رحلة ميمونة

رحلة ميمونة

طه القزق

هذه الرحلة المباركة التاريخية المفاجئة لم تكن بالحسبان، وإنما هي حلم تحقق بعون الله تعالى.

في أواخر أكتوبر من سنة 1991 سمعت بأنه قد يذهب مولانا أمير المؤمنين إلى قاديان لحضور الجلسة السنوية المئوية للجماعة. كانت إشاعة غير مؤكدة، ولكن في أوائل ديسمبر من نفس السنة تأكد الخبر. فذهبت مسرعًا إلى السفارة الهندية في لندن، وكنت متوجسًا ألا يعطوني التأشيرة، ولكن العجيب أنهم في السفارة سألوني: أتريد الذهاب إلى قاديان؟ فقلت لهم: نعم. فرحبوا بي كل ترحيب، وبكل احترام أخذت التأشيرة، وكان المبلغ الذي دفعته للتأشيرة جنيهين ونصف فقط. ليس المهم النقود وإنما المهم المعاملة التي لا قيتها منهم، وإني أشكرهم جزيل الشكر، فالذي لا يشكر الناس لا يشكر الله. ثم ذهبت مهرولاً إلى شركات الطيران وإلى المكاتب السياحية، فلم أجد مكانًا للسفر. فجميع الطائرات محجوزة، لأن الوقت كان آخر السنة وأعياد الميلاد. وأخيرًا وبكل صعوبة وبواسطة الأصدقاء تمكنت من قطع تذكرة إلى دلهي عن طريق دمشق.

في 14/12/1991 ذهبت إلى المطار، وكان المطار كأنه يوم القيامة لكثرة المسافرين الذين لم يتمكنوا من السفر في اليوم السابق. لقد انتظرنا في المطار أكثر من اثنتي عشرة ساعة حتى تمكنا من الصعود على الطائرة المتجهة إلى دمشق. ولكن كثرة الغيوم والضباب لم تتمكن من الهبوط في مطار دمشق، فهبطت في مطار نيقوسيا (قبرص). وبقينا هناك نهار اليوم الثاني كله. أقلعت الطائرة ليلاً وهبطت في مطار دمشق. وعندما دخلت إلى قاعة “الترانزيت” فوجئت بوجود زوجتي وابني مطيع جاءا لاستقبالي من عمان. فوجئت من دخولهما إلى قاعة الترانزيت، لأنه ممنوع دخول أي شخص هناك؛ ولكن الحمد لله، كان الضابط المسؤول لطيفًا حينما سمع من ابني: “إنني لم أر والدي منذ سنة ونصف، وأنه سيمر من هنا في طريقه إلى الهند، فسمح لهما.

كان في الطائرة شيخ هندي يتقن اللغة العربية كأحد أبنائها. فجربت الحديث معه حول وفاة المسيح . فقال: المسيح حي في السماء، وسينزل في يوم من الأيام. فقلت له: يا أخي، القرآن الكريم يقول: إنه ميت، ويوجد كثير من الآيات التي تدل على ذلك. فقال لي: ائتني ولو بآية واحدة. فقلت له:

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ،

والآية:

فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ،

والآية:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ،

والآية:

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ ،

والآية: فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ ، والآية: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ . فقاطعني وقال لي: لا يوجد ولا آية واحدة مما ذكرت تدل على وفاة المسيح . فكان موقفه (عنزة ولو طارت)! هذا مثل يقول أن رجلين كان يمشيان، فرأيا في الطريق شيئًا من بعيد. فقال أحدهما: انظر هناك طير، ولكن الآخر قال: لا هناك عنزة. وعندما اقتربا طار الطير، فقال لصديقه: انظر الطائر طار. فقال الآخر: هذه عنزة ولو طارت!

وصلنا مطار دلهي. وهنا يجب أن أذكر معاملة رجال الجمارك والشرطة اللطيفة لنا. ولا أنسى الخدمة التي قدمها لي أحد الأحمديين من ألمانيا وهو الدكتور عبد الشكور خان. هذا الشخص كان راكبًا بنفس الطائرة التي كنت فيها، ولكنه عندما وطئت أقدامه أرض الهند أصبح وكأنه هو المضيف يخدم الجميع. هذا الموضوع سأذكره في مكان آخر، إن شاء الله.

ذهبنا إلى المسجد الجديد في دلهي. إنه مسجد جميل بنَتْه الجماعة هناك، فيه مكان خاص للنساء، وفيه بيوت للضيوف وساحة. وقريبًا منه يوجد مستشفى اسمه مستشفى البتراء؛ والبتراء قطعة من الأردن بلدي، لذلك لم أكن أنسى العنوان؛ كلما أخذت سيارة تاكسي قلت للسائق: خذني إلى مستشفى البتراء فقط، فكنت أصل بسهولة. كان وصولنا إلى دلهي صباح 17/12/1991، وكان وصول مولانا أمير المؤمنين هناك 16/12/1991.

بعد وصولي ببضع ساعات جاء أحد الإخوة، وقال لي: استعد للذهاب مع مولانا أمير المؤمنين إلى بعض الأماكن الأثرية. كان مع أمير المؤمنين أيده الله كثير من الإخوة، وكانت معه عائلته. فذهبنا إلى قلعة “تُغلق”، هذه قلعة كبيرة جدًا. كما زرنا “قطب مينار” وقبر أحد الأولياء الصالحين هناك خواجه بختيار كاكي، ودعونا الله لروحه. كان مولانا أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز في هذه الرحلة الأب والأخ والصديق لكل المرافقين معه بدون استثناء. كان بعض الأحيان يتكلم مع زوجته وأولاده وأحفاده عن هذه الأماكن وأحيانًا مع المرافقين والإخوة.

رجعنا إلى المسجد، وصلينا المغرب والعشاء، وتناولنا العشاء فقيل لنا: استعدوا للسفر قبل الفجر إلى أمرتسار فقاديان بواسطة القطار في قافلة على رأسها مولانا أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز. من هنا تبدأ الرحلة المؤثرة.. رحلة في القطار ورحلة في الأفكار. إن أول قطار كان وصل إلى قاديان بتاريخ 19/12/1928 وهو مولد مولانا أمير المؤمنين مرزا طاهر أحمد أيده الله بنصره العزيز. ولكن منذ فترة كان القطار توقف عن المجيء بسبب الأحداث في الهند. إلا أن الحكومة الهندية أرادت إعادة الخط من جديد في 20/12/1991. فطلب الإخوة الأحمديون بقاديان من حكومة الهند الإسراع في العمل وإعادة تشغيله في 19/12/1991 ليكون مناسبة وذكرى لمولد مولانا أمير المؤمنين أيده الله. فلبت الحكومة الهندية هذا الطلب مشكورة.

خرجنا قبل صلاة الفجر إلى محطة القطار في دلهي. كان كل واحد منا يحمل شنطة اليد فقط، إذ أن الشباب الأحمديين كانوا يقومون بتحميل وتنزيل جميع الأمتعة الأخرى والمحافظة عليها. أعود فأقول إن خدام الجماعة الإسلامية الأحمدية لا يوجد مثلهم في الإخلاص والخدمة. كل ما يطلبونه من الآخرين مقابل الخدمة الدعاء لهم، ويعتبرون الدعاء أغلى شيء في الوجود. فكل من قابلت منهم يسألك الدعاء له أو لابنه أو لأخيه أو لقريبه إذا كان مريضًا أو لمجرد الدعاء فقط. يحترمون العرب بصورة خاصة ويقدرون أدعيتهم. أشعر أنهم يعتقدون بأنه إذا كان العربي مخلصًا فيكون دعاؤه مستجابًا. بعض الأحيان كنت أتوارى لأبكي على قيمة العربي المنهارة عند الشعوب الأخرى، بل عند العربي نفسه.

مشى بنا القطار بعد الفجر وكان كل الرفاق مبتهجين مسرورين. كل واحد يتبادل الحديث مع غيره حول كثير من المواضيع. كنت أتخيل ما جرى حين قسمت الهند، وأفكر في الأعداد الهائلة التي قتلت في ذلك الوقت من المسلمين والهندوس والسيخ. لقد سمعنا ونحن في فلسطين في ذلك الوقت أنه كان هناك قطار يحمل حوالي ستة آلاف شخص متجهًا إلى باكستان قُتل جميع ركابه ما عدا بضع مئات. وسمعنا كيف أن باكستان انتقل إليها أكثر من عشرة ملايين لاجئ، وكيف كان الجيش الباكستاني الباسل، الذي كان فيه الكثير من الضباط الأحمديين، وكيف حاربوا حرب الأبطال وكل العالم شهد لهم بذلك ولا يزال الكثير منهم يحتفظون بالأوسمة وجوائز العزة والشرف؛ حتى جاء المفسدون من المشائخ في باكستان، وأثاروا الفتن ضد الأحمديين، وخربوا البلاد حتى انفصلت بنغلادش وأصبحت باكستان دولتين إسلاميتين كل منهما تعادي الأخرى. وكم من العار لحق بباكستان حين هاجر منها مولانا أمير المؤمنين للخارج مضطرًا، لو أنه زار قاديان قادمًا من باكستان لكان الموقف أحسن بكثير. أين الأخلاق الإسلامية في باكستان التي تضع الأحمديين في السجون، لأنهم يقولون السلام عليكم. وتضع الأحمديين في السجون لأنهم يقولون (لا إله إلا الله محمد رسول الله). والأحمدي في السجن لأنه رفع الأذان. الأحمدي في السجن لأنه يحتفظ في بيته بنسخة من القرآن الكريم، أو لأنه يضع على حائط بيته كلمة (لا إله إلا الله) أو أية آية قرآنية. لقد حُرقت بيوتهم ونُهبت باسم الدين، وهدّمت مساجدهم، وقُتل الكثير منهم من أجل عقيدته الإسلام!

وأنا في هذه الأفكار كأنني أنظر إلى فلم سينمائي إذ بالأخ نصير أحمد قمر السكرتير الخاص لمولانا أمير المؤمنين أيده الله بنصره، يقول لي وهو يحمل الميكرفون: ما هو شعورك في هذه الرحلة؟ تكلمت بعض الكلمات وأنا متوتر الأعصاب من أجل الأفكار التي كانت تسيطر على شعوري.

وصلنا إلى أمرتسار، ثم انتقلنا إلى القطار الذي يذهب إلى قاديان. وكان الحرس بأعداد كبيرة يحرسون القطار. هذا هو أول قطار بعد التوقف لفترة. من أمرتسار إلى قاديان كانت وجوه الإخوة جميعًا تشعرك بأنهم يفكرون بساعة الوصول إلى قاديان. كان الأخ آفتاب أحمد خان أمير الجماعة في بريطانيا والأخ عطاء المجيب راشد إمام مسجد لندن وغيرهما يأتون ويذهبون، ولكن الملامح كانت تتغير كلما اقتربنا من قاديان. كان القطار يزداد صفيرًا والإخوة يزيدون تهليلاً: الله أكبر، الله أكبر، إسلام زنده باد (أي ليعيش الإسلام) محمد ، أكير المؤمنين زنده باد. كانت هذه التهليلات والتكبيرات تزيد كلما مررنا من قرية أو مدينة في الطريق إلى قاديان حتى إنني كنت أظن أن أهل القرى والمدن كانوا يصيحون بهذه التكبيرات، لأنه كان هناك ظلام وكان الوقت ليلاً.

وصلنا قاديان ليلاً والقطار يصفر صفيرًا متواصلاً، والجماهير تهتف بصوت عال جدًا: الله أكبر، الله أكبر، إسلام زنده باد. أحمدية زنده باد، أمير المؤمنين زنده باد، قاديان دار الأمام، محمد وغير ذلك من الهتافات استمرت لمدة طويلة ومولانا أمير المؤمنين وسط الجماهير، واضعًا يده على السيارة التي كانت تنتظره لنقله إلى قاديان. كان أهل قاديان يسمعون الهتافات من مسافات بعيدة. كان الشخص إذا أراد أن يمشي كان يمشي بكل صعوبة لكثرة الضيوف. فقد جاء إلى قاديان آلاف الضيوف. كان الأحمديون وبعضهم من الرتب العالية ينامون في مخيمات بسيطة جدًا. جاءوا من الهند من مسافات بعيدة أكثر من خمسة آلاف ميل، بالرغم من فقرهم جاءوا ليروا مولانا أمير المؤمنين ويسلموا عليه.

رحب السيخ والهندوس بمولانا أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز، وفتحوا بيوتهم لاستقبال الأحمديين. امتلأت قاديان بالبضائع والفواكه على اختلاف أنواعها. انتعشت فيها التجارة بشكل لم تعهده في حياتها. جاء الأحمديون من كشمير لحضور الاجتماع وأتوا ببضائعهم لبيعها في قاديان. كنا عندما نمشي في الأسواق نرى المتاجر مليئة بالإخوة الأحمديين الذين جاءوا من خارج الهند يشترون البضائع بكثرة تبركًا من قاديان دار الأمان.

كانت المساجد لا تسع المصلين، والبيوت لا تسع المجتمعين. ولكن الناس كلهم كانوا في عيد. الكل مسرور. مئات الملايين من تحية “السلام عليكم” سمعتُها في قاديان تلك الأيام.

افتتحت الجلسة في 26/12/1991 الساعة العاشرة صباحًا. افتتحها مولانا أمير المؤمنين بخطابه. واستمر الخطباء بعده لثلاثة أيام متوالية. كان البرد بعض الأحيان شديدًا، وكانت السماء تمطر أحيانًا، ولكن العجيب أنه لم ينزل المطر خلال انعقاد الجلسة.

حضر أحد أعضاء البرلمان البريطاني السيد توم كوكس هذه الجلسة، كما جاء المدعي العام لحكومة غانا، وقال في خطابه: “الآن فهمت كيف أن الله يعامل الأحمديين. كنت أركب سيارة بين قافلة من السيارات من دلهي إلى قاديان لحضور الجلسة، وكانت بين هذه القافلة سيارة يركبها غير الأحمديين. فهوجمت القافلة وقتل جميع الركاب الذين هم في السيارة التي فيها غير الأحمديين”. كل الخطباء ألقوا خطبًا جميلة جدًا، وكان من بينهم عميد الجامعة الإسلامية الأحمدية في قاديان المولوي كريم الدين، ذكر كثيرا من أنباء المهدي والمسيح الموعود وذكر عن مرض الأيدز الذي أنبأ عنه المهدي والمسيح الموعود قبل مائة سنة، وقال بأن مرضًا خطيرًا سينتشر بكثرة في أوروبا وأمريكا وهو نوع من الطاعون لم تشهده البشرية من قبل.

كان الخطاب الاختتامي لمولانا أمير المؤمنين استمر حوالي ثلاث ساعات. كان كثير من زعماء السيخ والهندوس وغيرهم من المستمعين يجلسون على يمين المنصة، وكان معظم الخطاب موجهًا إليهم. خاطبهم مولانا أمير المؤمنين ووجهه إليهم معظم الوقت. وكان الخطاب مقارنة بين الديانة الإسلامية وديانة السيخ والهندوس وغيرها من الديانات، والتقارب بينها من جهة التوحيد وبعض العبادات. هذا الخطاب أخذ بمجامع القلوب.

في 21/12/1991 غادرت قاديان إلى دلهي برفقة بعض الإخوة. وصلنا إلى المسجد بعد نصف الليل. نمت في دار الضيافة في دلهي، وفي صباح اليوم الثاني ذهبت إلى الفندق، ونمت هناك لأستريح من الزكام الذي لازمني أيامًا طويلة. في 2/1/1992 ذهبت إلى المسجد قبل صلاة الظهر، فقال لي أحد الإخوة: إن مولانا أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز، وصل هنا البارحة وعند صلاة الفجر سأل عنك. فتعجبت من هذا الإنسان الذي عنده ثلاثة وعشرون ألف ضيف ويسأل عن واحد منهم. ما هذا الإنسان الذي يحفظ آلاف الأسماء من الإخوة الأحمديين، وأنا في بعض الأحيان أنسى أسماء أولادي.

في 6، 1، 1992 غادرت دلهي إلى دمشق. فوجدت في المطار كثيرًا من أهلي وأحفادي في انتظاري. وكم كان الجميع مسرورين. وجدت الجميع من الجماعة في دمشق بخير والحمد لله. كانوا مسرورين جدًا بلقائي، وينتظرونني بفارغ الصبر، ليسألوني عن مولانا أمير المؤمنين وعن الجلسة السنوية في قاديان وعن أخبار الجماعة في كل مكان. حزنت عليهم كثيرا لأنهم لا تصلهم أية أخبار عن الجماعة حتى لا تصلهم مجلة التقوى ولا أي كتاب.

بتاريخ 27، 1، 1992 ركبت الطائرة راجعا إلى لندن محملاً بالهدايا والسلامات والبشارات من الجماعة الإسلامية الأحمدية في دمشق لأمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز.

هذا قليل من كثير من هذه الرحلة التاريخية المباركة إلى قاديان. علي أن أشكر الله ملايين المرات الذي مكّنني أنا العبد الحقير من القيام بهذه الرحلة المباركة. والحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك