رحلتي إلى "دار الأمان"

رحلتي إلى “دار الأمان”

مها دبوس

في ديسمبر من عام 1990 رأيتُ فيما يرى النائم أنّي جالسة في سيارة مسافرة في رحلة طويلة. كنتُ أجلس في المقعد الخلفي، وسألتُ السائق: إلى أين يجب أن نذهب؟ أنتوجّه إلى قاديان أم إلى ربوة؟ وكنت بسؤالي هذا أعني أن أسأل عن المكان الذي أجدُ فيه المنارة البيضاء، منارة المسيح المنتظر. وأجابني السائق بكل ثقة: إنّها في قاديان. ووصلنا بعد ذلك إلى منزلٍ ريفيّ كبير، ودخلتُ هذا المنزل حيث رحَّب بي أهله، أهدوني ثوبًا لونه لَعْلِيّ. وظننتُ أول الأمر أن مقاس هذا الثوب لا يناسبني، ولكني مع ذلك ارتديته، ووجدتُ أنّه مقاسي تمامًا.

وبالطبع فإنَّ المنام ولّد في نفسي رغبةً شديدةً لزيارة قاديان. وبعد مرور عدة أسابيع وفي الشهور الأولى من عام 1991، تبيّن لي أنَّ الجلسة القادمة في قاديان ستكون الجلسة المئوية، وأنّه بهذه المناسبة، سيكون احتفال كبير في قاديان هذا العام. ودعوتُ الله كثيرًا أن يُمكّنني من الذهاب إلى قاديان هذه السنة حتى أستطيع أن أشترك في هذه الجلسة التاريخيّة. ولقد استجاب الله دُعائي، وأزال كل العقبات التي اعترضت طريقي.

وفي 24 ديسمبر بدأت رحلتي من أجل حضور هذا الاجتماع المبارك في قاديان. وسافرتُ بالطائرة من لندن إلى دلهي، واصطحبني في هذه الرحلة بعض أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية من لندن.

وعندما وصلتُ إلى مطار دلهي في الهند وجدنا في استقبالنا مندوبًا من الجماعة هناك. وكان ذلك صباح يوم 25 ديسمبر، وكان علينا ان نبدأ رحلتنا في الحال إلى قاديان، لأنَّ موعد افتتاح الجلسة كان صباح يوم 26 ديسمبر. وكان مخططًا لنا أن نستقلَّ طائرةً أخرى لتنقلنا إلى مدينةٍ بالقرب من قاديان، ولكن العاملين في خطوط الطيران الداخلية كانوا مُضربين وبالتالي لم تكن هناك أي رحلة طيران داخلية. وفكرنا في السفر في القطار، ولكن مواعيد القطارات لم تكن مناسبة بالمرة. وحاولوا إيجاد وسيلة مواصلات لنقلنا إلى قاديان، وكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة هي سيارات الأجرة. ولذلك استأجرنا عددًا من السيارات إلى قاديان.

وقد تعلَّمتُ الكثير أثناء هذه الرحلة، لأنّ سائقي السيارات كلّهم كانوا من السيخ، ولذلك تعرَّفتُ على الكثير من عقائدهم وطقوسهم الدينيّة. وتذكّرتُ ما قاله سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن بابا نانك (وهو الرجل الذي يتّبعه هؤلاء الناس) بأنّه كان رجلاً مسلمًا تقيًا. وتجلّى لي صدقُ هذا الكلام لأنّي رأيتُ التشابه الكثير بين تعاليم دينهم وتعاليم الإسلام. ولكن بالطبع قد تأثّرت معتقداتهم على مرِّ السنين، ولذلك فإنّ هناك بعض عادات لهم ليس لها أي دخل بالإسلام. وقد لاحظتُ أنَّ معاملتهم لنا كانت حسنةً جدًا، ولم تكن لديهم أي ضغينة تجاهنا كمسلمين، بل على عكس ذلك، كانت هناك روحٌ من الأخوّة المتبادلة بيننا.

وفي طريقنا إلى قاديان واجهنا أخطارًا كثيرة بسبب المشاكل الداخلية بين السيخ والهندوس، وأيضًا بسبب سوء الأحوال الجويّة، لانّ الضباب كان كثيفًا صعَّب علينا رؤية طريقنا بوضوح، ولكن الله بفضله ورحمته الواسعة حفظنا من كل سوء، ونجّانا من كل مكروه. وكنتُ أثناء الرحلة أشعر بالقلق الشديد أن يفوتنا افتتاح الجلسة، فقد كان الوقت يمرُّ سريعًا، وكانت الرحلة طويلةً جدًا، ولذلك قضيتُ وقتي في التسبيح والدعاء.

ولقد أكرمنا الله كثيرًا وأزال كل الصعوبات التي أعاقت مسيرنا، واقتربنا من قاديان في الساعات الأولى من صباح يوم 26 ديسمبر. وبدأتُ أنظر في كلّ اتجاه باحثةً عن “منارة المسيح”. وعندما وقع نظري عليها تهلَّل قلبي من الفرح، ودعوت الله وشكرته على وصولنا بسلام إلى قاديان دار الأمان. وفجأة تذكَّرتُ المنام الذي رأيته قبل ذلك الوقت بعامٍ بالضبط، ولاحظتُ أني جالسة في المقعد الخلفي من السيارة و”منارة المسيح” ظاهرةٌ أمامي تمامًا كما رأيتُ في المنام. سبحان الله، لقد انطبعت هذه اللحظات في قلبي الذي امتلأ فرحةً وبهجة، وحمدتُ الله تعالى على نِعَمِه وأفضاله الكثيرة.

وبعد دقائق وصلت السيارة إلى قاديان. كانت الساعة الثامنة صباحًا أي قبل بدء افتتاح الجلسة بساعتين. وكانت شوارع قاديان مليئة بالناس. لقد خرجوا لاستقبال الضيوف الذين حضروا للاشتراك في الاجتماع، واستقبلونا بالهتاف والترحيب، وكانت تكبيراتهم تدوّي في المكان كله.

اعتراني شعورٌ غريب، كأنّي أعرف هذا المكان من قبل. كان شعوري شعور الإنسان العائد إلى منزله بعد طول غياب، وكأنّي كنتُ مسافرة في رحلةٍ طويلةٍ شاقة، ووجدتُ مسكني الأصلي بعد بحثٍ طويلٍ عنه. لقد شعرتُ بالسكينة والاطمئنان من أول لحظة في قاديان، دار الأمان.

توجّهنا إلى بيت الضيافة حيث كنت سأُقيم خلال مدة بقائي في قاديان. وهناك قابلت فتاة من ربوة بباكستان، اسمها عائشة. لقد كانت مكلّفة من قِبَل الجماعة لاصطحابي أثناء أيام الاجتماع. بعد استراحةٍ قصيرة اصطحبتني عائشة إلى مكان الاجتماع. وعندما وصلنا إلى المكان المخصّص للسيدات وجدتُ أنَّ هناك مقاعد مخصوصة للاستماع إلى الترجمة الفورية لخطب مولانا أمير المؤمنين (أيّده الله تعالى بنصره العزيز). وجلستُ في المقاعد المخصّصة للترجمة العربية.

وبفضل الله تمتّعت بالاستماع إلى ترجمة الكلمات التي ألقاها حضرة أمير المؤمنين (أيّده الله تعالى بنصره العزيز)، وأيضًا الكلمات الأخرى التي ألقاها بعض الضيوف الذين جاءوا من كل أنحاء العالم لحضور هذا الاجتماع.

أُعجبتُ كثيرًا بالنظام الجيد في المكان بالرغم من قلّة الإمكانيات المتاحة. وتحدَّثتُ مع كثير من السيدات والفتيات اللاتي تطوّعن للخدمة أثناء أيام الجلسة، وعلمتُ أنَّ أغلبهنَّ من خارج قاديان. إنَّ قاديان بلدةٌ صغيرة وعدد سكانها لم يكن يسمح لهم بالقيام بخدمة هذا العدد الهائل من الزوّار (حوالي 25 ألفًا) ولذلك تطوّع كثيرٌ من أفراد الجماعة في الهند وباكستان لسدِّ هذا النقص ومساعدة أهل قاديان في القيام بهذه المهمة العظيمة.

إنَّ هذه الروح الجماعيّة غير موجودة في أيّ مكانٍ آخر في العالم. إنَّ أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية لا ينتمون إلى مكان معين أو بلدٍ معين، بل ينتمون إلى الجماعة المنتشرة في كل أنحاء العالم لذلك فهم مستعدّون للتطوّع لخدمة الخلق في أي مكان، حيثما تكون هناك حاجة إلى المساعدة، ويعتبرون أنَّ هذا واجب عليهم تجاه الله والجماعة، ويتسابقون من أجل أداء هذا الواجب الذي يقومون به لوجه الله وبدون أي أجر عليه إلا أجرهم عند الله.

لقد أثار دهشتي أيضًا منظر السيدات اللاتي جئنَ لحضور الاجتماع من كل أنحاء الهند. لقد كانت علامات الفقر تبدو على أغلبِهنَّ واضحة، ومع ذلك لم يتردَّدنَّ في المجيء لحضور هذا الاحتفال التاريخي ومقابلة مولانا أمير المؤمنين. إنَّ بعض الجماعات في الهند تبعد آلاف الأميال عن قاديان، ووسائل السفر هناك بطيئة جدًا بحيث إنَّ القادم من هذه البلاد إلى قاديان يقطع المسافة في عدّة أيام، ومع ذلك لم يمنع الفقر ولا البعد هؤلاء الناس من الحضور إلى قاديان. وقد تحمَّلوا من أجل ذلك مشاق هذه الرحلة الطويلة وأنفقوا معظم ما لديهم من مال ولم يطمعوا في شيء إلا رضا الله . لقد دعوتُ لهم كثيرًا، وطلبتُ من الله أن يعوّضهم خيرًا عن هذه التضحيات الكبيرة التي قدَّموها من أجل إعلاء كلمة الحق.

وقد أُتيحت لي الفرصة أيضًا في هذا الوقت للتعرُّف على كثير من الأخوات الأحمديات من البلاد المختلفة، ولاحظتُ أنَّ هناك علاقةً حميمة بين كل الحاضرين بالرغم من اختلاف لغاتهم ومهنهم ومكاناتهم في المجتمع. لقد ارتبط الجميع بروح الأخوّة المتبادلة التي هي أقوى من رابطة الدم. إنّها العلاقة الروحانيّة التي تربط كل الأحمديين في جميع أنحاء العالم. إنَّ هذه هي إحدى البركات التي أنعم الله بها على جماعة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة السلام.

بفضل الله تعالى مرّت أيام الاجتماع الثلاثة بنجاحٍ عظيم، وانتهت الجلسة التاريخيّة التي بدأت بها صفحة جديدة في تاريخ الجماعة الإسلامية الأحمدية.

تمكّنتُ من التجوّل في قاديان وزيارة الأماكن الهامة بها. وخلال الأيام الأولى زرتُ “بهشتي مقبرة” (مقبرة أهل الجنة) حيث دُفِنَ الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة السلام، وأيضًا خليفتُه الأول وبعض صحابته وأفراد أُسرته والأحمديين المحظوظين من الذين وفَّوا بشروط الوصية التي أعلنها حضرة المسيح الموعود . في هذا المكان قضيتُ بعض الوقت في الدعاء والتسبيح بحمد الله، وشكرتُ الله على أفضاله الكثيرة على الناس وخاصة على إنعامه بإرسال المسيح الموعود الذي جاء لإصلاح العالم وهدايته إلى الطريق المستقيم في الوقت الذي كان فيه البشر بأمسِّ الحاجة له. ودعوتُ الله أن يُتمَّ نعمته على الناس، ويحقِّق نبوءات سيدنا المصطفى المتعلِّقة بالمسيح الموعود الذي جاء لإحياء دين سيده محمد المصطفى خاتم النبيين .

بعد ذلك تجوّلتُ في الأماكن المحيطة بمقبرة أهل الجنة، وزرتُ المكان الذي شُيّعت فيه جنازة المسيح الموعود ، وتمَّ فيه انتخاب وأول بيعة لخليفته الأول مولانا نور الدين .

زرتُ أيضًا بعض المناطق الأخرى التي كان يتجوّل فيها المسيح الموعود . ولقد شعرتُ بسعادةٍ بالغة لأنّي كنت أنعُمُ باستنشاق نفس ذرّات الهواء التي تنفّسها هذا الإنسان الطاهر سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . واصطحبتني عائشة أيضًا لزيارة المسجد المبارك. كان هذا المسجد في أول الأمر مكانًا صغيرًا بناه المسيح الموعود ملحقًا بمنزله. وسمَّاه “بيت الذكر”، ثم زاد حجم المسجد حتى يتسع للعدد المتزايد من المصلّين. اللهم زد وبارك فيه.

كما زرتُ بعض الحجرات في منزل الإمام المهدي والمسيح الموعود أو كما يسمُّونه، دار المسيح. وإحدى هذه الحجرات كانت الغرفة التي سُمّيت “بيت الفكر”، وهي المكان الذي كتب فيه الإمام المهدي والمسيح الموعود أغلب كتبه. وهناك دعوت الله أن يُنعم عليَّ بالعلم والمعرفة والفهم لآيات القرآن الكريم كما أنعم على هذا العبد الصالح من عباده. ودخلتُ أيضًا “بيت الدعاء” وهو المكان الذي بناه حضرته ملحقًا بحجرة نومه حتى يتمكن من الانفراد فيه لقضاء بعض الوقت في الدعاء والتسبيح. دعوتُ الله كثيرًا في هذه الأماكن، وطلبتُ منه أن يُصلح أمة الإسلام ويهدي العالم إلى صراطه المستقيم ويتمَّ نعمته على البشر.

وقد خُصِّص “المسجد المبارك” للنساء وقت الصلاة في كل أيام الجلسة، ولذلك أنعم الله عليَّ بالصلاة في كل أركان هذا المكان. وكانت الصلاة دائمًا خلف أمير المؤمنين (أيّده الله تعالى بنصره العزيز) وهو الخليفة الرابع للمسيح الموعود وحفيده في نفس الوقت. وكان هذا شرفًا عظيمًا لي. وبالرغم من أنّي أتمتّع دائمًا بالصلاة خلف أمير المؤمنين في لندن إلا أنَّ الصلاة وراءه في قاديان كان لها طعمٌ آخر.

وبعد أيام قليلة من انتهاء الاجتماع بدأ بعض الزوّار بالعودة إلى بلادهم. وكان الفراق صعبًا على الجميع، ولكن أمل اللقاء في العام خفّف من حدّة هذه المشاعر.

وكانت تبقّت لي أيامٌ قليلة في قاديان، وشعرتُ أنّه من الضروري أن أزور كل الأماكن التي لم يتيسّر لي زيارتها. وفي يوم أدّيتُ صلاة الفجر كعادتي في المسجد المبارك، ثم عدتُ إلى غرفتي في بيت الضيافة للاستراحة حتى تأتي عائشة لترافقني في جولة في قاديان. وفجأة تذكّرتُ منامي مرةً أخرى، ونظرتُ حولي، وفكّرتُ أنَّ هذه الغرفة جميلة جدًا وفيها كل وسائل الراحة المتيسِّرة في هذه البلدة الصغيرة، ولكنها ليست المكان الذي رأيته في منامي. كما تذكّرتُ البيت الريفي الكبير الذي رأيته في المنام بكل تفاصيله، وكأنَّ الله شاء أن يُذكِّرني بها.

وبعد لحظاتٍ قليلة جاءت عائشة، وقالت إنّها تريد أولاً أن تُصاحبني في زيارة لدار المسيح حتى أرى الغرف التي لم أتمكن من زيارتها حتى ذلك الوقت. وهناك صعدنا أولاً إلى الطابق العلوي، وزرنا بعض الغرف التي ارتبطت ببعض الأحداث في حياة المسيح الموعود . ثم نزلنا على الدرج إلى الطابق الأرضي لزيارة الغرفة التي وُلِدَ فيها حضرته . وهناك أمام تلك الغرفة وقفتُ مبهورة. لقد كان هذا المكان هو نفس المكان الذي رأيته في منامي. كان هذا هو نفس البيت الريفي الكبير الذي ذكّرني به الله قبل دقائق من زيارته. سبحان الله، لقد زرتُ دار المسيح عدّة مرات قبل ذلك الوقت، ولكني لم أفكّر ولا مرة أن أتجوّل في الطابق الأرضي. كنتُ دائمًا أصعد إلى الطابق العلوي حيث كنت أؤدّي صلاتي في المسجد المبارك. وانتابتني حالةٌ من الحيرة لبعض الوقت، ولم أستطع أن أتمالك نفسي وانفجرتُ باكية. ولم أستطع أن أجد الكلمات التي أستطيع بها أُعبِّر عن شُكري لله . لقد أكرمني الله كثيرًا. هذا المنزل هو الذي قال عنه المسيح الموعود بوحيٍ من الله “من دخله كان آمنًا”. وبالطبع كان المقصود بهذا أيضًا منزله الروحاني أي من اتبعه ودخل في جماعته سيكون قد دخل في دار الأمان الروحاني، وسينعم بحماية الله . ولقد أنعم الله عليَّ برؤية المنزل الماديّ للمسيح الموعود في منامي ليكون رمزًا لمنزله الروحاني. فالحمد لله. لا أجد كلمات أخرى أُعبِّر بها عن مدى شُكري لله . الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.

وفي الأيام المتبقيّة تمكّنتُ أيضًا من زيارة “المسجد الأقصى” الذي بناه في الأصل والد المسيح الموعود ودُفن هناك في زاويةٍ من فنائه. وفي هذا المسجد صلّيتُ في المكان الذي ألقى فيه المسيح الموعود الخطبة الإلهاميّة التي أوحاها الله إليه باللغة العربية الفصحى يوم عيد الأضحى. كانت هذه الخطبة تنزل عليه عن طريق الوحي وهو قائمٌ يخطب أمام الحضور. وفي نفس المسجد تمكّنت من دخول منارة المسيح وهي المنارة البيضاء التي طلبتُ الذهاب إليها في منامي. إنَّ الناس عادةً يبنون المنارات من أجل هداية المسافرين عندما تصعب عليهم الرؤية ليلاً، ولنفس الغرض بنى المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام هذه المنارة لتكون رمزًا لهداية عابري السبيل الروحاني، ولتُنير طريقهم الذي أصبح مظلمًا بسبب الفساد الروحاني الذي ظهر في البر والبحر من العالم، ولتُمكِّنهم من إكمال رحلتهم حتى يصلوا إلى برِّ الأمان، وينعموا بلقاء الله سبحانه وتعالى.

ولقد حقّق بناء هذه المنارة أيضًا نبوءة رسول الله الذي قال بأنَّ المسيح سينزل عند المنارة البيضاء الموجودة شرقي دمشق. وبالفعل إذا أراد أي إنسان أن يتحقّق من هذا الكلام فلينظر إلى أي خارطة وسيجد أنَّ قاديان تقع فعلاً شرقي دمشق.

وكان الوقت بعد الفجر بقليل عندما زرتُ هذه المنارة. وبالطبع صعدتُ إلى أعلى طابقٍ فيها. كان المنظر بديعًا. فمن هناك يمكن للإنسان رؤية قاديان كلها. شعرتُ بسعادةٍ بالغة وأنا أرى أمامي دار الأمان وقد أشرقت عليها شمس يومٍ جديد. اللهم، اجعل كل أيامها مشرقةً، يا ربّ العالمين.

قضيتُ الأيام الباقية في قاديان في حالة استرخاء، وكنت أزور مقبرة أهل الجنة كلّما سنحت لي الفرصة. كنت أقضي هناك بعض الوقت في ذكر الله والدعاء للمسيح الموعود . اللهم حقّق كل أمانيه ومقاصده. واستَجِبْ لكل دعواته من أجل الإسلام والعالم. اللهم احفظ هذا الدين الذي جاء به سيد المرسلين النبي المصطفى والذي أحياه من جديد عبدك المسيح الموعود .

لم أرغب أبدًا في مغادرة هذه البلدة الآمنة، ولكن الوقت مضى سريعًا وحان وقت عودتي إلى بريطانيا. وكانت هذه هي اللحظات الصعبة التي كنت دائمًا أخشى قدومها. كان فُراق قاديان صعبًا عليَّ جدًا. ولكن الله برحمته خفّف عني بعض هذا العبء. فقد تصادف أنَّ أمير المؤمنين (أيّده الله بنصره العزيز) كان مسافرًا إلى دلهي في نفس الوقت لحضور بعض الاجتماعات الهامة هناك. وبذلك كان لي الشرف أن أكون من ضمن أفراد الجماعة الذين اصطحبوه في هذه الرحلة من قاديان إلى دلهي.

غادرنا قاديان في صباح يوم 4، 1، 1992. وفي هذا الوقت دعوتُ الله كثيرًا أن يُمكّنني من العودة إلى هذه البلدة المباركة الآمنة. وعندما تحرَّكت السيارة لم أتمالك نفسي من البكاء، وظللتُ أُتابع المنارة البيضاء بنظري حتى اختفت وراء الأشجار من بعيد، ولكن صورتها انطبعت في قلبي ولن تنمحي منه أبدًا. سافرنا إلى دلهي بالقطار من مدينة أمرتسار.

قضيتُ ثلاثة أيام في دلهي قبل عودتي إلى بريطانيا. وفي هذه الفترة تمكّنتُ من التجوّل في دلهي وزيارة بعض الأماكن فيها. وقد استرعى انتباهي الفقرُ الشديد المنتشر في أنحاء دلهي. إنّ بعض الناس يعيشون في خيام، والبعض الآخر يعيشون على الأرصفة ولا يملكون حتى قوتَ يومهم. وقد انتشرت بينهم الأمراض، وزادت نسبة وفياتهم وخاصة الأطفال. ولاحظتُ أيضًا الفساد الروحاني الشديد الذي انغمس فيه هؤلاء الناس. إنَّ أهل هذه البلاد عندهم ميل إلى عبادة أي شيء، حتى إنّهم عبدوا الأبقار أيضًا. فمن العادي أن يرى الإنسان الأبقار وهي تمشي في الشوارع والأسواق ولا يجرؤ أحد على اعتراض طريقها أو منعها من إنزال أي خسائر على كل ما تمرُّ به. فهي مقدَّسة عند بعضهم. وفهمتُ في ذلك الوقت لماذا بعث الله سيدنا المهدي والمسيح الموعود في بلاد الهند. إنَّ هذه البلاد تعتبر بؤرة للفساد الروحاني، وسنّة الله هي أنه دائمًا يُرسل أنبيائه في أكثر بقاع الأرض فسادًا. وبجانب ذلك فإنَّ الهند قد جمعت بين أفراد شعبها أتباعًا لأغلب الديانات المنتشرة في العالم اليوم. فهناك يقابل الإنسان الهندوس والسيخ والمسلمين والمسيحيين والبوذيين وغيرهم من أتباع أديان وطوائف عديدة. وكل هؤلاء ينتطرون قدوم الإنسان الموعود الذي سيهديهم إلى الطريق المستقيم الذي سيوصلهم إلى الله تعالى. وبالتالي فقد كان من الصواب أن يظهر مُصلح آخر الزمان بينهم حتى يتمكن من دعوتهم جميعًا إلى الدين الصحيح، ويوحِّد صفوفهم تحت رايةٍ واحدة ليكون هناك دينٌ واحد الإسلام ورسولٌ واحد محمد المصطفى ويعبدون كلهم “الله” إلهًا واحدًا.

وإذا تأمل الإنسان الشعب الهندوسي وقارن بين أهل قاديان من المسلمين الأحمديين وأهل أي مدينة أو مكان آخر في الهند من أتباع أي دين آخر، لتبين له في الحال صدق دعوة المهدي والمسيح الموعود . ففي حين أن المسلمين الأحمديين من أهل قاديان قد اصطبغوا بصبغة الله وأصبحوا ربانيين، نجد أن معظم أتباع الأديان الأخرى بما فيهم المسلمين غير الأحمديين، قد ضلوا عن الطريق الصحيح، وأصبحوا أقرب إلى عبدة الأصنام بدلاً من كونهم عبادًا للإله الواحد الذي خلقهم، سبحانه وتعالى عما يشركون. وهذا سببه ببساطة أنهم لم يتبعوا الإنسان الذي بعثه الله لإصلاح الناس في الوقت الحاضر. وفي هذا تصديق لقوله تعالى:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (إِبراهيم: 25-27)

لقد بعث الله تعالى أنبياءه على مر العصور كي يزرعوا أشجارًا طيبة للناس، ولكن الناس أفسدوا هذه الأشجار بعد أن رحل عنهم أنبياؤهم، فأصبحت هذه الأشجار غير مؤهلة لأن تسمى أشجارًا طيبة. والآن بعث الله المسيح الموعود حتى يزرع شجرة طيبة، أخذ بذورها من شجرة دين محمد المصطفى . وقد شاء رب العالمين أن يحفظ هذه الشجرة من الفساد الذي أصاب الأشجار السابقة لأنها شجرة دين حبيبه المصطفى خاتم النبيين . وهذه الشجرة تنمو وتزدهر كل يوم، ولقد امتدت فروعها لتغطي كل أركان المعمورة، وينعم بثمارها كل من احتمى تحت ظلها. إن جذور هذه الشجرة كانت وستظل دائمًا في قاديان، دار الأمان. ولقد وعد الله المهدي والمسيح الموعود أن يحمي شجرته، وينميها دائمًا حتى آخر الزمان. ولذلك مكن الله تعالى جماعته من العودة إلى قاديان مرة أخرى هذا العام حتى يتمكنوا من المحافظة على شجرتهم الطيبة والعناية بجذورها كي تنمو وتزدهر أكثر وأكثر. إن زيارة إمام الجماعة الأحمدية حضرة أمير المؤمنين (أيده الله بنصره العزيز) لقاديان هذا العام بعد غياب الخلافة عن قاديان لمدة 44 سنة لهي انتصار عظيم للجماعة الإسلامية الأحمدية. إنها بداية مرحلة جديدة في تاريخ الأحمدية. إنها البشرى بنصر قريب يتجلى للعالم كله.

اللهم أتمم علينا نعمتك وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك