كنتم خير أمة أخرجت للناس (الحلقة الخامسة والأخيرة)

كنتم خير أمة أخرجت للناس (الحلقة الخامسة والأخيرة)

مها دبوس

إننا نعلم أن الدين المسيحي ليس دينا منفصلا عن الدين اليهودي. إن النصارى الأوائل لم يتبعوا شريعة مختلفة عن الشريعة اليهودية الأصلية، التي أتى بها موسى ، لأن عيسى ، لم يأت بدين جديد بل إنه جاء فقط من أجل تذكير بني إسرائيل بدينهم الذي نسوه، وبالشريعة التي أتى بها نبيهم موسى كما جاء في القرآن الكريم عن أنبياء بني إسرائيل:

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (المائدة: 47)

إذن فإن عيسى لم يكن نبيا منفصلا عن شريعة موسى بل إنه كان نبيا تابعا لموسى ، مخلصا للدين اليهودي ومتبعا لشريعته، ولذلك اختاره الله ليكون مُعلِّما لليهود ومصلحا لدينهم، والمثل الأعلى لهم الذي كان عليهم أن يتبعوه. ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن أتباع عيسى -النصارى- حادوا هم أيضا عن دينهم وعن تعاليم عيسى ، واتبعوا بعض التعاليم التي لم يأت بها أي نبي، وبذلك أفسدوا هم أيضا دينهم وأصبحوا على ما هم عليه اليوم، لهم معتقدات بعيدة كل البعد عن التوحيد.

إذن فإن خلاصة القول هي أن تشبيه المسلمين بكل من اليهود والنصارى معناه أن الله سيبعث للمسلمين مسيحا كمل بعث لليهود مسيحا. وكما أرسل الله المسيح عيسى بن مريم ، إلى اليهود رحمة منه ليُقوِّمهم ويُذكَّرهم بدينهم، ويوحد صفوفهم، ويكون معلمهم ومثلهم الأعلى، فإن الله لابد وأن يرسل أيضا مسيحا للمسلمين كي يحيي لهم دينهم، ويوحد صفوفهم، ويعلمهم كيف يتبعون شريعة القرآن الكريم وينصر دين الإسلام على كل الأديان الأخرى.

ولقد ذكر الرسول في أحاديث كثيرة تفاصيل مجيء هذا المسيح الموعود للأمة الإسلامية. وقال إنه سيأتي من أجل تقويم المسلمين وتوحيد صفوفهم، ولنصر دين الإسلام وإحيائه وإعادة مجده وعزته. وفي بعض الأحاديث سماه عيسى بن مريم حتى يُبيِّن للمسلمين أنه سيكون مشابها لعيسى في أوجه كثيرة. وبالطبع إنه لم يقصد أبدا أن عيسى بن مريم بنفسه سيبعث مرة أخرى إلى الحياة الدنيا ويأتي إليهم؛ إن هذا يناقض سنة الله في خلقه. لكن الغرض من هذه التسمية هو لفت نظر المسلمين إلى التشابه بينهم وبين اليهود، حتى لا يقعوا في نفس أخطاء اليهود، وحتى لا يعاملوا مسيحهم الموعود كما عامل اليهود مسيحهم. ولقد أمر الرسول المسلمين أن يتبعوا هذا المسيح ويبايعوه على الطاعة لأنه هو الذي سيبعثه الله من أجل مصلحتهم. وقد بيَّن علامات كثيرة لظهوره ولإثبات صدقه، حتى يتعرفوا عليه عند مجيئة.

ولكننا كما ذكرنا من قبل، لن نخوض هنا في هذه الأحاديث وسنكتفي بما جاء في القرآن الكريم في هذا الصدد.

وكما بَيَّنَّا فيما سبق، فإن القرآن لم يشبه المسلمين فقط باليهود ولكنه شبههم أيضا بالنصارى. ونقرأ في سورة الصف قوله سبحانه وتعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (الصف: 15)

إن هذه الآية تُبيِّن لنا أن النصارى الأوائل، الذين آمنوا بعيسى كانوا طائفة من بني إسرائيل أي من اليهود، والآية تأمر المسلمين أن يتَّبعوا مثل الحواريون، وهم الذين كانوا أول من لبى دعوة المسيح عيسى بن مريم ، ثم اتبعوه ونصروه حتى ينشر دعوته بين اليهود. وبهذا تجذب الآية انتباه المسلمين إلى أنه سيأتي عليهم وقت يكون لهم مسيح يتبعوه، كما كان لليهود مسيحا، وأن عليهم أن يكونوا مثل الحواريين فيسارعوا بتلبية دعوته وتأييده ونصره حتى ينشر دعوته بين الناس.

وكما ذكرنا فيما سبق، فإن سنة الله لا تتغير أبدا، كما قال :

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الأحزاب: 63)

لقد أكد الله في القرآن الكريم أن سنته لا تتغير أبدا. فهي لم تتغير من قبل ولا تتغير الآن ولن تتغير فيما بعد. فكما أنه لم يترك الأقوام السابقة على ضلالها، واستمر في إرسال من يهديهم، فإنه بكل تأكيد لن ينسى أبدا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ على ماهي عليه اليوم، ولن يتركها بدون إرشاده وهدايته. وكما بيَّنَّا قيما سبق، فإنه بالتأكيد سيتولى بنفسه إرسال الإنسان المناسب الذي يستطيع أن يقود هؤلاء المسلمين ويوجههم إلى الطريق الصحيح، لأنه سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (الليل:13)

ولقد ذكر الله في القرآن الكريم قصص الذين خلوا من قبل حتى يتعظ منها المسلمون وحتى تحذرهم من الوقوع في نفس الأخطاء التي وقع فيها من سبقوهم من الأقوام. ولذلك فإنه من الواجب عليهم أن يتفكروا جيدا في كل ما جاء في القرآن الكريم حتى ينفعهم في حياتهم الحاضرة. ويتذكروا قول الله :

وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (غافر: 82-86)

ولكن قد يقول قائل، أن المسلمين اليوم ما زالوا بخير وأنهم ليسوا بحاجة إلى من يهديهم الآن، وأن هذه الآيات التي تتنبأ بمجيء المسيح الموعود للأمه الإسلامية، تصف وقتا لم يأت بعد.

ومن السهل على أي مسلم أن يرى أن هذا الكلام غير صحيح. فبكل بساطة يمكن لكل مسلم أن يسأل نفسه: هل المسلمون اليوم متبعون لأوامر الله الموجودة في القرآن ولسنة رسوله الأكرم ؟

لقد أمر الله المسلمين أن يكونوا أمة واحدة وأن يوحدوا صفوفهم ويتمسكوا جميعا بحبل الله. فقال :

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران: 104).

فهل المسلمون اليوم معتصمين بحبل الله ومتحدين تحت راية واحدة وتابعين لقيادة إمام واحد؟

ولقد أمر الله المسلمين أن يعلموا غيرهم بما علمهم الله:

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران: 105)

فهل المسلمون اليوم أمة واحدة، تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتعلم غيرها من الأمم الدين الحقيقي ووحدانية الله؟

ولقد بين الله للمسلمين أهمية الجهاد في سبيل الله، وفضل المسلمين الذين يجاهدون في سبيله بأموالهم وبأنفسهم، فقال :

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء: 96)

وقال أيضا:

الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (التوبة: 20)

فهل حالة المسلمين اليوم تسمح لهم بالقيام بهذا الجهاد؟ هل المسلمون أقوياء وقادرون على الدفاع عن الإسلام بأي شكل من الأشكال؟

ولقد بيَّن الله أيضا أنه يجب على المسلمون أن يقاتلوا أعداءهم وهم في صف واحد. فقال :

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (الصف: 5)

فهل يستطيع المسلمون اليوم أن يتجمعوا في صف واحد وتحت قيادة واحدة حتى يتمكنوا من مواجهة أعدائهم؟ إن الإجابه على كل هذه الأسئلة واضحة!!

إن المسلمين اليوم لا يعرفون تعاليم دينهم الحقيقية حتى يتبعوها هم أنفسهم، فكيف يمكن لهم إذن أن يعلموها لغيرهم. ولقد تفرقوا وتشتتوا واختلفوا، وأصبحوا لا يتفقون على أي رأي. وقد فقدوا القيادة الإسلامية الصحيحة، وبدلا من أن يصلحوا من أحوالهم ويوحدوا صفوفهم، حتى ينهضوا ويجاهدوا في سبيل إعلاء شأن دينهم، راحوا يحاربون بعضهم بعضا وتفشت العداوة بينهم. هل يمكن لمثل هذه الأمة أن تنشر دعوة التوحيد بين أنفسهم!

إذا كان المسلمون اليوم بخير، فلماذا أصبح هذا حال أمة الإسلام؟ ماذا أصاب خير أمة أخرجت للناس؟ لماذا لا تلبي نداء ربها وتطيع أوامره؟

إنه من المستحيل أن يكون الله قد أمر عباده بأن يفعلوا شيئا وهو يعلم أنهم لن يتمكنوا من فعله. إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. فإذا كان الله قد كلف المسلمين بأن يفعلوا شيئا ما، فلابد وأن يتولى لله بنفسه توفير الظروف والسبل التي تتيح لهم الفرصة كي يتمكنوا من تلبية دعوته وطاعة أوامره سبحانه وتعالى. ولقد وفر الله هذه الفرصة لكل الناس في كل زمان بدون أي تفرقة، فهو عادل ولا يمكن أبدا أن يفضل أحدا على الآخر. وبالتالي إذن فلابد وأن يكون قد وفَّر نفس هذه الفرصة للمسلمين في وقتنا المعاصر، كي يتمكنوا هم أيضا من طاعة أوامره سبحانه وتعالى، فيتوحدوا تحت قيادة واحدة وينهضوا جميعا، صفا واحدا، كي يجاهدوا في سبيل الله من أجل الدفاع عن دينهم ورفع شأنه، ونشر دعوة التوحيد في كل أنحاء الأرض.

Share via
تابعونا على الفايس بوك