإنما أفضل آلاف المرات من العصور السابقة، ويزداد فضلاً كل يوم.

فأرجو أن الله تعالى سوف يهبهم الفهم، وإذا كان لا نصيب لهم في الفهم بالرجاء.. فأسأل الله تعالى أن يمنحهم فهمًا استثنائيًا. وأذكر الأحمديين بأننا جد ضعفاء، ولكن بوسعنا الدعاء، ونعرف كيف ندعو، ولقد ذقنا ثمرات الدعاء من قبل، ولا نزال نذوقها. عندما تقولون في صلاتكم: (إياك نعبد وإياك نستعين)، وكان الموقف الراهن تحت أنظاركم، اسجدوا لله واذكروا أن حرمة مكة والمدينة ترتبط بالعبادة، وستبقى مرتبطة بها. إنهما بلدتان مقدستان لأن سيدنا إبراهيم وسيدنا المصطفى عبدا الله فيهما. ادعوا أن يا ربنا.. نحن الآن عبادك الخاشعين المتضرعين، علينا إحياء تلك الصلوات في هذا العالم.. ليس على نفس المستوى من الروعة والبهاء.. وإنما بالقدر الذي تمكننا منه، ونحن يا رب نسعى لإحياء هذه العبادة وبنفس الطريقة.. نبتهل إليك يا ربنا أن تتقبل دعاءنا وأن تعيننا. اللهم إنك إن لم تعن أولئك الذين يعبدونك فستختفي عبادتك من الدنيا، وتنمحي السعادة بعبادتك من الأرض. اللهم تقبل دعاءنا (إياك نعبد). إننا يا ربنا لا نتطلع إلى أمة من أمم هذه الدنيا.. وإنما نتطلع إليك وحدك. إننا نسجد لك فأعنَّا.

إذا تقبل الله جل جلاله دعاءنا، وإذا صعد الدعاء من أعماق قلوبنا، وإذا دعا الأحمديون جميعًا بهذا الدعاء في أنحاء الدنيا.. فليس ببعيد أبدًا أن يقبل الله هذا الدعاء. وعندئذ ترون بإذن الله تعالى أن الكرة لن تبقى في يد أحد، وإنما ترتد إلى قدر الله تعالى. وسيكون دعاؤكم بحيث تقع يده على قدر الله، أو تمس أنامله قدم التقدير الإلهي.. وعندئذ لن ينفك القدر الإلهي يكون مع دعائكم.

الآن يجب أن تروا الدنيا هذه الألوان المتغيرة. وتخبروا الدنيا أن الله تعالى لكم، وأنه معكم.. وأن من كنتم معهم كان الله تعالى معهم.

خطبة 18 يناير 1991

بير بكارا.. سياسي قديم مرموق في باكستان، وهبه الله مهارة خاصة لم أشهدها في سياسي باكستاني آخر.. ذلك أنه أحيانًا يعبر عن حقائق من الحكمة في لغة فكاهية لطيفة.. لو يعبر عنها بكلمات صريحة لا تحدث نفس الأثر. ويقول أيضًا أشياء لا تعد مناسبة في بعض المواقف، ولكنه يستطيع التعبير عن أفكاره بلغة رمزية ملفوفة بالفكاهة.. وله فيها باع طويل.

سأله أحدهم منذ فترة: ما رأيك في المشكلة التي يواجهها ما كان يسمى من قبل “باكستان الشرقية”، (يعني بنجلادش). فأجابه بير بكارا: لماذا تسألني عن أشياء من الشرق، مع أن قبلتنا ناحية الغرب.. وإلى الغرب نسجد؟ لذلك فاسألني عن الأشياء التي من الغرب.

ما ألطف هذا البيان وما أعمق معناه! لا شك أنه ملفوف بالفكاهة، ولكنه ينطوي على حقيقة موجعة للغاية.. ولا تزال تتضح يومًا بعد يوم. تلك الأمم التي تعيش في الشرق من بيت الله قبلتهم إلى الغرب في كل حال.. ولكن بير بكارا لم يكن يقصد هذا، وإنما أراد القول بأن قبلتهم الظاهرة جهة الغرب، ولكن قبلتهم الباطنة في اتجاه آخر. ويذهل الإنسان من سدنة بيت الله الحرام.. الذين يعيشون في حرمه، ومع ذلك يسجدون ناحية الغرب! وتقتضي حماية المسلمين اليوم من المشاكل العالمية أن يصححوا قبلتهم في المقام الأول.. وإذا لم يفعلوا ذلك.. وإلى أن يفعلوا ذلك.. لن تحل واحدة من مشكلاتنا.

لقد أتى على الأمم الإسلامية زمن انقسمت فيه إلى فريقين: فريق قبلته نحو الشرق، وفريق ثان يتوجه نحو الغرب؛ ولم يتخذ أحد منهم بيت الله الحرام قبلة له. بحثًا عن حل لمشكلاتهم كانوا إما يتطلعون نحو قوى الشرق أو في اتجاه قوى الغرب. وعلى أثر التغيرات السياسية التي جرت في الاتحاد السوفييتي، وما تم بين أمريكا وروسيا تهدمت إحدى القبلتين.. ولم يبق لهم سوى قبلة واحدة. ولكن القبلة الحقيقية التي لا تنهدم أبدًا.. القبلة التي جعلت سبيل الخلاص للمسلمين في كل الدهور.. لا يولون وجوههم نحوها. فأهم حاجات المسلمين في الوقت الحاضر أن يصححوا اتجاه قبلتهم.

الموقف الرهيب الذي يقف فيه عالم الإسلام والذي ينزل عليهم بؤسًا وشقاء، يتولد عنه أنواع شتى من ردود الفعل.. سأتناولها بإيجاز أمام الجماعة، ثم أذكرهم بما ينبغي أن تكون عليه استجابتهم في ضوء تعاليم الإسلام.

هناك قطاع كبير من البلاد الإسلامية بقيادة السعودية، يضعون اعتمادهم كلية على القوى الغربية، ولا يجدون غضاضة فيه أو يستشعرون خزيًا، ولا يحسون اهتمامًا أو يبدون اكتراثًا تجاه استمرار التمزق في العالم الإسلامي، وازدياد فُرقتهم عمقًا يومًا بعد يوم. والجماعة الإسلامية الأحمدية.. أبدًا لم تؤيد العراق فيما فعل.. وكما سمعتم في خطبي السابقة.. لم نوافق معه على احتلال الكويت، وموقف الجماعة الإسلامية الأحمدية ثابت لم يتبدل، لأن تعاليم الإسلام توجب على المسلم أن يعين أخاه المعتدي بكف يده عن العدوان. ولقد حاولنا مرة بعد أخرى مساعدة العراق من هذه الوجهة، وبعثنا إليه بالرسائل، وبكل طريق بينت الأمور في خطبي، وشرحت له أنك تدخل باب الظلم من ناحيتين.. ولو أردت معونة الله تعالى.. لزمك أن تسحب يدك مبتعدًا عن العدوان!

أول ما يجب عليك هو انسحاب جيشك من الكويت، بذلك تعرض نزاعك مع الكويت للحل في ساحة الأخوة الإسلامية.. وليس أمام الأخوة العالمية.. ذلك كي يتم الحل في إطار السلام والوفاق. هذه هي تعاليم القرآن الكريم، وعلى ضوئها قدَّمنا النُصح لبغداد.

الأمر الثاني الذي عرضناه عليه أنَّ مواطني البلاد الأخرى الذين يعملون في بلدك ورجال السلك الدبلوماسي وديعة الله عندك، فلا تُضيِّع وديعة الله، وصلته رسالتي أم لم تصله، اتخذ العراق قرارًا حكيمًا قائمًا على العدل، وصحَّح موقفه السابق، وسلك مسلكًا منصفًا بأن استغنى عن ((الدرع البشري))، وأعلن إطلاق سراح كل الأجانب المقيمين في العراق.. ليعودوا إلى بلادهم وقتما يشاءون، حتى إنه سمح اليوم للصحفيين بتسهيلاتٍ لا يحصلون عليها في بلاد الغرب في مثل ظروف الحرب، ودعاهم ليتفقّدوا الموقف، ويبعثوا بالأخبار إلى الخارج. فها هو أوقف العدوان من ناحية واحدة. أما من ناحية احتلال الكويت، فالله تعالى وحده هو الأعلم بما هناك من حكمةٍ أو ضرورة أو إكراه جعله يرفض الانسحاب، ودفعه إلى الإصرار. ونتيجةً لذلك يبدو أن الحرب الرهيبة الجارية معركةٌ من جانبٍ واحد، وتكتلت كل القوى ضدّ العراق، وضمُّوا إليهم بعض المسلمين ليُظهروا أمام العالم أنَّ الحرب ليست بين المسلمين وغير المسلمين، بل إنّهم يبذلون التضحيات لمساعدة بلدٍ مسلم في حربه ضد المعتدي.

فما هي حقيقة هذه التضحيات وما صِلتها بالواقع.. العلم بأجمعه يعرفها. الواقع أن تضحياتهم من الصنف الذي تصل فوائده الهائلة إلى خزائن الغرب بقدرٍ لا يستطيع الإنسان العادي تخيّله. أما الدعايات التي تُردِّدها أجهزة الإذاعة والتلفزيون تختفي في خلفيتها كثيرٌ من الحقائق، وبدون فهمها لا يمكن تصوّر من هو المستفيد من تلك القوى المتحاربة، ومن يلقى الخسران.

وكما تعلمون.. لن يُعاني العراق سوى الخسران، وموقفه شديد الألم. ولقد قلتُ للعراق في خُطبي في صراحةٍ ووضوح أنّه كان عليكم التريُّث. لقد أعطاكم الله تعالى قوة، وكان يلزمكم وقتٌ طويل حتى تزداد قوتكم وتكتمل. ولقد كانت قرارتكم قبل نضجها وقبل أوانها وغير سليمة. لذلك عليكم رفع أيديكم عن هذا العمل الظالم، والعمل على المزيد من التقدُّم.

وفي اجتماعنا السنوي الماضي (8، 1990) طلبتُ من المسلمين أن يدعو الله تعالى كي يهبنا ((صلاح الدين)). وشاهدتُ في أخبار التلفزيون منذ وقتٍ قريب أحداث العراق، ثم حوّلت القناة فوجدت برنامجًا يعرض مظاهرة لبعض المشائخ، يهتفون للرئيس صدَّام حسين على أنه صلاح الدين، ولكن صلاح الدين لم يولد نتيجةً للعواطف الثائرة والعلاقات العمياء. لم أقصد بصلاح الدين أن يُقيم المسلمون لأنفسهم وثنًا ويُطلقوا عليه اسم صلاح الدين. الإنسان بحاجة إلى كثير من القدرات ليكون صلاح الدين، ومع هذه القدرات لابدّ من صبرٍ طويل.

كان على السلطان صلاح الدين أولاً أن يوحّد عالم الإسلام، ولذلك كرَّس شطرًا كبيرًا من حياته للعمل على توحيد الحكومات العربية المشتّتة وليُقيم حكومة مركزية. وبعدما اطمأن وارتضى بالأحوال الداخلية تحدَّى العالم الغربي دفاعًا عن فلسطين. ويعلم العالم أنه كما تحالفت قوى الغرب اليوم ضد بغداد.. كذلك فعلوا وقتئذٍ بشغفٍ وحماسٍ أشدّ، وبروح الحرب الدينية التي ولّدت فيهم نوعًا من الجنون، وحاولوا مرّاتٍ عديدة بقوةٍ وحماس وسعر تحطيمَ قوة صلاح الدين. وبالرغم من أنَّ صلاح الدين كان أضعف منهم نسبيًا في القوة العسكرية، ولم يكن يتميّز عنهم بقدرةٍ قتالية غير عادية.. إلا أنه فاز بنصر الله تعالى مرةً إثر مرة.

كان صلاح الدين حائزًا لبعض الخصال الطيّبة.. كان تقيًّا راضيًا مستسلمًا لإرادة الله تعالى. كان رجلاً لم يتمكن أشدّ أعدائه من الأوربيين أن يُلقوا عليه لومًا بسبب ظلم أو سوء سلوك. يقول الباحثون الذين دقَّقوا في تاريخ صلاح الدين أنهم لم يجدوا شيئًا واحدًا يأخذونه عليه كإساءة إلى الإنسانية أو تجاهلٌ لحقوق الإنسان، أو ممارسة شيء من الظلم أو القسوة، أو اتباع مسلكٍ قبيح. قالوا: لم نجد مثالاً واحدًا في حياته.. ثم قالوا إنهم وجدوا حادثة واحدة، ولكن كتب عنها نفس المؤلف الأوربي أنها من اختلاق الغرب ولا صحة فيها. قالوا: أنَّ أميرًا أوربيًا قصد مدينة الرسول ليهدمها ويُزيل الضريح النبوي فيها. وعندما بلغ مشارفها تمكّن صلاح الدين من إلحاق الهزيمة به وتقويض خطته الخبيثة. أُخذ الأمير أسيرًا ووقف بين يدي صلاح الدين. أراد الأمير العطشان أن يمدّ يده ليتناول كأسًا من شراب، ولكن صلاح الدين عاجله بضربةً من طرف سيفه حطّم بها الكأس وحرمه الشراب. لقد انتصر صلاح الدين على جيشه الأكثر من جيشه عددًا وعُدّة بمناورات ذكية وكمائن ماهرة في الصحراء.. أرغمت العدو على كثرة التحرّك في اتجاهاتٍ ترهقه وتبعده عن مصادر الماء. وانتصر صلاح الدين بفنون المناورة وليس بقوة السلاح. ولما مثل الأمير أمامه كان في شدّة العطش، وحرمه صلاح الدين من الشراب.

هذه هي النقطة السوداء التي يزعمون أنهم وجدوها بعدها تنقيبٍ دقيق في حياة صلاح الدين وأخلاقه، وغير ذلك لم يجدوا شيئًا يُعيبه. يقول المؤلف، وقد قرأت كتابه منذ زمن طويل ونسيت اسمه: من يحسب هذا التصرُّف خطأ من جانب صلاح الدين لا يفهم المزاج العربي، ولا يفهم الأخلاقيات العالية في التقاليد العربية. ومن هذه التقاليد الأخلاقية السامية أنَّهم لا يُوقعون العقوبة على من يشرب ماء أو يتناول طعامًا من بيتهم مهما كانت فظاعة جرمه. ولكن جريمة هذا الأمير كانت انتهاك حرمة المسجد وضريح المصطفى ، وهي من القُبح والشناعة بحيث لا يمكن أن يغفرها له رجلٌ محبٌّ للرسول مثل صلاح الدين مهما كان الثمن. فكان صلاح الدين يرى من سوء السلوك أن يسمح للأمير بتناول شراب من فوق مائدته، ثم ينفّذ فيه العقوبة، وليس من سوء السلوك أبدًا أن يتركه ظامئًا للحظات قصيرة قبل موته.

كان صلاح الدين رجلاً عظيمًا.. ذا إدراكٍ عظيم لأخلاقيّات الإسلام.. حتى أطلق عليه بعض المؤرِّخين الغربيين اسم عمر بن عبد العزيز الثاني، وقالوا: لقد انعكست أخلاقيّات وروحانيّات عمر بن عبد العزيز تارةً أخرى في العالم العربي في شخص صلاح الدين.

وإذن لم يُصنع صلاح الدين من ثوران العواطف فحسب، ولكن اسم صلاح الدين نفسه يتطلّب صفاتٍ طيّبة عديدة. ربما استثار البرنامج عواطف بعض الأحمديين، وقالوا في أنفسهم: لقد دعونا الله تعالى ليقوم في المسلمين صلاح الدين.. وها قد استُجيب الدعاء وظهر صلاح الدين على الفور! هذه أمورٌ صبيانيّة، وينبغي أن ينضج تفكيركم، لأنكم خُلقتم لقيادة الدنيا كلها، وها أنا أُنذركم بمقامكم، لم تُخلقوا لقيادة أمةٍ بعينها أو دينٍ بذاته، وإنّما اكتسبتم المقدرة على القيادة من كونكم خُدَّام سيدنا ومولانا محمد المصطفى ، وأُوتيتم إمكانيات إمامة العالم كله، لأنّ المصطفى بُعِثَ لإمامة الدنيا كلها، وأقامه الله ليزوِّد العالم بصادق النُّصح وسليم التوجيه. ولم يحصل الذكاء الإنساني من قبل على مثل هذا الكمال المحمَّدي أبدًا. كان قلبه كاملاً، وكان فكره كاملاً، لم يتدخّل هواه قطّ في فكره بما يُخالف الشرع.

والموقف الرهيب الذي يواجه العالم اليوم.. ينظر إليه البعض كمباراة في الكريكيت، يجلس الصغار والكبار حول التلفاز طوال اليوم يُشاهدونها ويستمتعون بها. إنّها ليست لعبة الكريكيت.. بل هي أشدُّ الحروب فظاعةً وإيلامًا. لابدّ وأنّكم سمعتم عن القصف السجّادي (Ca pet Bombing)، الذي يعني الهدم والتدمير لمنطقةٍ بأكملها. في هذا القصف تلتقي حافات الحفر الناجمة عن القنابل وتتلامس.. وهذا هو نوع القصف المتّبع في العراق. قالوا إنَّ ما أُلقيَ على العراق في ليلة القصف الأولى من أشدّ القنابل فتكًا يفوق ما أُلقيَ على هيروشيما. ومنذ ذلك الوقت وهذا القصف مستمر بعنف.

في مثل هذا الموقف.. تمتلئ القلوب المسلمة بالآلام.. أعني قلوب أمة الإسلام التي تحب الإسلام، وتحب الإنسانية، وتحب السلام لبني الإنسان، وتودُّ ازدهار القيم الإنسانية.. والتي لا يمكن أن تستشعر السعادة لفوز التعصُّب من إحدى الأمم. هذا هو عالم الإسلام الذي نتحدَّث عنه، وهو الذي يُقاسي أشدّ الألم، ويُحسُّون به في قلوبهم ليل نهار، ولا يعني ذلك أبدًا أنَّهم يؤيّدون قرارات الرئيس صدَّام حسين.. أبدًا، ليس هذا هو المعنى.

عندما ضرب الرئيس صدَّام إسرائيل بصواريخ سكود (Sc d)، كان الضرر الواقع ضئيلاً لا يزيد عن حادثة حافلةٍ عاديةٍ، وتُسفر الهزّة الأرضيّة عن أضرار تفوق ذلك آلافًا ومئات الآلاف من المرّات، والإرهابيون الذي يفِدونَ إلى هنا من إيرلندا يُفجِّرون قنابلهم فيُحدثون خسائر أكثر منها بكثير. ولكن هجمة صدَّام على إسرائيل أزعجت العالم كله! هذه كلمات رئيس الوزارة البريطانية.. قال: لقد انزعجنا. لقد أصابه الذهول، وتألّم بصورةٍ غريبة لدرجة أنه لا يجد كلماتٍ للتعبير عن ألمه. تصدر كلمات التعاطف مع إسرائيل من قوى العالم. وفي مثل هذه المواقف تصدر القرارات لاتخاذ خطوات يترتّب عليها معاناة العراقيين. ولما كان العراقيون مسلمين، وأغلبهم لا يشاركون وغير مسؤولين عن قرار الحرب، لذلك ينبغي على كل إنسان نبيل في هذا العالم أن يشارك في الألم.. مسلمًا كان أو غير مسلم. أولئك العُزَّل المساكين بلا حولٍ ولا قوة.. يُعانون من الجوع.. ويُمْطَرونَ القنابل بعدوانيةٍ شديدة.. ولا يقول أحد بأنه انزعج لما يُحيق بهم، أو ما أشدَّ الضرر الذي ينزل بهم. ولكنهم انزعجوا للحادثة مع إسرائيل، ولعلّ ذلك لخوفهم من انتقام إسرائيل عندما تُنزل بالعراق عقابًا فظيعًا مضاعفًا لما وقع بها! لعلّ هذه هي الحكمة وراء كلمة ((انزعجنا)). ولكن هناك أخطار أخرى هي أخطار الأنانية. يخشون من انتقام إسرائيل حتى لا يترتّب عليه انقسامات في العالم الإسلامي.. وهم أصلاً منقسمون. فإذا ازداد انقسامهم وساندت العراقَ بعض بلاد الإسلام كان في ذلك مزيد من الصعوبات أمام الغرب!

على أي حال، لقد زادت المشاكل على أثر الأفعال التي قاموا بها، ولا يمكن أن يرضى بها أحدٌ في العالم ممن يتعاطفون مع الإنسانية والسلام. لا يليق بأحد أن يرضى عن معاقبة العراق هذا العقابَ المريع، لأنّ الرئيس صدَّام أصدر قرارًا خاطئًا.. لا يرضى بذلك الشخص العادي.. ناهيك عن المسلم. ولكن عندما تشاهد الكويتيين والسعوديين وهم يُشاهدون المناظر في التلفاز جالسين عاطلين فوق كنوزهم، ضاحكين مُبتهجين في هياجٍ وشغفٍ شديدين تذهل وتندهش.

عندما ترى هذه المشاهد لا تستطيع وصف ما يعتري القلب من ألم وتنظر بذهولٍ وتقول: من هؤلاء الناس الذين لا يزالون يُعلنون على دقّات الطبول أنَّهم أهل التقوى، وأنّهم جند الإسلام من الطراز الأول، وأنّهم حَمَلة مفاتيح بيت الله، والقائمون على حماية المقدَّسات الإسلامية، وأنَّهم أهل القيادة العُظمى للإسلام! هم لا ينفكُّون عن قول هذه الدعاوي العريضة.. ولكن انظروا حالهم.. وقيمهم الأخلاقيّة.. التي تتجلّى أثناء إنزال أشدّ الفظائع بالبلد المجاور لهم. عندما يُرفع الستار عن آثار هذه الحرب فيما بعد.. سوف يبكي التاريخ طويلاً عند ذكراها. لقد صارت فظائع هولاكو خان من أحاديث الماضي، فالدمار الذي وقع في الحرب العالمية الماضية جعل أعمال هولاكو خان تبدو كالأحلام. وهم اليوم يعترفون بألسنتهم، يقولون: دعكم من حديث الحرب العالمية، وحرب فيتنام، فالقصف الجاري في العراق اليوم لا مثيل له في أي عملٍ عسكري في العالم. وإذن فالضحك لمرأى هذه الفظائع، والابتهاج والسلوك بهذه الطريقة لا يليق بأي إنسانٍ شريف، هذا السلوك المتدنّي، وهذه الأخلاق الوضيعة.. رأيتُها لأول مرة، واندهشتُ من هؤلاء القوم.. الذين أُتيحَ لهم هذا الثراء العريض. أهذا هو أدبهم، وهذا هو ذكاؤهم وفهمُهم؟

لم يفكِّر أحدٌ منهم أن تعالوا نسال الله المغفرة، لم يُفكِّروا في التوبة وتقديم أنفسهم أمام المحكمة الإلهية، والسجود تجاه العتبة الربانيّة.. والابتهال إليه جلَّ وعلا.. أن يا الله.. ما هذا الشقاء الذي سقطنا فيه حتى صرنا هكذا بلا حولٍ ولا قوة، هذا إذا كانوا حقًا يُحسُّون ذلك. ما هذا الذي أوقعنا في التعاسة حتى ألجأنا إلى قتل إخواننا وتدميرهم. كان عليهم بتقديم الصدقات وإبداء مشاعر التعاطف مع البشر. ينبغي أن يستخدموا ثرواتهم على نحوٍ لائقٍ سليم.. تلك الثروات التي وُضعت وديعةً في أيديهم. بدلاً من فعل ذلك يجلسون إلى التلفزيون وينتظرون الوقت التي تزول فيه قوة العراق من على سطح الأرض.. وبعدها يعودون إلى بلدهم الكويت مزهوّين، وتأتي قوى الغرب لتُعيد لهم بناء بلدهم الصغير، وتكون العراق قد بادت من الأرض!

والسؤال الآن من المستفيد حقًا من كل هذه العملية ومن المسئول عن هذا الموقف العالمي الرهيب؟ قيل لنائب وزير الدفاع الإسرائيلي هذا الصباح: لقد سقطت صواريخ سكود على بعضٍ منكم، ولم تُحدث أذىً كثيرًا، ولقد امتنعتم عن اتخاذ ردّ فعل، ولولا ذلك لتضرَّر تحالفنا مع العالم الإسلامي ضررًا بليغًا. أجاب الوزير على المتحدّث: ما هذا الهراء الذي تقول؟ ما أسخف هذا السؤال الذي لا أرى فيه أثرًا من الذكاء. هل ترى أي فضلٍ للسعودية في تأييدها لأمريكا أو بريطانيا أو الدول الأوربية؟ هل تحسب أنَّ للكويت أو مصر معروفًا في تحالفهم معكم؟ إنّهم جميعًا مدينون لكم بالفضل. وهم لا يُبالون مثقال ذرة لو دمّرت إسرائيل العراق، أو دمَّره أي بلدٍ آخر. هذه البلاد عبيدكم الآن، ويشعرون بالامتنان لكم، ويعتمدون عليكم تمامًا. إنّهم لا يملكون القدرة على الغضب منكم!!

جوابٌ ينطوي على حقيقةٍ عميقة ولا نُكران لذلك.. فهذا هو الموقف الحالي. بيدَ أنّي أختلف معه بشدّة في أمرٍ واحد. يقول: إنّكم أسديتم إليهم معروفًا. وهذا كذبٌ محض. إنَّ مشاركة دول الغرب في هذه الحرب ليس صنيعًا بأي حال.. ليس صنيعًا للإسلام، ولا للدول الإسلاميّة التي يُحاربون باسمها. ولكن مشاركتهم هذه، كدأبِهم، هو أشأم محاولة لاجتلاب المكاسب من كافة الأطراف. وهذا ما كانوا يفعلونه في التاريخ الحديث. كانوا دائمًا يسعون لذلك، وحيثما اضطرب السلام العالمي، وكلما تأزّمت الأمور تحصل الدول المتطورة دائمًا على النصيب الأكبر من المنافع.

وعلى ضوء هذا البيان الوجيز، لو حلّلنا الموقف أكثر لتيسَّر لكم فهم ما أقوله عمّن هو المستفيد. هذه الأسلحة الكثيرة، وهي من أحدث الأنواع، تُرسل إلى أرض المعركة.. وتُكلّف البلايين لا تستطيعون حقًا تصورّها. يكفي أن تتخيّلوا جبالاً من الأموال. لقد سمعتم عن شيءٍ واحد اتفقوا عليه.. سوف تدفع السعودية نصف هذه الأموال، ولكنهم لم يذكروا مقدار هذا النصف بالتحديد، ولم يُشيروا كيف يسدّد النصف الثاني ويوزّع على بلاد المسلمين الأخرى، وفي حساب من يضعون. ولكن بإمكاني القول بيقين أنَّ الكويت والبحرين وقطر ودولة الإمارات سوف تدفع القدر الأكبر منه. هذه هي الصورة الواضحة التي تبرز أمام العيون.. قوى الغرب هي التي تستفيد وحدها من الحرب، حتى التي لا تشترك في القتال الفعلي.. وأعني بها إسرائيل.

في مقابلة تمّت اليوم مع مفكّر أو سياسي غربي.. اعترف الرجل صراحةً: كنا من قبل نقولُ بضرورة تدمير العراق، والآن تعرفون لماذا كنا نقول ذلك. صواريخ سكود هذه التي لم تُسدَّد بإحكام.. لو أنها بقيت سليمة ولم تبدأ الحرب.. فإنّها كانت سوف تُسدَّد إلى إسرائيل في حربٍ أشدّ رُعبًا. وهكذا يتبيّن أنّه فيما يتعلّق بالهدف فمنافع الحرب الكريهة تؤول إلى إسرائيل. وفيما يتعلّق بالمنافع الاقتصادية فإنّها تذهبُ كاملة إلى الدول الغربيّة. والسبب في ذلك أنّ كافة الأسلحة التي تُستخدم اليوم في هذه الحرب فإنّها منذ المسالمة مع الاتحاد السوفييتي، فقدت قيمتها وصارت بلا طائل. هذه الأسلحة تمثّل معظم قائمة النفقات المدفوعة. أما عن تكاليف النقل فعلى حساب البترول المجاني. ولو أنّهم أعدّوا القائمة بنصف التكاليف لضمِنَ لهم هامش ربحهم نسبة مئوية كبيرة. فالربح الاقتصادي من هذه الحرب تفوز به الدول الغربيّة.. إذ يستخدمون أسلحة بطُلَ استعمالها، أو سلاحًا جديدًا يدفع ثمنه طرفٌ آخر. فدول الغرب التي تُشارك في هذه الحرب يخسرون أعدادًا قليلة من الأنفس، ويجنون الربح كاملاً في النهاية.

إنَّ عالم الإسلام هو الذي يُقاسي أضرار بالغة بسبب هذه الحرب، ولو تمَّ تدمير العراق.. فستكون خسارةً يبكي لها المسلمون لعشرات السنين.. ولو تجاهلتم هذا الضرر.. فلسوف تكون الصورة بعد الحرب أشدَّ ضررًا وخطرًا. ومن هذه الأخطار ما قد نواجهه في الحال.. لو أنَّ الرئيس صدَّام قام بعملٍ آخر غير مسئول.. بقصد توريط إسرائيل بأعنف أعمالها الوحشية، ولن تعمل قوى الغرب على كفِّ يدها ولن يُبدوا أيَّ اكتراثٍ لما سيقع. وعندما يحدث ذلك.. فلسوف تتألم قلوب هؤلاء المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة.. الذين في قلوبهم حبٌّ عميق للإسلام، ونبيّ الإسلام، وربِّ الإسلام.. الذين يحبون العدل والسلام العالمي. وبعد ذلك ستكون هناك ضجّة شديدة في بلاد المسلمين.

يفوز الغرب في هذه الحرب من ناحية المادة، ولكنهم يبذرون بذور شقاقٍ رهيب، سينمو في كل مكان، وسوف يضطرب سلامُ العالم مرةً أخرى، وستكون البلاد الإسلاميّة مركز هذه النزاعات. سوف يحاولون في أماكن إسقاط الحكومات المسلمة، وفي أماكن أخرى سوف تتفاقم الملَّاوية، أي نظام المشائخ الجُهَّال ومحترفي الدين، تلك النُظم الفظيعة التي لا علاقة لها بالقرآن الكريم.. وإنّما تنتمي إلى نظريات العصور الوسطى المظلمة. وسوف تتعلّق هذه الملَّاوية بالهوس الديني وليس بحبِّ الله تعالى، ولا حبِّ رسوله، ولا حبِّ القرآن، وإنّما تنبثقُ من أهداف سياسية، ولا تخلق قيادتها سوى الخراب. إنَّ دأبها أن تأخذ الأمة إلى أسوأ حال. سوف تكون هناك مشاكل بلا حصر عقب هذه الحرب، ولن ينقطع توالد الأخطار، وكل خطر سيكون مولِّدًا لأخطار لاحقة تهدّد سلام العالم. ومثل هذه الانفجارات التي تنشأ عن الجنون الديني أو عن مشاعر الحرمان السياسي.. التي تُحدث أثرًا واسعًا وبعيدًا. والآذان التي تسمع صداها توجّهها إلى تفتيت القلوب.. ومن ثم إلى العقول.. فتتحوَّل إلى مؤامرات. وسواءً وقع هذا الانفجار في الكويت أو في السودان أو في مصر أو في أي بلدٍ من بلدان المسلمين.. سوف يُقاسي المسلمون أشدّ الآلام من صدمات موجاته، وتحدث الفوضى الكبرى، وتتولّد حركاتٌ كثيرة من أنواعٍ شتّى. وإذا اتصل الانفجار لقوميّةٍ معينة.. تترتّب عليه انقساماتٌ بين الأمم. على أي حال.. فالتفاصيل طويلة، لا داعي للمضي في سردها. كلكم يعرف ويُدرك أنه عندما ينتهي النزاع الحالي فلن تتوقف النزاعات، وإنّما تبدأ على نطاقٍ أوسع.

وثمة خطرٌ ثانٍ.. فمن الممكن أن يتحوّل هذا النزاع الراهن إلى نزاعٍ عالمي، وتنشب الحرب العالمية التي تقشّعرُ لها الأبدان. وهؤلاء الذين يجلسون خارج بلادهم ويستمتعون بمشاهد التخريب في بلدٍ آخر.. قد يمرّون بمثل هذا الموقف ولا يكونون من المتفرجين وإنّما من المجرِّبين. فالموقف جدُّ خطير ومرعب ومضطرب إلى الأعماق.

أنا لا أطلب من الجماعة الإسلامية الأحمدية.. الدعاء لنُصرة هذا الفريق أو ذاك، وأنا أُطالبهم بالدعاء للسلام العالمي. ابتهلوا إلى الله جلَّ وعلا: يا ربّ، نحن المحبُّون المغرمون برسالة سيدنا محمد المصطفى ، المحبُّون المولَعونَ باسمه الكريم أيضًا.. لأنّه سيدنا ومرشدنا وأشدُّ محبيك.. يا مالك الأرض والسماء.. لم يُحببك مخلوق كحبِّ سيدنا المصطفى ، ونحن نحبُّ اسمه وعمله وشخصه ودينه، ونحبُّ أيضًا بني البشر جميعًا. لقد بعثته يا ربنا رحمةً للعالمين، وحبنا له يقتضي أن نذوب لآلام الناس أجمعين، وعلينا أن نُعينهم ونسعى لتحسين حالهم. ونحن يا ربنا، لا نملك شيئًا سوى الدعاء. نحن يا رب، جماعةٌ من الضعفاء الذين لا حول لهم إلا بك، ونحن يا رب جماعةٌ نلقى الاضطهاد.. ولكننا نسجد بين يديك، ونتوسَّل إليك بمذلّة وحرارةٍ وإلحاح.. أن تُنزل رحمتك على أبناء جنس سيدنا من العرب، وأن ترحم جميع بني البشر. أنقذْهم يا رب من المشاكل العالمية.. ما كان منها من أخطاء البشر.. وما كان منها بقضائك الذي لا نستطيع فهمه. ومهما يحدث يا رب، إن كان هناك نصرٌ فاجعله يا رب من نصيب الإسلام، وإن كان هناك فوزٌ فقدِّره يا رب فوزًا للإنسانيّة، ولتلك القيم الأخلاقية التي اختفت من الشرق والغرب. دَعْها يا رب، تنهض وتقم في الدنيا ثانيةً.. ولتنتصر في العالم تارةً أخرى.

اللهم حقِّقْ وعدكَ الذي أنزلته في القرآن.. وقلتَ فيه:

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (سورة الصف: 10).

  لن ندعو لفوز أمةٍ بعينها.. ولكن سندعو لانتصار الصدق والأمانة، وفوز الإسلام والحق والقيم الإنسانيّة. يا رب، لو لم تسمع دعاءنا اليوم.. فلا سبيل لنا لإنقاذ هذا العالم. يا رب.. في إخلاصٍ كامل وتواضعٍ تام.. نسجدُ أمامك.. باكين بين يديك. من أجل عبادك وخُدَّام المصطفى ، حقِّق يا رب، ذلك التغيير الثوري الذي أقمتنا لأجله.

نتوسَّل إليك أن تُجريَ تلك الثورة.. الثورة الروحيّة العالمية العظمى وأَرِنا إيَّاها، وبيِّن لنا تحقُّق كل وعودك التي تتصل بهذه الثورة.. التي تتمُّ على يد “الآخرين” الصالحين الأتقياء من أقوام الأيام الآخرة. ونحن يا ربّ هم “الآخرون”. أنت يا ربّ الذي أقمتنا.. فصُن لنا شرف وعودك، وأَجرِ يا رب تلك الثورة على يدنا.. أي بدعائنا.. والتي لا نجاة للعالم بدونها.. آمين.

وبهذا الخصوص هناك مسألة أساسية أذكركم بها: الدعاء في أيام الشدة يقتضي إخراج صدقة. ولما تفكرت في الموقف الحاضر الذي يواجه بلاد الإسلام.. توجه انتباهي إلى أولئك الذين يموتون جوعا في أفريقيا.. يهلكون في مساحات شاسعة من بلاد شتى.. في الحبشة والصومال والسودان وتشاد. يموت الناس جوعا في بلاد كثيرة، ولا يبالي أحد بهم ككائنات بشرية. ولو أن أحدا أبدى اهتمامًا نحوهم لكان أهل الغرب. فقد رأيت برامج هنا تعرض مشاهد للجُوعى واليتامى العراة، والمرضى والهياكل العظمية المعذبة.. بما يثير مشاعر العطف ويتطلب بذل التضحيات لأجلهم، ولمن تلك القوى من أثرياء النفط. كدّسوا جبالا من المال جمعوها من عائدات البترول، ومع أنهم ينسبون أنفسهم إلى سيدنا محمد المصطفى فقد نسو روح رسالته، ولا يفكرون أبدا بأن لهم جيران في أفريقيا يتضورون جوعا. فكلهم سواء.. العراق والسعودية، الكويت والبحرين، قطر والإمارات.. قد جعلهم الله منذ مدة أصحاب ثروات ضخمة.. ومع هذا الثراء والطعام المكدس فلا يستطيعون العناية به. دعْك من ذكر البلاد النائية.. فالسودان جارهم المسلم، يتضورون فيه جوعا ومع ذلك لم يتحركوا لنجدتهم. لم يفكر أحد منهم أن هذه هي السمات المميزة لدين محمد رسول الله إذ تحدثنا عن حياته. فقد كان بعد حب الله تعالى يحب الناس والفقراء منهم خاصة.. بما يقوم أمام الناس مشهدا لامعا من مشاهد حياته. لا يمكن أن يذكر اسم محمد إلا وتقفز إلى ذاكرة الإنسان صور تعاطفه ورقته ورحمته بالفقير، فتبهر العيون بجمالها. وفي نور محمد يسري نور عطفه على الفقراء. في إحدى المناسبات قال: إذ طلبتموني فابحثوا عني بين الفقراء، سوف أكون يوم القيامة بين الزهاد والفقراء. اعتنوا بهم لأن بهاءكم وثراءكم بفضل فقراءكم.. فعملهم وجهدهم تؤتي ثماره ويصير ثروة لكم. فأَبدوا لهم الحب والتعاطف واللطف على الأقل.

فلا شك أن سيدنا محمدًا كان أكثر الناس جميعا في تعاطفه مع الفقراء. وبعدما جاءتكم الثروات باسمه، وكنزتم جبال المال، لا تنظرون إلى أخاديد الفقر العميقة في بلاد تجاوركم. فليس من الإنسانية في شيء ألا تطغى مشاعر العطف على قلوبكم. لو أن بلاد المسلمين حافظت على الدعاء واهتمت بالتعاطف مع بني البشر.. فإني على ثقة من أنهم ما كانوا ليتورطوا في هذه المحنة الشديدة الحالية.

وبالرغم من فقرنا المالي.. فسنضرب لهم المثل في كل عمل طيب، ولسوف نقيم لهم مثلا يحتذى في هذا المجال أيضا. فادعوا وذكّروهم بالدعاء، وقدِّموا الصدقات وذكّروهم أن يؤتوا الصدقات، واصبروا وانصحوهم بالصبر.. لأن القرآن الكريم يعلمنا بأن الفائزين في الأيام الأخيرة هم الذين قيل عنهم

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (البلد: 18).

فهم الصابرون الذين يذكّرون الناس بالتراحم. ولذلك قررت أن أقدم باسم الجماعة مبلغ عشرة آلاف من الجنيهات الأسترلينية.. أقدمها لبلاد المجاعة في القارة الأفريقية.. وما هي إلا قطرة صغيرة. ولسوف أقدم شخصيا ما أقدر عليه، وعلى الجماعة أن تشارك وتقدم صدقة في اعتماد خاص بالجماعة تدفع من الصدقات أو الزكاة. تدفع للحاجة المحلية بالتأكيد، ولكن فيها بقية يمكن أن تدخل في باب “العفو”.. وكما يقول القرآن الكريم:

وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (البقرة: 220).

فالعفو أيضا ما تستطيع الاستغناء عنه من هذه المخصصات. فأنفقوا منها لمساعدة الفقير عنكم، وأنفقوا منها على الفقراء في أماكن أخرى.

وعلى المستوى الفردي أيضا، ومع أن مال الجماعة كله لله تعالى، وينفق في الأعمال الصالحة في سبيل الله.. فهذا المجال أيضا في سبيل الله. ولذلك لست بصدد نداء محدد، ولكن ندائي بالفعل، بهذا القصد وحده. وأدعو أن يتقبل الله تعالى هذه الصدقة لإقرار السلام في العالم، ولحل مشاكل المسلمين. ولتكن ابتهالاتنا مخصصة لهذين الأمرين، وعلى أي مدى نستطيع تقديم الصدقة.. ينبغي أن تنفق في صالح الأعمال، ولسوف تنفق هذه الصدقة خاصة في بلاد المجاعة بأفريقيا.

اللهم، مكِّن لنا فعل ذلك! وافتح يا رب، عيون إخواننا الذين قعدوا مغمضي العيون مع أن القرآن الكريم يمد لهم التعاليم الواضحة للتقوى، آمين.

تُسمع هذه الخطبة في ألمانيا وموريشس وأمريكا، وهنا بريدفورد بالمملكة المتحدة. لقد تقدمت وسائل الاتصال تقدما مدهشا. ولكن ليعلم الجميع أنه لا ينبغي أن يجعلوا هذه الخطبة جزء من صلاة الجمعة لهم. إنني لا أجيز أن يستمع الناس إلى تسجيل خطبة جمعة تُلقى في مكان آخر، فيتخذوها جزءً من فريضة الجمعة. عليهم أداء فريضة الجمعة منفصلين في وقت صلاتهم. وكما هو الحال في اليابان الآن.. هناك فارق زمني قدره  11،30 ساعة .. فلا مجال لهم لصلاة الجمعة الآن.

وعلى أية حال، فالذين يسمعون الخطاب الآن في أي بلد.. بوسعهم المشاركة في هذه الدعوة. اذكروا كل هؤلاء في دعائكم.. فإن بهم شوقا وولعا شديدا بالتقوى، وهم يسعون قدر استطاعتهم للتقدم في كل مناسبة نحو التقوى. اللهم زدهم مقدرة على ذلك. آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك