كنتم خير أُمة أُخرجت للناس (الحلقة الثانية)

كنتم خير أُمة أُخرجت للناس (الحلقة الثانية)

مها دبوس

بدون شك، إننا نعرف جيدًا أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهي لا تنفذ أبدًا، ونعمه سبحانه وتعالى على خلقه لم ولن تنقطع أبدًا مهما طال الأمد. ولقد بعث الله رسوله الكريم حتى تتجلى رحمته على خلقه أجمعين؛ كما قال سبحانه وتعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 108)

إذن فإنه ليس من المعقول أبدًا أن يكون مجيء الرسول قد تسبب في انقطاع أي نعمة إلهية كان البشر يتمتعون بها قبل قدومه. إن بعثة الرسول كانت بمثابة البشرى السعيدة لسائر الناس في العالم بقدوم أعظم الخيرات ونزول أفضل النعم الإلهية من عند الرحمن رب العالمين.

وبالطبع إن نعم الله كثيرة، لا تُعد ولا تحصى، ولقد بَيَّن لنا القرآن الكريم النعم المختلفة التي أنعم بها الله على البشر، وبيَّن لنا أيضًا ما هي أفضل هذه النعم. فقد قال سبحانه وتعالى:

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (الجاثية: 17)

في هذه الآية ذكر الله النعم العظيمة التي اختص بها بني إسرائيل، وهم القوم الذين قال عنهم سبحانه وتعالى (فضلناهم على العالمين)، أي أنه فضلهم على غيرهم من الشعوب التي كانت معاصرة لهم. إذن فإن النعم المذكورة هنا هي أفضل النعم، التي ينعم بها الله على عباده الذين يختصهم بفضله ورحمته. وقد ذكر الله في هذه الآية أن (النبوة) من ضمن هذه النعم.

وبالطبع إن الله قد اختص المسلمين بنعم أعظم وأفضل بكثير مما أنعم به على بني إسرائيل، لأنه سبحانه وتعالى سمى المسلمين (خير أمة للناس). فلا بد وأن يكون الله قد أنعم على المسلمين بالنعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، بل وأكثر منها أيضًا. ونحن نعرف جيدًا أن الله قد أنعم على المسلمين (بالكتاب وبالحكم) وأنه (رزقهم من الطيبات) وأنه (فضلهم على العالمين) حتى يوم الدين. إذن فبالتأكيد أن الله قد أنعم أيضًا على المسلمين بنعمة (النبوة) لأنها إحدى النعم المذكورة في الآية السابقة ضمن النعم التي أنعم بها الله على بني إسرائيل.

ولقد كانت النعم التي اختص بها الله بني اسرائيل محددة بزمن سريان الشريعة اليهودية. أما النعم التي يختص بها الله المسلمين فهي باقية ومستمرة. فبظهور الإسلام نُسخت الشريعة اليهودية، كما نُسخت كل الشرائع الأخرى، وبالتالي أصبحت النعم الإلهية التي يختص بها الله عباده المقربين مشروطة بالدخول في دين الإسلام واتباع تعاليمه. وبما أن الشريعة الإسلامية باقية وسارية المفعول حتى آخر الزمان، فإن النعم التي يَنعَم بها المسلمون لا بد وأن تكون مستمرة وباقية أيضًا حتى آخر الزمان. وهذا يعني أن أمة المسلمين أصبحت الآن هي الأمة المفضلة عند الله والمتمتعة الوحيدة بكل هذه النعم. وبالطبع إن هذا ينطبق على نعمة النبوة أيضًا. وبالتالي نفهم أن النبوة مازالت مستمرة في أمة المسلمين -وفي أمة المسلمين فقط- وباقية فيها حتى آخر الزمان.

فقبل بعثة الرسول إلى البشر، كان الله يصطفي أنبيائه من بين أفراد أي قوم من الشعوب التي عاشت على وجه الأرض في تلك الأيام. وكان أحيانا إذا استلزم الأمر، يعين أكثر من نبي في نفس الوقت -كما حدث في وقت موسى وهارون أو في وقت إبراهيم ولوط (عليهم السلام). ولكن بعد أن بُعث الرسول بالشريعة النهائية الكاملة للبشر أجمعين اختلف الأمر لأن كل البشر أصبحوا ملزَمين الآن باتّباع دين الإسلام الذي جاء به الرسول ، والذي نسخ كل الأديان التي سبقته. ولذلك أصبح من المستحيل أن يعين الله أي نبي من خارج الأمة التي اتبعت هذا الرسول الكريم – أي المسلمين.

والقرآن الكريم لم يذكر أبدًا أن الرسول هو (آخر الأنبياء)، بل إنه صرح أنه (خاتم النبيين). ولا بد أن يكون هناك فرق بين التعبيرين، لأن ألفاظ القرآن الكريم وُضِعَت من لدن حكيم خبير. وبالطبع هناك أكثر من معنى للقب (خاتم النبيين)، ومما سبق نفهم أن أحد هذه المعاني هو أن الرسول قد ختم بمجيئه الشرائع التي جاء بها كل من سبقوه من الأنبياء، أي أنه نسخ بقدومه كل الأديان التي كانت موجودة في العالم قبل ذلك. وأصبح هناك دين واحد للبشرية وهو دين الإسلام الذي يحتوي على الشريعة الكاملة النهائية التي ستظل سارية حتى آخر الزمان. وبذلك خُتمت النبوة المستقلة عن دين الإسلام وأغلقت أبوابها. ولكن في نفس الوقت فُتحت أبواب النبوة التابعة للرسول . وأصبح الوصول إلى هذه الدرجة الروحانية السامية مرتبطًا ومشروطًا بالدخول في دين الإسلام واتباع نبيه الكريم .

ولقب (خاتم النبيين) يعني أيضًا أن الرسول هو بمثابة الخَتم الذي يُختم به الشيء حتى يُصَدَّق عليه. فهو الخَتم الذي يجب أن يُختم به أي نبي حتى يثبت صدقه. فإذا كان هذا النبي قد جاء قبل الإسلام فإن دليل صدقه يكون في القرآن الكريم، أي انه إذا شهد القرآن الكريم على صدق هذا النبي، وجب على المسلمين أن يؤمنوا بنبوته ويعترفوا بأنه كان مبعوثًا من عند الله. أما إذا جاء هذا النبي بعد ظهور الإسلام، فيجب أن يحصل على هذا الشرف عن طريق الانتماء إلى أمه (خاتم النبيين) ، فيكون الدين الذي يؤمن به هو الإسلام، والشريعة التي يتبعها هي القرآن، ويكون خادمًا أمينًا للرسول   وتابعًا مخلصًا لسنته، حتى تذوب ذاته في ذات الرسول وتصبح شخصيته انعكاسًا تامًا لصفات المصطفى . فإذا تحققت هذه الشروط دل هذا على أنه نبي صادق من عند الله، ووجب على المسلمين الإيمان به واتباعه، وكأنه قد خُتم بختم الرسول حتى يثبت صدقه للناس.

ومن ذلك يتضح لنا أن قدوم الرسول   إلى العالم لم يكن أبدًا من أجل حرمان البشر من نعمة النبوة – وهي أعظم النعم الروحانية التي أنعم بها الله على عباده. بل على عكس ذلك، فإن الرسول قد جاء إلى البشر كي يُعَلِّم أتباعه كيفية الارتقاء والسمو الروحاني من أجل بلوغ هذه الدرجة الروحانية السامية التي لا يصل إليها إلا أرقى فئة من البشر. ولكن علينا أن نتذكر دائما أن النبوة التشريعية قد انقطعت ولا يمكن أبدا الآن أن يبعث الله نبيًا بشريعة جديدة. يمكن فقط أن يبعث الله نبيًا تابعًا للرسول ومؤمنًا بدين الإسلام حتى يُذَكِّر الناس بشريعة القرآن الكريم وتعاليم دين الإسلام التي نسوها على مر الزمان. ويمكننا بسهولة إثبات هذا الكلام من القرآن الكريم نفسه. فمثلا، لقد عَلَّم الله المسلمين دعاءً يردّدونه في كل ركعة من صلاتهم اليومية، وهو في سورة الفاتحة:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ،

في هذا الدعاء يطلب المسلم من ربه أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي اتبعه من سبقوه من الأبرار الذين أنعم الله عليهم بالنعم العظيمة.

ومن المستحيل أن يُعلِّم الله عباده هذا الدعاء وهو لاينوي الاستجابة له الكامل، ومن كل الأوجه. لقد وعد الله عباده أن يستجيب لهم إذا دعوه، كما قال عزوجل:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187)

فإذا كان الله بنفسه قد علَّم المسلمين هذا الدعاء في الفاتحة، وطلب منهم أن يرددوه في كل ركعة من صلاتهم اليومية، فلابد وأن يستجيب على الأقل للذين أخلصوا في دعائهم.

وبالطبع لا بد وأن يكون هناك بين المسلمين بعض الأفراد المخلصين الذين يستحقون استجابة الله لدعائهم، وبالتالي فلا بد وأن يهدي الله هؤلاء العباد المخلصين من المسلمين إلى الصراط المستقيم الذي يمكنهم من تلقي كل النعم الإلهية التي أنعم بها على عباده السابقين. وكما ذكرنا آنفا، إن العباد الصالحين الذين سبقوا المسلمين والذين أنعم الله عليهم من قبلهم، قد فازوا بنعمة النبوة وتشرفوا بها. وكما بين القرآن الكريم أن الله وعد المسلمين أن يستجيب لدعائهم، وأن ينعم عليهم بالنعم التي شرف بها من سبقوهم من الأبرار، فإنه علاوة على ذلك عَلَّمَهم أيضًا كيفية تحقيق هذا الهدف، وأكد ذلك في قوله سبحانه وتعالى:

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (النساء: 70-71)،

في هذه الآيات بيّن الله للمسلمين كيفية الفوز بتلك النعم الإلهية العظيمة. فقد أخبرهم أن شرط الحصول على هذه النعم هو طاعة الله ورسوله . وإذا حققوا هذا الشرط، فإنه يعدهم بأن ينعم عليهم بأرقى درجات النعم الروحانية التي أنعم بها على من سبقوهم من الأبرار؛ وأن يكون منهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.

والآية تُبيِّن أن الله وعد المسلمين صراحة أنه سيصطفي منهم بعض العباد الذين يطيعون لأوامره سبحانه وتعالى هو ورسوله ، ليمنحهم درجات روحانية معينة، حسب أعمالهم ودرجة استحقاقهم. فوعدهم أنه سيصطفي منهم النبيين وسيصطفي منهم الصديقين وسيصطفي منهم الشهداء وسيصطفي منهم الصالحين. ولقد بَيَّن الله أيضًا أنه هو الذي وسع كل شيء علمًا ولذلك فإنه هو الذي سيقرر في هذه الأمور وكفى بالله عليمًا. ولقد شهد تاريخ الأمة الإسلامية على مر القرون أن الله قد اصطفى بالفعل العباد المخلصين من بين المسلمين وأنعم على بعضهم بلقب (الصالح) وبعضهم بلقب (الشهيد) وبعضهم بلقب (الصدّيق). وبالتالي فلا بد وأن يشهد نفس هذا التاريخ بأن الله قد اصطفى أيضًا من بين عباده المخلصين المسلمين مَن أنعم عليه بلقب (النبي).

إن النبوة يمكن أن تُمنح للمسلم الحقيقي الذي يطيع الله ورسوله في كل الأمور. ولكن هذه النبوة ليست هي النبوة التشريعية التي مُنحت للرسول إن النبوة التشريعية قد انتهت كما بيَّنا فيما سبق، ولن يظهر الآن أي نبي مشرّع. أما النبوة التي نعنيها هنا فهي النبوة الظلية التي تُمنح للمسلم الصادق المخلص في دينه. هذه النبوة لا يمكن أن تنقطع أبدًا. إنها بمثابة درجة روحانية سامية، يمكن أن يرتقي إليها أي مسلم بمجهوده وبمثابرته على طاعة الله ورسوله. ونتيجة لذلك يكافئه الله ويكرمه بهذه المنزلة الروحانية العظيمة التي هي بمثابة رتبة خاصة، يمنحه الله إياها جزاءً له على طاعته لله وتعبيرا منه -سبحانه وتعالى- على حبه وتقديره لهذا الإنسان، ورضائه الكامل عنه، فقد ثبت على إيمانه وأخلص في أعماله وأطاع الله ورسوله في كل الأمور، وبذلك استحق هذا التكريم العظيم.

هل من المنطق أن يتخيل الإنسان أن هذا النوع من النبوة قد انقطع؟ كلا وألف كلا. إذا قال أحد أن هذه النبوة قد انقطعت، فإن في هذا إساءة إلى الرسول ، لأن هذا يعني أنه ليس هناك في أمته المسلمة مَن يستحق هذا الشرف كما استحقه أتباع الأنبياء السابقين. ويترتب على هذا أن الرسول -والعياذ بالله- قد فشل في مهمته ولم يستطع أن يسمو بأتباعه إلى أرقى الدرجات الروحانية التي تَمَكَّن الأنبياء الآخرون من رفع أتباعهم إليها. وفي هذا أيضا -والعياذ بالله- استهزاء بعلم الله وتقديره للأمور، سبحانه وتعالى عن ذلك، لأنه قد سمى أمة المسلمين (خير أمة أخرجت للناس)، في حين أن الأمم الأخرى قد تفوقت عليها روحانيا وأنجبت أنبياء، أما أمة الإسلام فهي عقيمة، وانقطعت منها النبوة. هل يمكن لأي إنسان مسلم مؤمن بالله العزيز الحميد وبرسوله الكريم، سيد ولد آدم أن يقول هذا الكلام؟ اللهم نعوذ بك من ذلك.

إن أمة الإسلام التي اتبعت سيد المرسلين لا يمكن أبدا أن تكون عقيمة، فقد قال الله سبحانه وتعالى عن رسوله الكريم :

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا . (الأحزاب: 41)

أي.. يا أيها الناس إن الله لم يجعل محمدا أبًا لأي رجل من رجالكم أنتم يا أهل هذه الدنيا الفانية، ولكنه كرَّمه ورفعه إلى مرتبة أعلى وأسمى من ذلك بكثير، فقد جعله (خاتم النبيين) أي جعله الأب الروحاني لكل الأنبياء. وهذه هي الأبوة الباقية إلى الأبد التي لا تفنى بفناء هذا العالم. كيف يمكن هنا أن يفهم أحد عبارة (خاتم النبيين) بمعنى (آخر النبيين). إن صيغة الآية تُبيَّين أن الله قد شرَّف الرسول بهذا اللقب، فهي تخبرنا أن الله لم يهبه أي ذكور في أولاده ولكنه وهبه ما هو أفضل من ذلك بكثير، فقد فضله على الناس جميعا وجعله خاتم النبيين. هل يمكن أن نفهم هنا أن الله قد شرَّف سيد البشر وأفضل الخلق بأن جعله آخر الأنبياء؟

ما هي الميزة في كونه آخر النبيين وأنه لن يأتي بعده أي نبي من أمته، فذلك يعني أن الآية تخبرنا أن الرسول لم يحرم فقط من الأولاد الذكورفي هذه الدنيا بل إنه أيضا آخر الأنبياء، فهو محروم أيضا -والعياذ بالله- من الذرية الروحانية من بعده، وقد جاء ليضع نهاية لهذه المرتبة الروحانية السامية. وهذا يعني أنه لن يكون فقط بدون أولاد ماديين ولكنه أبتر روحانيا أيضا، والعياذ بالله! ولن يكون في اُمته من يرث صفاته الكريمة التي رفعته إلى هذه المرتبة الروحانية السامية. وبالتالي فإن هذا يعني أنه -والعياذ بالله- قد فشل في تعليم أتباعه وتربيتهم التربية الصحيحة اللائقة بمكانته كمعلم للبشرية جمعاء. هل هذا الكلام معقول؟ هل يمكن أن يكون هذا هو المقصود بهذه الآية التي ذكرها الله من أجل تشريف الرسول ؟

لقد كان كفار مكة يعيّرون الرسول بأنه ليس له ولد. فماذا كان رد الله على ذلك؟ لقد قال سبحانه وتعالى لرسوله الكريم :

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ . (الكوثر: 2-4)

أي إن من يعيرك بأنك ليس لك ولد هو الذي سيكون الأبتر. وبالطبع نحن نعلم أن أعداء الرسول كان لهم الكثير من الأولاد الذكور، ولذلك يجب أن نفهم من هذا أن معنى أبتر هنا يعني الأبتر روحانيا -أي ليس له ذرية روحانية. إذن فإن الله يقول لرسوله في سورة الكوثر: إن الكفار هم الذين سيحرمون من الذرية الروحانية، أما أنت فستكون لك ذرية روحانية باقية إلى الأبد، ترثك وترث صفاتك الكريمة الفريدة من نوعها.

والنبوة نفسها درجات، وقد وصل إلى هذه المرتبة كثير من البشر قبل بعثة الرسول ، ولكنهم بالطبع لم يصلوا أبدا إلى قمة هذه المرتبة. هذه القمة السامية لم يبلغها إلا سيد الخلق – رسول الله .

فكما نعرف من أحداث معراج الرسول التقى بالأنبياء الآخرين في سماوات مختلفة وهو في طريقه إلى سدرة المنتهى. وهذا يعني أن الأنبياء الآخرين لهم درجات روحانية مختلفة، كل حسب رتبته، وأن الرسول قد فاقهم جميعا. وعندما وصل الرسول إلى أعلى درجة من هذا السلم الروحاني لم يستطع حتى جبريل  أن يرافقه بعد هذا الحد؟ وأكمل الرسول هذه الرحلة وحده، حتى وصل إلى سدرة المنتهى. وفي هذا معنى آخر لكونه خاتم النبيين. فهو خاتمهم في الدرجة. أي أنه وصل إلى درجة قصوى من السمو، لم يتعداها أحد، ولن يصل إليها أحد بعده، لأنه وحده يتربع على عرشها حتى آخر الزمان. ولكن في نفس الوقت ليس هناك ما يمنع أي مسلم من بلوغ أي مرحلة تحت هذه القمة، بما في ذلك مراتب النبوة التي وصل إليها من سبقوه من البشر. هذه النعمة يمنحها الله لمن يشاء من عباده.

ولقد نصحنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . (الأحزاب: 22)

فإذا كان الله قد جعل الرسول أسوة حسنة للمسلمين، فإنه بذلك أراد من كل مسلم أن يتَّبع مَثَله ويسير على خطاه حتى يصبح شبيها له في صفاته. ولذلك يحاول كل مسلم أن يتَّبع سنة الرسول على قدر استطاعته حتى ينال قدرا من هذه الصفات النبيلة التي مكنته من السمو الروحاني إلى أعلى درجة من مراتب النبوة. وبالطبع، مهما حاول أي إنسان أن يترقى روحانيا فإنه لن يتمكن أبدا من بلوغ هذه الدرجة الروحانية التي وصل إليها سيد ولد آدم – رسول الله . ولكن في نفس الوقت، يستطيع كل مسلم أن يصل إلى درجات روحانية على نفس هذا السلم الروحاني، الذي وصل الرسول إلى قمته، وينال قدرا من هذه النعم والبركات التي فاضت على البشر بقدوم سيد الرسل ، من ذا الذي يستطيع بعد هذا الكلام أن يقول أن النبوة انقطعت بعد وفاة الرسول ؟ ولقد ذكر القرآن الكريم في كثير من آياته عن إمكانية ظهور الأنبياء من بين المسلمين التابعين للرسول ، وأمر المؤمنين باتباع هؤلاء الرسل. فمثلا نقرأ في سورة الأعراف:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . (الأَعراف: 36-37)

إن صيغة المستقبل في هذه الآية تبين أن المقصود هنا أحداث كان مقدرا لها أن تحدث في وقت ما بعد نزول القرآن الكريم. إذن فهي تخاطب الناس في الأزمنة اللاحقة ببعثة الرسول ، وهي تأمرهم بالإيمان بالرسل الذين سيختارهم الله من بينهم، ويبعثهم لهم من أجل هدايتهم، وتحذرهم من العواقب التي ستترتب على تكذيب هؤلاء الرسل. وهنا نسأل: لماذا ذكر الله هذه الآيات في القرآن الكريم إذا لم يكن قد قضى أن يرسل الأنبياء بعد بعثة الرسول ؟

ولقد أخبرنا القرآن الكريم عن الكثير من الأحداث التي مر بها الأنبياء السابقون. وبالطبع أن هناك حِكم إلهية عظيمة وراء هذا، منها أننا نتعلم منها كيف نميز بين النبي الصادق والمدعي الكاذب. إن حكمة الله في هذا هي إعداد المسلمين وتوعيتهم حتى يتعرفوا على أنبياء الله الصادقين عندما يصطفيهم الله من بينهم ويبعثهم من أجل هدايتهم. وهناك أمثلة كثيرة توضح ذلك في القصص التي رواها القرآن الكريم عن الأنبياء السابقين.

ويتأكد لنا أيضا ما سبق، عندما نقرأ في سورة آل عمران الآيات التالية:

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ . (آل عمران: 80-84)

هذه الآيات بدأت أولا ببيان أهم وسيلة للتأكد من صدق الإنسان الذي يعلن للناس أن الله قد أنعم عليه بنعمة النبوة. فأبرز صفات هذا الإنسان هي أنه يدعو الناس إلى عبادة الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، ولا يدعوهم إلى عبادة أي مخلوق آخر سواه.

إذن فإن دعوة التوحيد هي المهمة الأساسية للنبي الصادق الذي لا ينشد السلطة أو الحكم من أجل أي مصالح شخصية، ولكنه يطلب من الناس اتباعه فقط من أجل إرشادهم وهدايتهم إلى الطريق الذي يؤدي بهم إلى عبادة الله الواحد الأحد.

ثم تلي هذه الآيات الآية التي تذكر ميثاق النبيين وهو الميثاق عبارة عن معاهدة لله مع أنبيائه، بأن يؤمنوا بأي نبي يأتي من بعدهم مصدقا لما معهم وأن ينصره أيضا. وهنا يتضح لنا أن الله قد ذكر أبرز صفات النبي الصادق في الآيات السابقة أن يُبَيّن كيف يمكن للناس أن يميزوا بين النبي الصادق والمدعي الكاذب، كي يتمكنوا من الوفاء بهذا العهد الذي عاهدوا الله به.

وهنا نقطة هامة يجب أن نوضحها. إن الله قد ذكر في هذه الآيات أنه قد أخذ (ميثاق النبيين). ولكن يجب أن نفهم أن المقصود بهذا الميثاق هم أتباع هؤلاء الأنبياء أيضا. فالنبي هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأتباعه، ومن الواجب عليهم طاعته في كل الأمور التي يأمرهم بها، واتّباعه في كل ما يقوم به من أعمال. والواقع هو أن الله لا يبعث الأنبياء من أجل هداية أنبياء آخرين، بل إنه يبعثهم من أجل هداية أتباع من سبقوهم من الأنبياء، وهم هؤلاء الأتباع الذين ضلوا عن طريق دينهم الصحيح ونسوا تعاليمه بعد أن رحل عنهم أنبياؤهم السابقون.

إذن فلقد أخذ الله هذا الميثاق من الأنبياء بصفتهم ممثلين لأتباعهم، وبالطبع نفهم من ذلك أن هذا الميثاق قد أُخذ في الحقيقة من أتباع هؤلاء الأنبياء أيضا على مر العصور.

ومن هذا يتبين لنا أن الله قد أعد أتباع كل نبي من أجل التعرف على الأنبياء الذين كان مقدرا لهم أن يُبعثوا إليهم في المستقبل، حتى يؤمنوا بهم ويتبعوهم عندما يظهرون بالفعل، وينصروهم أيضا ويساعدوهم على تأدية المهمة التي كلفهم الله بها وأرسلهم من أجلها. ويؤكد هذا ما نجده مكتوبا في الكتب المقدسة السابقة من آثار النبوءات التي نبّأ بها الأنبياء السابقون أتباعهم، حتى يتعرفوا على الأنبياء اللاحقين بهم من بعدهم.

ويُبّين الله لنا أيضا في الآيات السابق ذكرها أن دينه الحقيقي هو الإسلام، وأن كل من في السموات والأرض أسلم له سبحانه وتعالى طوعا وكرها، وبذلك بَيَّن لنا الله أن كل الأديان التي جاء بها الأنبياء السابقين كانت احتوت في جوهرها على الإسلام -أي أن مقصدها وغرضها هو الخضوع إلى الله- ولكنها كانت لها أسماء مختلفة. ثم جاء الرسول، خاتم النبيين بالدين الكامل النهائي الذي سُمي بالإسلام. وفي هذا الميثاق وذروة المقصود به، هو رفع لواء دين الإسلام في العالم، وهو دين التوحيد بالله والخضوع له وعدم إشراك أي مخلوق سواه في العبادة.

ولكن قد يقول قائل أن الله قد أخذ هذا الميثاق فقط من الأنبياء الذين سبقوا الرسول وأتباعهم، وأنه لم يأخذه من رسول الإسلام نفسه، وبالتالي فإنه لم يأخذه من أتباعه المسلمين. ولكننا نقول أن الله قد أخذ هذا الميثاق من رسول الإسلام أيضا، وأن القرآن الكريم يشهد على ذلك في سورة الأحزاب في قوله سبحانه وتعالى:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (الأحزاب: 8-9)

وهنا أخبرنا الله بوضوح أنه أخذ هذا الميثاق من رسول الإسلام أيضا، فقد خاطبه في الآية بكلمة (منك)- أي (إذ أخذنا منك أيضا هذا الميثاق).ومعنى ذلك أن الله قد أخذ من المسلمين -الدين يقتدون بالرسول – أيضا نفس هذا الميثاق الذي نصه:

لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (آل عمران: 82)

إذن فلقد أخذ الله من المسلمين أيضا هذا الميثاق وعاهدوه سبحانه وتعالى بأنهم إذا جاءهم أي رسول من عند الله مصدق لما معهم، فهم ملزمون بالإيمان به وبتأييده وبنصره.

لماذا أخذ الله هذا الميثاق من المسلمين؟ هل يمكن أن يكون لهذا الميثاق أي معنى إذا لم يكن هناك احتمال لمجيء الأنبياء في اُمة المصطفى ؟

ونلاحظ هنا أن الآية التي تذكر أن هذا الميثاق قد اُخذ من الرسول ، هي من سورة الأحزاب – وهي نفس السورة التي تذكر أن الرسول هو خاتم النبيين. وهذا يؤكد ما بيَّناه فيما سبق عن معنى لقب (خاتم النبيين).

إذن يمكننا الآن أن نرى بوضوح أن آيات القرآن الكريم تُبيِّن أنه من المنتظر ظهور الأنبياء بعد بعثة الرسول ، بشرط أن يكونوا تابعين لدين الإسلام ولا يأتون بشريعة جديدة وبذلك يكون مجيئهم هو فقط من أجل تذكير الناس بتعاليم الإسلام الحقيقية التي نسوها على مر الزمان.

ولكن إذا كان هناك احتمال لمجيء أي نبي بعد رسول الله ، فكيف سيعرف هذا المبعوث أن الله قد اصطفاه وأنعم عليه بنعمة النبوة؟ وكيف سيعرف أن الله كلَّفه بإصلاح اُمة المسلمين؟ وكيف سيتلقى الإرشادات من الله حتى يعرف كيف يرشد الناس ويهديهم؟

(يُتبع)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك